تأريخ بيهق

فريد خراسان علي بن زيد البيهقي

تأريخ بيهق

المؤلف:

فريد خراسان علي بن زيد البيهقي


المحقق: يوسف الهادي
المترجم: يوسف الهادي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار إقرأ للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧٢

١
٢

٣

٤

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة مترجم الكتاب ومحقّقه

بدأت صلتي بهذا الكتاب عندما شرعت بتعلم اللغة الفارسية التي لا غنىّ عنها هي والتركية لأي باحث في شؤون التاريخ والتراث الإسلامي بصورة عامّة لما فيهما من فوائد جمّة خاصة ما يتصل بكتب التاريخ والأدب والتراجم التي فقدت لدينا بفعل شتى العوامل وحفظت علينا هاتان اللغتان نصوصا منها ، وهو ما يتجلى بوضوح في هذا الكتاب الذي أحببت أن أترجمه إلى لغة الضاد لما فيه من فوائد لتراثنا العربي لغة وأدبا وتاريخا. وأضرب لذلك مثلا : خلال ترجمة أبي الطيب طاهر بن أحمد البيهقي من كتاب تاريخ الإسلام للذهبي ، ذكر محققه الفاضل الدكتور عمر عبد السلام تدمري بهامشه الملاحظة التالية : «لم أجد له مصدرا ، ولعله من تاريخ بيهق أو تاريخ نيسابور اللذين لم يصلانا» (ص ٢٨٠ ، حوادث ٣٣١ ـ ٣٥٠ ه‍). والحقيقة هي أن الرجل قد ترجم له في هذين الكتابين اللذين قد وصلانا. والذي أضاع خبرهما على هذا المحقق الفاضل هو كونهما باللغة الفارسية. ويمكن أن ندعو الكتب التي هي على شاكلة هذين التاريخين ، التواريخ النائية التي نأت عنا لسببين : الأول كونها باللغة الفارسية أو التركية ونحن لا نعرف هاتين اللغتين ، والثاني أنها حين تطبع تظل حبيسة حدود جغرافية معينة. بل إن بعض من كنت أحدثه عن ترجمتي لكتاب تاريخ بيهق كان يقول لي : لكن هذا الكتاب قد ترجم إلى العربية. فأقول له إنك تعني تاريخ البيهقي المخصص للحكام الغزنويين وهو لأبي الفضل البيهقي المتوفى سنة ٤٧٠ ه‍ أي قبل عشرين سنة من ولادة مؤلفنا أبي الحسن البيهقي.

ومؤلف كتاب تاريخ بيهق من أسرة عربية يرجع نسبها إلى الصحابي خزيمة بن ثابت ذي الشهادتين ، وكتب مؤلفاته التي تربو على الثمانين بالعربية سوى ستة منها

٥

كتبها بالفارسية ومنها تاريخ بيهق.

يشترك تاريخ بيهق في السمات العامة مع مثيلاته من التواريخ المخصصة لمدن بعينها مثل تاريخ مدينة السلام للخطيب البغدادي ، وتاريخ دمشق لابن عساكر ، والتدوين في ذكر أهل العلم بقزوين للرافعي القزويني ، والقند في ذكر علماء سمرقند للنسفي ، وتاريخ جرجان للسهمي ، وتاريخ نيسابور للحاكم (١) ، وتاريخ طبرستان لمحمد بن الحسن بن إسفنديار (ألف سنة ٦١٣ ه‍) وغيرها. حيث تبدأ بذكر مناقب المدينة وما ورد فيها من أحاديث نبوية شريفة ـ وبعضها مختلق ـ ثم كيفية بنائها مع ذكر خططها والقرى التابعة لها بتفاصيل لا توجد حتى في الموسوعات الجغرافية.

ينتقل الحديث بعدها إلى العلماء والشعراء والأدباء وكبار الشخصيات ممن ولدوا فيها أو زاروها ، والحديث عمن توفي منهم فيها وبشكل خاص صحابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تشرفا بهم وتبركا استنادا إلى حديث أورده مؤلفنا هو : «ما أحد من أصحابي يموت ببلدة إلا كان قائدا ونورا لهم يوم القيامة».

لقد حفظ علينا هذا التاريخ نصوصا ومقتبسات من مصادر كانت بين يديه من مكتبات عامة أحرقت خلال الحروب والغزوات ـ فضلا عن المكتبات الخاصة ـ ومنها :

١. خزانة كتب بلاد الري التي قال عنها وهو يعلق على قول الصاحب بن عباد عن مكتبته الخاصة : «عندي من كتب العلم خاصة ما يحمل على أربع مئة جمل أو أكثر» ، وقال : «وأنا أقول : بيت الكتب الذي بالري على ذلك دليل بعد ما أحرقه السلطان محمود بين سبكتكين. فإني طالعت هذا البيت فوجدت فهرست تلك الكتب عشر مجلدات (٢)».

٢. مكتبة الخاتون مهد العراق ، وهي أميرة سلجوقية أسمها جوهر خاتون

__________________

(١) فقدت نسخته العربية ، وتوجد له اليوم ترجمة مختصرة إلى الفارسية طبعت بطهران.

(٢) معجم الأدباء ، ٢ / ٦٩٧.

٦

وكانت شقيقة السلطان سنجر ، تزوجها مسعود بن إبراهيم الغزنوي عقب توليه الحكم سنة ٤٩٢ ه‍ ، ويستفاد من حديث البيهقي عن مكتبتها أنها كانت عامة وأنها بنيسابور.

٣. مكتبة مسجد عقيل أحد مساجد نيسابور الشهيرة وكانت تعقد فيه مجالس الإملاء والوعظ ودروس الفقه (١).

وقد احترقت المكتبتان خلال اجتياح الغزّ المدمر لإقليم خراسان الذي بدأ سنة ٥٤٨ ه‍ ، وأحرقت فيه المكتبات والجوامع والأسواق والدور ، وقتل فيه الآلاف من الرجال والنساء والشيوخ والأطفال بلا رحمة ، كما قتل جمع غفير من علماء هذا الإقليم وأدبائه وشعرائه ، فقد قتلوا مثلا «سكان مدينة طوس بأسرهم وعند عودتهم منها ارتكبوا مجزرة بنيسابور بحيث أحصي من قتلوه في محلتين فقط من محالها من الرجال والنساء والأطفال فكان خمسة عشر ألف إنسان (٢)». يقول السمعاني عن المحدثة عائشة النيسابورية : «فقدت في أيام الفترة وإغارة الغز منتصف شوال سنة ٥٤٩ ه‍ ، ولا يدرى أ أحرقت أو قتلت في العقوبة وأكلتها الكلاب (٣)».

ومن المصادر التي أعتمدها البيهقي في تأليف كتبه مؤلفات عين الزمان الحسن بن علي القطان المروزي التي عثر على بعضها عقب تلك الغارة أو «الفتنة العمياء التي لم يبق فيها بنيسابور بيوت كتب ولا واحد (٤)». ولقد مات القطان هذا ميتة مأساوية خلال ذلك الهجوم ، يقول ياقوت : «مات مقتولا ، قتله الغز لما وردوا خراسان وتغلبوا على مرو فقبضوا عليه في من قبضوا ، فجعل يشتمهم وجعلوا يحثون التراب في فمه حتى

__________________

(١) انظر مثلا : الأنساب للسمعاني ١٢ / ١٤٤ ، ٥ / ٤٨٢ ؛ معجم البلدان ، ٣ / ٤٨٦ ؛ المنتخب من السياق ، ١٢٧ ، ٢١٧ ومواضع أخر منه.

(٢) مجمل فصيحي ، ٢ / ٢٤٧ ، ٢٤٦ ؛ تاريخ دولة آل سلجوق للعماد الأصفهاني ، ٢٥٩ ، ٢٥٧ ؛ أخبار الدولة السلجوقية ، ١٢٣. ١٢٥.

(٣) منتخب معجم شيوخ السمعاني ، الورقة ٢٩٤ ب ، والتحبير ، ٢ / ٤٢٢.

(٤) لباب الأنساب ، ١ / ١٨٥.

٧

مات سنة ٥٤٨ ه‍ (١)».

ومن المصادر الرئيسة التي اعتمدها في تأليفه تاريخ بيهق ومنها ما هو مفقود : تاريخ نيسابور لأبي القاسم عبد الله بن أحمد الكعبي البلخي المتوفى سنة ٣١٩ ه‍ ، قال البيهقي إنه احترق وإن أصله في مكتبة مسجد عقيل. كما أكثر في النقل من كتاب الكعبي الآخر مفاخر خراسان.

تاريخ نيسابور للحاكم محمد بن عبد الله النيسابوري الضبي (٣٢١ ـ ٤٠٥ ه‍) الذي قال إنه في ١٢ مجلدا.

تتمة تاريخ نيسابور وهو سياق التاريخ لأبي الحسن عبد الغافر الفارسي (٤٥١ ـ ٥٢٩ ه‍) ويوجد له اليوم منتخب طبع في قم بتحقيق محمد كاظم المحمودي ،

__________________

(١) معجم الأدباء ، ٣ ، ٩٦١. وقد امتدّ بلاء الغز إلى سنوات بعد هذا التاريخ حيث نقرأ في طبقات الشافعية الكبرى (٦ / ٩٤): «محمد بن أسعد النوقاني : قتل في مشهد علي بن موسى الرضا في ذي القعدة سنة ٥٥٦ ه‍ في واقعة الغز». وللاطلاع على الأعداد الغفيرة من الطلاب والعلماء ممن قتلهم الغز ـ وقد قتلوا أغلبهم صبرا ـ يمكن الرجوع مثلا إلى كتابي السمعاني التحبير والمنتخب من معجم شيوخه في مواضع متفرقة منها. ولاشتهارهم بالقسوة فقد كانت في القلوب منهم رهبة حتى يقول السمعاني خلال حديثه عن وفاة المحدث محمد المارشكي «توفي خوفا من الغز وقت نزولهم بطوس وإحاطتهم بها من غير معاقبة في أواخر رمضان سنة ٥٤٩ ه‍» (المنتخب ، الورقة ٢٣٣ ب). وقد قتلوا بعض الناس والعلماء وهم في الجوامع كما حدث لمحمد بن علي بن هارون الذي دعاه البيهقي «نسابة المشرق» وقال إنه قتل في شوال سنة ٥٤٨ ه‍ في الجامع المنيعي ، قتله الغز ، له كتب كثيرة تفرقت بعده ولم ير منها أثر» (لباب الأنساب ، ٢ / ٦٤٠) ، ويبدو أن عقوبة الغز المفضلة هي دس التراب في فم الضحية ، وقد رأينا هذه العقوبة وقد كررت مع عالم آخر هو المحدث محمد بن يحيى النيسابوري ، قال السبكي «قتل في شهر رمضان سنة ٥٤٨ ه‍ ، وقتله الغز شهيدا ، قيل إنهم دسوا في فيه التراب حتى مات ، وقال علي بن أبي القاسم البيهقي يرثيه ...» (طبقات الشافعية الكبرى ، ٧ / ٢٦ ، ٢٧).

وفي منتخب معجم شيوخ السمعاني (الورقة ٢٤٧ أ) أنه قتل في ١١ شوال ٥٤٩ ه‍. والسمعاني مقدم على غيره في هذا الأمر لأنه التقاه وسمع منه وكان خبيرا بخراسان وعلمائها.

٨

ومختصر سيصدر بتحقيق نفس المحقق.

تاريخ نيسابور ، بالفارسية من تأليف أحمد الغازي وهو في مجلدين (١).

تاريخ بيهق ، بالعربية من تأليف علي بن أبي صالح بن علي الصالحي الخواري البيهقي (كان حيا في ٥٢٦ ه‍) (٢) ، وهو في عدة أجزاء.

هذا فضلا عن مصادر فرعية ذكرها في ثنايا كتابه ، والمصادر الأدبية وأغلبها مفقود اليوم ومنها : جونة الند ولباب الألباب وهما ليعقوب بن أحمد الأديب الكردي ، وقلائد الشرف لأبي عامر الفضل بن إسماعيل الجرجاني ، ولا أثر لهذه الكتب اليوم. وفيه من الوقائع الأدبية ما لا نجده في المجاميع الأدبية الضخمة ، مثل واقعة لقاء الشاعر أحمد بن إبراهيم الأعسري الذي وفد على الصاحب بن عباد ومدحه بقصيده وصف الناقة في أوائل أبياتها بقوله :

عرمس عيسرانة عنتريس

علطميس عيرانة خنشليل

فقال له الصاحب : لو أن هذه الألفاظ وضعت على ظهر الناقة لناءت بحملها ، فمدحه بقصيدة أخرى مطلعها :

خيال سرى من أم عمران طارق

إلى هاجع بالقفر والليل غاسق

كما أورد له بيتين في وصف الفالوذج ، وغير ذلك من عشرات الوقائع والأشعار التي لا نجدها في أي مصدر آخر.

وحتى في التراجم التي أشترك فيها مع غيره ، فإن في تاريخ بيهق من الإضافات والمعلومات الفريدة ما يجعله متقدما على غيره ، فإذا أخذنا مثلا ترجمة حياة المتكلم

__________________

(١) نقل منه في كتابه لباب الأنساب ، ٢ / ٤٩٨.

(٢) التدوين ، ٣ / ٢٢٤. وقد نقل البيهقي من هذا الكتاب أيضا في كتابه لباب الأنساب ، ٢ / ٥١٠ ، ٥١٣ ، ٥٢١ ومواضع أخر.

٩

والمفسر والأصولي مسعود بن علي الصوابي ، نجد ياقوتا الحموي وقد كتب له أوسع ترجمة ، اكتفى ببضعة أسطر مع ذكر عناوين مؤلفاته وبيتين من الشعر نقلها من كتاب البيهقي الآخر وشاح دمية القصر (١) ، بينما استغرقت ترجمته صفحة ونصفا من تاريخ بيهق ، وفيها من المعلومات ما لا يوجد في أي مصدر آخر ـ بما في ذلك معجم الأدباء ـ حيث ذكر أسماء أساتذته ممن كانت له بهم علاقة حميمة كالمؤلف نفسه وكحجة الإسلام الغزالي وكذلك المتكلم المعروف المحسن بن كرامة الجشمي.

ونقرأ في هذا التاريخ مثلا أوسع ترجمة لأبي علي الفضل بن الحسن الطبرسي مؤلف مجمع البيان في تفسير القرآن وغيره من المؤلفات ، المتوفى سنة ٥٤٨ ه‍ ، حيث قدم عنه وعن مؤلفاته وعلاقاته الأسرية ما لا نجده في أي مصدر.

كما كتب الترجمة الفريدة لأبي إسحاق إبراهيم بن محمد المغيثي الذي دخل في معارك هجائية مع البحتري وابن الرومي ، وحيث قال البيهقي في آخر ترجمته التي استغرقت ثلاث صفحات ونصفا مع مقطعات من شعره : «وقد أطنب الكعبي البلخي في كتابه مفاخر خراسان في حكايات وأشعار إبراهيم المغيثي البيهقي». وكتاب الكعبي مفقود. وفي الكتاب عشرات التراجم لعلماء وأدباء وشعراء ومحدثين ووعاظ لم نجد أيا منهم في المظان المتوفرة من عربية وفارسية ، فضلا عمن وجدناهم ، مع تقديمه أنموذجات من آثارهم مما انفرد به.

الاسم والأسرة

هو حجة الدين ، ظهير الدين ، فريد خراسان أبو الحسن علي بن زيد بن محمد بن الحسين بن فندق ، من أسرة عربية مقيمة في خراسان وما وراء النهر ، ينتهي نسبه إلى الصحابي خزيمة بن ثابت المعروف بذي الشهادتين. ويبدو أن ما قيل من أنه عرف بابن

__________________

(١) معجم الأدباء ، ٦ / ٢٦٩٩.

١٠

فندق نسبة إلى أحد أجداده (١) يستند فقط إلى قول السبكي الذي عرف به بقوله إنه :

«أبو الحسن بن أبي القاسم البيهقي المعروف بفندق ، وفندق في أسماء جدوده» (٢) ، وهو الكلام الذي نقله حاجي خليفة منه فيما بعد (٣) ، وليس بين أيدينا ما يدلّ على أنه عرّف نفسه بهذا اللقب أو عرف به بين معاصريه أو من ترجموا له كياقوت الحموي وفصيح الخوافي (٤) اللذين ترجما له بشكل واف. أما لقبه «ظهير الدين» فقد ذكره هو في أول كتابه تتمة صوان الحكمة (٥). وأما ما ورد لدى الجويني من أنه «فريد الدين» (٦) فهو مما انفرد به ولم نجده لدى غيره.

الخلط بينه وبين شرف الدين البيهقي

تم الخلط أحيانا بينه وبين سميه أبي الحسن علي بن الحسن البيهقي السياسي الأديب الشاعر ، وحدث ذلك في وقت مبكر ، فهذا العماد الأصفهاني عندما ترجم لشرف الدين علي بن الحسن قال إنه صنف وشاح دمية القصر ونقل منه على أنه لشرف الدين (٧). كما غمض الأمر على ياقوت الذي ترجم لحجة الدين علي بن زيد البيهقي استنادا إلى سيرته التي كتبها بقلمه ، وبعد أن انتهى من ذلك نقل كلام صاحب خريدة القصر مكملا به ترجمة مؤلفنا. ولما رأى تناقضا بين كلام مؤلفنا عن نفسه

__________________

(١) بهمنيار ، مقدمة تاريخ بيهق ، ص «ج» ؛ فرهنك معين ، لغت نامة دهخدا ، مادة بيهقي ؛ الأعلام للزركلي ، ٤ / ٨٩.

(٢) طبقات الشافعية الكبرى ، ١ / ٢١٧ ، ٣٤٥.

(٣) كشف الظنون ، ٢ / ١١٠١.

(٤) معجم الأدباء ، ٤ / ١٧٥٩ ـ ١٧٦٨ ؛ مجمل فصيحي ، ٢ / ٢٤٢.

(٥) الورقة ١ ب ، تاريخ حكماء الإسلام ، ١٤.

(٦) تاريخ فاتح العالم ، ٢ / ١٠٦.

(٧) خريدة القصر (ذكر فضلاء أصفهان ، ٢ / ٩٨ ، ١٢١).

١١

وبين كلام صاحب خريدة القصر ، علق قائلا : «هكذا ذكر العماد في كتابه ، وإذا عارضت قوله بما ذكره البيهقي عن نفسه في كتابه الذي نقلت لفظه منه من خطه ، وجدت فيه اختلافا في التاريخ وغيره والله أعلم (١)». ووقع في هذا الخلط الذهبي أيضا عندما صدر ترجمة علي بن زيد البيهقي بقوله : «الوزير العلامة ذو التصانيف شرف الدين ... (٢)» وكذلك ابن الفوطي عندما سماه «شرف الدين أبا الحسن الأنصاري الخزيمي (٣)». ووقع في الوهم نفسه بعض معاصرينا في تحقيقهم آثار المتقدمين ، فهذان الأستاذان محمد بهجة الأثري والدكتور جميل سعيد يعلقان على قصيدة مدح لحيص بيص في شرف الدين البيهقي وفيها يقول :

وخراسان فصونا ضافيا

إنها أرض علي بن الحسن

فيقولان في الهامش : «هو علي بن زيد البيهقي ، والحسن من أجداده» ، ويقولان في هامش آخر إنه «شرف الدين أبو الحسن علي بن زيد البيهقي من ذرية خزيمة ذي الشهادتين (٤)» ، وكذلك محقق كتاب طبقات الفقهاء الشافعية لابن الصلاح الذي دعاه في المقدمة التي صدر بها تحقيقه لهذا الكتاب (١ / ١٧) ب «الوزير القاضي المحدث ... شرف الدين حجة الدين أبو الحسن ...» ، بينما الحقيقة هي أن الوزير هو شرف الدين ، أما مؤلفنا فهو حجة الدين. وللتفريق بين الاثنين نقول :

١. والي الري والشخصية السياسية ـ وهو أديب وشاعر أيضا ـ هو شرف الدين ظهير الملك أبو الحسن علي بن الحسن البيهقي الذي استشهد مع نجله في حرب قطوان سنة ٥٣٦ ه‍ ، ويقال له الوزير أحيانا. وهو المترجم في خريدة القصر وتاريخ بيهق

__________________

(١) معجم الأدباء ، ٤ / ١٧٦٤. ١٧٦٥.

(٢) سير أعلام النبلاء ، ٢٠ / ٥٨٥.

(٣) مجمع الآداب ، مثلا ، ٤ / ٣٤٢ ، ٥ / ٢٣ ، ٤٥٠.

(٤) خريدة القصر (القسم العراقي ، ١ / ٣٢٢).

١٢

وفيهما أوسع ترجمة لحياته مع مقطعات من شعره (١).

٢. مؤلف تاريخ بيهق وغيره من المؤلفات وحفيد الصحابي خزيمة ذي الشهادتين هو حجة الدين فريد خراسان أبو الحسن علي بن زيد البيهقي المتوفى سنة ٥٦٥ ه‍ (٢).

تحديد السنة التي ولد فيها

استنادا إلى ترجمة حياته التي كتبها بقلمه في كتابه مشارب التجارب ونقلها ياقوت في معجمه ، يقول البيهقي : «ومولدي يوم السبت سابع عشرين شعبان سنة تسع وتسعين وأربع مئة ... (٣)».

ولكن هذا لا يتفق وقوله الذي ذكره في تاريخ بيهق عند ذكره حادثة مقتل الوزير فخر الملك بن نظام الملك : «كان مقتل فخر الملك في عاشوراء سنة خمس مئة ، وأنا أتذكر ذلك ، فقد كنت في عهد الصبا في الكتّاب بنيسابور» (٤).

__________________

(١) الذي لا يشك فيه إطلاقا أن المقطعات التي اختارها له العماد الأصفهاني في خريدة القصر (٢ / ٩٩ ، قسم شعراء إيران) والواردة لدى ياقوت في معجم الأدباء (٤ ، ١٧٦٤. ١٧٦٥) ، وهي : «تراجعت الأمور على قفاها ...» و «تشير بأطراف لطاف ...» ، والبيتان الشهيران جدا :

يا خالق العرش حملت الورى

لما طغى الماء على جاريه

وعبدك الآن طغى ماؤه

في الصّلب فاحمله على جاريه

هي جميعا لشرف الدين هذا وليست لعلي بن زيد مؤلف كتابنا.

(٢) استنادا إلى العلامة عبد العزيز الطباطبائي (رحمه‌الله) ، فإن أول من نبه إلى هذا الخلط بين الاثنين هو السيد جلال الدين المحدث الأرموي في تعليقاته على ديوان القوامي الرازي من الشعراء الفرس في القرن السادس الهجري ممن مدح شرف الدين البيهقي (انظر : مجلة تراثنا ، العدد الرابع (٣٧) ، السنة التاسعة ، شوال ١٤١٤ ه‍).

(٣) معجم الأدباء ، ٤ / ١٧٦٠ ـ ١٧٨٦

(٤) تاريخ بيهق ، ٧٦ ، يذكر هذا التاريخ أيضا العماد الأصفهاني في تاريخ دولة آل سلجوق (ص ٢٤٤) بقوله : «ومشى الأمور عشر سنين ، وقتل يوم عاشوراء من سنة خمس مئة».

١٣

كان أول من حاول إيجاد مخرج من هذا التناقض هو السيد محمد مشكاة الأستاذ بجامعة طهران (١) حيث قدر أن يكون عمر البيهقي وهو طالب في عهد الصبا ، يتراوح بين ١٢ ـ ١٣ سنة ، واحتمل أن تكون ولادته قد حدثت خلال السنوات من ٤٨٧ إلى سنة ٥٠٠ ه‍ ، ثم أتخذ من قول البيهقي المذكور لدى ياقوت من أنه ولد في «يوم السبت ٢٧ شعبان» منطلقا ليبحث في جداول فرديناند وستفلد التاريخية عن هذا التاريخ الذي يكون فيه يوم السبت مصادفا للسابع والعشرين من شعبان خلال السنوات من ٤٨٧ حتى ٥٠٠ ه‍ ، فوجده ينطبق على يومين :

السبت ٢٧ شعبان سنة ٤٨٨.

السبت ٢٧ شعبان سنة ٤٩٣.

ولما وجد السيد مشكاة نفسه أمام هذين الرقمين (٤٨٨ و٤٩٣) ، ورأى أن الرقم ٤٩٣ منها شبيه بالرقمين ٤٩٠ و٤٩٩ ، اختار منهما الرقم ٤٩٣ وقال إن الظن القوي يتجه إلى أن تكون ولادته قد حدثت في يوم السبت السابع والعشرين من شعبان سنة ثلاث وتسعين وأربع مئة ، وان عمره يوم قتل فخر الملك (العاشر من المحرم سنة ٥٠٠) كان ست سنوات وأربعة أشهر وثلاثة عشر يوما. انتهى كلامه.

ومنذ ذلك الحين اتخذ تاريخ ولادته الذي استنبطه السيد مشكاة ، مسلّمة لا نقاش فيها لدى الباحثين في حياة البيهقي (٢) غير عابئين بما ذكره فصيح الخوافي من أن البيهقي

__________________

(١) لخص كلامه أحمد بهمنيار في مقدمته لتاريخ بيهق بهامش الصفحة «يب».

(٢) ممن تبنى هذا الرأي السيد عبد العزيز الطباطبائي الذي قال «إن مولده كان في ٤٩٣ فصحفت إلى ٤٩٩ ، وهذا هو الصواب كما حققه الأستاذ السيد محمد مشكاة» (مجلة تراثنا ، العدد الرابع (٣٧) ، السنة التاسعة ، شوال ١٤١٤ ه‍ ، مقالة بعنوان (نهج البلاغة عبر القرون) ، والسيد شهاب الدين المرعشي النجفي في مقدمته لكتاب لباب الأنساب ١ / ١٥٧ ، بقوله : «والأظهر أنه ولد سنة ٤٩٣ ه‍». ومن المعاصرين من كتب التاريخ الوارد لدى ياقوت (سنة ٤٩٩ ه‍) ومنهم الزركلي في الأعلام ، ٤ / ٤٩٩ ، وعمر رضا كحالة في معجم المؤلفين ، ٧ / ٩٧ ، ومحمد تقي دانش بزوه في مقدمته لمعارج نهج البلاغة.

١٤

عند إكماله تاريخ بيهق سنة ٥٤٤ ه‍ «كان له من العمر أربع وخمسون سنة» ، وهذا يجعل ولادته قد حدثت سنة ٤٩٠ ه‍ ، ويبدو أن السبب في عزوف السيد مشكاة عن هذه السنة هو عدم وجود يوم سبت فيها يقع في السابع والعشرين من شعبان. ولكن أليس ممكنا أن يكون التصحيف قد نال أيضا من «سابع عشرين شعبان» الواردة لدى ياقوت؟

نرجح بما يقرب من اليقين ـ إن لم يكن هو اليقين عينه ـ أن صواب العبارة هو : «ومولدي يوم السبت تاسع عشر من شعبان سنة تسعين وأربع مئة» ، وان ناسخ المخطوطة قد أخطأ في كتابة «تاسع عشر من» فكتبها «سابع عشرين» وهي قريبة منها في الرسم ، هذا أولا ، وثانيا أخطأ في السنة فكتب «تسع» ثم استدرك فكتب «تسعين» ولكنه نسي أن يشطب الكلمة الأولى «تسع» فظلت الكلمتان متجاورتين مما حدا بناسخ آخر إلى أن يضع بينهما واوا حيث أصبحتا «تسع وتسعين» وهو رقم مغلوط بكل تأكيد. فكما مر بنا ، لا يعقل أن يكون عمره سنة واحدة عند ما كان تلميذا في الكتّاب يوم قتل فخر الملك سنة ٥٠٠ ه‍. وندعم ما نذهب إليه بما يلي :

١. قال فصيح الخوافي ضمن ذكره حوادث سنة ٥٤٤ ه‍ : «إتمام تاريخ البيهق (كذا) الذي كتبه أبو الحسن بن أبي القاسم البيهقي .. في محرم السنة المذكورة وهو ابن أربع وخمسين سنة» (١). وذلك يعني أن فصيحا المؤرخ قد عدّ ولادته في ٤٩٠ ه‍.

وسنؤجل الآن بحث التاريخ الذي انتهى فيه من تأليف تاريخ بيهق ، وإن هذه المعلومات الدقيقة من ذكر الشهر والسنة ومقدار سني عمره ، كلها دالة على أن هذا المؤرخ كان ينقل من مصدر موجود لديه عند تدوينه تاريخه.

٢. جرت العادة لدى نساخ المخطوطات أن تلتبس لديهم كلمة «تسع» و «تسعة» ب «سبع» و «سبعة» والعكس صحيح أيضا. وان تلتبس «تسع وتسعون» ب «سبع

__________________

(١) مجمل فصيحي ، ٢ / ٢٤٢.

١٥

وسبعون» والعكس صحيح ، وما شابه ذلك. ومن العسير جدا ـ إن لم نقل من المستحيل ـ أن يسهو قلم الناسخ فيكتب سنة «تسع وتسعون» بدلا من «ثلاثة وتسعون» ليقال بعدها إن الرجل ولد سنة ٤٩٣ ه‍ كما ارتأى ذلك السيد محمد مشكاة ومن تابعه ، فلا وجه لشبه إطلاقا في رسم الخط بين «تسع» و «ثلاث».

٣. استنادا إلى الجداول التاريخية (١) فإنه حدث أن صادف يوم السبت ، يوم التاسع عشر من شعبان وذلك في سنة ٤٩٠ ه‍ ، وهي السنة التي تتفق وكلام فصيح الخوافي الذي نقلناه آنفا من أن البيهقي كان له من العمر أربعة وخمسون عاما في سنة ٥٤٤ ه‍.

متى انتهى البيهقي من تأليف كتابه؟

نقرأ في ختام مخطوطات تاريخ بيهق قول مؤلفه : «وفرغ المصنف (رحمه‌الله) من نسخ هذا الكتاب في الرابع من شوال سنة ثلاث وستين وخمس مئة بقرية ششتمد».

ولكن لدينا تواريخ أخرى دالة على أن الكتاب ألف في فترة متقدمة على هذا التاريخ ، وكان المؤلف يضيف إلى مخطوطته وقائع تاريخية مستجدة وتواريخ وفيات بعض معاصريه. ففضلا عن قول المؤرخ فصيح في مجمله والذي ذكرناه فيما مضى من أن البيهقي أتم تاريخ بيهق في محرم سنة ٥٤٤ عند ما كان له من العمر أربعة وخمسون عاما ، نجد المؤلف نفسه يقول في أول الكتاب (ص ٢١) : «من عجائب بغداد أنه لم يمت فيها خليفة إلا المقتفي الذي توفي في هذه الأيام». والمعلوم أن وفاة المقتفي لأمر الله حدثت في ٢ ربيع الأول سنة ٥٥٥ ه‍ (٢). بل إنه يتحدث بلغة الماضي عن خلافة المقتفي عند ما يذكر موفق الدين البيهقي فيقول إنه كان عميد بغداد خلال خلافة المقتفي لأمر

__________________

(١) التوفيقات الإلهامية ، ١ / ٥٢٢.

(٢) تاريخ دولة آل سلجوق ، ٢٦٦. نقرأ في تاريخ بيهق (ص ٤١): «في سنة خمس وخمسين وخمس مئة وصل (إلى بيهق) من حدود يوزكند علماء وهم في طريقهم لأداء فريضة الحج ...».

١٦

الله (١) ونقرأ تواريخ وفيات بعض معاصريه خلال السنوات ٥٥٦ و٥٥٧ ه‍ ، ثم نجد إشارته إلى كتابه لباب الأنساب (٢) ، ومعلوم أنه انتهى من تأليف كتابه هذا سنة ٥٥٨ ه‍ (٣).

وهذا دال على أنه كان في سنة ٥٥٨ ه‍ أو ٥٥٩ ه‍ كما ذكر في موضع آخر من نفس كتابه هذا ـ قد كتب مؤلفه تاريخ بيهق وأنه ظل يضيف إليه حتى سنة ٥٦٣ ه‍. ولعل أفضل مثال لهذه الإضافات التي ظل المؤلف يثري بها كتابه ، الواقعتان التاليتان اللتان تداخلت عباراتهما وإحداهما حدثت سنة ٥٣٦ ه‍ ، والأخرى في ٥٦٠ ه‍ : «أعجوبة : بدأ هطول المطر من السادس من حزيران سنة ست وثلاثين وخمس مئة حتى الثامن من غير انقطاع. وكانت الشمس في الدرجة الثالثة من الجوزاء. فحدث من الخراب في المدينة ما يعجز البيان عن وصفه ، وكانت الشمس في آخر الحوت. ونزل الثلج ليومين وليلتين ، وتواصل انجماد الصقيع مدة أسبوع. وكان ذلك من عجائب الدنيا. وقد بلغ البرد حدا دمر معه كثير من النبات والأشجار في هذه الناحية وذلك سنة ستين وخمس مئة (٤)».

وأما الفصل التاريخي الخاص بوقائع مجيء إيل أرسلان بن خوارزم شاه آتسز إلى سبزوار سنة ٥٦١ ه‍ ثم الخطبة له بنيسابور سنة ٥٦٢ ه‍ ، فواضح أنه قد كتب على عهد هذا الأمير الذي امتد حكمه حتى سنة ٥٦٧ ه‍ (٥) ، وذلك أنه جاء بعد اختتام فصل الوقائع التاريخية بفاصلة طويلة والدخول في عناوين مثل الأشياء التي تنفرد بها بيهق

__________________

(١) تاريخ بيهق ، ٢٦٦.

(٢) تاريخ بيهق ، ٦٠.

(٣) لباب الأنساب ، ٢ / ٧٢٩ ، لكنه قال في ٢ / ٧٠٣ : «فهؤلاء أولاد أبي منصور ظفر إلى شهور سنة تسع وخمسين وخمس مئة» ، ويعني هذا أنه أضاف هذه العبارة عقب انتهائه من تأليف الكتاب بسنة.

(٤) تاريخ بيهق ، ٢٨٣.

(٥) تاريخ بيهق ، ٢٨٤ ؛ أخبار الدولة السلجوقية ، ١٦٦ ؛ فرهنگ فارسي ، مادة أيل أرسلان.

١٧

عن سائر البقاع وأعجوبة هطول الأمطار.

وبهذا يمكن القول إن تأليف الكتاب انتهى بنسخته الأولى في المحرم من سنة ٥٤٤ ه‍ وهي النسخة التي رآها المؤرخ فصيح الخوافي ، ونسخت آخر مسودة له في ٤ شوال سنة ٥٦٣ ه‍.

الأسرة والبدايات الدراسية

كان أسلافه الذين عرفوا بالحاكميين والفندقييين ـ نسبة إلى الحاكم فندق بن أيوب ـ والذين ينتهي نسبهم إلى الصحابي خزيمة بن ثابت ذي الشهادتين (رض) ، مقيمين في قصبة سيوار من نواحي بالشتان من توابع بست وهي «بلدة من بلاد كابل بين هراة وغزنة (١)» (في أفغانستان الحالية) ، ثم إن جدّ جده وهو الحاكم فندق بين أيوب المتوفى سنة ٤١٩ ه‍ (٢) هاجر من تلك البلاد إلى نيسابور وعين قاضيا مفتيا بأمر من السلطان محمود ورعاية وزيره أحمد بن الحسن الميمندي (تولى الوزارة سنة ٤٠٠ وظل فيها حتى سنة ٤١٦ ه‍) ، ولا نعلم الفترة التي مكث فيها بهذا المنصب لكنه طلب إعفاءه من هذا العمل واشترى بناحية بيهق ضياعا في قرية سرمستانه من حدود الناحية وأقام فيها منيبا عنه من يدعى العزيزي في منصب قضاء بيهق ، وأوكل قضاء مدينتي بسطام ودامغان لنجليه الحسن وأحمد. وكل ذلك دال على ما كان يحظى به من هيمنة سياسية ودينية.

وقد تولى أولاده وأحفاده ـ ومنهم مؤلفنا علي بن زيد ـ منصب القضاء بمدينة بيهق.

أما والده شمس الإسلام زيد (٤٤٧ ـ ٥١٧ ه‍) ، فقد أقام في بخارى عشرين عاما ونيفا لا ندري العمل التي كان يمارسه ، لكنه ـ كما يقول نجله ـ اختلف إلى علماء تلك البلاد ممن ذكر المؤلف بعضهم في تاريخ بيهق وصاحب بعض مشاهير تلك البلاد من

__________________

(١) الأنساب ، ١ / ٣٤٨.

(٢) ترجم له في المنتخب من السياق (ص ٤٥٨) ولقب بالفقيه الحاكم البستي ولقبه مؤلفنا في غرر الأمثال (الورقة ٨٨ ب) بالفارمذي (نسبة إلى فارمذ من قرى طوس).

١٨

أهل العلم ممن درسوا معه ، ويذكر مؤلفنا وجوده ببغداد دون أن يحدد السنة التي كان فيها هناك. وفي السادسة والخمسين من عمره (سنة ٥٠٣ ه‍) أصيب بالعمى عقب علاج خاطئ قامت به عجوز كحالة لم تكن أتقنت مبادئ مهنتها ، هربت بعد فعلتها تلك.

وكان والده عالما شاعرا أديبا ذا علاقات مع جمع من مشاهير زمنه ومنهم الشاعر وعالم الرياضيات عمر الخيام الذي قال البيهقي إنه زاره مع أبيه سنة ٥٠٧ ه‍ وإن الخيام امتحنه في بيت من أشعار ديوان الحماسة. ولما أجابه مؤلفنا بكفاءة عما سأله عنه ، عقب الخيام بقوله : «شنشنة أعرفها من أخزم». وفي ذلك مدح لوالد البيهقي وأسلافه بالعلم (١) ، فضلا عما في الكلام من ثناء على البيهقي نفسه.

في ترجمته لحياته التي كتبها هو يقول البيهقي : «ومولدي (٢) يوم السبت ١٧ من شعبان سنة ٤٩٠ ه‍ في قصبة السابزوار من ناحية بيهق ... فأسلمني بها أبي إلى الكتاب.

ثم رحلنا إلى ناحية ششتمذ من قرى الناحية ـ ولوالدي بها ضياع ـ فحفظت في عهد الصبا كتاب الهادي للشادي تصنيف الميداني ، وكتاب السامي في الأسامي له (٣) ، وكتاب المصادر للقاضي الزوزني (٤) ، وكتاب غريب القرآن للعزيري (٥) ، وكتاب

__________________

(١) تاريخ حكماء الإسلام ، ١٢٢.

(٢) التاريخ في الأصل ٢٧ شعبان ٤٩٩ ه‍ ، وقد أثبتنا فيما مضى صحة ما كتبناه أعلاه.

(٣) كلا الكتابين مطبوع.

(٤) هو أبو عبد الله الحسين بن أحمد الزوزني النحوي الضرير ويخاطب بالقاضي ، مات سنة ٤٨٦ ه‍ (معجم الأدباء ، ٣ / ١٠٣٨).

(٥) في الأصل : العزيزي «بزايين» والتصويب من الأنساب (٤ / ١٨٨) وهو أبو بكر محمد بن عزير السجستاني المتوفى سنة ٣٣٠ ه‍ ، قال السمعاني إنه عرف بالعزيري «لأنه من بني عزرة ومن قال العزيزي بالزايين ، فقد أخطأ». وقد سمى ابن طاووس كتابه هذا : تفسير غريب القرآن على حروف المعجم ونقل منه في سعد السعود (س ٢٤٧). وللعزيري ترجمة في سير أعلام النبلاء ، ١٥ / ٢١٦ ، وتوجد مخطوطة منه في مكتبة الكلبايكاني بقم تحت الرقم ٢٣١٠ (انظر فهرست نسخةهاي خطي كتابخانه آية الله الكلبايكاني بقم تحت الرقم ١٢١٠ (انظر فهرست نسخةهايى خطي كتابخانه آية الله الكلبايكاني ، ٣ / ٢٢٦).

١٩

إصلاح المنطق (١) ، وكتاب المنتحل للميكالي (٢) ، وأشعار المتنبي ، والحماسة ، والسبعيات (٣) ، وكتاب التلخيص في النحو (٤) ، ثم بعد ذلك حفظت كتاب المجمل في اللغة (٥).

١. وحضرت في شهور سنة أربع عشرة وخمس مئة كتّاب أبي جعفر المقرئ (٦) إمام الجامع القديم بنيسابور مصنف كتاب ينابيع اللغة وغير ذلك ، وحفظت في كتابه كتاب تاج المصادر من تصنيفه ، وقرأت عليه نحو ابن فضال (٧) وفصولا من كتاب المقتصد (٨) ، والأمثال لأبي عبيد (٩) ، والأمثال للأمير أبي الفضل الميكالى.

٢. ثم حضرت درس الإمام صدر الأفاضل أحمد بن محمد الميداني في محرم سنة ست عشرة وخمس مئة ، وصححت عليه كتاب السامي في الأسامي من تصنيفه ، وكتاب المصادر للقاضي [الزوزني] ، وكتاب المنتحل وكتاب غريب الحديث لأبي عبيد ، وكتاب إصلاح المنطق ، ومجمع الأمثال من تصنيفه ، وكتاب صحاح اللغة

__________________

(١) لأبي يوسف يعقوب بن إسحاق بن السكيت المقتول سنة ٢٤٦ ه‍ كما في فهرست ابن النديم ص ٧٩.

(٢) الأمير أبو الفضل عبيد الله بن أحمد بن علي المتوفى سنة ٤٣٦ ه‍.

(٣) هي المعلقات السبع.

(٤) لم نهتد إلى مؤلفه.

(٥) لأحمد بن فارس بن زكريا المتوفى سنة ٣٩٥ ه‍. وقد كرر هذه المعلومة أيضا في غرر الأمثال (الورقة ٤٠ أ) بقوله : «حفظته من المكتب في عهد الصبا وأنا ابن سبع سنين».

(٦) هو المعروف ب «بو جعفرك» المتوفى سنة ٥٤٤ ه‍ ، وكتابه تاج المصادر مطبوع بطهران.

(٧) أبو الحسن علي بن فضال المجاشعي القيرواني الفرزدقي المتوفى سنة ٤٧٩ ه‍ (معجم الأدباء ٤ / ١٨٣٤ وما بعدها). ولما كانت دراسة البيهقي في مراحلها الأولى ، فالواضح أن المقصود هو كتابه المقدمة في النحو الذي ذكره ياقوت.

(٨) المقتصد وهو في النحو لعبد القاهر الجرجاني المتوفى ٤٧١ ه‍ ، لخص فيه شرحه هو لكتاب الإيضاح لأبي علي الحسن بن أحمد الفارسي المتوفى سنة ٣٧٧ ه‍.

(٩) أبو عبيد القاسم بن سلام الهروي المتوفى سنة ٢٢٤ ه‍.

٢٠