الرحلة المعينيّة

ماء العينين بن العتيق

الرحلة المعينيّة

المؤلف:

ماء العينين بن العتيق


المحقق: محمّد الظريف
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-36-634-9
الصفحات: ٣٩٥

كان مرتدا ، لم تؤكل ذبيحته عند الجمهور ، خلافا لأبي إسحاق ، وإن ذبح نائبا عن مسلم ، فقولان في المذهب ، ولا خلاف في الجواز إن ذبح لنفسه ، إلا إن ذبح لعيدهم أو كنائسهم ، فهو مكروه ، وأجازه أشهب ، وحرمه الشافعي ، وإذا كانت الذبيحة محرمة عليهم ، فأربعة أقوال : المنع لابن القاسم ، والإباحة لابن عبد الحكم ، والكراهة لأشهب ، والتفرقة بين أن يكون مما علمنا تحريمه عليهم كذى الظّفر ، فلا يجوز ، أو مما انفردوا بتحريمه كالطريفة فيجوز ، وفي شحوم ما ذبحوه ، المنع والجواز وفاقا لهما ، والكراهة ، وإذا غاب الكتابي على الذبيحة ، فإن علمنا أنهم يذكون أكلنا ، وإن علمنا أنهم يستحلون الميتة كنصارى الأندلس ، أو شككنا في ذلك ، لم نأكل ما غابوا عليه» (٣٩). وهذا هو الذي تمشى عليه خليل في مختصره المبين لما به الفتوى ، فقال في باب الذكاة : «قطع مميز يناكح» (٤٠) ، قال الدردير : «أي تنكح أنثاه ولو عبر به كان أولى ، فدخل الكتابي ذكرا أو أنثى ، ولو أمه». وقال الخرشي : «ودخل في قوله يناكح ، أي يحل لنا وطء نسائه في الجملة ، المسلم والكتابي معاهدا أو حربيا ، حرا أو عبدا ، ذكرا أو أنثى ، ولا فرق بين الكتابي الآن ومن تقدم على المشهور ... إلى أن قال خليل في وصف الكتابي : وإن سامريا أو مجوسيا تنصر وذبح لنفسه مستحله ، وإن أكل الميتة إن لم يغب» (٤١) إلخ. فتحصل مما تقدم أن لا خلاف في إباحة أكل ذبائح النصارى على الجملة ، وإن كانت الحرمة ربما تعرض فيها لأسباب خارجة مع الاختلاف في ذلك بين العلماء ، كما قررنا ، والله الموفق.

تنبيه في حكم صيد الكتابي

تنبيه. صيد الكتابي البري محرم الأكل في المذهب المالكي ، قال خليل : «وجرح

__________________

(٣٩) قوانين الأحكام الشرعية ، ومسائل الفروع الفقهية ، محمد بن أحمد بن جزي ، ص ٢٠٠ ، دار العلم للملايين ، بيروت ١٩٧٩.

(٤٠) مختصر خليل ، ص ٩٠ تصحيح وتعليق الشيخ أحمد نصر ، ط ١٩٨١ ، المكتبة المالكية.

(٤١) شرح الدردير على مختصر خليل ، ج ١ ، ص ٢٢٦ ، د ، ت.

٣٠١

مسلم مميز وحشيا» إلخ ، قال شارحه الخرشي : «واحترز بالمسفح من غيره كتابيا أو مجوسيا» ، قال محشيه العدوي : «واشتراط الإسلام» في قوله تعالى : (تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ)(٤٢) ، لأن الخطاب للمسلمين ، وهو مبني على الإضافة تفيد الحصر. ه». وقال ابن حيان في تفسيره «البحر» عند قوله تعالى : (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ)(٤٣) ، ما نصه : «وظاهر قوله : ما علمتم أنه خطاب للمومنين. فلو كان المعلم يهوديا أو نصرانيا ، فكره الصيد به الحسن أو مجوسيا ، فكره الصيد به جابر بن عبد الله والحسن وعطاء ومجاهد والنخعي والثوري وإسحاق. وأجاز أكل صيد كلابهم مالك وأبو حنيفة والشافعي إذا كان الصائد مسلما. قالوا : وذلك مثل شفرته والجمهور على جواز ما صاد الكتابي. وقال مالك لا يجوز فرق بين صيده وذبيحته.» (٤٤) ، وقال ابن جزي في قوانينه «يجوز صيد المسلم انفاقا ولا يجوز صيد المجوسي ، وفي صيد الكتابي ، ثلاثة أقوال : الجواز : والمنع والكراهة» (٤٥). وأما صيد البحر ، فحلال مطلقا ، ولو بصيد كافر ، إذ لا يزيد على كونه ميتة ، وميتته حلال.

المسألة الثانية ، هل يباح نكاح نساء النصارى أم لا؟ والجواب على ذلك

وأما المسألة الثانية وهي هل يباح لنا نكاح نسائهم؟ فالجواب عنها ، أنه يباح لنا نكاح نسائهم على الجملة ، لقوله تعالى عاطفا على الحلال : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ)(٤٦) ، قال الخازن في تفسيره ما نصه : يعني ، وأحل لكم المحصنان من أهل الكتاب ، اليهود والنصارى ، قال ابن عباس : يعني الحرائر من أهل الكتاب. وقال الحسن والشعبي والنخعي والضحاك ، يريد العفائف من أهل الكتاب.

__________________

(٤٢) سورة المائدة ، الآية ٩٤.

(٤٣) سورة المائدة الآية ٤.

(٤٤) البحر المحيط ج ٣ ، ص ٤٢٩.

(٤٥) قواين الأحكام الشرعية ، ص ١١٦.

(٤٦) سورة المائدة الآية ٥.

٣٠٢

فعلى قول ابن عباس ، لا يجوز التزوج بالأمة الكتابية ، وهو مذهب الشافعي. قال : لأنه اجتممعع في حقها نوعان من النقصان : الكفر والرق. وعلى قول الحسن ومن رافقه ، يجوز التزويج بالأمة الكتابية ، وهو مذهب أبي حنيفة ، لعموم هذه الآية ، واختلف العلماء في حكم هذه المسألة ، فذهب جمهور الفقهاء إلى جواز التزويج بالذميات من اليهود والنصارى. روي أن عثمان بن عفان تزوج نائلة بنت الفرافصة (٤٧) على نسائه ، وهي نصرانية ، وأن طلحة بن عبيد الله تزوج يهودية. وروي عن ابن عمر كراهية ذلك ، ويحتج بوله تعالى : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ) ، وكان يقول : لا أعلم شرطا أعظم من قولها إن ربها عيسى. وأجاب الجمهور عن قوله : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ)(٤٨) بأنه عام ، خص بهذه الآية ، فأباح الله تعالى المحصنات من أهل الكتاب ، وحرم من سواهن من أهل الشرك. وقال سعيد بن المسيب والحسن : يجوز التزويج بالذميات والحربيات من أهل الكتاب ، لعموم قوله تعالى : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ)(٤٩). وأجاب جمهور العلماء بأن ذلك مخصوص بالذميات دون الحربيات من أهل الكتاب. قال ابن عباس : من نساء أهل الكتاب من تحل لنا ومنهن من لا تحل لنا ، وقرأ» قاتلوا الذين لا يومنون بالله» إلى قوله : (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ)(٥٠) ، والمراد بهم أهل الذمة دون أهل الحرب من أهل الكتاب» (٥١).

وقال ابن حيان في تفسيره البحر ، ما ملخصه : والظاهر جواز نكاح الحربية الكتابية لاندارجها في عموم المحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم. وخص ابن عباس هذا العموم بالذمية ، فأجاز نكاح الذمية دون الحربية ، ولم يفرق غيره من الصحابة بين الحربيات والذميات ، ولا خلاف بين السلف وفقهاء الأمصار في إباحة

__________________

(٤٧) الفرافصة : هو صهر عثمان بن عفان ، السيرة النبوية ، ج ١ ص ٧٧.

(٤٨) سورة البقرة الآية ٢٢١.

(٤٩) سورة المائدة الآية ٥.

(٥٠) سورة التوبة الآية ٢٩.

(٥١) تفسير الخازن ص ١٥ ـ ١٦.

٣٠٣

نكاح الحرائر الكتابيات ، واتفق على ذلك الصحابة إلا ما روى عن ابن عمر» (٥٢). ومشهور المذهب المالكي في المسألة ، هو ما جلبه خليل في مختصره حيث قال : «والكافرة إلا الحرة الكتابية بكره ، وتاكد بدار الحرب ، إلخ». قال شارحه الخرشي ما ملخصه : وحرم نكاح الكافرة إلا إذا كانت حرة كتابية ، فإنه يجوز نكاحها مع الكراهة على قول مالك. وقال ابن القاسم : يجوز بلا كراهة ، لقوله تعالى : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) ، أي الحرائر. وإنما كره مالك ذلك في بلد الإسلام لتغذيها بالحمى وهو يلابسها ، وربما تموت وهي حامل ، فتدفن في مقابر الكفار ، وتأكدت الكراهة في تزويجها بدار الحرب لأنه لا يامن تربية ولده على دينها ، ونحو ذلك. وفي الدسوقي ما نصه : «والحاصل أن غير الكتابيات من الكفار لا يجوز وطؤهن لا بنكاح ولا بملك ، والكتابيات يجوز وطء حرائرهن بالنكاح وإمائهن بالملك فقط لا بالنكاح ، ولو كان سيدها مسلما ، فكل من جاز ولاء حرائرهم بالنكاح من غير المسلمين جاز ولاء إمائهم بالملك فقط ، وكل من منع ولاء حرائرهم بالنكاح ، منع ولاء إمائهم ولو بالملل» (٥٣).

فتبين مما قررنا أن نكاح الحرة الكتابية ، ذمية كانت أو حربية مباح ، والله الموفق للصواب ، وإليه المرجع والمآب.

المسألة الثالثة ، هل تجوز رقيا مرضاهم؟

والجواب عن ذلك والكلام في حكم الحرز

وأما المسألة الثالثة ، وهي هل تجوز لنا رقيا مرضاهم أم لا؟ فالجواب عنها ، أن الرقيا من حيث هي بكتاب الله وأسمائه ونحو ذلك مما يفهم معناه ، لا خلاف في جوازها ، وقد ورد ما يقتضي عموم الجواز للمسلم والكافر ، قال الخازن في تفسيره عند المعوذتين ما نصه : «وأما الرقى والتعاويذ ، فقد انعقد الإجماع على جواز ذلك ، إذا كان بآيات من القرآن ، أو إذا كانت وردت في الحديث. ويدل على صحته الأحاديث الواردة في

__________________

(٥٢) البحر المحيط ج ١١ ص ١٦٣ ـ ١٦٥.

(٥٣) شرح مختصر خليل للخرشي ، ج ٣ ص ١٨٨ ط ، ٣ المطبعة الأميرية بولاق.

٣٠٤

ذلك ، منها حديث أبي سعيد الخدري ، أن جبريل أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : يا محمد ، اشتكيت؟ قال : نعم. قال بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك ، ومن شر كل نفس أو عين حاسد ، الله يشفيك ، بسم الله أرقيك. ومنها ما روي عن عبيد بن رفاعة الزرقي أن أسماء بنت عميس ، قالت : يا رسول الله ، إن ولد جعفر تسرع إليهم العين ، أفسترقي لهم؟ قال : نعم فإنه لو كان شيء سابق القدر ، لسبقت العين ، أخرجه الترمذي. وقال : حديث صحيح ، وعن أبي سعيد الخدري ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كان يتعوذ ، ويقول : أعوذ بالله من الجان وعين الإنسان ، فلما نزلت المعوذتان ، أخذ بهما وترك ما سواهما». أخرجه الترمذي ، وقال : حديث حسن غريب. فهذه الأحاديث تدل على جواز الرقية ، وإنما المنهي عنه منها ما كان فيه كفر أو شرك أو ما لا يعرف معناه مما ليس بعربي ، لجواز أن يكون فيه كفر. والله أعلم» (٥٤).

وقال ابن حيان في تفسيره البحر ، عند قوله : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)(٥٥) ، ما نصه : «وقال مالك : لا بأس بتعليق الكتب التي فيها أسماء الله تعالى على أعناق المرضى على وجه التبرك بها إذا لم يرد معلقها بذلك مدافعة العين. وهذا معناه ، قبل أن ينزل به شيء من العين ، أما بعد نزول البلاء ، فيجوز رجاء الفرج والبرء من المرض كالرقى المباحة التي وردت السنة بها من العين وغيرها ،. وقال ابن المسيب : يجوز تعليق العوذة في قصبة أو رقعة من كتاب الله ، ويضعه عند الجماع ، وعند الغائط ، ورخص الباقر في العوذة تعلق على الصبيان وكان ابن سيرين لا يرى باسا بالشيء من القرآن يعلقه الإنسان» (٥٦).

وقال ابن جزي في آخر قوانينه الفقهية ما نصه : «المسألة الثامنة في الرقى والدعاء للمريض ، ورد في الحديث الصحيح ، رقية اللديغ بأم القرآن ، وأنه برء. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، من عاد مريضا ، لم يحضره أجله فقال عنده سبع مرات : أسأل الله الكريم رب

__________________

(٥٤) تفسير الخازن ، ج ٤ ص ٣٢٤.

(٥٥) سورة الإسراء ، الآية ٨٢.

(٥٦) البحر المحيط ، ج ٦ ص ٧٤. مطبعة السعادة ، مصر ١٣٢٨ ه‍.

٣٠٥

العرش العظيم أن يشفيك ، عافاه الله من ذلك المرض. وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا عاذ مريضا ، قال : اذهب الباس رب الناس ، واشف ، فأنت الشافي ، شفاء لا يغادر سقما. وأخبر صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أن جبريل عليه‌السلام ، رقاه بهذه الرقية : بسم الله أرقيك ، والله يشفيك من كل داء فيك ، ومن شر النفاثات في العقد ، ومن شر حاسد إذا حسد ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعوذ الحسن والحسين ـ رضي‌الله‌عنهما ـ فيقول : أعيذكما بكلمات الله التامة من شر كل شيطان رجيم وهامة ، ومن شر كل عين لامة. ويقول هكذا كان أبي إبراهيم يعوذ إسحاق وإسماعيل عليهما‌السلام ، وروينا حديثا مسلسلا في قراءة آخر سورة الحشر مع وضع اليد على الراس ، أنها شفاء من كل داء ، إلا السام ، والسام هو الموت ، وقد جربناه مرارا عديدة ، فوجدناه حقا» (٥٧).

وقال ابن جزي أيضا في قوانينه قبل هذا بيسير ما نصه : «المسألة الخامسة .. يجوز تعليق التمائم ، وهي العوذة التي تعلق على المريض والصبيان ، وفيها القرآن وذكر الله تعالى إذا خرز عليها جلد ، ولا خير في ربطها بالخيوط. هكذا نقل القرافي ، ويجوز تعليقها على المريض والصحيح ، خوفا من المرض والعين عند الجمهور وقال قوم : لا يعلقها الصحيح ، وأما الحروز التي تكتب بخواتم وكتابة غير عربية ، فلا تجوز لمريض ولا لصحيح ، لأن ذلك الذي فيها يحتم أن يكون كفرا أو سحرا» (٥٨)

مطلب بعض ما يرقى به وفيه الكلام على الاكتواء

والحقنة وزيادة كلام على التمائم والحروز ونحوها

وقال الإمام أبو محمد بن أبي زيد القيرواني في رسالته ما نصه : «ولا باس بالاكتواء والرقى بكتاب الله وبالكلام الطيب ، ولا بأس بالمعاذة تعلق ، وفيها

__________________

(٥٧) قوانين الأحكام الشرعية ، ص ٤٨٦ ، ٤٨٧.

(٥٨) نفسه.

٣٠٦

القرآن» (٥٩). قال شارحه الشيخ أحمد النفراوي (٦٠) المالكي ما نصه : «ولا بأس بالاكتواء ، أي يجوز على قول الأكثر بناء على المشهور من أن الأفضل استعمال الأخذ في الأسباب ، لأنه لا ينافي التوكل كما قدمنا بسطه. ومن المتفق على عدم جواز التداوي به ، الاكتحال بالعذرة للرمد. وظواهر نصوص الأئمة جواز كشف العورة للتداوي. وقد وقع الخلاف في الحقنة. وسئل مالك في مختصر ابن عبد الحكم عنها ، فقال لا باس بها ، لأنها ضرب من الدواء ، وفيها منفعة للناس ، وقد أباح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم التداوي ، وأذن فيه ، فقال : ما أنزل الله داء إلا وله دواء ، علمه من علمه ، وجهله من جهله ، فتداووا عباد الله. وتحمل النقول المخالفة لهذا على حالة الاختيار والجواز على حالة الاضطرار ، فيتفق النقلان ، ثم شرع في بيان ما يرقى به ، فقال : ولا باس بالرقى ، جمع رقية بكتاب الله ، ولو بآية منه ، قال تعالى : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ). ويرقى بالفاتحة ، وآخر ما يرقى به منها وإياك نستعين ، ومما يرقى به كثيرا آيات الشفاء الست. وقد قال بعض الشيوخ ممن عرف بالبركة ، من كتب ، الله لطيف بعباده ست عشرة مرة في إناء نظيف وقرأ عليها آيات الشفاء ، ومحاها بماء النيل ، وسقاه لمن به مرض مثقل فإن قدر له الحياة شفاه الله بأسرع وقت ، وإن قدر له الموت سكن ألمه ، وهون عليه الموت ، وقد جرب مرات كثيرة فصح ، وآيات الشفاء ست : الأولى : (وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ)(٦١). الثانية : (وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ)(٦٢) الثالثة : (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ ، فِيهِ شِفاءٌ

__________________

(٥٩) الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني ص ٣٧٠ خ ٢ مطبعة مصطفى محمد المكتبة التجارية ، ١٣٥٥ ه‍.

(٦٠) أحمد النفراوي : هو أحمد بن غنيم بن سالم بن مهنا النفراوي. ولد ببلدة نفرة ونشأ بها ، ثم حضر إلى القاهرة ، فتفقه على اللقاني ، ثم لازم عبد الله الزرقاني ومحمد الخرشي ، توفي سنة ١١٢٥ ه‍. من تآليفه : الفواكه الدواني على رسالة أبي زيد القيرواني ، وهو كتاب في الفقه المالكي طبع بمصر سنة ١٣٣١ ه‍. في ثلاثة أجزاء ، وهو المقصود هنا.

(٦١) سورة التوبة الآين ١٤.

(٦٢) سورة يونس آية ٥٧.

٣٠٧

لِلنَّاسِ)(٦٣). الرابعة : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)(٦٤) الخامسة : (وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ)(٦٥) السادسة : (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ)(٦٦) .. ولا بأس أيضا بالرقية بالكلام الطيب من غير القرآن ، حيث كان عربيا ومفهوم المعنى ، كالمشتمل على ذكر الله ورسوله ، أو بعض الصالحين ، ولعل هذا هو المراد بالطيب لا الحلال ، لعدم مناسبة المقام. وأما ما لا يفهم معناه ، فلا تجوز الرقية به ، لأن الإمام لما سئل عن الأسماء العجمية ، قال : وما يدريك أنها كفر ، ومقتضى ذلك أن ما جهل معناه لا يجوز الرقية به ، ولو جرب وصح ، وكان الإمام ابن عرفة يقول : إن تكرر النفع به تجوز الرقية به ، ولا شك أن كل ما تحقق النفع به لا يكون كفرا ، ومن ذلك ما يعمل لحل المربوط ، ولتسكين عقل المصروع وإخراج الجان أو إزالة النزيف ، ولو حديدا كخاتم سليمان يكتب عليه بعض أسماء ، وتحمل كراهة مالك على ما لم يتحقق النفع به. ويجوز أخذ العوض على الرقية ، كما في قضية الرهط المشهورة في باب الجعل ، حين لدغ كبيرهم ورقاه بعض أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام ، ولا بأس بالمعاذاة بالذال المعجمة وهو التميمة المعروفة عند العامة بالحرز ، تعلق في عنق الشخص أو ذراعه ، وفيها بعض أسماء ، وشيء من القرآن ، وربما تعلق على بعض الحيوانات ، ويجوز حملها ولو كان الحامل لها حائضا أو جنبا ، ولو كثر ما فيها من القرآن ، حيث كانت مستورة. وأما بغير ساتر ، فلا يجوز ، إلا مع قلة ما فيها من القرآن ، كالآية ونحوها ، ولا فرق في جميع ذلك بين المسلم والكافر ، حيث كانت بساتر يقيها من وصول الأذى. قال خليل : «وحرز بساتر وإن لحائض» (٦٧). قال شراحه : ولو كافرا أو بهيمة. ولا ينبغي تعليقها من غير ساتر إلا مع قلة ما فيها من

__________________

(٦٣) سورة النحل ، آية ٦٩.

(٦٤) سورة الإسراء ، الآية ٨٢.

(٦٥) سورة الشعراء ، آية ٨٠.

(٦٦) سورة فصلت ، آية ٤٤.

(٦٧) الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني ج ٢ ، ص ٣٧٠ ـ ٣٧١.

٣٠٨

القرآن كما قدمنا ، وكان الحامل لها مسلما». (٦٨)

ذكر حديث الرهط عن أصحابه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع

رئيس الحي الملدوغ وما دل عليه من الحكم

وما أشار إليه من قصة الرهط الذين لذغ كبيرهم ورقاه بعض أصحابه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مستدلا به على جواز أخذ العوض على الرقية صحيح ، كما أن تلك القضية تدل أيضا على جواز نفس الرقية للكافر ، لإقراره صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليها ، وهي شهيرة في كتب الحديث والفقه ، ورواها البخاري في صحيحه ، فقال في بعض رواياته ما نصه عن أبي سفيان : «إن رهطا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، انطلقوا في سفرة سافروها ، حتى نزلوا بحي من أحياء العرب فاستضافوهم ، فأبوا أن يضيفوهم ، فلدغ سيد ذلك الحي ، فسعوا له بكل شيء لا ينفعه شيء ، فقال بعضهم : لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا بكم ، لعله أن يكون عند بعضهم شيء ، فأتوهم ، فقالوا : يا أيها الرهط ، إن سيدنا لدغ فسعينا له بكل شيء لا ينفعه ، فهل عند أحد منكم شيء؟ فقال بعضهم : نعم ، والله إني لأرقي ولكن والله ، قد استضفناكم فلم تضيفونا ، فما أنا براق لكم حتى تجعلوا لنا جعلا فصالحوهم على قطيع من الغنم ، فانطلق ، فجعل يتفل عليه ويقرأ ، الحمد لله رب العالمين ، حتى لكأنما نشط من عقال ، فانطلق يمشي ، ما له قلبة ، قال : فأوفوهم جعلهم الذي صالحوهم عليه ، فقال بعضهم : أقسموا ، ، فقال الذي رقى : لا تفعلوا حتى نأتي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنذكر له الذي كان ، فننظر ما يأمرنا ، فقدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فذكروا له ، فقال : وما يدريك أنها رقية ، أصبتم ، أقسموا ، واضربوا لي معكم بسهم» (٦٩).

وفي رواية عن خارجة بن الصلت ، عن عمه ، قال : أقبلنا من عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأتينا على حي من أحياء العرب ، فقالوا : إنكم جئتم من عند هذا الحبر ، وهذا صريح في كفر هذا الحي ، وكفى بذا دليلا على جواز رقية الكافر ، وكفى من

__________________

(٦٨) نفس المصدر ج ٢ ، ص ٣٧٠ ـ ٣٧١.

(٦٩) صحيح البخاري ، ج ٣ ص ١٢١ ، باب الإجارة. طبعة دار إحياء التراث العربي. د. ت.

٣٠٩

الدليل أيضا على صحة النفراوي المتقدم في التميمة ، ولا فرق في جميع ذلك بين المسلم والكافر إلخ.

قضية عمر رضي‌الله‌عنه مع قيصر ملك الروم

قضية سيدنا عمر بن الخطاب الشهيرة مع قيصر ملك الروم ، وقد أوردها شيخنا الشيخ ماء العينين في كتابه المسمى «إفادة الأمير والرعية والوزير» (٧٠) بما نصه : «وكتب قيصر ملك الروم إلى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أن بي صداعا لا يسكن ، فابعث لي دواء ، إن كان عندك ، فإن الأطباء عجزوا عن المعالجة ، فبعث عمر رضي‌الله‌عنه له قلنسوة ، فكان إذا وضعها على رأسه ، سكن صداعه ، فتعجب منه ، ففتش في القلنسوة ، فإذا فيها كاغد مكتوب عليه : بسم الله الرحمان الرحيم لا سوى ذك ، فقال عند ذلك قيصر : ما أكرم هذا الدين ، شفاني الله تعالى بآية واحدة منه» (٧١).

مطلب جواز الرقيا لليهود وقضية الوالد

العتيق مع علماء فاس في مقتضى ذلك

وقد دفعت قضية من قبيل هذه المسألة لوالدنا المرحوم بالله العتيق بن محمد فاضل ـ رضي‌الله‌عنه ـ مع بعض علماء فاس ، استطردها العلامة مريد شيخنا الشيخ ماء العينين الواصل ، الكامل ، الشيخ أحمد بن الشمس في كتابه «النفحة الأحمدية» فقال فيه ما نصه : «استطراد وإيراد لبعض المراد ، مطلب جواز الرقى لليهود. قال ابن

__________________

(٧٠) إفادة الأمير والرعية والوزير بأسرار فاتحة الكتاب المنير : كتاب في الأسرار ، للشيخ ماء العينين ، يتكون من مقدمة وثلاثة أبواب وخاتمة ، كان الفراغ من تأليفه سنة ١٣٠٨ ه‍. توجد منه نسختان خطيتان الأولى في ٢٦ ورقة ضمن مجموع يوجد بالخزانة الصبيحية بسلا تحت رقم ١٦٥٦ والثانية بالخزانة العامة بالرباط تحت رقم د ١٥٩٧.

(٧١) إفادة الأمير والرعية والوزير ، ١٧ ، مخطوط ، د ١٥٩٧.

٣١٠

عم شيخنا ـ أدام الله عزه وحياته في العافية ـ وابن أخته العلامة المشارك الورع ، دفين فاس الجديد ، سيدي محمد العتيق ـ رحمه‌الله ـ مقرظ بعض حواشي الفقيه سيدي المهدي الوزاني (٧٢) ، لما أنكر بعض علماء المغرب ـ وكان قاضيا على بعض الفقراء معه رقى يهودية ، وهدده القاضي بالحبس ، وقال : إنه فعل منكرا ، واختفى المريد عنه أياما ، وظنوا أنه هرب ، وألف تأليفا ، ووجده يخطب يوم الجمعة ، ودفعه له ، ووجد الحال سيدي محمد العتيق متخليا عن مكانهم ، وأخبر بالقضية هذه القصيدة وأرسلها للقاضي ، ولما رآها سلم ، ورجع ، ومطلع القصيدة :

[الطويل]

أيا علماء الدين من كان منكرا

فلا ينكرن إلا الذي كان منكرا

فما وجه إنكار لفعل موافق

لما فعل الفاروق يا علما القرا

وقد كان خير الخلق صلى إلهنا

عليه الصحب من قبل قرّرا

فتهديدكم بالحبس شخصا مقلّدا

أولأئكم الأقمار ظلم بلا امترا.

إلى أن قال :

ألا فاحكموا بالحق في الناس كلّها

ولا تتركوا في الدين شيئا مغيرا

__________________

(٧٢) من علماء المغرب المبرزين في الفقهيات والنوازل الوقتية وأحكام المعاملات ، ولد سنة ١٢٦٦ ه‍ ، وتلقى العلم على يد مجموعة من العلماء الذين أجازوه واعترفوا له بالفضل ، منهم الشيخ ماء العينين ، توفي سنة ١٣٤٢ ه‍. ألف عدة مؤلفات منها : المعيار الجديد في عشرة أجزاء ، والنوازل في أربعة أجزاء ، وتأليف في الرد على محمد عبده في مسألة منع التوسل إلى الله بالأولياء والأنبياء وموافقته في إباحة ذبيحة الكتابي ، وغيرها.

٣١١

وخلّوا أناسا لا تبيع لدينها

ولا تبتغي فيه الجدال ولا المرا

وحسبهم زجرا عن الفحش والخنا

مخافتهم من كان أقوى وأقدرا

وقد وقعت له في سفر ، قبل سفره الذي توفى فيه وأجابه أحد الفقهاء الذين مع القاضي نيابة عنه ، وهو الفقيه الأديب السيد محمد بن آجّ ، بهمزة مفتوحة ممدودة وجيم مفتوحة مشددة ، التمسماني ـ رحم الله الجميع ، سالت عنهم ، وقيل لي إنهم صاروا إلى رحمة الله ، «بعد الحمد لله ، والصلاة عليه ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعلى آله ، وعلى السيادة التي يقصر دونها كل متطاول ويخضع لعلو منصبها العالم والجاهل ، المعنية بقول الصادق الذي بين كتفيه شامة ، المنزل عليه لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة : «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم إلى يوم القيامة» سلام الذّ عند النفوس من النسيم ، مختوم ختامه مسك ، ومزاجه من تسنيم ، وبعد فقد وافتنا خريدة تزف زفيف الأقحوانة في نداها ، قد اعتدل غزل طعمتها وسداها :

[البسيط]

إذا تأملتها لم تدر من لطف

راحا بلا قدح شربت أم قدحا

أنبأت عن لطافة راقمها بأضوإ شهاب ، وأطفأت نار الجهل ، وقد كانت في توقد والتهاب.

[الوافر]

فقل ما شئت فيها من مديح

تجدها فوق ما نطق المديح

لو استطعمتها لكانت قوتا أو تجسدت لكانت للعيان ياقوتا.

٣١٢

[الوافر]

كتاب في سرائره سرور

مناجيه من الأحزان ناج

كراح في زجاج بل كروح

سرت في جسم معتدل المزاج

ثم إن الحق ما ذكرتم وبنيتم ، وفصلتم وأجملتم ، وإن أبى الأبى ، لأنه فعل نبي وصحابي.

[الطويل]

وهل ترك الإنسان في الدين غاية

إذا قال قلّدت النبي محمدا

والعذر لفقيهنا ، فلعله لم يطلع على المسألة تفصيلا ، مع شغل باله بالعلة القائمة فيه ، وغضوا الطرف واصفحوا.

[الطويل]

فسامح ولا تستوف حقّك كلّه

وابق فلم يستوف قطّ كريم

وعلى المحبة الصافية الود في القرب والبعد. والسلام ، وعلى المحبة والإكرام ه.

من خط الناسخ ، قوبل على خط صاحب الجواب ، جزاهم الله خيرا ، لرجوعهم للحق ، قال :

[الخفيف]

ليس من أخطأ الصواب بمخط

إن يؤب لا ولا عليه ملامه

إنما المخطئ المسيء من إذا ما

وضح الحقّ لجّ يحمي كلامه

٣١٣

حسنات الرّجوع تذهب عنه

سيئات الخطا وتنفي الملامه (٧٣)

انتهى من النفحة الأحمدية بلفظه.

تنبيه في جواز رقية الكتابي للمسلم إذا كانت بكتاب الله ونحوه

تنبيه ، وكذلك تجوز رقية الكتابي المسلم إذا كانت بكتاب الله ونحوه من ذكر الله مما هو مفهوم. ففي صحيح موطأ مالك ، أن أبا بكر الصديق دخل على عائشة وهي تشتكي ، ويهودية ترقيها ، فقال أبو بكر : أرقيها بكتاب الله ، قال شارحه محمد الزرقاني ما نصه : «عقب كتاب الله القرآن إن رجى إسلامها أو الثوراة ، إن كانت معربة بالعربي أو أمن تغييرهم لها ، فتجوز الرقية به وبأسماء الله وصفاته ، واللسان العربي ، وبما يعرف معناه من غيره بشرط اعتقاد أن الرقية لا تؤثر بنفسها ، بل بتقدير الله. قال عياض : اختلف قول مالك في رقية اليهودي والنصراني المسلم ، وبالجواز قال الشافعي ، قال الربيع : سألت الشافعي عن الرقية ، فقال : لا باس أن ترقى بكتاب الله وبما يعرف من ذكر الله ، قلت : أيرقي أهل الكتاب المسلم؟ قال : نعم إذا رقوا بكتاب الله.

فتحصل مما تقرر جواز الرقية مطلقا إذا كانت بكتاب الله وأسمائه ونحو ذلك مما هو معروف ، فحاصل جواب المسائل الثلاث بالجملة الجواز ، والله الهادي إلى الصواب ، وإليه الرجوع والمآب.

ولما سمع السائل الجواب ، قنع به واطمأن له ، ودعا بخير ، نرجوه تعالى أن يرزقنا العلم والعمل به والإخلاص ، وأن لا يكلنا إلى أنفسنا ولا إلى أعمالنا ، وأن يقابلنا بفضله ويجعلنا من ضنائن خلقه آمين.

__________________

(٧٣) النفحة الأحمدية : الشيخ أحمد بن الشمس ج ٢ ، ص ٥٣ ـ ٥٤. المطبعة الجمالية ، مصر ١٣٣٠.

٣١٤

مطلب مدة إقامتنا بكناري بعد الشيخ

مربيه ربه وركوبنا منها ونزولنا بطرفاية

ولنرجع إلى ما كنا بصدده من أمر الرحلة ، وذلك أنا بعدما أقمنا ثلاثة أيام بكناري ، بعد ذهاب الأستاذ الشيخ مربيه ربه ، ركبنا يوم الأحد السابع والعشرين من المحرم الطيارة ، ولبثنا فيها نحو ساعة وربع ، فنزلنا صبيحة ذلك اليوم بمدينة الطرفاية عند من هناك من الأهليين ، وأقام لنا أهل المدينة وقت نزولنا حفلة هائلة وأبهة شاملة ، وأظهروا من الأفراح والمسرات ما لا مزيد عليه ، ووجدناهم متهيئين على ترتيب عجيب وزيّ حسن غريب ، على حسب مراتبهم ، وتفاوتهم في مناصبهم. وعندما استقرت الطيارة ، أقبلوا علينا من ل جهة مسلمين ومهنئين. وأول من لقينا سيادة الشيخ الطالب اخيار (٧٤) بن شيخنا الشيخ ماء العينين ، وكان قدم قبل مقدمنا على الطرفاية من جهة أهله في بلاد مرتان لزيارة إخوته وأهاليه والسلام عليهم. ولقينا معه سيادة أخيه الشيخ محمد الأغظف ، فسلمنا على الشيخين ، والتمسنا منهما صالح الأدعية ، فدعوا لنا بخير ، وهنآنا بحج بيت الله الحرام وزيارة نبيه عليه الصلاة والسلام وبرجوعنا ـ لله الحمد ـ سالمين ظافرين ، ثم سلمنا على سائر الأقارب والإخوان والأحباء وجميع أهل المدينة ، ثم سرنا صحبة الشيخين المذكورين إلى دار الأستاذ الشيخ مربيه ربه ، وما زالت تدور بنا الصفوف ، وتضرب بجوانبنا الدفوف ، والناس محدقة بنا في زحام ، رافعين للتباشير فوق الرؤوس والدور الرايات والأعلام ، حتى دخلنا دار الأستاذ الشيخ مربيه ربه مع أخويه المذكورين ومعنا رؤساء أهل البلد ، فتلقى لنا بما لا يوصف من الإجمال والإكرام والإكبار والإعظام ، وبذل ملاذ الشراب والطعام كما هو المألوف من كرمه في سائر الأيام.

__________________

(٧٤) الطالب اخيار : ولد سنة ١٢٩١ ه‍ ١٨٧٤ م بالجنوب المغربي ، بعد بلوغه مرتبة الشيوخ بعثه والده الشيخ ماء العينين إلى بلاد القبلة لنشر الفاضلية ، وظل بها إلى أن توفي في مدينة اندر من بلاد السنغال سنة ١٣٦٢ ه‍ ١٩٤٣ م له تآليف كثيرة ، وأشعار مختلفة ما زالت كلها مخطوطة ، أنظر ترجمته في : الأبحر المعينية ، ج ١ و ١٣٤ ، سحر البيان ، و ١٢٥.

٣١٥

مطلب ذكر الآيات المشاهدة في الحرم

المذكورة في قوله تعالى «فيه آيات بينات»

فلما اطمأن بنا المجلس التفت علينا ـ وفد الحج ـ الأستاذ الشيخ محمد الأغظف بن شيخنا الشيخ ماء العينين ، وقال : حدثونا ببعض الأعاجيب التي شاهدتم في رحلتكم هذه إلى الحرمين ، فقال له جامع الرحلة ما العينين بن العتيق : أما أعاجيب الاختراعات العصرية ، فهي مشاهدة في كل بلد ، وكأن أمرها صار بديهيا عند الناس ، فلا نطيل بذكرها ، لكن من أعجب ما رأينا الآيات البينات التي ذكرها الله تالى في قوله : («إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ)(٧٥) إلخ فقد كنا نومن بها قبل مشاهدتها ، وقد شاهدنا بحمد الله منه كثيرا.

[الوافر]

ولكن للعيان لطيف معنى

لذا سأل المشاهدة الخليل

فمن تلك الآيات أن الطير لا يطير فوق الكعبة في الهواء ، بل ينحرف عنها إذا وصل إليها على كثرته يمينا وشمالا ، ومنها أن الوحوش لا يوذي بعضها في الحرم ، حتى الكلاب لا تهيج الظباء ولا تصطادها ، ومنها أن الطير إذا مرض منه شيء استشفى بالكعبة ، ومنها تأثير قدمي إبراهيم عليه‌السلام في الحجر الذي كان يرفع عليه قواعد البيت ، فكلما علا الجدار ارتفع الحجر به في الهواء ، وذلك الأثر باق إلى اليوم. وقد نقلت ذلك كافة العرب في الجاهلية على تطاول القرون ومرور الأعصار ، كما قال في ذلك أبو طالب :

وموطئ إبراهيم في الصخر رطبة

على قدميه حافيا غير ناعل

ومنها أن المسجد الحرام يسع المئين من الألوف ، بل كل من رام دخوله يسعه مما

__________________

(٧٥) سورة آل عمران ، آية ٩٦.

٣١٦

يضيق به متسع الفضاء ، وكذلك يسعه المطاف ، فتطوف الألوف العديدة في ساعة واحدة ولا ترى أحدا يثنيه عن الطواف ازدحام الناس فيه ، ثم تشرب من ماء زمزم كذلك ، وتسعى بين الصفا والمروة كذلك ، ومنها جباية الأرزاق إلى مكة ، وهي بواد غير ذي زرع ، وما من فاكهة ولا طعام ولا ثمرة إلا وهي مشحونة منها في كل وقت. ومنها أن ماء الحمل لا يدخل الحرم على كثرة الأمطار وغزارتها ، ومنها دلالة عموم المطر إياه من جميع جوانبه على خصب آفاق الأرض ، فإن كان المطر من جانب أخصب الأفق الذي يليه ، إلى غير ذلك مما لا يحصى ، فاستحسن الشيخ ـ أدام الله حياته ـ جوابي له ، وتعجب مما ذكرت ، وقال الحمد لله الذي أنعم عليكم بمشاهدة ذلك عيانا ، تقبل منا ومنكم الأعمال ، وأصلح بنا ولكم الأحوال والمئال.

توديع جامع الرحلة لمن من الأهلين بالطرفاية

وركوبه ونزوله عند أهله بحمد الله في الطنطان

ثم بتنا ليلة الإثنين ، وأقمنا يومها بالطرفاية في دار الأستاذ الشيخ مربيه ربه مع من هناك من الأقرباء والأهلين ، فلما كانت صبيحة يوم الثلاثاء التاسع والعشرين من المحرم ، اجتمعنا ـ وفد الحجاج ـ عند الإمام الشيخ مربيه ربه مع أخويه المذكورين ومن هناك من الأهالي ، واشتركنا الدعاء ، وتوادعنا ليسير كل منا لموضعه ، ويبقى في الطرفاية من أهله بها ، فركب جامع الرحلة ما العينين بن العتيق تلك الصبيحة الطيارة ، ونزلنا وقت ارتفاع النهار يقرية الطنطان عند أهلنا هناك. وتلقى لنا سيادة الشيخ عبدات (٧٦) بن شيخنا الشيخ ماء العينين ومن هناك من الأحبة والقرابة وسائر أهل القرية ، مهنئين ، مستبشرين ، فرحين برجوعنا ـ بحمد الله ـ سالمين غانمين ، والحمد لله على ما أكرمنا به من تأدية مفروضية حج بيته المحرم ، وزيارة قبر نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وعلى منته علينا برجوعنا لأهلينا بسلامة ، وعلى ما أظهر فينا لشيخنا ماء العينين من دوام الكرامة.

__________________

(٧٦) سبقت ترجمته.

٣١٧

كرامة شيخنا الشيخ ماء العينين في كونه هو أول من حج من قبيلته

ورجع إلى أهله سالما ، وفي كون ذلك صار سببا لرجوع من حج منهم بعد

ذلك إلى أهله بحمد الله

وذلك أن من كراماته ، أنه أول من حج من قبيلة آل الجيه المختار ، ورجع إلى أهله سالما ، وقد كانوا قبله كل ما سافر منهم إلى الحج يموت في سفره قبل رجوعه لأهله حتى صار ذلك كأنه أمر معتاد عندهم مجرب ، لا طمع لهم في إياب من سافر للحج إلى أهله ، لكثرة موتهم في طريقه ، حتى أكرم الله شيخنا الشيخ ماء العينين ، بأن حج عام ١٢٧٤ ، ورجع ـ بحمد الله ـ سالما ، ففرحوا بذلك وعدوها كرامة له. وسبب ذلك ـ كما سمعته منه ، رضي‌الله‌عنه ـ أنه كان يوما جالسا بإزاء والده شيخنا الشيخ محمد فاضل بن مامين ، وهو صبي ، ووالده رضي‌الله‌عنه يقرئ بعض الحاضرين أحكام الحج ، قال شيخنا الشيخ ماء العينين رضي‌الله‌عنه : فتعلق خاطري بالحج ولم أتكلم ، فاطلع والدي على ما خطر بقلبي مكاشفة ، فالتفت إليّ وقال : يا ماء أعيننا ، إن قبيلتك آل الجيه المختار مما جربوا ، أنه ما حج أحد منهم ، ورجع إلى أهلك سالما ، قال شيخنا الشيخ ماء العينين رضي‌الله‌عنه : ومن ذلك الوقت ، لم أزل معلق البال بالحج حتى منّ الله علي به ، ورجعت إلى أبي وأهلي ـ لله الحمد ـ بسلامة.

قال جامع الرحلة ، مريده وحفيده ما العينين بن العيتق : ومن كراماته أيضا أنه حيث أكرمه الله بالحج والرجوع عن صار ذلك سببا لدوام انخرام تلك العادة. فقد حج بعد ذلك أبناء عمه وأولاده ، ورجعنا بحمد الله سالمين ، وصارت القبيلة تقول : ما هذا بأول بركة شيخنا الشيخ ماء العينين علينا ومزاياه لنا ، والحمد لله الذي بنعمته وجلاله تتم الصالحات وتتنزل البركات.

ذكر طرف منخبر قبيلتنا آل الجيه المختار حسبما أورده الشيخ محمد

الإمام في كتابه المسمى «الجوهر المنتخب» ، والكلام على موضوع كتابه

المذكور

ولا بأس بذكر طرف من خبر قبيلتنا المذكورة آل الجيه المختار ، حسبما ذكره العلامة الأستاذ الشيخ محمد الإمام بن شيخنا الشيخ ماء العينين في كتابه

٣١٨

المسمى» الجوهر المنتخب في تنقيح أخبار من في المغرب من العرب» (٧٧) ، وهو تأليف لا نظير له في منواله ، وشبيه له في عزيز مناله ، لما جمع بالروايات الصحيحة ، واستقصى من خبر العرب الذين في المغرب الأدنى والأوسط والأقصى ، وكيفية دخولهم بلاد المغرب ، ولما ضم إلى ذلك من خبر بني معقل وبني حسان من عرب الصحراء من أرض المغرب والسوس الأقصى وبلاد الشناجطة وتلك الأصقاع ، وتحقيق نسبهم ، وبيان شعوبهم وقبائلهم ، وكيفية توصلهم إلى المغرب من جزيرة العرب على التدريج. فقد أجاد في الموضوع ـ أطال الله حياته ـ وأفاد ، وأتى بما يشفي الغليل من فوائد الاستطراد. قال ـ أدام الله بقاءه ـ بعدما أشبع الكلام في مقتضى كتابه المذكور ونثر فيه من البدائع ما يزري بالدر المنثور ، ما نصه : «هذا ولتعلم أن موضوع كلامنا ، هو معرفة أصول تلك القبائل العربية من حيث العموم ، وصحة نسبهم ، وكيفية إتيانهم للبلاد المغربية. وأما أسماء قبائلهم الآن فقد تغير أكثرها للأسباب التي قدّمنا أنها ينشأ عنها تغيير الأسماء ، لكن كل قبيلة أدرى بمن ترفع إليه نسبها من الأصول المتقدمة التي صحّ إتيانها للبلاد ، فيسأل عن كل قبيلة علماؤها ، والناس مصدقون في أنسابهم ، وسأذكر لك نموذجا من ذلك فيما يخص بنا آل الجيه المختار بصفتنا إدريسيين»

مطلب كلام المؤرخ ابن خلدون والسجلماسي

على أجدادنا الإدريسيين وسبب انتقالهم من وطنهم

قال ابن خلدون في تاريخه المسمى «كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر» ، حيث تكلم على الأدارسة : ليس في المغرب ، فيما نعلمه من أهل هذا البيت الكريم ، بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، من بلغ في صراحة نسبه ووضوحه مبالغ أعقاب إدريس من آل الحسن ، فكبراؤهم من أهل هذا العهد بفاس ، بنو عمران ، ولد يحيى الجوطي بن

__________________

(٧٧) «الجوهر النتخب في تنقيح أخبار من بالمغرب من العرب» كتاب في التاريخ والأنساب ، لا يزال مخطوطا ، توجد نسخته الأصلية بخزانة ابن مؤلفه الشيخ محمد المصطفى.

٣١٩

محمد بن يحيى العوام ابن القاسم بن إدريس ، وفي ناحية الجنوب وبدوه والسودان أولاد يحيى الأكبر الذي يقال له بلسان البربر جلجم ، وأولاد محمد هم المشهورون ببلاد سيس في أتوات» ، انتهى كلام ابن خلدون (٧٨).

قال السيد محمد بن أحمد الجلجمي نسبا ، السجلماسي وطنا بعدما ساق كلام ابن خلدون : «رأيت في نسخة الآباء أنه ثبت عندنا أن أبناء العربية أخوال مولانا اسماعيل خرج معهم ابن عمنا يقال له باللسان البربري الجيه المختار ، وباللسان العربي الطالب المختار في أيام فتنته مع السلطان بودميعة السملالي الحسني في القرن العاشر بعد أن فسدت عصبية آبائه في بلاد السودان ، بسبب فتنة بعض ثوار العجم المفسدين ، فطلع إلى الصحاري ، وبقي هناك مع العرب ، ولم يزل أبناء عمه بعده في الشهبة وما يليها من بلاد السودان إلى الان «. ه كلام السجلماسي.

قال جامعه ـ عفا الله عنه تعالى ـ : أما أن الجيه المختار هو الأب الخامس لوالدنا شيخنا الشيخ ماء العينين ، رضي الله تعالى عنه وأرضاه ، فإنه ابن شيخنا الشيخ محمد فاضل ابن الشيخ محمد الأمين ، الملقب مامين بن الطالب أخيار بن الطالب محمد بن الجيه المختار المذكور ، وبقية النسب إلى مولاي إدريس فإلى الحسن سبط رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مشهورة نظما ونثرا.

قصيدة العلمي في سلسلة نسبنا من شيخنا

ماء العينين إلى رسول الله صلى عليه وسلم

وقد تعدد طبعها بالمطبعة المصرية والفاسية في نظم الشريف مولاي أحمد بن عبد المولى العلمي ، المطبوع في أول صحيفة من نسختي تأليف شيخنا الشيخ ماء

__________________

(٧٨) مقدمة تاريخ ابن خلدون ص ٣٥ ، ضبط ومراجعة ذ خليل شحادة وسهيل زكار ، الطبعة ١ ، ١٤٠١ ه‍ ـ ١٩٨١ ـ دار الفكر.

٣٢٠