تأريخ بيهق

فريد خراسان علي بن زيد البيهقي

تأريخ بيهق

المؤلف:

فريد خراسان علي بن زيد البيهقي


المحقق: يوسف الهادي
المترجم: يوسف الهادي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار إقرأ للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧٢

ولو كانت النفس العزيزة والحياة الكريمة تشترى من الأجل المسمى بنفائس الأموال وذخائر الكنوز أو العدد والعدة ، لكان ذلك قد نفع هذا الأمير العادل.

قيل في رثاء الأمير يزيد بن المهلب (١) :

كل القبائل بايعوك على الذي

تدعو إليه طائعين وساروا

حتى إذا حمي الوغى وجعلتهم

تحت الأسنّة ، أسلموك وطاروا

إن يقتلوك فإن قتلك لم يكن

عارا عليك ، وبعض قتل عار

وقد استحرّ القتل بآل المهلب مرتين : مرة في العقر ـ وهو موضع قرب الكوفة (٢) ـ ، والآخر في قندابيل (٣) ، ولم يبق منهم إلا القليل ، ثم إن الحق تعالى أحيا ذلك البيت بروح بن حاتم المهلّبيّ ، [٩٠] ويزيد بن حاتم المهلّبيّ ، قال أحد الشعراء وهو يشكو من يزيد بن حاتم :

وإني ـ ولا كفران لله ـ راجع

بخفّي حنين من يزيد بن حاتم

وقد قيل : إن أسخياء البشر لو أرادوا مفاخرة الجن بالسخاء والكرم لبلغوا ذلك بأولاد المهلب.

ذكر المدائني في كتابه أنه بعد أن قتل يزيد بن المهلب ، مرت تسع وعشرون سنة لم تولد بنت لآل المهلب ، بينما كان البقاء نصيب كل الأولاد الذكور فلم يلق الموت

__________________

(١) الشعر لثابت قطنة كما في الأغاني (١٤ / ٢٧٠).

(٢) العقر : عقر بابل ، وهو موضع بين واسط وبغداد ، فيه قتل يزيد بن المهلب سنة ١٠٢ ه‍ (معجم ما استعجم ، ٢ / ٩٥٠ ؛ الأعلام ، ٨ / ١٨٩).

(٣) قندابيل ، موضع بالسند ، وفيه أوقع هلال بن أحوز بآل المهلب الذين انهزموا من العقر حين قتل يزيد بن المهلب (معجم ما استعجم ، ٢ / ١٠٩٧).

٢٠١

عليهم ظلا.

بقي للأمير يزيد بن المهلب أولاد وأعقاب في خراسان. ومن أحفاده : الفقيه الرئيس أبو عبد الله محمد بن يحيى (١) :

فأكرم بفرع هؤلاء أصوله

وأعظم ببيت هؤلاء قواعده

ويوجد بهذه الناحية ـ بيهق ـ أولاد لأخي المهلب بن أبي صفرة وهم من أولاد أحمد بن عبد الله بن زكريا بن عبد الكريم بن عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن شيبان بن الفروخ بن الحرب بن حريث بن بارق بن صالح بن أبي صفرة (٢) ، وهم أبناء عم يزيد بن المهلب.

وكان أبو الحسين عبد الله بن زكريا قد انتقل من جرجان إلى نيسابور في شهور سنة ثلاث وثلاثين وثلاث مئة ، وكان منهم رئيس في قصبة جشم بأرض بيهق ، يدعى الرئيس أبا علي محمد بن علي بن الحسين الجشميّ ، والآخر يدعى الرئيس أبا العباس أحمد بن الحسين بن محمد الجشميّ (٣) ، وآخر يدعى الرئيس أبا الحسن علي بن الحسين البيهقيّ الجشميّ ، وكان الفقيه الرئيس أبو عبد الله محمد بن يحيى خاله.

وكانت رئاسة هذه الناحية بيد الرئيس أبي الحسن الجشميّ ، وكان رجلا وجيها مبجلا لدى الملوك والأمراء والوزراء والسلاطين ، آثار الرئاسة والسيادة ظاهرة فيه ؛ فشمع سخائه كالشمس الساطعة ، ومصابيح رأيه كالنجوم اللامعة :

ما السيف عضبا يضيء رونقه

أمضى على النائبات من قلمه

__________________

(١) يذكره المؤلف مرارا في الكتاب.

(٢) في تاريخ نيسابور (ص ١٥٠) : أبو الحسين أحمد بن عبد الله .... الفقيه الشافعي الجرجانيّ (انظر أيضا : تاريخ جرجان ، ٩٩).

(٣) حدث عنه حمزة بن الحسين البرزهيّ المتوفى سنة ٤٨٨ ه‍ (لباب الأنساب ، ٢ / ٥٠١).

٢٠٢

ثم إنه عزل عن رئاسة بيهق.

[٩١]وكل ولاية لا بدّ يوما

تؤول إلى انقضاء وانقراض

وأعطيت الرئاسة إلى خاله الفقيه الرئيس محمد بن يحيى ، وكان رجلا عادلا شهما ، الكفاية في كنفه محدودة ، ونجوم المعالي في سماء رئاسته مسعودة :

ثقاف الليالي في يديه فإن تمل

صروف زمان ردّ منها فقوّما

وقد قال الرئيس علي الشّجاعيّ (١) في مدح الفقيه الرئيس أبي عبد الله محمد بن يحيى رحمه‌الله :

أثني على العميد الرئيس الأوحد الخطير

العالم الفردالفقيه الخالص الدين عديم النظير

الشامخ محمد الشيخ أبو عبد الإله

صانع الشهرةالمبارزذي­الصيت الذائع الشهير

برغم­كوني­حرافي­هذاالعالم،لكن­الأميراسترقّني­بفضله

وبرغم­كوني­أميرالبيان­لكنه­أخرسني­بوافر عطائه

لا غرو أن يذاع شكره على لساني

ولا غرو أن أنثر اللؤلؤ في مدحه

وأعلن جهارا كما قال الأعرابي للقمر

عند ما عثر على بعيره

أقول للبحر أنت الجواد وللأسد أنت الشجاع

وللفلك أنت السامي وللقمر أنت المنير

__________________

(١) هو علي بن محمد الشّجاعيّ الذي سيترجم له المؤلف لاحقا.

٢٠٣

والفقيه الرئيس أبو عبد الله محمد بن يحيى هذا ، هو الذي دعا جد جدي الإمام أبا القاسم عبد العزيز بن الإمام يوسف بن جعفر النّيسابوريّ (١) من نيسابور إلى بيهق بالإنعام والإكرام ، وارتبط معه بالمساعي الخيرة ، وكانت بينهما مكاتبات في الإخوانيات ، تظهر فيها آثار صفاء الاعتقاد والاتحاد ، وأغلب تلك الكتب والرسائل محفوظ لدي.

وسبب تلك الصداقة ، أن الرئيس الفقيه أبا عبد الله كان في نيسابور يختلف إليه ، ويستضيء بمصابيح علومه ، ويستفيد من غرر علومه ، وإن الإفادة والاستفادة تثمر السعادة في الدارين ، ولم تنسخ الأمة هذه الطريقة بأية حادثة ؛ لأن المفيد والمستفيد أشد احتياجا للمحاورة والمجاورة ، واللقاء والمذاكرة ، كالكبد الظمآن إلى الماء ، والنبات الذابل إلى صوب السحاب.

[٩٢]تلك العهود بأسرها مختومة

بين الفؤاد وعقدها لم يحلل (٢)

وقد قيل لذي القرنين الإسكندر الرومي : ما بالك تعظم أستاذك أكثر مما تعظم أباك؟ فقال : لأن أبي كان سبب وجودي بتقدير الله تعالى ، وأستاذي كان سبب سعادتي في الدنيا والآخرة ، وسبب جودة وجودي.

__________________

(١) سيرد اسمه كاملا لدى المؤلف وهو : أبو القاسم عبد العزيز بن يوسف بن جعفر بن محمد بن إبراهيم بن كشمرد. يوجد تطابق في الاسم والكنية بينه وبين أبي القاسم عبد العزيز بن يوسف الذي عدّه الصاحب بن عباد من كتاب الدنيا وبلغاء العصر (يتيمة الدهر ، ٢ / ٢٩٢ ، ٣٦٩) وترجم له الثّعالبيّ تحت عنوان ذكر ثلاثة من كتاب آل بويه يجرون مجرى الوزراء ، وفي الكناية والتعريض (ص ٢٤) سماهم الثّعالبيّ بلغاء العصر وأفراد الدهر ، ولا ندري إن كان هذا هو ذاك.

(٢) في نفح الطيب ، ١ / ١٥ بلا عزو ، وفيه :

تلك العهود بشدها مختومة

عندي كما هي ، عقدها لم يحلل

٢٠٤

من المدائح التي قيلت في الفقيه الرئيس أبي عبد الله محمد بن يحيى :

أخلائي! محمد بن يحيى

أنار بفضله قلبي وأحيا

محيّاه لأهل الفضل نور

ومحياه لأهل الفضل محيا

وقد أنشأ الفضلاء المقامات عند ما جاء الفقيه الرئيس أبو عبد الله محمد بن يحيى إلى رئاسة بيهق ، وكانت واحدة من تلك المقامات هي التي قالها الشيخ أبو عبد الله الزّياديّ المعروف بخواجكك (١) وفيها يقول : جعل الله ورود الشيخ الفقيه الرئيس هذه الناحية ، ورود خير ونجاح ، وغبطة وارتياح ؛ وقرن بقدومه مساعدة السعادات ، ومسارعة الفوائد والزيادات ؛ فلا فضل إلا وهو منسوب إليه ، ولا عدل إلا وهو موقوف عليه :

إن غاب بدر الدّجن عنّا فقد

أسفر عن بدر الأماني عيان

ببهجة وضّاحة صوّرت

من ماجد يحسدها النّيّران

وكان له ابن هو الرئيس حمزة ، وابنتان ، إحداهما في حبالة الرئيس أبي سعد المظفر بن محمد ، والأخرى والدة السيد الأجل ركن الدين أبي منصور هبة الله الذي كنا قد ذكرناه.

وذكروا أن حياة الفقيه الرئيس ختمت بالشهادة في أوائل ملك السلطان طغرل السّلجوقيّ (٢) ، رحمة الله عليه.

[٩٣] فولادوند

يعتبر بيت فولادوند أشرف بيوتات الديالمة ، وكذلك بيت دروداوند ، ولما بلغ

__________________

(١) هو أحمد بن علي بن محمد ، مقبل الملك ، سيترجم له المؤلف لا حقا.

(٢) هو ركن الدين أبو طالب طغرل بك ، تولى الحكم سنة ٤٢٩ ه‍.

٢٠٥

فولادوند العالم المئة من عمره ، وقوّس الدهر ظهره ، وضعفت حواسه ، اتفقت كلمة الديالمة على أن كل من رضي أن يضع صدره لطعنة المزراق (١) هدفا ، ولم ير في الموت عارا ، فإن السيادة والرئاسة تكون وقفا على أولاده وأحفاده ، ولا أحد يخلع ربقة الطاعة لهم.

كان فولادوند هرما ، شارفت أيامه غروب العمر ، فقبل ذلك قائلا ، بقي القليل من عمري ، وليس أفضل في هذا العمر الذي يتصرّم ساعة فساعة ، من أن أبيعه بالسيادة والرئاسة لأولادي إلى يوم القيامة ، ثم أسلم نفسه ، وجعل صدره هدفا لذلك المزراق ، وتناول شراب تلك الضربة بابتهاج ، إلا أن الحق تعالى لم يكن مقدرا أجله آنذاك ، ونعم المجنّ أجل مستأخر ـ فإن الخلائق عاجزون عن دفع الأجل المسمى ، وهم أشد عجزا عن تقديمه ـ ولم يمت ثم عولج وعاش أعواما بعد ذلك ، وسلمت لأبنائه السيادة والتقدّم على الديالمة.

وكان له ابنان اثنان : كياكي وفيروزان ، والعقب من كياكي : ما كان ، ومن فيروزان : نصر بن الحسن بن فيروزان ، وكان مقدم الديالمة ، ذكر في كتاب مزيد التاريخ (٢) أن نصر بن الحسن هذا قد وصل خراسان في ابتداء دولة المحموديين ، وأقام في قصبة جشم ، حيث كانت نفقاته ونفقات عسكره مؤمنة من القصبة ، ثم إنه اتصل بهم عن طريق المصاهرة. وهؤلاء الأكابر من أبنائه من جانب الأم ، وكان الفقيه الرئيس أبو عبد الله من أبنائه وأحفاده ، ولهذا السبب كان ملوك ذلك الزمان يعرفون له السعي المشكور ، ويذكرونه بالمحامد والتشريف.

__________________

(١) المزراق : الرمح القصير.

(٢) هو مزيد التاريخ في أخبار خراسان ، تأليف أبي الحسن محمد بن سليمان بن محمد ، اقتبس منه ياقوت في معجم الأدباء (١ / ٤٥٦ ، ٢ / ٩٢٣) ، وقد زاد فيه على تاريخ ولاة خراسان للسلامي.

٢٠٦

[٩٤] وقد ظلت رئاسة بيهق في ذلك البيت ، كما ظلّ ميراث الشعر في بيت حسان الذي كان أولاده إلى يومنا هذا شعراء ، ببركات كون حسان مادح المصطفى.

انتقلت الرئاسة بعد الفقيه الرئيس أبي عبد الله محمد بن يحيى ، إلى الرئيس أبي سعد المظفر بن محمد بن الحسن (١) وهو صهره.

ثم صارت مدة إلى الرئيس حمزة بن محمد (٢) ، وهو ابن الفقيه الرئيس أبي عبد الله الذي كان مقامه في خسروجرد ، وأرسل ابنه الرئيس حمزة هذا إلى رئاسة تبريز ومراغة ، حيث بقي هناك.

وقد شمل نظام الملك برعايته وعنايته الرئيس أبا سعد صهر الفقيه الرئيس أبي عبد الله ، بما يعجز عن وصفه الشرح والبيان.

رعى الرئيس أبو سعد المعوزين والمحتاجين ، وكان نشر العدل من عاداته ، ولهذا كان نظام الملك يذيع مفاخره على الملوك والرؤساء.

قال الشيخ علي الشّجاعيّ قصيدة في مدحه ، أولها :

تتجه الشمس دوما صوب الأعالي

غير أن الشمس والقمر قد اختفيا الآن

كأنك الشمس ونسيم السحر أريجك

وهذا الروح ورياحين الربيع العديدة الألوان

أخذت­روائحهامن­يد السيد أبي سعد المظفر

حين يفتحها مانحا عطاياه

__________________

(١) لم نهتد لمصدر ترجمته.

(٢) لم نهتد لمصدر ترجمته.

٢٠٧

السيد الذي ينعم في كل حين

الفضل والأدب والعلم والحرية والمعرفة

يفيض سيل الكرام والجود من طبعه

كما يتفجر الماء من فم القناة

إذا ما سقطت قطرة من يده على حجر

نمت وردة بلا شوك في قلب الحجر الصلد

وللشيخ الرئيس أبي عبد الله أحمد الزّياديّ المعروف بخواجكك مدائح وأشعار كثيرة ، منها :

[٩٥] حلفت بربّ النجم والأنجم السعد

لقد ساد أهل الفضل طرا أبو سعد

إذا احتجت في فطر إلى عطر إذخر

فتقت سجاياه فأغنت عن النّدّ

وإن عنّ محذور تعوّذت باسمه

فأصبح بيني والمكاره كالسّدّ

وأخرى في مدحه يقول فيها :

إذا قيل من في الأرض للجود والبذل

وللدين والتقوى وللفوز والفضل

وللحسن والإحسان والرأي والنهى

وللفضل والإفضال والقسط والعدل

أحبت هو الشيخ الرئيس أخو العلى

أبو سعد المشهور في الوعر والسهل

لقد كان من شخص العلى حرّوجهه

وغير أبي سعد غدا أخمص الرّجل

انتقل الرئيس أبو سعد هذا إلى جوار رحمة الخالق في شهور سنة ثلاث وسبعين وأربع مئة ، وجلس في مكانه ابنه جمال الرؤساء أبو علي الحسين.

٢٠٨

فإن يك عتّاب مضى لسبيله

فما مات من يبقى له مثل خالد (١)

وقد تجاوزت راية رعاية الرئيس أبي علي هذا لرعاياه كوكب زحل ، ونقشت آثار كفايته وهدايته على صفحات العصر ، وساس هذه الناحية ـ بيهق ـ بالإنصاف ، وتوفي ليلة السبت فجأة بدون مرض في السابع من ربيع الأول سنة ثلاث وتسعين وأربع مئة ، وقيل إنه أصيب بالسكتة (٢) ، ودفنوه من غير أن يعلموا ذلك ، ودامت مدة رئاسته عشرين عاما ، وقد أنشد الدهر في رثائه هذه الأبيات :

كان الذي خفت أن يكونا

إنا إلى الله راجعونا

[٩٦] أمسى المرجى أبو علي

موسّدا في الثرى دفينا

حتى استوى وانتهى شبابا

وصدّق الرأي والظنونا

أصبت فيه وكان حقا

على المصيبات لي معينا

وكان له أخ يدعى فخر العلماء أبا عبد الله محمد بن المظفر (٣) ، وهو رجل عالم وفاضل وزاهد ومفضل ، معروف بالصيانة ونزاهة النفس ، وكان كلما رأى أبي أو رآني قال : صداقة الآباء قرابة الأبناء ، وله هذان البيتان في حق أبي :

__________________

(١) من قصيدة لأعشى همدان ، في خالد بن عتاب بن ورقاء الرياحي (شرح شافية ابن الحاجب ، ٤ / ٢٩٥ ؛ البيان والتبيين ، ٣ / ٢٣٧ ؛ الأغاني ، ٦ / ٦٦).

(٢) الموت الفجائي. ويعتقد الرازي أن أسباب السكتة هي : «السّدّة في بطون الدماغ والورم الحادث له» ، والمقصود بها حدوث الخثرة الدماغية أو انفجار شريان في الدماغ ، وسببها في أغلب الأحيان آفة هي التضيق التاجي ولكنها قد تكون خثرة غازية أو ورم خبيث في الدماغ (انظر : كتاب ما الفارق للرازي ، ٢٥ ، ٣٦ مع تعليق محققه الدكتور سلمان قطاية).

(٣) ذكره ابن الفوطي (٣ / ١٨٠) فقال : فخر الدين أبو المعالي محمد بن المظفر بن محمد بن الحسن البيهقيّ الزاهد ، من كلامه ...

٢٠٩

ورث الإمامة زيد بن محمد

عن جدّه وأبيه بالإسناد

أضحى كمثل أبيه أوحد عصره

وكجده فردا من الأفراد

وقد قال فيه الأفاضل مدائح كثيرة ، منها تلك التي قالها نادر الدهر جعفر الحاكم الزّياديّ (١) ، وفيها يقول :

فتى فتحت بنائله الأماني

كما ختمت بسؤدده الرقاب

يزين قديمه شرف حديث

فقل في الجيد زيّنه السّخاب (٢)

وقول الشيخ الرئيس العالم محمد بن منصور بن إسحاق (٣) :

رئيس لو العيّوق ينشد مدحه

لكان على الشهب الثواقب سيدا

هو البحر والضر غام والشمس في الضحى

علاء وبذلا واقتدارا على العدى

ولفخر العلماء ابن اسمه حمزة درج ولم يعقب ، ومخدّرة في حبالة السيد الأجل العالم المرتضى السعيد العزيز بن هبة الله.

مضى فخر العلماء لسبيله في سنة تسع وخمس مئة ، وكان للرئيس جمال الرؤساء أبي علي ابن هو الرئيس الأجل شمس الأمراء زين المعالي أبو الحسن علي بن الحسين بن المظفر بن [محمد] بن الحسن.

وكان شابا له جمال يوسف وصباحة نصر بن الحجاج وملاحة سيف بن ذي يزن ، وشجاعة رستم ، وهمة إسفنديار ، [٩٧] وقد عمرت آثاره وشمائله أطراف هذه الناحية ، ودعا العمال من الأطراف بلطفه وسخائه إلى صداقته وطاعته ، لبس

__________________

(١) في الأصول : أبو جعفر ، والتصويب في ضوء ما يأتي ص ٣٦٥.

(٢) السّخاب : قلادة تتخذ من الورد.

(٣) سيترجم له المؤلف لاحقا وهو محمد بن منصور بن محمد بن إسحاق.

٢١٠

أهل الناحية في عهده الميمون وأيامه السعيدة ملابس الأمن والأمان ، وصل الصغار والكبار بظل إقباله إلى مناهم ، واستجاب لنداء الضعفاء والمساكين بتخليصهم من أيدي أصحاب القلاع (١) ، واتجه لحربهم مرات عديدة ، ومنها حينما هجم فوج منهم بغته على ششتمد ليلة عيد الأضحى في سنة سبع وتسعين وأربع مئة ، قتلوا حاكم القرية المعلى بن أبي الفتح المظفر بن أبي الحسن علي بن محمد بن أحمد البازرقان مع عشرين دهقانا مسالما ، وهم الشيخ أبو الحسن بن مسعود بن أبي الحسن البازرقان ، والشيخ أحمد بن أبي سعدك ، ومحمد بن القاسم ، وأخوه علي بن القاسم ، وعلي ومحمد وإسماعيل أبناء أبي الحسن بن محمد بن إسحاق ، ومحمد بن أمير ، وأخوه أبو الحسن ، والحسن بن أحمد النجار ، وغيرهم ، وكان هؤلاء قد غادروا القرية ، فالتقوا على نشز من الأرض بين ششتمد وزميج ، وقتل هؤلاء العشرون هناك ، فنزل الغم على أهل هذه الناحية ، وتغلبت لواعج هذه المصيبة على العزائم القوية ، ورفعت الستار عن الصبر والتحمل ، فالتجأ الجميع إلى رب العزة وطلبوا العون من هذا الأمير ، فنهض للانتقام ، وأدى ما عليه من شرط حظ الرعايا ودفع الأذى عنهم ، وزين أيامه بهذا المسعى ؛ ثم جمع جيشا جرارا من المشاة والفرسان ، وقصد قلعة بيار التي كان مستحفظها علي بن حميد البياريّ ، في شهر شوال.

وفي ذي القعدة سنة إحدى وخمس مئة جاء رجل عجوز إليه وقال إنه يحمل رسالة من الري ، وبهذه الحيلة وصل إليه وطعنه بسكين فجرحه ، فلم يبق بعد هذا الجرح إلا أياما ، وتفرق عسكره عن تلك القلعة ، وابتلي بالكسوف نور شمس

__________________

(١) هم الإسماعيلية ، وضمن حوادث ٤٩٨ ه‍ من الكامل في التاريخ (٩ / ٨٤) توجد غارة لجمع كثير من الإسماعيلية على النواحي القريبة من بيهق «أكثروا فيها من القتل في أهلها والنهب لأموالهم والسبي لنسائهم».

٢١١

الأمراء ، [٩٨] وحجب ضوء ذلك القمر بغيوم الفناء ، وقرأوا عليه (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ)(١).

ذهب الذي سعد به الدين والدولة

آجركما الله أيها الدين وأيتها الدولة

وقيل :

عيوننا وقلوبنا مستودع للماء والنار

حينماأصبحت­شفتاه­ورأسه­طعمةللتراب­والرياح

عقب وفاتك يا فخر البشر

شاركتنا أركان العالم أحزاننا

وكان الإمام علي بن أبي صالح الصالحي الخواريّ قد بعث رسالة استغاثة إليه ، ضمنها شكره لرئيس خوار الحسين بن سلم ، وهذه القطعة التي أرسلها إليه :

الغياث الغياث زين المعالي

من أناس تشبهوا بالسعالي

قسموا قسمة بها استأصلونا

بفنون الإنزال والإجعال

وأذلّوا عزيزنا فكأنا

بين أيديهم دروس النعال

غير أن الرئيس أعني حسينا

قد رعى حرمتي وفيها سعى لي

فأعنّا بحسن رأيك فيها

يا عزيز الندى كريم الفعال

وكان لهذا الأمير مع كل ما كان يتمتع به من وسائل الحياة وزينتها ، طبع وقاد ، وخاطر عاطر ، وله أشعار كثيرة بالعربيّة ، وعند ما بنى قصره ، طلب إلى والدي أن يقول قطعة من الشعر تكتب على ذلك القصر ، فقال والدي رحمه‌الله هذه الأبيات على البديهة :

__________________

(١) سورة التكوير ، الآية ١.

٢١٢

بنيت ضياء الدين يا خير من بنى

على اليمن دارا دارة البدر دونها

وشيّدت بهوا بالبهاء متوّجا

تفيض له زهر النجوم عيونها

يمينك فيها البحر بالعين مزبدا

فما ضرّ أن لم تجر فيها عيونها

ومن نسيج خاطر هذا الأمير هذه الأبيات التي كنت قد أوردتها في كتاب وشاح دمية القصر ، وقد قالها في جوابه للأمير الأديب أبي الحسن السّعيديّ :

[٩٩] يا من صفا ذهنا ودرا

وعلا الورى نظما ونثرا

أنظمت درا أم جلوت عقيـ

ـلة أم صغت سحرا

أم حكت وشي الروض غازلـ

ـه الندى طلا وقطرا

لله درك كيف قد

أسكرتني ولم اسق خمرا

لما رحلت زعمت أنـ

ـك لا تقيم هناك شهرا

وحلفت بالأيمان يلزم

حفظها سرا وجهرا

أن تحفظ العهد المؤكّد

لا تسوق إليه غدرا

وقيل في حق أبيه جمال الرؤساء أبي علي :

لا زال جدّك دائم الإشراق

وفضاء مجدك مشرق الآفاق

جعلت يد الأيام صفحة بدركم

محروسة عن كف كل محاق

يفنى وينقطع الزمان وأهله

ومديحكم بين الأفاضل باق

وقد بقي له ابنان اثنان : الأمير الرئيس الأجل ضياء الدين محمد ، والأمير الرئيس الأجل جمال الدين أبو علي الحسين.

وأم ضياء الدين محمد ، هي بنت الفقيه الأجل عبد الله أخي نظام الملك.

أما أمّ الأمير أبي علي ، فهي أم ولد ، وكانت أم أبيهما الأمير أبي الحسن أم ولد أيضا.

٢١٣

وقد انتقلت الرئاسة إلى فخر العلماء أبي عبد الله محمد بن المظفر إلى أن بلغ ضياء الدين محمد مبلغ الكمال.

وللأمير ضياء الدين محمد طبع رقيق في الشعر الفارسيّ ، وقد بلغ حد الكمال في الشجاعة والسخاء.

إن الفضائل كانت فيه كاملة

والنقص أجمع منه كان في العمر

* * *

زين الشباب أبو فراس لم يمتّع بالشباب (١)

ومن رباعيات الأمير السعيد محمد ، هذه الأبيات السائرة :

[١٠٠] أيها البدر المنير ، أصبحت مقوّسا كالهلال في مصابك

وصرت كالظل حزنا عليك يا شجرة السرو الباسقة

يا شبيه الشمس صرت كالذر لفراقك

وظهري منحنيا كحرف الدال زنا عليك يا شبيه حرف الألف

وله :

لم أنت يا قلب دائما في حرب معي

حين تهيم بذؤابة تلك الحسناء؟

إنني أخشى عليك إن هربت مني

أن تقع في شباك ضفائرها فتشنق بها

ولما عاد سلطان ذلك الوقت الأعظم السعيد سنجر (٢) رحمه‌الله من مصاف العراق ، وكان الأمير ضياء الدين في مجلس السلطان وقد حظي بشرف مؤاكلته

__________________

(١) بيت شهير لأبي فراس الحمداني.

(٢) معز الدين أبو الحارث بن ملك شاه السّلجوقيّ ، توفى الحكم في ٥١١ ه‍ وتوفي سنة ٥٥٢ ه‍ (لغت نامه دهخدا) ، ويبدو أن حربه التي أشير إليها هي تلك التي حدثت بينه وبين عمه محمود بن محمد بن ملك شاه سنة ٥١١ ه‍ (مجمل فصيحي ، ٢ / ٢٢٠).

٢١٤

ومنادمته ، قال :

أنت الملك الذي أشار النبي

إلى ملك أمته في آخر الزمان

أنت الفخر إلى يوم القيامة

فأصلك وجوهرك من ألب أرسلان

واتفق أنني ذهبت في ذلك اليوم إلى الحضرة وقلت خطبة افتتحتها بهذا الحديث : «زويت لي الأرض ، فأريت مشارقها ومغاربها ، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها» (١) ، وشرحت ذلك بأن وصول ظلال الرايات السّلطانيّة إلى أطراف وأكناف العالم هو معجزة المصطفى ، وأنه عليه‌السلام قد أنبأ بهذا.

ثم إن الأمير محمدا رحمه‌الله ، مرض في مسجد بناه صاحب جيش الإسلام عبد الله بن عامر بن كريز ، في رزناباد الأعلى بناحية جوين ، فلما نقل إلى قنوز آباد جوين ، قضى نحبه وانتقل إلى العقبى في يوم الثلاثاء غرة ربيع الأول سنة سبع وعشرين وخمس مئة ، ومات أخوه الأمير أبو علي في صفر سنة عشرين وخمس مئة ، وكنت عند وفاة محمد في مدينة الري ، وكتب لي صديق خبر وفاته في هذين البيتين :

ذهب أمير العالم وخلّف اسمه المحمود

وفي الجنة ، قرأ منشور الدولة الأبدية

لم ير العالم مثل ذاته ما دام حيا

إذ لم يبق في العالم رجل له هذه الذات

والعقب من الأمير الإسفهسالار الرئيس الأجل ضياء الدين : ملك الرؤساء أبو الحسن [١٠١] زنكي ، وكانت ولادته في شهور سنة ست عشرة وخمس مئة ، والعقب منه : الأمير محمد ، وبنات درجن ؛ والأمير الرئيس مؤيد الدين الحسن ، وكانت ولادته في سنة ست عشرة وخمس مئة ، وأمه أم ولد أخرى ، والأمير الرئيس الأجل علي ، وكانت ولادته سنة ثلاث وعشرين وخمس مئة.

__________________

(١) الفردوس بمأثور الخطاب (٢ / ٢٩٦) ؛ التمهيد لابن عبد البر (١٥ / ١٤١) ؛ غريب الحديث لابن سلام (١ / ٣) ؛ مجمع البيان (٧ / ١١٩) ؛ البداية والنهاية (٦ / ٢٩٦) ؛ مسند الشاميين (٤ / ٤٤).

٢١٥

والعقب من الأمير السعيد أبي على الحسين بن علي بن المظفر : الأمير الرئيس الأجل جمال الدين أبو الحسن علي ، وله عقب أيضا.

فصل : وقد اتصل السيد الأجل أبو الحسن بن السيد الأجل أبي جعفر بالمصاهرة بهذا البيت ، وكانت والدة السيد الأجل ركن الدين هبة الله منهم ، وكذلك جمال الرؤساء أبو علي نفسه وابن خالته السيد الأجل أبو منصور.

وكان أسلاف السيد الأجل أبي منصور ملوك خراسان وساداتها ونقباء أشرافها ، ولهم من الملوك الطاهريين عرق نزاع ، كما بينت ذلك بالتفصيل في كتاب لباب الأنساب.

فصل : وقد تزوج السيد الأجل ذخر الدين نقيب النقباء أبو القاسم زيد بن الحسن نقيب نقباء نيسابور ، كريمة الأجل العالم شرف الدين ظهير الملك أبي الحسن علي بن الحسن البيهقيّ (١).

مات السيد الأجل أبو محمد [الحسن بن](٢) زيد الملقب بتاج الدين نقيب النقباء في شهور سنة اثنتين وعشرين وخمس ومئة.

الحاكميّون

والحاكميّون والفندقيّون ، الذين هم أسلافي ، ينحدرون من خزيمة بن ثابت ذي الشهادتين صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكان مقرهم الأصلي قصبة سيوار ، من نواحي والشتان من توابع بست.

[١٠٢] ومنها قدم الحاكم الإمام أبو سليمان فندق بن الإمام أيوب بن الإمام

__________________

(١) يردان بكثرة في الكتاب وسيترجم لهما المؤلف لا حقا.

(٢) في الأصول : أبو محمد زيد ، والصواب تاج الدين أبو محمد الحسن بن زيد بن الحسن بن زيد الذي ترجم له المؤلف في لباب الأنساب (٢ / ٦١٠) وقال إنه بقي في النقابة من سنة ٤٩٣ حتى وفاته في ٥٢٢ ه‍.

٢١٦

الحسن (١) ، إلى ولاية نيسابور للقضاء والفتوى بأمر السلطان محمود بن سبكتكين ورعاية الوزير أحمد بن الحسن الميمنديّ الملقب بشمس الكفاة (٢) ؛ وقد بقي في قضاء نيسابور بالأصالة مدة ، وأخرى نيابة عن قاضي القضاة عماد الإسلام أبي العلاء صاعد بن الإمام الأديب أبي سعيد محمد بن أحمد (٣) ، ثم طلب إعفاءه ، واشترى بناحية بيهق ضياعا في قرية سرمستانة من حدود القصبة وأقام هناك ، وناب عنه في قضاء هذه الناحية الحاكم أبو الحسن العزيزيّ بينما أو كل قضاء بسطام ودامغان لابنيه ، وهما أبو سعد الحسن وأحمد.

انتقل الحاكم الإمام مفتي الأمة إمام الآفاق أبو سليمان فندق بن أيوب بناحية بيهق إلى جوار رحمة الله تعالى ، ليلة الجمعة التاسع من شوال سنة تسع عشرة وأربع مئة.

والعقب من أبي سعد الحسن : الفقيه أبو نصر محمد وله علي.

والعقب من أحمد : محمد وعلي وبنتان.

وكان الحاكم الإمام أبو علي راتق فتوق المشاكل الشرعية ، وإليه الرجوع في معضلات الفتاوى ؛ وقد ناب مرات عديدة عن قاضي القضاة أبي علي الحسن بن إسماعيل بن صاعد بقضاء نيسابور ، ومرات بقضاء بيهق.

ولما ذهب لزيارة الكعبة ، صدر من ديوان السلطان طغرل بك محمد بن ميكائيل

__________________

(١) هو جدّ المؤلف وتوفي سنة ٤١٩ ه‍ ، ترجم له في مجمع الآداب (٥ / ٤٢٨) وفي المنتخب من السياق (ص ٤٥٨) ولقبه بالفقيه الحاكم البستيّ.

(٢) تولى الوزارة سنة ٤٠٠ ه‍ وظل فيها حتى ٤١٦ ه‍ حيث عزل وسجن. استوزره مسعود بن محمود ، وبعد سنتين من عمله توفي سنة ٤٢٤ ه‍ (مجمل فصيحي ، ٢ / ١١٣ ؛ فرهنك فارسي ، مادة ميمندي).

(٣) الملقب بالاستوائيّ (٣٤٣ ـ ٤٣٢ ه‍) قال عنه فصيح «انتهت إليه رئاسة الحنفيّين بخراسان» (مجمل فصيحي ، ٢ / ٤٣٢).

٢١٧

ابن سلجوق ، مثال بحقه إلى وزير دار الخلافة ، وهو الشيخ الرئيس الزّكيّ عبد الملك ابن محمد بن يوسف وزير القائم بأمر الله ـ ولم يكن لقب «وزير الخليفة» موجودا قبل هذا ـ ومضمون المثال هو : كتابنا ـ أطال الله بقاء الشيخ الرئيس الزّكيّ وأدام عزه ـ من الري ، ونعم الله تعالى عندنا جديدة ، والحمد لله رب العالمين ، والصلاة على محمد وآله الأخيار المنتجبين ، هذا وقد عرف الشيخ الزّكيّ صدق اهتمامنا بأحوال العلماء حتى تستمر على النظام ، وشدة اعتنائنا بأمورهم لتجري على انتفاء الخلل وحصول المرام ؛ وهذا الحاكم أبو علي بن أبي سليمان (١) أدام الله فضله ، ممن له البيت القديم [١٠٣] والمحتد الصميم ؛ ورد بابنا زائرا داعيا مجددا للعهد على جناح النهج ، مستطلعا رأينا في زيارة بيت الله الحرام والحج ؛ فقبلنا أدعيته ، وأمضينا عزيمته ؛ وأوجبنا على من يجتاز به ويحل بجانبه ، أن يوطئ له كنفا وسيعا ، وينزله منزلا مباركا مريعا ؛ ويعينه بإنعام عليه ، وخفير إن احتاج إليه ؛ والشيخ الزّكيّ أولى من يبذل في حقه عنايته ، ويكتسب بسعيه الجميل شكره ومدحته ؛ مكتسبا لإحمادنا اللطيف ، وارتضائنا المنيف ، إن شاء الله تعالى. وكتب بالمثال ورسالة الحاجب الخاص أبي منصور ساوتكين في أواخر جمادى الآخرة سنة خمس وخمسين وأربع مئة.

وكانت ولادة الحاكم الإمام أبي علي ليلة الجمعة السابع والعشرين من شوال سنة تسع وتسعين وثلاث مئة ، ووفاته في سنة ثمانين وأربع مئة ، ولم يهدأ حتى ولا يوما واحدا طيلة أعوامه الواحد والثمانين ـ إلا في أيام المرض ـ عن المطالعة والمذاكرة والرياضة ، وكان مشغولا بالطاعة والعبادة ؛ وقد وقعت له مصاهرة مع الإمام الذي كان الفقيه الرئيس أبو عبد الله محمد بن يحيى قد دعاه من نيسابور إلى بيهق ، وأقام هناك مكرما ، وهو الإمام شرف الصالحين أبو القاسم عبد العزيز بن الإمام يوسف بن

__________________

(١) هو أبو علي الحسين بن أبي سليمان فندق (٣٩٩ ـ ٤٨٠ ه‍) كما سيرد.

٢١٨

الإمام جعفر بن الإمام محمد بن إبراهيم بن كشمرد ، وكشمرد هو الإمام أبو علي محمد بن عمرو بن النضر بن حمران النّيسابوريّ (١) ، وكان مسكن أبي علي كشمرد في سكة حرب ، وله مسجد معروف ، وسمع الإمام يحيى بن يحيى.

توفي الإمام أبو علي كشمرد سنة سبع وثمانين ومئتين. وكان هذا الإمام مقدم علماء أصحاب الإمام أبي حنيفة بنيسابور ، وحظي من دار الخلافة بالرعاية والإقبال ، ومن شعره بحق واحد من السادات :

يا سيّد السادات يا بدر الدجى

قد حل في قلبي هواك حلولا

وإذا افتخرت بفضل جدّك لم تدع

لذوي الفخار من الأكارم قيلا

[١٠٤] أعطاك ربك رفعة وسيادة

وكفى بربّك هاديا ووكيلا

وقد بنى قراتكين الأصفهبديّ والد منصور بن قراتكين ، لابنه الإمام يوسف بن جعفر النيسابوريّ مدرسة بجوار مسجد رجاء (٢) ، وكان أمير خراسان ناصر الدولة أبو الحسن محمد بن إبراهيم السّيمجوريّ يأتي كل يوم جمعة لزيارته والسلام عليه ، ولدي رسائل أمراء ذلك الزمان التي كتبوها إليه بالاحترام التام. والإمام يوسف هذا ، ذهب خمس مرات لزيارة الكعبة والروضة النبوية ، ومن منظومه هذان البيتان :

طلب العلوم مذلّة وعناء

والسّهو عنها كربة وبلاء

فاصبر على طلب العلوم فإنها

بعد المذلة رفعة وعلاء

__________________

(١) في الأصول : بن النصر بالصاد ، والتصويب من تاريخ نيسابور (ص ٩٩) : محمد بن عمرو بن النضر النّيسابوريّ ، أبو علي الخوشي.

(٢) هو مسجد رجاء بن معاذ بن مسلم بنيسابور (تاريخ نيسابور ، ٢١٩) ، وقراتكين هو أحد القادة السامانيين تولى الحكم في ٣٠٨ ه‍ (لغت نامة دهخدا) ، أما أبو الحسن سيمجور فقد تولى حكم خراسان في ٣٥١ ه‍ (مجمل فصيحي ، ٢ / ٧١).

٢١٩

أما ولده الإمام شرف الصالحين أبو القاسم عبد العزيز بن يوسف ، الذي أتى إلى بيهق من نيسابور ، فقد كان فريد عصره ، متبحرا بأنواع العلوم ، بلغ في كل منها الغاية ، بل أصبح فيها آية ، وبحقه قال الإمام أبو عامر الجرجانيّ (١) :

تبيّن لي أن ليس للناس كلهم

إمام تردّى بالكتاب المشرّف

كمثل الإمام المستضاء بنوره

أبي قاسم عبد العزيز بن يوسف

تولى نيابة القضاء بنيسابور مدة ، نائبا عن قاضي القضاة أبي الهيثم عتبة بن خيثمة (٢) ، وهو جد جدي الحاكم الإمام الشيخ الإسلام أميرك أبي سليمان محمد بن الحسين.

صاهر الإمام شرف الصالحين أبو القاسم عبد العزيز بن يوسف في قرية باورين ، الشيخ محمد بن أحمد بن مريم (٣) ، وكان الإمام أبو القاسم عبد العزيز مئناثا.

كانت ولادة جدي الحاكم الإمام شيخ الإسلام أميرك في نيسابور سنة عشرين وأربع مئة ، وقد أوكلت إليه الخطبة بنيسابور مرات عدة نيابة عن الإمام إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني (٤) ، ومرات بالأصالة بمثال من الإمام القادر بالله ، كما عيّن مرة أخرى للجلوس للوعظ بعد صلاة الجمعة في الجامع القديم بمثال من دار الخلافة [١٠٥] وأمثلة السلاطين ، وإلى الوقت الذي كانت فيه نيسابور عامرة ، كنت أقوم بهذا

__________________

(١) الفضل بن إسماعيل التّميميّ الجرجانيّ كان حيا سنة ٤٥٩ ه‍ (المنتخب من السياق ، ٥٤٢).

(٢) كما في الأنساب (١ / ١٣٤) فإن أبا الهيثم ولي القضاء بنيسابور بعد ما صرف القاضي صاعد عنه ، وفي الجواهر المضيئة (٢ / ٥١١) أنه توفي سنة ٤٠٦ ه‍.

(٣) لا نعلم من يكون.

(٤) أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن بن أحمد الصابوني المعروف بشيخ الإسلام (٣٧٣ ـ ٤٤٩ ه‍) ، مفسر واعظ فقيه خطيب ، خطب على منبر نيسابور نحوا من عشرين سنة (الأنساب ، ٣ / ٥٧٤).

٢٢٠