ماء العينين بن العتيق
المحقق: محمّد الظريف
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-36-634-9
الصفحات: ٣٩٥
ووفق بغيتك الأقدار جارية |
|
والكون في قبضتي كفيك مقهور |
فقرّ عينا وطب نفسا فأنت بحم |
|
د الله خير امرئ مسعاه مشكور |
فنحمد من أجلسكم بأشرف محل ، وأودعكم أقاليد العقد والحل ، ومدّ بكم للأمة أطناب دينها ، وجدد بكم محاسن طبعها ودينها ، ونصب لكم معاريج المجد والصعود ، فرفعكم في دوحات الجد والسعود ، فتسنمتم أسمى ذروة ، وتمسكتم بأقوى عروة ، سائرين بسيرة العمرين ، ظاهرين ظهور القمرين ، متقدمين في محاريب الإمامتين ، متلفعين بجلاليب الكرامتين ، متدفقين بعلوم الشريعتين ، متخلقين بوسوم الرفعتين ، فما أنتم في مقامكم الجليل إلا كما قال ابن الخليل :
[الكامل]
خير البرية أنت كلّهم |
|
في يومك الغادي وفي أمس |
وكذاك ما تنفكّ خيرهم |
|
تمسي وتصبح فوق ما نمس |
ونشكره على فوائض فواضلكم الضافية ، وشمول شمائلكم الشاملة الشافية ، وإحيائكم قديم السنن ، وإسدائكم عظيم المنن ، وتمهيدكم جدد المجادة والديانة ، وتشييدكم جدد الرعاية والصيانة ، فأنتم مجمع موارد الكرم ، والمورد الجامع الحرم ولعمري لأحرى من كل سرّي بقول البحتري :
[البسيط]
كأنّك السّيف حدّاه ورونقه |
|
والغيث وابله الدّاني وريقه |
هل المكارم إلا ما تجمعه |
|
أو المواهب إلا ما تفرّقه |
لا جرم أن شرفكم طارف وتالد ، وأن الناس الولد وأنتم الوالد ، تحرسونها وهي نائمة ، وتسرحونها وهي سائمة ، تلاحظون بجميل صنعكم قضاء أغراضها وتحافظون بصيانة عرضكم على أعراضها ، فأنتم قوامها وملاكها ، وعليكم تدور على سبيل الحق الطرائق ، وقمتم بحق الخلق والخلائق ، فطرف الإسلام بكم قرير ، ولأنتم مع أهله كما قال جرير :
[الوافر]
يرى للمسلمين عليه حقا |
|
كمثل الوالد الرّؤوف الرّحيم |
فعلى جلالة سعادتكم الجليلة ، وفخامة سيادتكم العلية من التحيات والرحمات والبركات والنعمات ، ما يغني عن ضائع المسك تنسّمه ويزري بلامع البرق تبسّمه ، ويخجل الأكمام إذا تفتقت ، ويذم المدام وقد تعتّقت ، أبلغ في الآذان من سحر يوثر ، وأحسن في العيان من درّ ينثر ، ومن التسليم والاحترام ، والتعظيك والإكرام ، ما يستوفي من التحيات كل أسلوب ، ويستوفي غاية المناسب والمطلوب ، ويؤي عنا تلكم الحقوق الفرضية ، ويقوم مقامنا لدى الحضرة المرضية :
[الطويل]
سلام من الرّحمان يجري معينه |
|
بنظم ثمين الدّرّ يزرى ثمينه |
يعمّ النّديّ المولويّ وينجلي |
|
بمغزاه من صفو الوداد كمينه |
ويستخلص المولى الذي عمّ يمنه |
|
وبالنقض والإبرام خصّت يمينه |
إمام الأساتيذ المربّيه ربّه |
|
خليفته في أرضه وأمينه |
فأنت الذي لولاك لم تمتر العلى |
|
ولم يدر من غثّ الفخار سمينه |
مد الله لنا في أيام دولتكم ، وأمد بالتأييد أعلام صولتكم ، ولا برحت العصور لحبور أمركم مرتاحة ، والأمور لكم بما ترومون من الله متاحة ، ومدرار الأيادي بأكنافكم ينهمر ، ودمار الأعادي بأسيافكم يستمر ، هذا وإن من انحاز هذه الساعات من متعلقاتكم إلى هذه الساحات ، ما زالوا بحمد الله يربون فيما لهم من الالاء تحبون ، فهم في ديابيج أفضالكم يرفلون ، وفي مدارج ظلالكم يحفلون فكأنما حالهم مع صنعكم يعنى بقول أبي تمام في المعنى :
[الوافر]
وما سافرت في الآفاق إلا |
|
ومن جذواك راحلتي وزادي |
مقيم الظّن عندك والأماني |
|
وإن قلقت ركابي في البلاد |
وقد يعلم الله ما نحن فيه ، وما نبديه يسير بالنسبة لما تخفيه من التوق لمطالع شمسكم ، والشوق لمجامع قدسكم ، والتشوق لاشتياق بشركم ، والتشرف لاستياق نشركم ، ولمّا عز القدوم الآن بالقدم ، وتداعى ركن التجلد وانهدم ، وتسلينا بغد أو بعد غد ، وبسيكون وكأن قد ، وفي القلب ما فيه من ذلك ، وإن كانت النية هنا لكم تحمل بالنيابة عن القدم القلم ، فاستنار ليله في القراطيس حين أظلم ، فناب مسطاعه فيما لا يستوفيه ، إلا أنه يشفي بعض الغليل فيه ، فبعثت بالمسطور للثم تلكم اليمين وإنه بما سنح الفكر لقمين.
[المتقارب]
بعثت منيبا كتابي لكم |
|
وقبل الكتاب بعثت الفؤادا |
فليلتي جعلت بياض العيون |
|
صحيفته والسّواد المدادا |
ومما يتحتم على الكتاب عند ما يصل الأعتاب ، ويرتاح إلى مأتاكم ، وتفتحه
راحتكم أن ينشد لذي الرمة إذا حياكم ، وواجهه جميل محياكم :
[الطويل]
فلمّا تأملت الطّلاقة وانثنى |
|
إليّ ببشر آنستني مخائله |
دنوت فقبّلت النّدى من يد امرئ |
|
جميل محيّاه ، بساط أنامله |
صفت مثلما تصفوا المدام خلاله |
|
ورقّت كما رقّ النّسيم شمائله |
فلنا بوجودكم الفخر كل ساعة ، لا عدمناه إلى قيام الساعة ، ومن الفخر حسبكم إن الثناء كسبكم واحتصرنا ما في الضمائر لاطلاعكم على السرائر. فما قاله ابن أيوب في موزونه ، كأنما يخاطبكم بمضمونه :
[المتقارب]
كسبت الثناء وكسب الثناء |
|
أفضل مكسبة الكاسب |
يقينك يجلو ستور الدّجى |
|
وظنّك يخبر بالغائب |
وحاشا فضل سيدنا أعزه الله ، وأدام فخره وعلاه أن ينسانا في صالح الدعوات ، لا سيما بالآمال والغدوات ، أو يخرجنا من حمى الهمة المنيلة كل مرمّه ، وكذلكم سائر المتعلقات في جميع الأوقات ، متعنا الله بطول حياتكم ، ممتعين بحصول طياتكم ، ونصركم الله وأعزكم وأيدكم ، وأطال في جميع النواحي يدكم ، ولا زلتم كالروض في بهيج نضرته ، وأريج زهرته ، ووريف ظلائله ، وقطوف خضائله وكالعارض تطمع بوارق شواهده ، وتفزع صواعق رواعده ، فيصير أمطارا للمرحومين ، وإعصارا ونارا على المحرومين ، ودمتم كالدهر في بقائه وهتمه ، والبحر في سخائه وطمته ، وكالشمس إضاءة وارتفاعا ، والليث جراءة ودفاعا ، وحاطكم السلام من السلام ، وعلى خصوص
البنوة والسلام ، في أوائل المحرم الحرام عام ١٣٤٦ ، كتبه ابنكم ماء العينين بن العتيق ، كان الله لهما آمين.
ولما وصله أعزه الله الكتاب ، كتب لي ما نصه في الجواب :
«الحمد لله وحده حمد من عبده ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد عين الرحمة ، القائل إن من البيان لسحرا ، وإن من الشعر لحكمة ، اللهم احفظ بحفظك الذي لا يضام ، واكنف بكنفك الذي لا يرام ، واحرس بعينك التي لا تنام ، إبننا العامل العلامة الدراكة الفهامة ، النحرير ، العامل الواصل الكامل ، ابن أختنا ، قرة العينين ، ثمرة الجنبين ، السيد ماء العينين ابن ابن عمتنا ، وابن عمنا العالم العامل المحقق الأفيق ، السيد العتيق ـ روّح الله روحه في أعلى فريق ـ هذا وبعد السلام فض الإخلاص ختامه ، ونصب القبول في ساحته خيامه على سيادتكم ، ورحمة الله على مجادتكم ، ورفع أدعية مرجوّة القبول ، تحقق لحسن طويتكم ما هو المأمول ، قد وصل كتابكم الذي مثله في البلاغة يعز المنبئ عن كل معنى بلفظ معجز ، تشبيهاته مصيبة ، واختراعاته عجيبة ، جعلتم بعضه مسلسلا ، ويعضه مرسلا ، فالحقتم الشكل بنظاره ، وأعلقتم الأول بآخره ، يشتد حتى تقول الصخر الأعلس ، ويلين حتى تقول الماء أو أسلس ، سواحر ألفاظ كفواتر الألحاظ ، معتقات معان ، كأنها فك عان ، كلام سديد ، قريب بعيد كالشمس تقرب ضياء ، وتبعد رفعة وعلاء ، يسيل في الأذهان سيل السلسبيل ، ليس إلى بلاغته من سبيل ، لا متناعه مع اتساعه ، وتعسيره في تيسيره ، ما أبرع عبارته وأبدع استعارته ، يدعو إلى حفظه حسن معناه ولفظه ، تطابقت أنحاؤه ، وتوافقت أجزاؤه ، يصبو إليه السمع والطرف ويجري فيه ماء الملاحة والظرف ، كأنما تنفّس الأسحار بنسيمه وتصدع الأصداف عن نظيمه ، ونفث هاروت في وشي بروده ، وحبات القلوب من نظم عقوده :
[البسيط]
معنى بديع وألفاظ منمّقة |
|
رقيقة وصنيع كلّه عجب |
غيره لله دره
[البسيط]
سحر من اللّفظ لو دارت سلافته |
|
على الزّمان تمشّى مشية الثّمل |
هو السحر الحلال والماء الزلال ، وقد أنشدنا في استجادة ما أنشدتم ، واستحسان ما أوردتم ، قول أبي تمام لمدلول النظام :
[البسيط]
تغاير الشّعر فيه إذ سهرت له |
|
حتّى ظننت قوافيه ستقتتل |
ألا وكيف لا ، وهو من ذكى كالبرق أو أسرع لمعا ، وكالسيف أو أحدّ قطعا :
[البسيط]
مناقب شمخت في كلّ مكرمة |
|
كأنّما هي في أنف العلى شمم |
فأقررت عيني بوروده وشفيت نفسي بوفوده ، لكن الضمير لا يحيط بمكنونه ، والخطاب لا يسع ما في مضمونه ، ليتميز بإعرابه ما في فصوله وأبوابه ، إلا المشافهة في الكلام لا نيابة الطروس والأقلام ، إذا قد رجونا من سمو قدركم وبهو بدركم ، وعلوّ جدكم ، وسمو ودكم وإنجاز ما وعدتمونا به من الاجتماع ، الذي هو ألذ من وصل الحبيب بعد الامتناع ، ومن تمايس القدود الرشاق ، واحمرار الخدود تحت سواد الأحداق ، أحلى من النعيم الحاضر ، وأشهى من الشباب الناضر. فالإنجاز سنة الكرام التي مضى عليها عملهم وطريقة الأعلام التي نيط بها أملهم ، وسيادتكم بكل فضيلة أحق ، ولكل جميلة أسبق ، فأنتم نجوم الظلام ، وبدور التمام.
[الطويل]
فللنّجم من بعد الرّجوع استقامة |
|
وللبدر من بعد المغيب طلوع |
فأقدموا على بركة الله في حفظ الله ، وأمان الله ، برعاية الله.
[الخفيف]
لو علمنا مجيئكم لفرشنا |
|
مهج القلب أو سواد العيون |
غيره :
[الطويل]
وقيل له أهلا وسهلا ومرحبا |
|
فهذا مبيت صالح ومقيل |
فنسأل الله جمع الشمل والملاقاة ، بعد الشتات ، في أطيب الأوقات.
[الطويل]
ليال قضيناها بطيب حديثكم |
|
فما كان أحلاها ، وما كان أغلاها |
أبقى الله شمس ذهنكم وقادة ، وأزمة البديع تحت مقاصدكم منقادة ، ول العلوم الوهبية لكم دثارا ، والعلوم الكسبية لكم شعارا ، ومتعنا الله بدوام إشراقكم ، وعطر بالثناء جميل أخلاقكم ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، ونسأله حسن البدايات والنهايات ، والسلام عليكم ، من السلام إلى دار السلام ، في أواخر المحرم الحرام عام ١٣٤٦ ، عبيد ربه امربيه رب ، أنا له الله بشكره ما يحب.
نرجوه تعالى أن يحقق له رجاءه ، ويديم عزه وسناءه وارتقاءه ، ويجازيه عنا ببلوغ الآمال ، وقرة العينين في النفس والانجال ، وسائر المتعلقات في المسرات ودوام العافيات.
مخاطبات شعرية أدبية بين الشيخ محمد الإمام وجامع الرحلة
وكذلك صنوه الأستاذ الشيخ محمد الإمام المذكور ، فقد كان بيني وبينه ـ أطال الله بقاءه ـ من الخصوصية الصافية ، والمودة الخالصة ، والمحبة الوافية ما لا يخطر على بال ، ولا يعبّر عنه مقال ، حتى كأنا بحمد الله ، ذاتا واحدة ، تقاربت الجسوم ، أو كانت متباعدة ، فلسنا ـ بحمد الله ـ إلا كما قيل :
[الرمل]
أنا من أهوى ومن أهوى أنا |
|
نحن روحان حللنا بدنا (١) |
فإذا أبصرتني أبصرته |
|
وإذا أبصرته قلت أنا |
فقد جعلني ـ دام عزه ـ كنز سره المكنون ، وحديقة أنسه المصون ، فمبلغي عنده في الاجتباء والاصطفاء والتقرب لم يبلغ قريبا منه حبيب من حبيب ، وما ذاك إلا من كرمه وتواضعه وأفضاله ، ومحاسن أخلاقه وإجماله ، وتحليه بالأوصاف المحمدية ، ورسوخه في المقامات الأحدية ، وتأسيه بالأخلاق القرآنية ، وثبوته في مجمع الطرق الربانية ، ودائما ـ أدام الله لنا بقاءه ورفعته وعزه وارتقاءه ـ يخاطبني بما هو أهل له من الإحسان والإكبار ، وإظهار الاتحاد في الإعلان والإضمار ، في محاسن النثر ، وبدائع الأشعار ، فمن ذلك هذه الأبيات أنشدنيها من ارتجاله ـ حفظه الله ـ وقد اجتمعنا بعد ما كنا مفترقين ، وهي (٢) :
[البسيط]
ماذا أقول ولو أطنبت فيما بي |
|
شوقا لكم كان كالإيجاز إطنابي |
__________________
(١) ينسب هذان البيتان لرابعة العدوية.
(٢) أنظر هذه المساجلة في مجموع يحجب ، و ٢ ، وكذا مجموع اسلم ، و ١٨٤.
فالقلب بعدكم ما أنفكّ ذا وصب |
|
كأنّما البين للأوصاب أوصى بي (٣) |
سرى اشتياقكم في القلب يتبعه |
|
عرفا بعرف وأعصابا بأعصاب |
أهكذا كلّ خلّ في المحبّة أم |
|
شيء خصصت به من بين أحبابي |
نعم لقد فقت إخوان الصّفاء كما |
|
قد فقتم الغير في علم وآداب |
لذاك صرت بكم بلا منازعة |
|
أولى وصرتم عن الأحباب أولى بي |
فأجبته دام حفظه وعلاه بهذه الأبيات ، ملتزما فيها لزوم ما لا يلزم :
[البسيط]
يا من بمرعاه إمراعي وإخصابي |
|
والحبّ والودّ منه المحض خصّابي (٤) |
ومن ولهت به شوقا فجرّعني |
|
ما من جواه أقاسي غصّة الصّابي (٥) |
إنّي لأصبوا إلى سلسال وصلكم |
|
كما إلى العين يصبو الموّلع الصّابي (٦) |
__________________
(٣) وصب : وجع دائم.
(٤) إمراعي : إصابتي الكلأ.
(٥) الصابي : الذي صبأ
(٦) الصابي : العاشق.
لو لا فراقكم ما اعتادني وصب |
|
ولم يكن غيركم ترياق أوصابي (٧) |
ما زلت ذا نصب من داء بينكم |
|
وبينكم برء أدوائي وأنصابي (٨) |
لو أنصف الدّهر أودى بالبعاد فلا |
|
تقصون عني وعنكم ليس يقصى بي |
وكان الأستاذ الشيخ محمد الإمام مرة مسافرا ، فكتب إليّ بهذه لأبيات :
[الطويل]
سلام كعرف الرّوض صافحه النّدى |
|
يزفّ إلى بحر النّدى والمكارم |
من امتزجت روحي بسلسال ودّه |
|
وإن شئت سل سيول الدموع السّواجم |
فموجبه أنّي على العهد لم أزل |
|
ولا تعتريني فيه لومة لائم |
فأجبته غفر الله لي بقولي بعدما قدم من سفره :
[الطويل]
ألا مرحبا أهلا وسهلا بقادم |
|
أقاسي الهوى من حبّه المتقادم |
__________________
(٧) أوصابي : أوجاعي ، جاء هذا البيت برواية أخرى وهي :
ـ إن كان يعتادني من بينكم وصب |
|
فطالما كنتم ترياق أوصابي |
مجموع يحجب ، و. ٢.
(٨) أنصابي : عنائي.
إمام الهدى ، بدر الدّيانة مرتقي |
|
سنام المزايا بأستنام العزائم |
لك المنزل الأحظى من القلب إن تبن |
|
وإن تدن لا تنفكّ فيه ملازم |
أغصّ بريقي كلّما غبت مثلما |
|
تغصّ البرى في زند ريّا المعاصم (٩) |
فأصبو إلى خمر التّداني بغصّتي |
|
صبو من استباه خمر المباسم |
فأغدو به نشوان أهتزّ دائما |
|
كما اهتزّ أعطاف الحسان النّواعم |
على أن إيناسي على القرب والنّوى |
|
بك الدّهر ما غنّت شوادي الحمائم |
وكتب لي حفظه وكلأه الله مرة كتابا يستقدمني فيه لحضرته العلية ، وأودعه هذه الأبيات :
[الطويل]
لئن غاب يا عينيّ ماؤكما إذا |
|
فما هو عن عين الضّمير بغائب |
له صورة في القلب لم يقضها النّوى |
|
ولم تتخطّفها أكفّ النّوائب |
إذا ساءني منه نزوح دياره |
|
وضاقت عليّ في نواه مذائب |
__________________
(٩) البري : الخلخال.
ـ ريا المعاصم : ممتلئة المعاصم
عطفت على شخصه غير نازح |
|
محلّته بين الحشا والتّرائب |
فكتب له أطال الله بقاءه ، في جوابه هذه الأبيات :
[الطويل]
أسود فروع فوق بيض ترائب |
|
أم استنّ فوق الطرس مزبر كاتب (١٠) |
أتاني على شحط المزار خطابه |
|
فلم أر ذاتا غير ذات مخاطب |
فتى عن سؤالي حاجب العين والحجا |
|
وهل هو إلا نصب عيني وحاجب |
فكيف إمام الصّفّ عنك تربّصي |
|
بمغنى ومغناطيس شوقك جاذب |
وقال الشيخ محمد الإمام دام بقاؤه أيضا مخاطبا جامع الرحلة ما العينين ابن العتيق في مقدم قدمه على الحضرة الشريفة صانها الله بعدما طالت غيبته عنها ، جزاه الله عنا بطول العمر في العافية (١١).
[البسيط]
بشراك بالسّعد غنّى الطّائر الغرد |
|
وأنجزتك ليالي الوصل ما تعد |
__________________
(١٠) استنّ : جرى في نشاطه على سننه في جهة واحدة.
ـ الطرس : الصحيفة.
ـ المزبر : القلم.
(١١) أنظر هذه القصيدة في : مجموع يحجب ، و، ٣٦.
بدر المنى ساطعا هذاؤه وذه |
|
شمس التهاني بأفق السّعد تتّقد |
بمقدم من حبيب شدّ ما انتزحت |
|
به يد البعد تبّت للبعاد يد |
فأصبحت ثمرات البشر يانعة |
|
تخال قنوانها باللّطف تنعقد (١٢) |
أما ترى حلبات المجد منذ أتى |
|
في كلّ غاياتها تجري وتطرد |
لمّا تنشّقت من عرف الوصال شذى |
|
سرت حميّا الشّفا في كلّما أجد |
يا مرحبا بك من علق لجانبنا |
|
تهدي الرّكاب به عيرانة أجد (١٣) |
فانجاب مذ جابت البيداء حندسها |
|
وانحلّ مذ حلّ في ساحاتنا العقد (١٤) |
رغد المعاش لمن نأت أحبّته |
|
ضنك وضنك لديهم عيشة رغد (١٥) |
ما إن يزاحم وسط القلب منزله |
|
أنّى تغالب عن أشبالها الأسد |
كم فكّ عوصاء ما انفكّت مغلّقة |
|
وعزّ مصدر من لبابها يرد |
__________________
(١٢) القنوان : م. القنو : هو العذق وهو من النخل كالعنقود من العنب
(١٣) الركاب : الإبل : العيرانة : الناقة الصلبة
ـ ناقة أج : قوية
(١٤) الحندس : الليل الشديد الظلمة
(١٥) الضنك : من ضنك : إذا ضعف رأيه.
محسّد من أناس دون منصبه |
|
لا زال فوق الذي من أجله حسدوا |
قد زان صدر النديّ اليوم مشهده |
|
ما زان جيد الفتاة السّمط والغيد (١٦) |
لعساء تفترّ عن أغرّ ذي شنب |
|
كأنّه أقحوان الرّمل أو برد (١٧) |
أصمت فؤادك عن قوس موتّرة |
|
ما إن لمن قتلت عقل ولا قود (١٨) |
ومن تأوّد غصن في علائلها |
|
لو لا الغضارة لا يلفى به أود (١٩) |
هذا ونسأل مولانا رعياتكم |
|
وأن يبلّغ للجميع ما قصدوا |
فلما أنشدنا منئشها ـ أطال الله حياته ـ بحضرة ألأستاذ سيدنا الشيخ مربيه ربه ، قال في استحسانها هذين البيتين ارتجالا ، وهما :
[البسيط]
يا من يحاول شعرا رائقا سلسا |
|
من نسج يلمعة أثوابه جدد |
أنشد على ثقة لما تحاوله |
|
بشراك بالسّعد غنّى الطائر الغرد |
__________________
(١٦) السمط : الخيط ما دام الخرز أو اللؤلؤ منتظما فيه.
ـ الغيد : النعومة.
(١٧) قود : قصاص
(١٨) الشنب : من شنب شنبا : كان أبيض الأسنان فهو حسنها.
(١٩) أود : انحناء.
وقال جامع الرحلة ما العينين بن العتيق ـ غفر الله له ـ في جوابها (٢٠) :
[البسيط]
يا خير من منه مدت للثناء يد |
|
فلم يكن منه أحرى بالثنا أحد |
من غادرت من على أجداده جددا |
|
بيضا ، فجدّت به من بعدها الجدد (٢١) |
ولا تزلّ له عن نهجها قدم |
|
إذا تشعّبت الطرائق القدد (٢٢) |
وآخت السّؤدد الطّبعيّ مهجته |
|
طفلا فشدّ به للسؤدد العضد |
من لا يني في مجاز المجد يرصده |
|
حقيقة حين لم يوجد له رصد |
لم يحكه في صميم المكرمات فتى |
|
وهل يقاس بصافي العسجد الزّبد؟ |
القدوة العمدة المرسي مطنّبة ال |
|
علياء ، فهو لها الأوتاد والعمد (٢٣) |
لا غرو أن جدت يا أهل الثناء به |
|
فليس من غير كسب المنفق الصفد (٢٤) |
__________________
(٢٠) أنظر مجموع يحجب ، و ٣٦.
(٢١) جدد : ج ، جدة ، طريقة.
(٢٢) القدد : من القدة ، وهي الفرقة والطريقة من الناس إذا كان هوى كل واحد على حدة ، وفي البيت إشارة إلى قوله تعالى : (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً) سورة الجن ، الآية ١١.
(٢٣) مطنبة : مشدودة بالأطناب ، أي الحبال.
(٢٤) الصفد : العطاء.
أحبب ببشر وترحيب يريه لنا |
|
من فضلكم في محيّا فكره الخلد (٢٥) |
نحن الألى عن نور مشهدكم |
|
وبدر مشهدكم صبر ولا جلد |
ما للمعيشة تنغيص كبعدكم |
|
أنّى يطيق النّوى عن روحه الجسد |
قد كابدت كبدي من بينكم كبدا |
|
وكيف تصبر عن أفلاذها الكبد؟ (٢٦) |
ما افترّ ثغر اللّيالي عن بوارقكم |
|
واصطاد للوصل عصفور النوى صرد (٢٧) |
فالكلّ منّا بحمد الله مبتهج |
|
وقد تهيّا لنا من أمرنا رشد (٢٨) |
لا زال ذلكم المغنى البهيج لنا |
|
روض اجتماع إلى أفيائه نفد (٢٩) |
وكعبة حجّها يطبي الوفود كما |
|
يطبي لكعبته حجّاجه البلد |
ودمت وارث طه يا خليفته |
|
في الكون صلّى عليه الواحد الصّمد |
__________________
(٢٥) الخلد السكون.
(٢٦) بينكم : فراقكم.
(٢٧) صرد : من الصرد ، وهو طائر فوق العصفور يصيد العصافير.
(٢٨) في هذا البيت إشارة إلى قوله تعالى : (رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً) سورة الجن الآية ١٠.
(٢٩) لا زال ذلكم المغنى البهيج لنا : لا زال مغناكم الميمون عوض لنا ، في مجموع يحجب.
وقال الشيخ محمد الإمام أيضا يخاطبني ، وقد ارتجلنا أشعارا في محاضرة أدبية يطول جلبها :
[الطويل]
أمن خاض في بحر العلم لجته الوسطى |
|
فشطّ بها والغير ما جاوز الشّطا |
لعمرك لم يلبغ مديحك مفلق |
|
ولو شطّ في أمداحه فيك ما شطّا |
لأن المعاني في علاك تزاحمت |
|
فأطّت سماء الفكر من حملها أطّا (٣٠) |
وإنّ بنات الفكر عزّ اقتناصها |
|
على غير كفء يفهم القصد والشرطا |
وإني فتحت الباب من ذاك ناحيا |
|
لماء عيون المجد في الأخذ والإعطا |
فأعطيت قوس الشعر باريّها الذي |
|
لدى ذهنه حطّت رحالتها حطّا |
فأجبته :
أواسطة العقد الإلاهي ما تعطى |
|
عزيز مداه من مراتبك الوسطى |
وما رام في مجد يساميك مرتق |
|
برفعته إلا تدحرج وانحطّا |
أ إذ لم تقس في الشعر أعطيت قوسه |
|
وأيّ مجيد منك أجدر بالمعطى |
فذهنك في الآداب جوّلت طرفه |
|
ولمّا تجاوز في مناهجها القسطا |
__________________
(٣٠) أطت : صوتت ، عجزت عن الحمل.
تني الشّم عن درك الإمام ولو خدت |
|
بفيح علاه نجب همّاتهم خبطا (٣١) |
فمن يغترف من بحر أمداحه يصب |
|
ومن يعترف بالعجز عنه فما أخطا (٣٢) |
وأمثال هذه المخاطبات بحمد الله كثير ، وإنما أتينا بطرف منها يسير ، دلالة على ما ذكرنا من أمر الشيخين ، جزاهما الله بطول العمر وقرة العينين ، ونحمده تعالى على نعمة مرافقتهما إلى الحرمين ، رزقنا الله بجاههما ، وجاه جدهما صلىاللهعليهوسلم سعادة الدارين ، وكفاية الهمّين ، والحفظ من شر الثقلين ، آمين.
ذكر مسائل فقهية
مسائل فقهية ألقاها بعض وفدنا الحاج أيامنا بكناري بعد مسير الشيخ مربيه ربه عنا ، وذلك أنا كنا ذات يوم في بعض مجالسنا ، فاستفتانا بعض الجلساء عن ثلاث مسائل اقتضى الحال البحث عن حكمها.
المسألة الأولى : هل يحل أكل ذبائح النصارى أم لا؟ والجواب عن ذلك
الأولى ، هل يحل أكل ذبائح النصارى لنا أم لا؟ الثانية ، هل يباح لنا نكاح نسائهم أم لا؟ الثالثة ، هل تجوز لنا رقيا مرضاهم أم لا؟ فسارع بعض الحاضرين إلى الجواب بما لا مقنع فيه ، فالتفت السائل إلى جامع الرحلة ما العينين بن العتيق ـ غفر الله له ـ واستفتاني ، خصوصا عن المسائل الثلاث ، فقلت له : لو لا الوعيد الوارد فيمن سئل عن علم يعلمه فكتمه لما تكلمت في هذه المسائل بأدنى كلمة لأنها من
__________________
(٣١) خدت : أسرعت.
(٣٢) أنظر هذه المساجلة في : مجموع يحجب ، و، ١٩٠.
الأحكام الشهيرة ، المشحونة بها الكتب الفقهية ، لكن حيث عنيتني بالخطاب لم يسعني ترك الجواب ، والله الموفق للصواب ، فأقول : أما المسألة الأولى وهي هل يحل لنا أكل ذبائح النصارى ، أم لا؟ فالجواب فيها ، أنه يحل لنا أكل ذبائحهم ، لقوله تعالى ، (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ)(٣٣) ، قال البغوي في تفسيره ما نصه : «يريد ذبائح اليهود والنصارى ومن دخل في دينهم من سائر الأمم قبل مبعث محمد صلىاللهعليهوسلم ، حلال لكم ، فأما من دخل في دينهم بعد مبعث محمد صلىاللهعليهوسلم ، فلا تحل ذبيحته ، ولو ذبح يهودي أو نصراني على اسم غير الله ، كالنصراني يذبح باسم المسيح ، فاختلفوا فيه ، قال ابن عمر لا يحل ، وهو قول ربيعة ، وذهب أكثر أهل العلم إلى أنه يحل ، وهو قول الشعبي وعطاء والزهري ومكحول ، سئل الشعبي ، وعطاء عن النصراني يذبح باسم المسيح ، قالا : يحل ، فإن الله تعالى قد أحل ذبائحهم ، وهو يعلم ما يقولون ، وقال الحسن : إذا ذبح اليهودي او النصراني ، فذكر اسم غير الله ، وأنت تسمع ، فلا تأكله ، فإذا غاب عنك فكل ، فقد أحل الله لك» (٣٤). وقال الخازن في تفسيره ما نصه : «يعني ، وذبائح أهل الكتاب حل ، وهم اليهود والنصارى ومن دخل في دينهم من سائر الأمم قبل مبعث النبي صلىاللهعليهوسلم ، فأما من دخل ف دينهم بعد مبعث النبي صلىاللهعليهوسلم ، وهم متنصروا العرب من بني تغلب ، فلا تحل ذبيحته روي عن علي بن أبي طالب ، قال : لا تأكل من ذبائح نصارى العرب بني تغلب فإنهم لم يتمسكوا بشيء من النصرانية إلا بشرب الخمر ، وبه قال ابن مسعود ، ومذهب الشافعي أن من دخل في دين أهل الكتاب ، بعد نزول القرآن ، فإنه لا تحل ذبيحته ، وسئل ابن عباس عن ذبائح نصارى العرب ، فقال : لا بأس به. ثم قرأ : ومن يتولهم منكم فإنه منهم ، وهذا قول الحسن وعطاء وابن أبي رباح والشعبي وعكرمة وقتادة والزهري والحكم وحماد ، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك ، وإحدى الروايتين عن أحمد ، والرواية الأخرى ، مثل هذا مذهب الشافعي ، وأجمعوا على تحريم ذبائح المجوس وسائر أهل الشرك من مشركي العرب وعبدة الأصنام ، ومن لا كتاب لهم ،
__________________
(٣٣) سورة المائدة ، الآية ٥.
(٣٤) تفسير البغوي المعروف بمعالم التنزيل ص ١٤ ـ ١٥ ـ ج ٢ دار الفكر ١٣٩٩ ه ١٩٧٩ م.
وأجمعوا على أن المراد بطعام الذين أوتوا الكتاب ، ذبائحهم خاصة.» (٣٥). وقال ابن حيان في تفسيره «البحر» (٣٦) ما نصه : «طعامهم هنا هي الذبائح كذا قال معظم أهل التفسير ، قالوا لأن ما كان من نوع البر والخبز والفاكهة وما لا يحتاج فيه إلى ذكاة ، لا يختلف في حلها باختلاف حال أحد ، لأنها لا تحرم بوجه سواء كان المباشر لها كتابيا أو مجوسيا ، أم غير ذلك ، وأنها لا يبقى لتخصيصها بأهل الكتاب فائدة ، ولأن ما قبل هذا في بيان الصيد والذبائح. فحمل هذه الآية على الذبائح أولى إلى أن قال :
«وإذا حملنا الطعام على ما قاله الجمهور من الذبائح ، فقد اختلفوا فيما هو حرام عليهم ، أيحل لنا أو يحرم؟ فذهب الجمهور إلى أن تذكية الذمي مؤثرة في كل الذبيحة ، ما حرم عليهم منها ، وما حل فيجوز لنا أكله كالشحوم المحضة. وهذا هو الظاهر لقوله : (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ»)(٣٧) وهذا المحرم عليهم ليس من طعامهم ، وهذا الخلاف موجود في مذهب مالك» إلى أن قال أيضا : «وذهب الجمهور ، ابن عباس والحسن وعكرمة وابن المسيب والشعبي وعطاء وابن شهاب والحكم وقتادة وحماد ومالك وأبو حنيفة وأصحابه أن لا فرق بين بني إسرائيل والنصارى ، ومن تهود أو تنصر من العرب أو العجم في حل أكل ذبيحتهم» (٣٨).
وحاصل فقه المسألة في مشهور مذهب الإمام مالك هو ما لخصه الإمام ابن جزي في قوانينه ، فقال ما نصه : «فأما أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، رجالهم ونسائهم ، فتجوز ذبائحهم على الجملة اتفاقا ، واختلف منها في فروع ، وهي إن كان الكتابي عربيا ، جازت ذبيحته عند الجمهور ، خلافا للشافعي في أحد قوليه ، وإن
__________________
(٣٥) تفسير الخازن المسمى لباب التأويل في معاني التنزيل ج ٢ ص ١٤ دار الفكر ١٩٧٩.
(٣٦) يقصد كتاب «البحر المحيط» أو التفسير الكبير لأبي عبد الله محمد بن يوسف بن حيان الأندلسي الغرناطي المتوفى بالقاهرة سنة ٧٥٤ ه مكتبة مطابع النصر الحديثة ، المملكة العربية السعودية ، أنظر ترجمته في ، طبقات الشافعية الكبرى ، ج ٦ ص ٣١.
(٣٧) سورة المائدة ، الآية ٥.
(٣٨) البحر المحيط. ابن حيان ، ج ٣ ص ٤٣١ ، ط ١ مطبعة السعادة ١٣٢٨.