الرحلة المعينيّة

ماء العينين بن العتيق

الرحلة المعينيّة

المؤلف:

ماء العينين بن العتيق


المحقق: محمّد الظريف
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-36-634-9
الصفحات: ٣٩٥

بسبه سنة ١٩١٠ ه‍ ـ ١٨٩٢ م ، فحضر جنازته السلطان مولاي الحسن وأعيان الدولة والقضاء والعلماء ودفن بزاوية الشيخ عبد القادر الجيلالي (١).

وقد ساهم هذا النسب بدور كبير في تشكيل ملامح شخصيته وتحديد مسار حياته ، فلم يسلك مسلك البسطاء من سائر أبناء حسان والزوايا ، ولم يخض فيما كان يشغلهم من هموم ومشاغل عابرة ، بل اتبع نهج أسلافه في الحياة ، واقتفى أثرهم في العلم والاستقامة ، فكانت حياته مجمعا للمثل وسجلا حافلا بالعطاءات.

المحطة الثانية ، تتصل بتربيته وتعليمه ، فقد تلقى تربية متكاملة تقوم على الجمع بين علوم الظاهر والباطن ، وتولى تربيته مجموعة من علماء السمارة ، فأخذ مبادئ الفقه والعربية على يد أمه العالي ، والتصوف وعلم الحديث والكلام على يد جده الشيخ ماء العينين ، والقرآن على يد الفقيه زين ، والأدب على يد خاليه الشيخ النّعمة والشيخ أحمد الهيبة ، والنحو على يد الشيخ محمد بن سيدين وعلم الأصول على يد الشيخ محمد العاقب بن مايا با الجكني.

وترتبط بتعليمه الأولي حكاية مثيرة يتداولها أبناؤه وكثير من العارفين بأحواله ، فبعد أن آنست منه أسرته القدرة على التحصيل ، بادرت بإرساله إلى العلامة ابن انبالة ، أحد أساتذة مدرسة السمارة ، لكن هذا المربي ما كاد يستأنس به ويطمئن إليه حتى أرجعه إلى بيته يائسا من تعليمه ، فارتاعت أمه لهذا الأمر وثارت ثائرتها ، وأسرعت به إلى والدها الشيخ ماء العينين ، ودخلت عليه ، وهو في مجلسه ورمت به إليه ، «وكلها أمل في أن يكون الولد في المستوى الذي تريده له (٢)». فما كان من والدها إلا أن طمأنها وهدأ من روعها قائلا : دعيه هنا ، فسترين ما يسرك ، وكلفها بالسهر على تكوينه ، فكان ما كان من نبوغه وانقداح عين بصيرته (٣).

وكان الشيخ ماء العينين يوليه عناية خاصة و «يرجو من الله أن يجعله له مثل أبيه

__________________

(٩) الرحلة المعينية ، و. ٥٧ ـ ٥٨.

(١٠) في الأدب والمقاومة ، ذماء العينين ص ١٠٧.

(١١) نفس المصدر ١٠٧.

٢١

العتيق ، بل فوقه في العلم وغيره من حفظ ونجابة» (١). وقد تحققت آمال جده فيه ، فنبغ في مختلف علوم عصره من فقه وأصول وتاريخ وتصوف وأدب ، وغيرها. وأجازه مجموعة من العلماء منهم ، الشيخ ماء العينين الذي أجازه في القرآن الكريم رسما وقراءة ، وزين بن البكاي الذي أجازه في قراءة نافع ورواية ورش وقالون ، وابن مايابا الذي أجازه في علم الأصول ، وغيرهم. وقد نظم بعض هذه الإجازات ، وأورد بعضها في رحلته ، منها قوله في نظم إجازة العلامة زين :

هذا وذي سلسلتي منظوم

في سند الإجازة المعلوم

أسندها إلى النبي الهادي

رواية موصولة الإسناد

فيما روى ورش وقالون عن

شيخنا أب رويم المدني

أجازني في المقرإ المذكور

لنافع بأخذه المشهور

أستاذي المدعو زين القلقمي

إلى محمد الأمين القلقمي

وهو عن الأستاذ شيخنا الكبير

ماء العيون القدوة القطب الشهير (٢)

ومنذ أن نال هذه الإجازة سنة ١٣١٩ ه‍ ـ ١٩٠٢ م (٣). كلفه جده الشيخ ماء العينين بقراءة الحزب على يمينه ، فدوام على ذلك إلى أن توفي سنة ١٣٢٨ ه‍ ، كما

__________________

(١٢) الأبحر المعينية ، ج. ٢ ص. تحقيق المداح محمد المختار ، مرقونة كلية الآداب ، الرباط.

(١٣) الرحلة المعينية ، القسم الثاني ، و ٤٥.

(١٤) جعل الأستاذ ماء العينين تاريخ هذه الإجازة سنة ١٢١٩ ه‍ ، وقد تابع في هذا الخطأ صاحب الرحلة نفسه الذي ذكر سهوا أن تاريخها كان سنة ١٢١٩ ه‍ ـ ١٨٠٤ م.

٢٢

أسند إليه التدريس بمدرسة السمارة ، فكان لذلك أثره في اختبار معارفه ، وتعميق ما حصله من علوم.

المحطة الثالثة ، تتعلق بإنتاجه العلمي والأدبي ، وهو إنتاج يتميز بالغنى والتنوع والعمق فقد ألف في علوم مختلفة وفنون كثيرة ، من فقه وتصوف ورحلات ومناقب ، وغيرها وتعتبر مؤلفاته مصدرا أساسيا من مصادر الحركة الفكرية في الصحراء المغربية ، وصورة حية لما تميز به علماء الصحراء من نبوغ ومشاركة علمية.

ومن أبرز مؤلفاته ، غير «الرحلة المعينية» :

١. «بحور البدائع المحتوية على درر الأشعار المصطفوية» (١) وهو ديوان يضم بعض منتخبات الشيخ مربيه ربه في عدد من فنون الشعر العربي ، ويحتوي على مقدمة وثمانية أبواب وخاتمة.

الباب لأول : في الثناء على الله من شعر محمد المصطفى مربيه ربه.

الباب الثاني : في أمداحه لنبوية.

الباب الثالث : في مدحه لوالده الشيخ ماء العينين.

الباب الرابع : في مخاطبته لإخوانه.

الباب الخامس : في مخاطبته لمعاصريه.

الباب السادس : في النسيب.

الباب السابع : في الحكم والفوائد.

الباب الثامن : في التضرع إلى الله.

الخاتمة : في قصائد الذين مدحوه من الصحراويين ومن السوسيين.

٢. «البغية من ملخص الأحكام الشرعية على المستمد من مذهب المالكية» ، وهي منظومة فقهية تتألف من ٩٨٠ بيت ، توخى فيها تجديد الأساليب المتبعة في

__________________

(١٥) نسب أ. ش. هذا المؤلف للشيخ مربيه ربه ، والمرجح أنه لأبن العتيق ، صحراؤنا ، ص ١١٣ غشت ١٩٦٧ ، ع. ٢٣ ، أنظر : خلال جزولة ، ج. ٢ ، ص ، ١٨٦.

٢٣

الإفتاء وتدبير الأمور القضائية ، وتتألف من أربعة أقسام.

الأول : يتعلق بالقضاء ومتعلقاته.

والثاني : يتعلق بالحقوق العائلية والأحوال الشخصية.

والثالث : يتعلق بالمعاملات والنزاعات.

والرابع : يتناول الدماء والحدود والمواريث.

وقد انتهى من تأليفها في ٢٦ من شعبان ١٣٥٩ ه‍ ـ ١٩٣٩ م.

٣. «تحفة المكاتب بقراءة شيخنا الشيخ ماء العينين لحزبه الراتب» (١). وهو كتاب استوعب فيه أحوال الشيخ ماء العينين كلها ، العادية والعبادية ، وخاصة كيفية قراءته للحزب.

٤. ديوانه الكبير ، وهو ديوان ضخم يتجاوز ثلاثة آلاف بيت ، تتناول مختلف أغراض الشعر العربي ، والمعروف أن الشاعر قد ترك هذا الديوان مجموعا ، ويبدو أنه كان من الكتب التي انتقلت إلى خزانة الشيخ محمد الإمام بعد وفاة صاحبه. وقد اشتغلت بجمعه منذ سنوات ، وسيتم إخراجه قريبا إن شاء الله.

٥. سحر البيان في شمائل شيخنا الشيخ ماء العينين الحسان» وهو كتاب ضخم في مناقب الشيخ ماء العينين ، ويتألف من خطبة ومقدمة وثمانية أبواب.

الأول : في أوصاف الشيخ ماء العينين وأخلاقه وعلومه الوهبية والكسبية.

الباب الثاني : في ذكر مؤلفاته ، وما أثر عنه من كلمات حكمية.

الباب الثالث : في سيرته العادية.

الباب الرابع : في بعض ما منحه الله من الكرامات الظاهرة وخوارق العادة الباهرة.

الباب الخامس : في جملة أحواله مدة حياته من يوم مولده إلى وقت وفاته ،

الباب السادس : في نسبه الشريف وسلسلة أشياخه في الطريقة الصوفية.

الباب السابع : في ذكر أولاده وبعض صفاتهم.

__________________

(١٦) أنظر حوله : سحر البيان في شمائل شيخنا الشيخ ماء العينين الحسان و ٤٥ ـ وقد ذكر الشيخ لارباس ماء العينين في لقاء إخواني بسلا أنه يتوفر على نسخة منه بخط مؤلفه.

٢٤

الباب الثامن : في ذكر من وصل على يده من المريدين.

وتنتهي هذه الأبواب بخاتمة تتضمن عددا من القصائد الشعرية التي صدرت عن مشاهير العلماء والأدباء في مدح الشيخ ماء العينين وتأكيد ولايته ، وقد انتهى تحريره في ربيع النبوي من سنة ١٣٧٥ ه‍. وتوجد منه مجموعة من النسخ المخطوطة.

٦. كتاب محاضرات المؤلف ومساجلاته مع بعض علماء وشعراء فاس ومكناس ومراكش وسلا والرباط والدار البيضاء (١).

٧. مجموعة من الفتاوى الفقهية والرسائل والإجازات والمنظومات (٢).

٨. مسرح الأفكار بسيرة النبي المختار» وهي منظومة في السيرة النبوية في مائتين واثنين وسبعين بيتا ، استعرض فيها المؤلف سيرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من بعثته إلى وفاته ، كما تطرق فيها إلى أخبار الخلفاء الراشدين وأنسابهم ومآثرهم ووفياتهم ، وهي لا تزال مخطوطة أيضا (٣).

٩. «مطالع الأنوار في مديح المختار» وهو ديوان في ثمانية وعشرين قصيدة في مدح الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مرتبة على الحروف الهجائية (٤).

١٠. منظومة في سيرة فقهاء المدينة وأعيان المذهب ، وهي لمع مقتضبة في تاريخ بعض أعيان الفقه الإسلامي كالإمام أبي حنيفة والشافعي ومالك وابن حنبل وشعبة بن المسيب وعروة وابن يسار ، وغيرهم (٥).

ولم تنحصر اهتمامات ابن العتيق في التأليف وقرض الشعر فقط ، ولكنها شملت مجالات أخرى أكثر أهمية واتصالا بالحياة. فساهم بدور فعال في مقاومة المستعمر والدفاع عن وحدة المغرب وسيادته ، وله قصائد كثيرة في ذلك منها قوله في الحث على المقاومة :

__________________

(١٧) الرحلة المعينية ، القسم الثاني ، و ٦٦.

(١٨) نفس المصدر ، و ٧٦ ـ ٨٤ ـ ٨٥ ـ ١٠٨.

(١٩) مجموع إسلم من الورقة ١٥٣ إلى ١٦ ، مخطوط خاص.

(٢٠) نفس المصدر من و. ٤٦ إلى ٧٢.

(٢١) نفس المصدر من الورقة ١٤٠ إلى ١٥١.

٢٥

كفى المرء غيا للغواة صغاره

كذا بكبار الإثم تغرى صغاره

ويوشك أن يغشى الحمى الراتع الذي

رعى حوله والجار يعديه جاره

وإن الرضى بالذنب ذنب ، وإن يقع

عذاب يعم الفقرتين تباره

ودين المهدي للشرك ضد ، فمن يرم

مقارنة الضدين يبدو ابتهاره

ومن ليس يبدي نصرة الدين مخطئ

فكيف بباد للنصارى انتصاره

فيا إخوة الإيمان ، دعوة مشفق

نصوح دجا مما دهاكم نهاره

إلا هل لدين الله منكم مشيد

فقد كاد أن ينقض أصلا جداره (١)

ومن ذلك أيضا قوله في الإشارة بجيش التحرير والتغني ببطولاته :

بزغت علينا أنجم التحرير

فتباشر الأوطان بالتطهير

من رجس الاستعمار بعد مبشر

في الغرب ، بل في سائر المعمور

لازال جيشهم المطهر ناصرا

أعلام عرش إمامنا المنصور (٢)

__________________

(٢٢) بلاد شنقيط المنارة والرباط ، ابن الخليل النحوي ، ص ٤٠٩.

(٢٣) ديوان الشاعر ، مخطوطة خاصة ستصدر قريبا إن شاء الله.

٢٦

ومن ذلك أيضا قوله في تهنئة السلطان محمد الخامس بالعودة من المنفى وعيد الاستقلال وعيد الفطر :

تتابعت البشائر والخيور

بحمد الله واتصل السرور

وصبح السعد لاح له ضياء

وروض الفوز فاح له عبير

إمام العصر محمود السجايا

محمد ابن يوسف الشهير

إلى أن يقول :

ألا فاهنأ قرير العين أن لا

تفارقك المسرة والحبور

بأعياد ثلاثة استهلت

أهلتها بأفقك تستنير

بعيد الفطر شعبك مستقل

وعيد العود لله الشكور

وعصرك كله أيام عيد

بك اغتبطت سعادتها العصور (١)

كما شارك في الإصلاح الاجتماعي والديني ، فأبدى فيما أسند إليه من مسؤوليات قضائية وتربوية «من الرفق بالضعفاء والعمل على الأخذ بأيدي المساكين والمظلومين وإنصافهم من المعتدين ، والشدة في الدين والورع والزهد وإعطاء كل ذي حقه ، ومحاربة أهل الفساد والقضاء على الرشوة والتشهير بمتناوليها وآخذيها ما يعلمه

__________________

(٢٤) نفس المرجع

٢٧

الخاص والعام» (١).

وله أشعار في ذلك تدل على صرامته وغيرته الدينية ، منها قوله في إدانة الرشوة والتحذير من عواقب السقوط في حبائلها :

يقول الناس مالك حيث تقضي

تحامي ما به الأوطار تقضي

فقلت إن استجبت لما عرضتم

فما جوابي يوم عرضي

أفي عرض من الدنيا دنيئ

أبيع ديانتي وأبيح عرضي

معاذ الله أن ينتاط إلا

بإصر الحق إبرامي ونقضي

وما يغني رضى المخلوق فيما

إلى سخط من الخلاق يفضي

وأرجو الله إصلاحي ورشدي

وتوفيقي لما إياه يرضي (٢)

وقد انعكس ذلك على إنتاجه العلمي والأدبي ، وطبعه بطابع خاص ميزه عن غيره ، فجاء متنوعا ، غنيا ، يجمع بين عبقريته الفذة وخصوصيات الفضاء الثقافي الذي عاش فيه وترعرع في أجوائه.

__________________

(٢٥) فقيد المغرب الشيخ ابن العتيق ، الشيخ المصطفى ماء العينين صحراؤنا ١٥ أبريل ١٩٥٧ ، ص ١٠.

(٢٦) نفس المرجع ، ص ١٠ ، مجموع يحجب ، و ٣٠.

٢٨

مسار الرحلة

تندرج الرحلة المعينية ضمن الرحلات الحجازية ، وهي كما يدل على ذلك على عنوانها تسجل رحلة ما العينين بن العتيق إلى الحجاز ضمن الوفد الصحراوي الذي أدى فريضة الحد سنة ١٩٣٨ برئاسة الشيخ مربيه ربه ، على نفقة المخزن. وقد استغرقت هذه الرحلة ثلاثة أشهر ونصف تبتدئ من خروج المؤلف من طنطان ، يوم الجمعة ١٦ شوال ١٣٥٧ ه‍ ٩ دجنبر ١٩٣٨ م ، وتنتهي بعودته إلى أهله بالطنطان أيضا يوم الثلاثاء ٢٩ ، ٢ حرم ١٣٥٨ ه‍ ١٩٣٩ م ..

ويمكن تلخيص المسار العام لهذه الرحلة في اللحظات التالية :

١ ـ انطلاق ركب حجاج الساقية الحمراء بحرا من ميناء طرفاية نحو مدينة «لاص بالماص» بجزر الكناري في ٢٢ شوال ١٣٥٧ ه‍ ، ١٥ دجنبر ١٩٣٨.

٢ ـ توجه الركب نحو مدينة قادس على ظهر سفينة إسبانية تسمى «باركو سيبي» بعد وصول الشيخ مربيه ربه إلى أرض «لاص بالماص» من طرفاية جوا.

٣ ـ توجه الركب برا إلى الجزيرة الخضراء ، ثم ركوب البحر إلى سبتة على متن سفينة إسبانية تسمى «سيوداد سبتة» في ٢٨ من شوال ١٣٥٧ ه‍ ، ٢١ دجنبر ١٩٣٨ م.

٤ ـ توجه الركب إلى تطوان برا والإقامة بها في ضيافة المخزن لمدة اثنين وعشرين يوما وزيارة مآثرها وتجديد أواصر المحبة والأخوة مع أعيانها وعلمائها.

٥ ـ توجه الركب برا إلى سبتة بع وصول وفد حجاج سيدي أفني وأيت بعمران

٢٩

برئاسة الشيخ محمد الإمام ، ووفد وادي الذهب برئاسة سيداتي بن الشيخ الولي في ١٧ من ذي القعدة ١٣٥٧ ه‍.

٦ ـ رسو الباخرة بميناء طرابلس لمدة ثلاثة أيام ، وزيارة أضرحتها ومآثرها التاريخية والاجتماع ببعض علمائها وأعيانها في ٢٠ من ذي القعدة ١٣٥٧ ه‍.

٧ ـ توقف الباخرة ببور سعيد ثم السويس في ٢٧ من ذي القعدة ، ولقاء ولي عهد الخليفة السلطاني ومن كان معه من رجال الوحدة المغربية بمصر لطلب العلم.

٨ ـ الإقامة بمكة لمدة سبعة عشر يوما ، وأداء مناسك الحج بها وزيارة مساجدها وقبور الصحابة بها ، والاجتماع ببعض علماء وقادة الدول الإسلامية بها.

٩ ـ التوجه إلى المدينة المنورة عبر جدة بواسطة السيارات يوم الجمعة ٢٠ من ذي الحجة ١٣٥٧ والإقامة بها مدة ثمانية أيام ، وزيارة مساجدها ورياضها وقبور أبطال الإسلام بها.

١٠ ـ رجوع الركب إلى جدة لركوب الباخرة في ٢٩ من ذي الحجة.

١١ ـ عودة الباخرة إلى سبتة بعد رسوها عند جبل الطور والسويس وبور سعيد وطرابلس ومليلية.

١٢ ـ توجه الركب إلى تطوان لحضور مجلس افتتحه الخليفة السلطاني لأمر الأوقاف واستقلال أحوالها في ١٦ محرم ١٣٥٨ ه‍.

١٣ ـ رجوع الركب إلى سبتة ثم الجزيرة الخضراء ، ثم أشبيلية ، وزيارة المآثر الإسلامية بها في ١٩ محرم ١٣٥٨.

١٤ ـ عودة ركب الحجاج إلى جزر الكناري يوم الثلاثاء ٢٢ محرم ١٣٥٨ ه‍.

١٥ ـ عودة الركب إلى طرفاية جوا يوم الأحد ٢٧ محرم ١٣٥٨ ه‍.

١٦ ـ عودة المؤلف إلى أهله بطنطان يوم ٢٩ محرم ١٣٥٨ ه‍ ، بعد اجتماعه بالشيخ مربيه ربه وبعض إخوانه.

وتتخلل هذه اللحظات مجموعة من الفوائد التي سجلها المؤلف طيلة هذه الرحلة ، كأخبار الذين شاركوا فيها وأسمائهم وقبائلهم ومراتبهم والأنشطة التي قاموا بها ، واللقاءات التي أجروها مع عدد من العلماء ورجال الفكر والسياسة في شمال المغرب وليبيا ومصر والحجاز مثل ، الفقيه محمد بن عبد القادر ابن موسى ، وزير الأحباس

٣٠

في المنطقة الخليفية في الشمال والقائد محمد المصطفى ابن ادريس بن يعيش وأخيه الباشا محمد فاضل بن يعيش ، ورئيس الحزب الإصلاحي الوطني السيد عبد الخالق الطريس ، وعبد الوهاب بنمنصور ، مؤرخ المملكة حاليا ، والمكي الناصري وادريس الجاي وإبراهيم بن علي الدرقاوي ، وغيرهم من رجال الفكر والسياسة بتطوان ، والشيخ محمد بن محمد بن برخيص قاضي طرابلس ، والشيخ أحمد الشارف الحاكم بالمحكمة الشرعية بها ، والشاعر أحمد بن محمد فقيه حسن ، والشيخ محمد بن عامر من بنغازي ، وغيرهم من علماء وأدباء ليبيا ، والأمير شكيب أرسلان والشيخ جعفر بن صالح الكثيري من أرض حضر موت والشيخ محمد بن أمير جان ابن غلام بن أمير الله ، من الأفغان ، والشيخ محمد زباره من أمراء اليمن ، والشيخ عبد القيوم ولد الحاج سائبة حيدر أباد من السند ، والشيخ أمين الكتيبي ، وغيرهم من الأعيان والرؤساء الذين اجتمعوا بهم في مكة والمدينة.

وتندرج ضمنها أيضا مجموعة من الإجازات والرسائل والمساجلات والفوائد الفقهية والجغرافية والتاريخية التي تطول أحيانا حتى تقطع التسلسل الكرونولوجي للأحداث ، كبعض قصائد المؤلف ، وقصائد الشيخ مربيه ربه وقصائد الشيخ محمد الإمام ، وإجازة المؤلف في القرآن ، وإجازته لأبن موسى ، ورسائله إلى عبد الرحمان ابن زيدان وخاليه الشيخ مربيه ربه والشيخ محمد الإمام ، وتقاريره حول الكعبة وقياساتها وأساطينها ، ولباسها ، وماء زمزم وخواصه وفوائده ، وأبواب مسجد الله الحرام ومناراته ، وغير ذلك من النصوص والفوائد.

كما تتخللها أيضا قصائد ومقتطفات من بعض الكتب التي عبثت بها يد الضياع ، مثل رحلة الشيخ ماء العينين ورائية المؤلف في تخميس رائية الشيخ أحمد الهيبة ، وكتابه الذي يضم مساجلاته مع أدباء وشعراء الأقاليم المغربية الشمالية ، وغيرها من الآثار النادرة التي تميزها عن غيرها من الرحلات الحجازية التي كتبت في بداية القرن الماضي ، وتجعلها رحلة علم وأدب ووحدة ، فضلا عن مقاصدها الدينية.

٣١

الرموز المستعملة في إخراج الرحلة

أ : النسخة الأصلية

ب : النسخة الفرعية

و: ورقة

م ، خ : مخطوط خاص

[] : أشير بهما إلى أن ما بداخلها ليس موجودا في النسخة الأصلية ، مع التنصيص في الهامش على مصدر الإضافة.

«» : أشير بهما إلى ما بداخلهما من النصوص المستشهد بها في الرحلة.

() : أشير بهما إلى عناوين الكتب المعتمدة في الرحلة.

() : أشير بهما إلى أن ما بداخلهما يوجد بهامش المخطوطة.

ولا يسعني في نهاية هذه المقدمة إلا أن أتوجه بالشكر الجزيل إلى الأستاذ ماء العينين مربيه ربه الذي كان وراء اهتمامي بإخراج هذا العمل ، فقد شجعني على الاشتغال به وهيأ لي ظروف تحقيقه ، ولم يبخل علي بما أنشده في بيته من معلومات ضالة ، وفوائد شاردة ، فقرب لي كل بعيد ، وسهل علي كل صعب شريد ، ولم يكتف بذلك ، بل تفضل جازاه الله خيرا بكتابة كلمة لهذه الرحلة باعتبار جده الشيخ مربيه ربه رئيسها الديني وواحدا من أعلامها البارزين وشاهدا على ما تجسده في تاريخنا الحديث من عمق فكري ووطني تمتد جذوره في أعماق التاريخ ، كما أتوجه بالشكر بصفة خاصة إلى أستاذنا الفاضل الدكور عباس الجراري الذي يعود إليه فضل الريادة في الاهتمام بتراث أقاليم المغرب الجنوبية وتوجيه الباحثين إلى الاعتناء به بصفة عامة ، وتشجيعه لي بصفة خاصة على تعميق هذا الاهتمام ، بعد أن ألقى بذوره الأولى في أعماقي ، ورعاه بعلمه الغزير وأخلاقه العالية. كما أتوجه بالشكر إلى الأستاذ الفاضل سيد القوم حفيد المؤلف وكذا المرحوم الأستاذ سعيد الفاضلي وغيرهم من الباحثين الذين ساهموا من قريب أو بعيد في إخراج هذا العمل

٣٢

ضبطا وتصحيحا.

كما أتوجه بالشكر أيضا إلى المشروع الجغرافي العربي «ارتياد الآفاق» على إخراجه لهذا العمل ورعايته له ، متمنيا للقائمين عليه المزيد من التوفيق والنجاح لتحقيق الأهداف النبيلة التي أسس من أجلها.

د. محمد الظريف ٢٠٠٤

٣٣
٣٤

نصّ الرّحلة

النصف الأول

بدء الرحلة

من خروج المؤلف من طنطان

في ١٦ شوال ١٣٥٧ ه‍ ـ دجنبر ١٩٣٩ م

إلى مغادرته مكة في

١٨ ذي الحجة ١٣٥٧ ه‍ ـ فبراير ١٩٣٩ م

بسم الله الرحمن الرحيم ،

وعلى سيدنا محمد وآله أزكى صلاة وسلم.

حسبي الله ، لا إله إلا هو ، عليه توكلت ، وهو رب العرش العظيم ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ)(١). «وَإِذْ بَوَّأْنا

__________________

(١) سورة آل عمران ، آية ٩٦.

٣٥

لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ» (١).

الحمد لله الذي أنعم علينا بالإسلام والإيمان والإحسان ، فشرف بتلك النعم على أجناس مخلوقاته الإنسان ، وشرع من الدين ما وصى به نوحا وإبراهيم ، فجلى بأنواره عنا غياهب ليل الشرك البهيم ، ببعثة خاتم النبيئين وإمام المرسلين ، شفيع المذنبين وقائد الغر المحجلين ، معدن الشرف ، ومظهر الفضل والكرم صفوة العرب وإنسان عين الحرم ، سيدنا محمد الطاهرة ملته من الأدناس ، الوارد في أمته ، (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)(٢) فأظهر به شعائر الدين ، وشيد قواعده ، وأعلى يده وقوى عضده وشد ساعده ، فكان أعدل من نهى وأمر ، وأفضل من حج بيته واعتمر ، وصل الله عليه وسلم تسليما ما قضيت به أمته الحاج ، وما تيمم من كل فج عميق بيت الله الحرام الحاج.

مطلب في بعض الآثار الواردة في فضل الحج وزيارة قبره صلى‌الله‌عليه‌وسلم

وبعد فيقول أسير ذنبه ، أفقر العبيد إلى ربه ، ما العينين بن العتيق بن محمد فاضل ، وقاهم الله شر المخاوف والمعاضل ، الحسني الإدريسي القلقمي نسبا ، الشنجيطي إقليما ، المالكي مذهبا ، خديم شيخه الشيخ ماء العينين ومريده وسميه وابن عمه وحفيده :

إنه مما لا يخفى أن الرحلة لبيت الله الحرام من أعظم القربات التي تؤذن بنيل المرام ، وذلك لمن استطاع إليه سبيلا ، وسقي من أكوس العناية سلسبيلا ، ليؤدي

__________________

(٢) سورة الحج ، آية ٢٤ ـ ٢٩.

(٣) سورة آل عمران ، آية ١١٠.

٣٦

فريضة الحج وسنة العمرة ، فإن المتابعة بينهما تزيد رزقه وعمره.

قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تابعوا بين الحج والعمرة ، فإن متابعة ما بينهما تزيد في العمر والرزق ، وتنفي الذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد» (١). وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الحجاج والعمار وفد الله وزواره ، إن سألوه أعطاهم ، وإن استغفروه غفر لهم ، وإن دعوا استجيب لهم ، وإن تشفعوا شفعوا» (٢). وقال عليه الصلاة والسلام : «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما ، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة» (٣) ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من حج هذا البيت فلم يرفث ، ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه» (٤). وفي صحيح مسلم من حديث عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه ، أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له : أما علمت أن الإسلام يهدم ما قبله ، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها ، وأن الحج يهدم ما كان قبله ، إلى غير ذلك مما يطول جلبه وتطيب به نفس الحاج ويطمئن قلبه ، وناهيك من رحلة لم يبعث لها إلا حج بيته تعالى الحرام ، وزيارة قبر نبيه عليه الصلاة والسلام التي تتأكد مشروعيتها وقربها من درجة الوجوب حتى أطلقه بعضهم عليها ، وعلى كل حال فمفروضيتها من مذهب محبته صلى‌الله‌عليه‌وسلم واضحة لمن نظر إليها ، قال صاحب (وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى) (٥) في الباب الثامن في زيارة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : روى الدارقطني والطبراني في الكبير والأوسط وغيرهما من طريق حفص بن داوود القارئ عن ليث عن مجاهد عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من حج فزار قبري بعد وفاتي كان كمن زارني في حياتي» (٦). وفيه أيضا عن ابن عمر رضي‌الله‌عنهما ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من حج البيت ولم يزرني فقد

__________________

(٤) الجامع الصغير ، حديث رقم ٣٢٢٧.

(٥) نفس المرجع ، حديث رقم ٣٧٩٠.

(٦) نفس المرجع ، حديث رقم ٥٧٣٤.

(٧) نفس المرجع ، الحديث رقم ٨٦٢٦.

(٨) وفاء الوفا بأخبار المصطفى. هذا الكتاب هو لنور الدين السهمودي (٨٠٤ ه‍ ـ ٩١١ ه‍) ، وقد طبع بمطبعة الآداب والمؤيد سنة ١٣٢٦ ه‍. في جزئين.

(٩) نفس المرجع ، حديث رقم ٨٦٢٦.

٣٧

جفاني» ، وفيه عن ابن عمر رضي‌الله‌عنهما ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «من زار قبري ، حلت له شفاعتي» (١). وفي رواية عنه رضي‌الله‌عنه : «من زار قبري وجبت له شفاعتي». وفيه عن علي رضي‌الله‌عنه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من زار قبري بعد موتي ، فكأنما زارني في حياتي ، ومن لم يزرني ، فقد جفاني» ، إلى غير ذلك مما هو كثر ، ودليله النقلي والعقلي شهير. وقال عياض رحمه‌الله تعالى : زيارة قبره صلى‌الله‌عليه‌وسلم سنة بين المسلمين يجمع عليها ، وفضيلة مرغب فيها ، وقال أبو عمران المالكي : زيارة قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم واجبة. قال عبد الحق : يعني من السنن الواجبة ، ويستدل أيضا بقوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ)(٢) الآية ، على مشروعية السفر للزيارة وشد الرحال إليها. وإذا ثبت أن الزيارة قربة ، فالسفر إليها كذلك ، وقد ثبت خروج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المدينة لزيارة قبور الشهداء ، فإذا جاز الخروج للقريب ، جاز للبعيد ، وحينئذ فقبره صلى‌الله‌عليه‌وسلم أولى ، وقد انعقد الإجماع على ذلك لإطباق السلف والخلف عليه. نرجوه تعالى أن يسعدنا بزيارته دنيا وأخرى ، وأن يجعل الاعتصام بحبل سنته صلى‌الله‌عليه‌وسلم لنا ذخرا.

تاريخ ولادة شيخنا الشيخ ماء العينين ووفاته رضي‌الله‌عنه

ولحب الحج والزيارة ، ما زلت من عنفوان شبابي ، وإن كنت في وطني بين أقربائي وأترابي وأحبابي معلق البال بالرحلة إلى الحرمين ، على أن العوائق إذ ذاك تصرخ بأن حديث النفس بها عين ، لكوني لا إرادة لي ولا عزم ولا همة مع أستاذ الأساتذة وإمام الأئمة ، قطب المشارق والمغارب ، المعد لقضاء الحوائج والمشارب ، مجمع مراشد الطرائق ، مركز الشرائع والحقائق ، مجدد القرن الرابع عشر ، المعترف بأفضليته جميع البشر ، المخصوص بكمال الخلافة النبوية ، الجاري على جادة السنة النبوية ، من عجزت عن كنه محامده الأفهام والأحلام ، وضاقت عن جمع مدائحه القراطيس

__________________

(١٠) نفس المرجع ، حديث رقم ٨٧١٥. ج

(١١) سورة النساء ، الآية ٦٤.

٣٨

والأقلام ، أستاذنا وملاذنا ومعاذنا شيخنا الشيخ ماء العينين ، المعلوم علمه ، الطائر صيته في كلا الكونين. ورحم الله والدنا العتيق ، حيث يقول من قصيدة في مدحه :

[الطويل]

هو الشيخ ماء العينين واللبس هاهنا

لعمري مأمون لفقد المجانس (١)

فقد نشأت بحمد الله في حجره وكفالته ، لا تعدو عيناي عن شمس خيبته وجلالته ، ملقى في يديه عنان نفسي وزمامها ، مبتهجة بأن ليس في الوجود سواه إمامها ، متمسكة به تمسك الأعمى بقائده ، مغمورة في فيوض إفادته وفوائده ، بل لا يمكن أن يسع غيره صدري متيقنا بأنه يدري من حالي ما لا أدري ، وكيف لا وهي عين جلالة قلبي من كل رين وغين ، ولا أستطيع الصبر عنه ولا طرفة عين ، به غذاء جسمي وروحي وروعي ، وأقلده غاية التقليد في معتادي ومشروعي ، فما صح في حياته رضي‌الله‌عنه تخلفي عن جنابه المحترم ، ولو كانت تعتريني بعض الساعات أشواق الحرم ، مع أن شيخنا يرى أن فريضة الحج ساقطة لأسباب عديدة في تلك المدة عن أكثر الشناقطة ، إلى أن قضى تعالى بقبضه إليه ، وإيثاره بما من الأفضال والإكرام اعتمد عليه ، وذلك في منتصف ليلة الثلاثاء الحادية والعشرين من شوال عام ألف وثلاثمائة وثمانية وعشرين من هجرته صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمدينة تيزنيت إحدى قرى السوس الأقصى ، وعمره رضي‌الله‌عنه وأرضاه إثنان وثمانون سنة وثلاثة وخمسون يوما ، لأن ميلاده وقت المقيل يوم الثلاثاء السابع والعشرين من شعبان الأبرك عام ستة وأربعين بعد المائتين والألف ، كما نظمه رضي‌الله‌عنه بقوله :

في عام رومش بشهر شعبان

في يوم زك مولدي وذا استبان

__________________

(١٢) من قصيدة في مدح الشيخ ماء العينين مطلعها :

أرقت لبرق آخر الليل طامس

وقومي حولي بين غاف وناعس

الأبحر المعينية في الأمداح المعينية ، ص. ٥٥٣ ، تحقيق أحمد مفدي.

٣٩

يوم الثلاثاء مقيلا والشكور

أشكر لنعمتي مدى الدّهور (١)

وذيّلهما جامعه بهاذين البيتين في تاريخ وفاته رضي‌الله‌عنه :

وقد توفى بلا احتمال

في الحادي والعشرين من شوال

في عام حكسش لدى انتصاف

ليل الثلاثاء بلا خلاف

قدس الله روحه ورضي عنه وأرضاه وجعل في أعلى الفراديس مثواه ، «ثم شاء الله أن زالت تلك الأسباب الشنيعة التي كان يرى شيخنا أنها سقوط الحج ذريعة» (٢) فتزايدت يومئذ أشواقي وتوالت تباريحي وأتواقي إلى مزار البقاع الطاهرات ، ومشاهدة الحضرات الباهرات ، لكن لم تزل كثرة العوائق مانعة ، ونوائب الدهر العظام دافعة ، وإنما أعلل نفسي بعسى ولعل ، والأمر لله فما شاء فعل ، وأنشد بيتين في المعني :

هوّن عليك فإن كلّ مقدّر

سيكون كيف تغالب الأقدار

وارم الأزمّة للمكوّن تسترح

فلكل شيء عنده مقدار

__________________

(١٣) رومس : تساوي بحساب الجمل ١٢٤٦ ، وهي السنة الهجرية التي ولد فيها الشيخ ماء العينين.

زك : تساوي ٢٧ اليوم الذي ولد فيه الشيخ من شعبان.

حكسش : ١٣٢٨ بحساب الجمل ، وهي السنة الهجرية التي توفي فيها الشيخ ماء العينين

(١٤) أ ـ و. ٦.

٤٠