الرحلة المعينيّة

ماء العينين بن العتيق

الرحلة المعينيّة

المؤلف:

ماء العينين بن العتيق


المحقق: محمّد الظريف
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-36-634-9
الصفحات: ٣٩٥

مطلب في بيان أسلوب المديحيات التي فتح الله

بها على صاحب الرحلة وتاريخها

فلما كانت سنة تسع وأربعين وثلاثمائة وألف ١٣٤٩ ، فتح الله تعالى علي بقصائد خدمت بها جانب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الكريم في بعض المستطاع ، من مدائح قدره العظيم ، نظمتها على أسلوب لم أر من سبقني إليه مراعاة للتفنن في أساليب ، الثناء عليه ، وذلك أني جعلت في كل قصيدة منها ثمانية وعشرين بعدد الحروف ، وكل بيت من القصيدة افتتحته بحرف على سبيل الترتيب المعروف ، فجعلت عدة القصائد ثمانية وعشرين كذلك ، وكل واحدة تخص برويها من الحروف على المتابعة كما هناك ، وأفتتح بالحرف الذي هو روي القصيدة بيتها الأول ثم أتابع من لدنه سرد الحروف حتى تستكمل ، إلى أن أختم بالحرف الذي قبل الحرف المفتتح به ، كما وصف ، والتزمت في كل بحر قصيدة تيامنا بكمال الأرب حتى اكتملت البحور الخمسة عشر التي استعملتها العرب. ثم أعدت بعد ذلك ما دعت له القريحة منها ، وجعلت آخر قصيدة منها في بعض أوصاف ذاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم الشريفة ، وسميتها (مطالع الأنوار في مدائح المختار) (١). فلما من الله علي بإتمامها والنفس في غاية شوقها وغرامها ، رجوت من الله وبجاهه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ييسر لي إنشادها عنده في مدينته المنورة ، فحست نفسي بفضل الله عند ذلك بالإجابة وبلوغ الأمنية من بركة مديحه صلى‌الله‌عليه‌وسلم واطمأنت بأن الفرج حصل. ومن ذلك الوقت لم أشكّ بحمد الله في أن الله ييسر لي فضلا منه زيارة نبيه عليه‌السلام ، وحج بيته الحرام ، لكن لكل أجل كتاب ، وليس على من غلبه الشوق عتاب.

ولا بأس بذكر القصيدتين الأوليين والقصيدة الأخيرة من هذه القصائد المذكورة هاهنا ليتبين للسامع حالها ، ويزول عنه إشكالها ، وللتبرك والتيامن بمدحه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١٥) مجموع اسلم ، من الورقة ٤٤ إلى ٧٢ مخطوط.

٤١

القصيدتان الأوليان من المديحات المذكورة والقصيدة الأخيرة منهن

القصيدة الأولى (١٦) :

[الطويل]

أثار الهوى بعد الحبيب أداؤه

فوجدي به حقّ عليّ أداؤه (١٧)

بأن أبكي الرّبع المحيل بجنبه

فحتما على عين المعنّي بكاؤه (١٨)

تعاوره أيدي العواصف فانجلى

بلبس جديدات السّوافي عفاؤه (١٩)

ثوت فيه إذ بانت شبيهاتها المها

على أنه بين الضّلوع ثواؤه (٢٠)

جنحت له رعيا لعهد الألى به

عهدت وإن هاج اشتياقي انتحاؤه (٢١)

حقوق الهوى أرعى ، فلا أرعوي ومن

يراعي الهوى يصعب عليه إرعواؤه

خسرت إذا إن لم يجرني محمد

فكلّ خسار بالنّبيّ اتّقاؤه

__________________

(١٦) مجموع سلم ، و. ٤٧.

(١٧) أداؤه : الأولى اسم موضع بالصحراء والثانية : القيام به ، وفي البيت جناس.

(١٨) الربع المحيل : الذي أتت عليه الأحوال وغيرته.

(١٩) تعاوره : تداولته الرياح مرة تهب جنوبا ومرة شمالا ، مرة قبولا ومرة دبورا.

ـ السوافي : الرياح اللواتي يسفين التراب

ـ عفاؤه : ترابه.

(٢٠) ثوت : أقامت به طويلا.

(٢١) انتحاؤه : الميل إليه.

٤٢

دعوت رسول الله والداء معضل

ومن يدعه يذهب على الفور داؤه

ذنوبي منها بالشفّع أحتمي

ومن يستجر يغفر بطه خطاؤه

رسول حباه الله بالحمد والورى

وراء ثناء الله كيف ثناؤه؟

زعيم النبيئين المتاح بيمنه

لسائر خلق الله منه عطاؤه

سراج منير لا يلوح بذرّة

من الكون إلا نوره وضياؤه

شفيع إذا لم يلف في الحشر شافع

ولولاه لم تشفع به شفعاؤه

صراط الهدى منه استنار ولم يجز

سوى من به فوق الصراط اهتداؤه

ضمير الليالي ضاق عنه فبشّرت

به كلّ وقت قومها أنبياؤه

طريقته المثلى نفت كلّ ملّة

فلم ينج إلا من حماه اقتفاؤه

ظماء غد مورودها العذب حوضه

وآية فوز العبد منه ارتواؤه

عوائده فضل ، وجزل كلامه

وأحكامه فضل وعدل قضاؤه

غلوّ النصارى في المسيح ضلالة

فذرها وقل ما في علاه تشاؤه (٢٢)

__________________

(٢٢) علاه : مدحه في «أ»

٤٣

فغاية أسنى المرسلين افتتاحه

وكل سناء مبتداه سناؤه

قد اصطنع الله البرايا لأجله

عموما ، فعمّ العالمين غناؤه

كفاه من الآي الكتاب وحسبه

من المدح ، ما تتلوا به علماؤه

لكلّ نبيّ دعوة مستجابة

دعاها ، وللميعاد يرجى دعاؤه

مدى الدهر محمود المقام مقامه

وأمّا لواء الحمد فهو لواؤه

نبي تني الأفكار دون خلاله

وحسبك ما منها جلت خلفاؤه

هم أبوا بكر وحفص وصهره

علي وعثمان المهيب حياؤه

وباقي الصّحاب المصطفين ، فكلهم

من المصطفى إذ صاحبوه اصطفاؤه

يصلي على المختار والصحب ربّه

ويوتى به للمرتجيه رجاؤه

القصيدة الثانية (٢٣) :

[البسيط]

بادى الهوى لم تفد نجوى مؤنّبه

والدمع يوضح سرّ المستكنّ به

__________________

(٢٣) مجموع اسلم ، و ٤٨.

٤٤

ترى اللّحاة الهوى للّوم داعية

والحب ما لهم علم بموجبه (٢٤)

ثرّب أو اعذر فما تجدي عذول وفي

أذن المتيّم وقر عن مثرّ به (٢٥)

جيل المحبّة أشتات مذاهبه

والمهتدي منه ينحو بمذهبه

حبّ النبي فجنّب غير جانبه

ولذ به ، وتباعد عن مجنّبه

خير النبئين من مدّوا بأبحره

فما لهم مشرب إلا بمشربه

دانوا له ورعاياهم لأمته

دانوا ودانت مبانيهم ليثربه

ذلّت لدعوته الأملاك واعتصموا

بظهره حين أصماهم بمنكبه (٢٦)

رامت معارضة التنزيل فصهم

أولوا النهى ، فتناهوا دون معجبه (٢٧)

زواجر الحقّ بالآيات من فمه

تهدي بالبيض من راحات موكبه (٢٨)

__________________

(٢٤) اللحاة : العذل.

(٢٥) ثرب : أنب وبالغ في اللوم

ـ وقر : ثقل

(٢٦) الأملاك : الملوك

ـ أصماهم : أصابهم.

(٢٧) فصحهم : بلغاؤهم

(٢٨) زواجر : أوامر ونواهي

٤٥

سل إخوة الحرب عن مرهوب صارمه

وإخوة السلم عن مسكوب صيّبه (١)

شاء المكوّن إيجاد المكوّن من

نور النبي ، فكان العالمون به (٢)

صبح الظهور به عمّ العصور ، فمن

يعشو بمشرقه عنه ومغربه (٣)

ضوء به حالك الجهل انجلى به

ليل العمى انكشفت عمياء غيهبه (٤)

طوبى لمن نال تقبيلا لأخمصه

وعفّر الوجه في موطوء تيربه (٥)

ظلّ ظليل أظلته السّحاب وهو

نور ، فكيف يرى ظلّ لكوكبه؟

عروجه لشهود القرب كان مكا

ن القاب فيه أو أدنى من مقرّبه

غاضت لميلاده الأنهار وانطفأ الني

ران ، والشرك ساه غير منتبه

فبان إذ ذاك والإيوان منصدع

في دولة الكفر صدع غير مشتبه

__________________

(٢٩) صيبه : منحه : وعطاياه

(٣٠) المكون : الخالق.

(٣١) يعشو : يظلم بصره ، وفي البيت إشارة إلى قوله تعالى : (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) سورة الزخرف ، الآية ٤٣.

(٣٢) غيهبه : شدة ظلامه

(٣٣) تيربه : ترابه.

٤٦

قال الهواتف والكهان حان أوا

ن الهاشمي كريم الأصل طيبه (٣٤)

كذلك الحقّ لا تخفى دلائله

ولو طغت ضلة عينا مكذّبه

لا تال جهدك في مدح النبي ، فمن

يقصد به مأربا يظفر بمأربه

ما القصد إحصاؤه إذ لا سبيل له

فموجز القول في هذا كمطنبه

نهدي المديح إلى الهادي الأمين على

مقدار طاقتنا لا قدر منصبه

هل يختشى العلة الراجي بحرمته

برءا أو الشدة اللاجي لمهربه؟ (٣٥)

وا رحمتا منه لي فهو الرحيم ، وهل

سوى رحيم الورى يرثى لمذنبه؟

يا ربّ صلّ على الماحي والآل والاعلام

الألى خلفوه من بني أبه (٣٦)

أبا بكر وحفص والحسين

وعبد الله والمقتفي آثار نيسبه

__________________

(٣٤) الهوائف المخبرون.

(٣٥) مهربه : ملجئه.

(٣٦) الماحي ، من أسماء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، محا الله به الكفر وآثاره

٤٧

القصيدة الأخيرة (٣٧) :

[الوافر]

يحار لنعت ما اشتمل النبيّ

عليه من الجمال اليلمعيّ (٣٨)

أما ومن اصطفى وصفيه ما إن

له في الخلق والأخلاق سيّ (٣٩)

بهيج الوجه ، في تدوير حسن

لشمس الصّحو منظره البهيّ

ثناياه مفلجة ، سناها

ينسّى البرق ساطعه السنيّ (٤٠)

جليل مشاش ، أبيض مشرب ، با

دن ، متماسك ، لين قوي (٤١)

حلاوة نطقه الصهباء ذامت

وذمّ لطيبه الروض النّديّ (٤٢)

خميص الأخمصين أزجّ أقنى

كحيل الجفن في دعج حييّ (٤٣)

دقيق أنيق مسربه ، ومنه

سواها البطن عار والتّديّ (٤٤)

__________________

(٣٧) مجموع اسلم ، و ٧١.

(٣٨) اليلمعي : الداهي الذي يتظنن الأمور فلا يخطئ ، الذكي المتوقد.

(٣٩) سي : مثل

(٤٠) ثناياه : أسنانه الأربع في مقدمة فمه ، ثنتان من فوق وثنتان من أسفل.

(٤١) مشاش : رؤوس العظام مثل الركبتين والمرفقين والمنكبين ، وجمالها من صفات الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٤٢) ذامت : عابت.

(٤٣) أزج : من الزجج وهو دقة الحاجبين وطولهما ، وهي من صفاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٤٤) المسربة : الشعر المستدق النابت وسط الصدر إلى البطن.

٤٨

ذريع المشي في قصد وقلع

كأن لخطاه من صبب هويّ (٤٥)

رحيب الرّاح ، شتن الكفّ ما بي

ن منكبه ومنكبه قصيّ (٤٦)

زرى جيد الدّمى منه وأزرى

بصافي الفضّة العنق النقيّ

سواء صدره والبطن فيه

جميل الخلق ، معتدل سويّ

شعاع الجسم عنه الظلّ حسا

نفى وأحاط منه المعنويّ (٤٧)

صبيح أزهر اللون ابتلاجا

رخيم صوته ، حسن شهيّ (٤٨)

ضليع فم ، أسيل الخدّ ، طلق

كثير الخفض ناظره العليّ (٤٩)

طويل زنده ، ضخم كراديسه ،

وجبينه فسح ، وضيّ (٥٠)

__________________

(٤٥) ذريع المشي : سريع المشي ـ قلع : ضرب من الشي يمشي فيه صاحبه وكأنه ينحدر ـ صبب : نهر أو طريق يكون في حدور ـ هوي : كأنما يهبط من فوق ، وهي من صفاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم

(٤٦) شتن الكف : غليظها ـ قصي : بعيد.

(٤٧) الظل : منصوب على المفعولية.

(٤٨) ابتلاجا : إشراقا.

(٤٩) ضليع فم : عظيمه ، وهي من صفاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أسيل خذ : طويله ، وهي صفة من صفاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ طلق : ذو بشر حسن.

(٥٠) زنده : موصل طرف ذراعه في الكف ـ كراديسه : مفاصله.

٤٩

ظهارة حسنه الأوصاف عنها

تكلّ فكيف باطنه الخفيّ؟ (٥١)

عظيم الرأس ، والأطراف منه

سوائل ، والحجا يقظ ذكيّ

غسيل القلب من دنس ، وكم من

عظيم فيه صبّ ، وهو صبيّ

فصيح أهدب الأشفار رجل

مليح كثّ لحية ، أحوديّ (٥٢)

قسامة ذاته الحسناء أنّى

يقاس بها الجمال اليوسفيّ (٥٣)

كساها ذو الجلال حلى جلال

له نسي الجلال الموسويّ (٥٤)

لقد كملت مبالغ كلّ فكر

وما بلغ الكمال الأحمديّ

محمدنا إليك المدح نهدي

وإنّك عن مدائحنا غنيّ (٥٥)

نؤمّل ما يومّل منك أيا

وبالمامول ما دحك الحريّ (٥٦)

__________________

(٥١) ظهارة : ما علا وظهر ولم يل الجسد.

(٥٢) رجل ، شعر رجل ، بين البسوطة والجعودة ، وهي صفة من صفاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم

(٥٣) اليوسفي : نسبة إلى يوسف عليه‌السلام.

(٥٤) الموسوي : نسبة إلى موسى عليه‌السلام.

(٥٥) المدح : منصوب على المفعولية.

(٥٦) أيا : كل ما يؤمل.

٥٠

همت ديم الصلاة عليك تترا

ومدرار السلام السّرمديّ (٥٧)

ودام على صحابتك التّرضّي

وأولانا رضاه بك الوليّ

بعض فوائد هذه القصيدة الأخيرة

وهذه القصيدة مشتملة على جل نعوت ذاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم الشريفة. وأوصافه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مجربة لنيل الحوائج والحفظ من المكاره لمن حفظها نظما أو نثرا ، وكذلك من جعلها في موضع يأمن من الحرق والغرق والسرقة والنهب ، إلى غير ذلك. وهذه القصيدة من رجائنا في الله أن من حفظها أو جعلها في محله ، ينال ذلك وأكثر ، والأمر كذلك إن شاء الله ، وكيف لا ، وبركاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا نهاية لها ، وإنما الشأن في الاعتقاد ، والله يوفي المراد.

تاريخ قدوم صاحب الرحلة على الشيخ مربيه

ربه في الطفاية إذ تعاهدا في الحج مرافقة

ثم لما كانت سنة أربع وخمسين بعد ثلاثمائة وألف ، قدمت على الإمام الأستاذ العلامة ، القدوة الملاذ ، جامع الشريعة والحقيقة ، المتحافظ على سلوك أقوم طريقة ، كامل الفتوة والمروءة والأبوة ، سيدنا الشيخ مربيه ربه (٥٨) بن شيخنا الشيخ ماء العينين

__________________

(٥٧) همت : سالت وسقطت ـ ديم : مطر دائم في سكون.

(٥٨) الشيخ مربيه ربه ، هو محمد المصطفى الملقب بالشيخ مربيه ربه ، ولد سنة ١٢٩٨ ه‍ ١٨٨٠ م. بوادي الذهب ، تولى قيادة الحركة الجهادية بعد وفاة والده الشيخ ماء العينين رفقة أخيه الشيخ أحمد الهيبة وباقي إخوانه ، توفي بتفدارت سنة ١٩٤٢ ، وهو من علماء الصحراء وشعرائها البارزين. خلف عدة أعمال أدبية وعلمية منها : «قرة العينين في كرامات الشيخ ماء العينين» ، «لبانة المجاهدين وبغية الطالبين» ، «صولة الكار وملجأ الفار في تحريم الإقامة مع الكفار» ، «ديوان ضخم» وغيرها. أنظر ترجمته في جوانب وحدوية من ثقافة الصحراء المغربية ـ سحر البيان ، و. ١٣٠ ، وغيرهما.

٥١

ـ دام عزه وعلاه ـ في مدينة الطرفاية ، ووجدته منبعث الهمة إلى الحج ، عازما عليه تلك السنة ، إن ساعدته المقادير ، وقال لي : كنت أود مجيئك هذا وأتمناه لمرافقة في الرحلة إلى الحج ، فسررت بذلك غاية السرور ، وحمدت الله عليه. وكان مقدمي عليه في رجب من السنة المذكورة ، فأقمت عنده إلى يوم عيد النحر ، وقد بذل جهده في توجهنا إلى الحج هذه السنة ، فلم يساعد الحال في ذلك ، وكل شيء عنده بمقدار ، ثم رجعت إلى الأهل بأحياء العرب الصحراوية بعد ما عاهدني الشيخ قدس الله روحه أنه متى تيسر له السفر إلى الحج يبعث لي للمرافقة ، مع أنه لا يال جهدا في الحال التي يتيسر بها بحول الله.

تاريخ حجة الشيخ مربيه ربه الأولى وقصيدة

لصاحب الرحلة في مدحه وتهنئته بحجته

فلما كانت سنة ست وخمسين ، يسر الله بفضله للشيخ مربيه ربه الرحلة (٥٩) إلى الحج ، فبعث إلي حسبما عاهدني رغبة منه في صحبتي إياه ، وإحسانا وإفضالا علي فيما هو الغاية القصوى والمنية العظمى ، فلم يبلغني رسوله ، لأنا تلك الأيام ، قادنا المرعى إلى صحراء بعيدة ، فلم يمكن الرسول بلوغنا ، ولم نعلم بحج الشيخ إلا بعد إيابه ، فمسني حزن من الأسف والندم على ما فاتني من مرافقته ـ أعزه الله ـ إلى الحرم ، فقلت : إنا لله وإنا إليه راجعون ، سيجعل الله بعد عسر يسرا.

فلما كانت السنة القابلة ، سنة سبع وخمسين ، قدمت على الشيخ ـ أعزه الله ـ بمدينة الطرفاية في جمادى الأولى للسلام عليه والزيارة منه وتهنئته بالحج وزيارة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنشدته هذه القصيدة في مدحه وتهنئته ، وهي (٦٠) :

__________________

(٥٩) يقصد رحلته الأولى إلى الديار المقدسة سنة ١٣٥٦ ه‍ الموافق لسنة ١٩٣٧ عن طريق تطوان.

(٦٠) مجموع علي مربيه ربه ، ورقة ٣ ، مخطوط.

٥٢

[الطويل]

هو الشّعر للأكفاء شهدته تحلو

إذا صاغه من كنز باعثه الفحل (٦١)

فينساغ عذبا للفهوم كأنما

بأثنائه تلقى مجاحتها النحل (٦٢)

وأبلغه ما ليس فيه تكلّف

على حسن سبك فهو ممتنع سهل

وأبياته يستوعب الظرف نسجها

إذا من سداها حيك في غزل غزل

ويزدان بالدّر المديحي نظمها

كما زان أطراف الخدلجة الحجل (٦٣)

فينفث في الألباب سحرا سماعها

كما تنفث السحر المباسم والنجل

فصدّر وأوجز في النسبيب وبعده

تخلّص وأطنب في المديح ولا تغلو

ولم يغل من لبّى دعاية موجب

لإنشائه الأمداح فيمن لها أهل

ولا بدع أن جادت ببكر قريحة

تزفّ عروسا ، والجواد لها بعل

وأي جواد كالمربّيه ربّه

إذا ضاقت الأحلام واتسع المحل

فتى لم يجب إن سيل سيبا لسانه

بغير نعم ، والقول يصحبه الفعل

__________________

(٦١) صاغه : صاغها في مجموع علي مربيه ربه.

(٦٢) فينساغ : فينساق في المصدر السابق.

(٦٣) الخدلجة : الممثلئة الذراعين والساقين.

٥٣

به تضرب الأمثال في كل مدحة

وما في ضروب المكرمات له مثل

بسنّة طه والكتاب اعتصامه

هما الحبل حبل الله ، يا حبّذا الحبل

بناديه لا ينفكّ يتلوهما معا

فلهجته تتلو ، ومنهجه يتلو

وكم جعلت للمرملين إلى الغنى

يداه سبيلا حيث تنقطع السّبل

تظاهر بين اللّثم والبذل كفّه

فظاهرها لثم وباطنها بذل

ويفرق بين الحق والبطل هديه

فماموره حقّ ومنهيه بطل

إذا ما خصال المجد عدّت ، فإنما

له قصبات السبق منهنّ والخصل

بنو فاضل سادوا ، وقد ساد فيهم

ومن ساد في مامين حقّ له الفضل (٦٤)

هم الحكماء الحاكمون على الورى

ولكن عليهم يحكم الفضل والعدل

إذا رغبوا لا يستفزّهم الهوى

وإن غضبوا لا يستخفّهم الجهل

وإن خطبوا لا يستربّهم الخطا

وإن وهبوا لا يستميلهم المطل

__________________

(٦٤) بنو فاضل : يقصد أحفاد الشيخ محمد فاضل بن مامين والد الشيخ ماء العينين.

ـ مامين : جد الشيخ ماء العينين ، وفي البيت تجنيس.

٥٤

بنيت أبا الأمجاد في العز ما بنوا

وحسبك ما الأسلاف يبنون من قبل

حكيت أباك اسما ووسما ومنظرا

ولا عجب إن شابه الأسد الشبل (٦٥)

وهيّأت أسباب المكارم للألى

قفوك فلم يبرح بها لهم شغل

ومن صادف المعراج من حيث شاءه

إلى رتب العلياء من أين لا يعلو؟

وأنسيت معنى في السماح وكيف لا

وجودك معنى تاه في وصفه العقل؟

فواضل لو أنّ ابن يحي استبانها

بيمناك لا ستزرى فواضله الفضل (٦٦)

أذا ما أخذنا في مديحك ساعدت

عذارى المعاني فيه والمقول الجزل

ومهما تكلّفنا تماديح غيره

يكون على الأفكار من دونها قفل

ليهنك حجّ البيت أدّيت فرضه

وقدما يؤدّى عندك الفرض والنّفل

قدمت له تقضي المناسك ساعيا

على قدم هام الملوك لها نعل

__________________

(٦٥) يشير إلى أن الممدوح يحمل اسم أبيه محمد المصطفى كما يشبهه في الوسم ، أي الجمال وفي الكثير من الصفات كالخط والقامة والعلم والشعر وغيرها.

(٦٦) الفضل : الفضل بن يحيى (١٧٩ ه‍ ١٩٣ ه‍ ٧٦٥ م ٨٠٨ م) وزير الرشيد العباسي وأخوه من الرضاع ، يضرب به المثل في الجود ، توفي بسجنه بالرقة بعد نكبة البرامكة ، الأعلام ، ج. ٥ ،. ١٥١. الزركلي.

٥٥

بذلت له لله نفسك مخلصا

ودأبك في المعروف والطاعة البذل

فلو سئل العام الحجيج لأدّنت

بأن حجّ فيها البدر تعنيك والوبل

وأن طاف بالبيت السكينة والتّقى

وصرف المزايا والإنابة والنّبل

حججت وأنت الحح تاوي لك الورى

وفودا كما ياوي إلى أمّه الطفل

ولله يوم عند طيبة ألقيت

عصا سيرك المبرور واستنزل الرحل

وزرت رسول الله والطرف مطرق

وعبرته من هيبة القرب تنهل

ورحت قرير العين منشرح الحجا

أن التأم الفرع المشوق والأصل

هنيئا لك الوصل الذي أنت أهله

لمن لا يشوق الدهر إلا له الوصل

لئن زرته في عالم الحسّ زورة

فمن زوره في عالم الغيب لا تخلو

أدام له الرحمان أحلى تحيّة

ودام بمحيّاك الزمان لنا يحلو

تبشير الشيخ مربيه ربه لصاحب الرحلة بتيسير الحج عام حجهما

فلما فرغت من إنشادها ارتاح لها ، أعزه الله أي ارتياح ، وقال : والله إنها لأشهى من تعاطي الراح ، ودعا بكثير من الدعاء ، نرجوه تعالى إجابته ، وأظهر من التأسف على عدم حجي معه في العام الماضي أكثر مما وقع لي ، ثم قال لي : لكن أبشرك ، سنحج هذا

٥٦

العام ، إن شاء الله معا ، لأن الدولة الإسبانيولية عهدت إلي أني أحج ثانيا في الباخرة التي حججت فيها العام الماضي ، وأن تحج معي رفقة أكثر من رفقائي الماضين ، وقالوا لي : سم من شئت منهم لنا كتابة ، وأول من كتبت إسمك ، وإذا وصل وقت السفر سأعلمك ، إن شاء الله ، أينما كنت ، فتضاعف سروري بذلك وحمدت الله عليه ، ودعوت للشيخ أعزه الله على هذه التكرمة ، وعلمت أن الأمر إن يكن من عند الله يمضه ، وأن الفضل بيد الله يوتيه من يشاء ، والله ذو الفضل الكريم ، نرجوه تعالى أن يقابلنا بمحض فضله وجوده وكرمه ، ويجازي عنا الفضل العظيم ، نرجوه تعالى أن يقابلنا بمحض فضله وجوده وكرمه ، ويجازي عنا سيدنا الشيخ المربيه ربه أحسن جزاء.

تاريخ نزول صاحب الرحلة قرية الطنطان بأهله

ثم لبثت عنده أياما قلائل ، ورجعت إلى الأهل فارتحلنا ونزلنا قرية الطنطان فاتح جمادى الآخرة من السنة المذكورة ، فتتابعت زفراتي وأنيني وكثر اشتياقي وحنيني ، وصار الحرم كأنه نصب عيني ، وكأن ليس شيء بينه وبيني ، ولا شغل لي إلا التشوق والتوق إلى مشاهدة ما يبري غلة الشوق. ورءاني يوما بعض الأحبة ذاهل القلب ، غير مبال بشيء من أحوال المتعلقات ، فسألني ، ما سبب هذا الحال الذي أنا فيه ، فجرى على لساني هذان البيتان ارتجالا ، وهما :

نبذت الشّغل خلف الظّهر لّما

غدا حرما تهامة نصب عيني

فبالي قد أبى لي أن أبالي

بحال حال بينهما وبيني

قدوم الشيخ عبداتي على الطانطان وصحبته

كتاب أخيه الشيخ مربيه ربه لصاحب الرحلة ليقدم لسفر الحج

ولم تزل رسائل الشيخ أعزه الله تترا علي مبشرة بأن الحال على حاله ، والمرجو من

٥٧

الله تعالى أن ينعم بكماله ، فأتسلى بكتاباته المفرحة ، وإن كانت تثير كوامن الأشواق المبرحة ، إلى أن قدم علينا الأستاذ القدوة ، الشيخ عبدات (٦٧) ابن شيخنا الشيخ ماء العينين في الثاني عشر من شوال في العام المذكور الذي هو عام ١٣٥٧ وصحبته كتاب من عند أخيه سيدنا الشيخ مربيه ربه ، بعثه إلي متضمنا استقدامي على حضرته الشريفة بالطرفاية ، ومخبرا بأن حان الوقت المنتظر ، وأني آخذ في أهبة السفر ، فتكاملت بحمد الله أفراحي ، وذهبت أحزاني وأتراحي ، وحمدته تعالى حق حمده على ما أنعم به من فضله مما لم أكن له أهلا ، ورجوته أن يجعل بفضله كل صعب لنا سهلا ، وأن يتولاها ، ويتولانا ، ويوفقنا في جميع الأحوال ، ويبلغنا جميع المئارب والآمال وتيامنت بإتمام هذا الأمر على الوجه الأحسن الأتم لمجيء الكتاب بعد أن أتممت قصيدة كنت أنشئها في مدحه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهي (٦٨) :

٢١ قصيدة في مدحه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لصاحب الرحلة أنشأها أيام تهيئه للحج

[الطويل]

ألا من لعين عز وجدا هجودها

وهان عليها بالمدامع جودها (٦٩)

تفيض لذكر الفيضتين بعبرة

كأني إذا كفكفتها أستزيدها (٧٠)

__________________

(٦٧) الشيخ عبدات : هو محمد عبد الوهاب الملقب الشيخ عبدات بن الشيخ ماء العينين ، ولد في رمضان عام ١٣٠١ ه‍ ١٨٨٣ م ، وكان من الصلحاء الموفقين والعلماء المشاركين ، وكثيرا ما كان والده الشيخ ماء العينين يرسله نائبا عنه إلى وجوه القبائل ، شرح كتاب والده «كفاية النبيه في فرض العين» شرحا حسنا ، استقر آخر حياته قرب طنطان ، وظل هناك إلى أن توفي سنة ١٣٦٨ ه‍ ـ ١٩٤٨ م ، أنظر : سحر البيان في شمائل شيخنا الشيخ ماء العينين ، و ١٣٥ ، مخطوط.

(٦٨) مجموع اسلم ، و. ١١٠.

(٦٩) هجودها : نومها

(٧٠) كفكفتها : رددتها ، الفيضتين : اسم مكان بطاطا.

٥٨

ومن لحجا أذكى به الشوق شعلة

تشبّ استعارا ، إذ يرام خمودها (٧١)

وأني على نار الغرام تجلّد

وما غير حبات القلوب وقدها

سلا سلمات المهر أين ترحّلت

مهارى اللوائي بارحتها وقودها (٧٢)

وهل ذكرت أيّامها أو تنوسيت

وهل دعيت ، أم هل أضيعت عهودها؟

وهل سمرات الدّيس غودرن ذبّلا

أم اخضرّ لّما أدبر الصيف عودها (٧٣)

تمور على أوساطها الهيف وشحها

وتشكو براها حشوها وبرودها (٧٤)

حنانا لخلخال أغصّته سوقها

ورحما لقلب أخرسته زنودها (٧٥)

تهادى على كثب تنوء بمثلها

إلى فيء أفنان حكتها قدودها (٧٦)

تعاقب في ذاك المطاف مطافلا

أعيرت لها أجفانها وجيودها (٧٧)

__________________

(٧١) حجا : عاقل ، فطن ـ تشب : تشتعل ـ استعارا هيجانا.

(٧٢) سلمات المهر : شجيرات عين المهر بطاطا ـ مهارى : إبل مهرية نسبة إلى قبيلة مهرة بن حديان.

(٧٣) الديس : اسم جبل بناحية طاطا ذبلا : ذابلة.

(٧٤) تمور : تتحرك جيئة وذهابا ـ الهيف : جمع أهيف وهيفاء الطامر البطن ـ وشحها : من الوشاح. براها : ج. برة : الحلقة في أنف البعير ، الخلاخل.

(٧٥) سووقها : سيقانها ـ زنودها : عظام ساعديها.

(٧٦) تهادى : تتمايل ـ فيء : ظل.

(٧٧) مطافلا : أولادا.

٥٩

وهل جاد أرجاء المزرّب صيّب

فبثّ زرابيّ النبات مجودها (٧٨)

فسامت به الأنعام حتى كأنّما

وسامته غضّا أتيحت جلودها (٧٩)

وهل لركايا أمّ مدلس أم إلى

بقايا إضاء الرّيشتين ورودها (٨٠)

وهل بربى الوادي مهاة مربّة

تنازعها كأس الوداد أسودها (٨١)

أم انتشرت روّادها فتحمّلت

تقاذفها في لامع الآل بيدها

هوادجها تكسو جمالا جمالها

وتجمل فوق الناجيات قتودها (٨٢)

فما برحت تنساق طوع حداتها

إلى حيث تحدوا المدجنات رعودها (٨٣)

فتفترّ عن برق خفيف مذيلة

مدارف من عين بطيء جمودها

فتكسو محيّا الأرض أردية الحيا

فتشرق بالأنوار منها خدودها (٨٤)

__________________

(٧٨) المزرب : مسيل الماء ـ صيب : مطر.

(٧٩) سامت : رعت

(٨٠) ركايا أم مدلس : آبار قرب طاطا ـ الريشتين : جبيل يشبه الريشة قرب طاطا.

(٨١) مربة : ذات ولد حديث الميلاد.

(٨٢) قتودها : أدوات الرحل.

(٨٣) المدجنات : المظلمة.

(٨٤) الحيا : الخصب.

٦٠