الرحلة المعينيّة

ماء العينين بن العتيق

الرحلة المعينيّة

المؤلف:

ماء العينين بن العتيق


المحقق: محمّد الظريف
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-36-634-9
الصفحات: ٣٩٥

ووفق بغيتك الأقدار جارية

والكون في قبضتي كفيك مقهور

فقرّ عينا وطب نفسا فأنت بحم

د الله خير امرئ مسعاه مشكور

فنحمد من أجلسكم بأشرف محل ، وأودعكم أقاليد العقد والحل ، ومدّ بكم للأمة أطناب دينها ، وجدد بكم محاسن طبعها ودينها ، ونصب لكم معاريج المجد والصعود ، فرفعكم في دوحات الجد والسعود ، فتسنمتم أسمى ذروة ، وتمسكتم بأقوى عروة ، سائرين بسيرة العمرين ، ظاهرين ظهور القمرين ، متقدمين في محاريب الإمامتين ، متلفعين بجلاليب الكرامتين ، متدفقين بعلوم الشريعتين ، متخلقين بوسوم الرفعتين ، فما أنتم في مقامكم الجليل إلا كما قال ابن الخليل :

[الكامل]

خير البرية أنت كلّهم

في يومك الغادي وفي أمس

وكذاك ما تنفكّ خيرهم

تمسي وتصبح فوق ما نمس

ونشكره على فوائض فواضلكم الضافية ، وشمول شمائلكم الشاملة الشافية ، وإحيائكم قديم السنن ، وإسدائكم عظيم المنن ، وتمهيدكم جدد المجادة والديانة ، وتشييدكم جدد الرعاية والصيانة ، فأنتم مجمع موارد الكرم ، والمورد الجامع الحرم ولعمري لأحرى من كل سرّي بقول البحتري :

[البسيط]

كأنّك السّيف حدّاه ورونقه

والغيث وابله الدّاني وريقه

هل المكارم إلا ما تجمعه

أو المواهب إلا ما تفرّقه

٢٨١

لا جرم أن شرفكم طارف وتالد ، وأن الناس الولد وأنتم الوالد ، تحرسونها وهي نائمة ، وتسرحونها وهي سائمة ، تلاحظون بجميل صنعكم قضاء أغراضها وتحافظون بصيانة عرضكم على أعراضها ، فأنتم قوامها وملاكها ، وعليكم تدور على سبيل الحق الطرائق ، وقمتم بحق الخلق والخلائق ، فطرف الإسلام بكم قرير ، ولأنتم مع أهله كما قال جرير :

[الوافر]

يرى للمسلمين عليه حقا

كمثل الوالد الرّؤوف الرّحيم

فعلى جلالة سعادتكم الجليلة ، وفخامة سيادتكم العلية من التحيات والرحمات والبركات والنعمات ، ما يغني عن ضائع المسك تنسّمه ويزري بلامع البرق تبسّمه ، ويخجل الأكمام إذا تفتقت ، ويذم المدام وقد تعتّقت ، أبلغ في الآذان من سحر يوثر ، وأحسن في العيان من درّ ينثر ، ومن التسليم والاحترام ، والتعظيك والإكرام ، ما يستوفي من التحيات كل أسلوب ، ويستوفي غاية المناسب والمطلوب ، ويؤي عنا تلكم الحقوق الفرضية ، ويقوم مقامنا لدى الحضرة المرضية :

[الطويل]

سلام من الرّحمان يجري معينه

بنظم ثمين الدّرّ يزرى ثمينه

يعمّ النّديّ المولويّ وينجلي

بمغزاه من صفو الوداد كمينه

ويستخلص المولى الذي عمّ يمنه

وبالنقض والإبرام خصّت يمينه

إمام الأساتيذ المربّيه ربّه

خليفته في أرضه وأمينه

فأنت الذي لولاك لم تمتر العلى

ولم يدر من غثّ الفخار سمينه

٢٨٢

مد الله لنا في أيام دولتكم ، وأمد بالتأييد أعلام صولتكم ، ولا برحت العصور لحبور أمركم مرتاحة ، والأمور لكم بما ترومون من الله متاحة ، ومدرار الأيادي بأكنافكم ينهمر ، ودمار الأعادي بأسيافكم يستمر ، هذا وإن من انحاز هذه الساعات من متعلقاتكم إلى هذه الساحات ، ما زالوا بحمد الله يربون فيما لهم من الالاء تحبون ، فهم في ديابيج أفضالكم يرفلون ، وفي مدارج ظلالكم يحفلون فكأنما حالهم مع صنعكم يعنى بقول أبي تمام في المعنى :

[الوافر]

وما سافرت في الآفاق إلا

ومن جذواك راحلتي وزادي

مقيم الظّن عندك والأماني

وإن قلقت ركابي في البلاد

وقد يعلم الله ما نحن فيه ، وما نبديه يسير بالنسبة لما تخفيه من التوق لمطالع شمسكم ، والشوق لمجامع قدسكم ، والتشوق لاشتياق بشركم ، والتشرف لاستياق نشركم ، ولمّا عز القدوم الآن بالقدم ، وتداعى ركن التجلد وانهدم ، وتسلينا بغد أو بعد غد ، وبسيكون وكأن قد ، وفي القلب ما فيه من ذلك ، وإن كانت النية هنا لكم تحمل بالنيابة عن القدم القلم ، فاستنار ليله في القراطيس حين أظلم ، فناب مسطاعه فيما لا يستوفيه ، إلا أنه يشفي بعض الغليل فيه ، فبعثت بالمسطور للثم تلكم اليمين وإنه بما سنح الفكر لقمين.

[المتقارب]

بعثت منيبا كتابي لكم

وقبل الكتاب بعثت الفؤادا

فليلتي جعلت بياض العيون

صحيفته والسّواد المدادا

ومما يتحتم على الكتاب عند ما يصل الأعتاب ، ويرتاح إلى مأتاكم ، وتفتحه

٢٨٣

راحتكم أن ينشد لذي الرمة إذا حياكم ، وواجهه جميل محياكم :

[الطويل]

فلمّا تأملت الطّلاقة وانثنى

إليّ ببشر آنستني مخائله

دنوت فقبّلت النّدى من يد امرئ

جميل محيّاه ، بساط أنامله

صفت مثلما تصفوا المدام خلاله

ورقّت كما رقّ النّسيم شمائله

فلنا بوجودكم الفخر كل ساعة ، لا عدمناه إلى قيام الساعة ، ومن الفخر حسبكم إن الثناء كسبكم واحتصرنا ما في الضمائر لاطلاعكم على السرائر. فما قاله ابن أيوب في موزونه ، كأنما يخاطبكم بمضمونه :

[المتقارب]

كسبت الثناء وكسب الثناء

أفضل مكسبة الكاسب

يقينك يجلو ستور الدّجى

وظنّك يخبر بالغائب

وحاشا فضل سيدنا أعزه الله ، وأدام فخره وعلاه أن ينسانا في صالح الدعوات ، لا سيما بالآمال والغدوات ، أو يخرجنا من حمى الهمة المنيلة كل مرمّه ، وكذلكم سائر المتعلقات في جميع الأوقات ، متعنا الله بطول حياتكم ، ممتعين بحصول طياتكم ، ونصركم الله وأعزكم وأيدكم ، وأطال في جميع النواحي يدكم ، ولا زلتم كالروض في بهيج نضرته ، وأريج زهرته ، ووريف ظلائله ، وقطوف خضائله وكالعارض تطمع بوارق شواهده ، وتفزع صواعق رواعده ، فيصير أمطارا للمرحومين ، وإعصارا ونارا على المحرومين ، ودمتم كالدهر في بقائه وهتمه ، والبحر في سخائه وطمته ، وكالشمس إضاءة وارتفاعا ، والليث جراءة ودفاعا ، وحاطكم السلام من السلام ، وعلى خصوص

٢٨٤

البنوة والسلام ، في أوائل المحرم الحرام عام ١٣٤٦ ، كتبه ابنكم ماء العينين بن العتيق ، كان الله لهما آمين.

ولما وصله أعزه الله الكتاب ، كتب لي ما نصه في الجواب :

«الحمد لله وحده حمد من عبده ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد عين الرحمة ، القائل إن من البيان لسحرا ، وإن من الشعر لحكمة ، اللهم احفظ بحفظك الذي لا يضام ، واكنف بكنفك الذي لا يرام ، واحرس بعينك التي لا تنام ، إبننا العامل العلامة الدراكة الفهامة ، النحرير ، العامل الواصل الكامل ، ابن أختنا ، قرة العينين ، ثمرة الجنبين ، السيد ماء العينين ابن ابن عمتنا ، وابن عمنا العالم العامل المحقق الأفيق ، السيد العتيق ـ روّح الله روحه في أعلى فريق ـ هذا وبعد السلام فض الإخلاص ختامه ، ونصب القبول في ساحته خيامه على سيادتكم ، ورحمة الله على مجادتكم ، ورفع أدعية مرجوّة القبول ، تحقق لحسن طويتكم ما هو المأمول ، قد وصل كتابكم الذي مثله في البلاغة يعز المنبئ عن كل معنى بلفظ معجز ، تشبيهاته مصيبة ، واختراعاته عجيبة ، جعلتم بعضه مسلسلا ، ويعضه مرسلا ، فالحقتم الشكل بنظاره ، وأعلقتم الأول بآخره ، يشتد حتى تقول الصخر الأعلس ، ويلين حتى تقول الماء أو أسلس ، سواحر ألفاظ كفواتر الألحاظ ، معتقات معان ، كأنها فك عان ، كلام سديد ، قريب بعيد كالشمس تقرب ضياء ، وتبعد رفعة وعلاء ، يسيل في الأذهان سيل السلسبيل ، ليس إلى بلاغته من سبيل ، لا متناعه مع اتساعه ، وتعسيره في تيسيره ، ما أبرع عبارته وأبدع استعارته ، يدعو إلى حفظه حسن معناه ولفظه ، تطابقت أنحاؤه ، وتوافقت أجزاؤه ، يصبو إليه السمع والطرف ويجري فيه ماء الملاحة والظرف ، كأنما تنفّس الأسحار بنسيمه وتصدع الأصداف عن نظيمه ، ونفث هاروت في وشي بروده ، وحبات القلوب من نظم عقوده :

[البسيط]

معنى بديع وألفاظ منمّقة

رقيقة وصنيع كلّه عجب

٢٨٥

غيره لله دره

[البسيط]

سحر من اللّفظ لو دارت سلافته

على الزّمان تمشّى مشية الثّمل

هو السحر الحلال والماء الزلال ، وقد أنشدنا في استجادة ما أنشدتم ، واستحسان ما أوردتم ، قول أبي تمام لمدلول النظام :

[البسيط]

تغاير الشّعر فيه إذ سهرت له

حتّى ظننت قوافيه ستقتتل

ألا وكيف لا ، وهو من ذكى كالبرق أو أسرع لمعا ، وكالسيف أو أحدّ قطعا :

[البسيط]

مناقب شمخت في كلّ مكرمة

كأنّما هي في أنف العلى شمم

فأقررت عيني بوروده وشفيت نفسي بوفوده ، لكن الضمير لا يحيط بمكنونه ، والخطاب لا يسع ما في مضمونه ، ليتميز بإعرابه ما في فصوله وأبوابه ، إلا المشافهة في الكلام لا نيابة الطروس والأقلام ، إذا قد رجونا من سمو قدركم وبهو بدركم ، وعلوّ جدكم ، وسمو ودكم وإنجاز ما وعدتمونا به من الاجتماع ، الذي هو ألذ من وصل الحبيب بعد الامتناع ، ومن تمايس القدود الرشاق ، واحمرار الخدود تحت سواد الأحداق ، أحلى من النعيم الحاضر ، وأشهى من الشباب الناضر. فالإنجاز سنة الكرام التي مضى عليها عملهم وطريقة الأعلام التي نيط بها أملهم ، وسيادتكم بكل فضيلة أحق ، ولكل جميلة أسبق ، فأنتم نجوم الظلام ، وبدور التمام.

[الطويل]

فللنّجم من بعد الرّجوع استقامة

وللبدر من بعد المغيب طلوع

٢٨٦

فأقدموا على بركة الله في حفظ الله ، وأمان الله ، برعاية الله.

[الخفيف]

لو علمنا مجيئكم لفرشنا

مهج القلب أو سواد العيون

غيره :

[الطويل]

وقيل له أهلا وسهلا ومرحبا

فهذا مبيت صالح ومقيل

فنسأل الله جمع الشمل والملاقاة ، بعد الشتات ، في أطيب الأوقات.

[الطويل]

ليال قضيناها بطيب حديثكم

فما كان أحلاها ، وما كان أغلاها

أبقى الله شمس ذهنكم وقادة ، وأزمة البديع تحت مقاصدكم منقادة ، ول العلوم الوهبية لكم دثارا ، والعلوم الكسبية لكم شعارا ، ومتعنا الله بدوام إشراقكم ، وعطر بالثناء جميل أخلاقكم ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، ونسأله حسن البدايات والنهايات ، والسلام عليكم ، من السلام إلى دار السلام ، في أواخر المحرم الحرام عام ١٣٤٦ ، عبيد ربه امربيه رب ، أنا له الله بشكره ما يحب.

نرجوه تعالى أن يحقق له رجاءه ، ويديم عزه وسناءه وارتقاءه ، ويجازيه عنا ببلوغ الآمال ، وقرة العينين في النفس والانجال ، وسائر المتعلقات في المسرات ودوام العافيات.

٢٨٧

مخاطبات شعرية أدبية بين الشيخ محمد الإمام وجامع الرحلة

وكذلك صنوه الأستاذ الشيخ محمد الإمام المذكور ، فقد كان بيني وبينه ـ أطال الله بقاءه ـ من الخصوصية الصافية ، والمودة الخالصة ، والمحبة الوافية ما لا يخطر على بال ، ولا يعبّر عنه مقال ، حتى كأنا بحمد الله ، ذاتا واحدة ، تقاربت الجسوم ، أو كانت متباعدة ، فلسنا ـ بحمد الله ـ إلا كما قيل :

[الرمل]

أنا من أهوى ومن أهوى أنا

نحن روحان حللنا بدنا (١)

فإذا أبصرتني أبصرته

وإذا أبصرته قلت أنا

فقد جعلني ـ دام عزه ـ كنز سره المكنون ، وحديقة أنسه المصون ، فمبلغي عنده في الاجتباء والاصطفاء والتقرب لم يبلغ قريبا منه حبيب من حبيب ، وما ذاك إلا من كرمه وتواضعه وأفضاله ، ومحاسن أخلاقه وإجماله ، وتحليه بالأوصاف المحمدية ، ورسوخه في المقامات الأحدية ، وتأسيه بالأخلاق القرآنية ، وثبوته في مجمع الطرق الربانية ، ودائما ـ أدام الله لنا بقاءه ورفعته وعزه وارتقاءه ـ يخاطبني بما هو أهل له من الإحسان والإكبار ، وإظهار الاتحاد في الإعلان والإضمار ، في محاسن النثر ، وبدائع الأشعار ، فمن ذلك هذه الأبيات أنشدنيها من ارتجاله ـ حفظه الله ـ وقد اجتمعنا بعد ما كنا مفترقين ، وهي (٢) :

[البسيط]

ماذا أقول ولو أطنبت فيما بي

شوقا لكم كان كالإيجاز إطنابي

__________________

(١) ينسب هذان البيتان لرابعة العدوية.

(٢) أنظر هذه المساجلة في مجموع يحجب ، و ٢ ، وكذا مجموع اسلم ، و ١٨٤.

٢٨٨

فالقلب بعدكم ما أنفكّ ذا وصب

كأنّما البين للأوصاب أوصى بي (٣)

سرى اشتياقكم في القلب يتبعه

عرفا بعرف وأعصابا بأعصاب

أهكذا كلّ خلّ في المحبّة أم

شيء خصصت به من بين أحبابي

نعم لقد فقت إخوان الصّفاء كما

قد فقتم الغير في علم وآداب

لذاك صرت بكم بلا منازعة

أولى وصرتم عن الأحباب أولى بي

فأجبته دام حفظه وعلاه بهذه الأبيات ، ملتزما فيها لزوم ما لا يلزم :

[البسيط]

يا من بمرعاه إمراعي وإخصابي

والحبّ والودّ منه المحض خصّابي (٤)

ومن ولهت به شوقا فجرّعني

ما من جواه أقاسي غصّة الصّابي (٥)

إنّي لأصبوا إلى سلسال وصلكم

كما إلى العين يصبو الموّلع الصّابي (٦)

__________________

(٣) وصب : وجع دائم.

(٤) إمراعي : إصابتي الكلأ.

(٥) الصابي : الذي صبأ

(٦) الصابي : العاشق.

٢٨٩

لو لا فراقكم ما اعتادني وصب

ولم يكن غيركم ترياق أوصابي (٧)

ما زلت ذا نصب من داء بينكم

وبينكم برء أدوائي وأنصابي (٨)

لو أنصف الدّهر أودى بالبعاد فلا

تقصون عني وعنكم ليس يقصى بي

وكان الأستاذ الشيخ محمد الإمام مرة مسافرا ، فكتب إليّ بهذه لأبيات :

[الطويل]

سلام كعرف الرّوض صافحه النّدى

يزفّ إلى بحر النّدى والمكارم

من امتزجت روحي بسلسال ودّه

وإن شئت سل سيول الدموع السّواجم

فموجبه أنّي على العهد لم أزل

ولا تعتريني فيه لومة لائم

فأجبته غفر الله لي بقولي بعدما قدم من سفره :

[الطويل]

ألا مرحبا أهلا وسهلا بقادم

أقاسي الهوى من حبّه المتقادم

__________________

(٧) أوصابي : أوجاعي ، جاء هذا البيت برواية أخرى وهي :

 ـ إن كان يعتادني من بينكم وصب

فطالما كنتم ترياق أوصابي

مجموع يحجب ، و. ٢.

(٨) أنصابي : عنائي.

٢٩٠

إمام الهدى ، بدر الدّيانة مرتقي

سنام المزايا بأستنام العزائم

لك المنزل الأحظى من القلب إن تبن

وإن تدن لا تنفكّ فيه ملازم

أغصّ بريقي كلّما غبت مثلما

تغصّ البرى في زند ريّا المعاصم (٩)

فأصبو إلى خمر التّداني بغصّتي

صبو من استباه خمر المباسم

فأغدو به نشوان أهتزّ دائما

كما اهتزّ أعطاف الحسان النّواعم

على أن إيناسي على القرب والنّوى

بك الدّهر ما غنّت شوادي الحمائم

وكتب لي حفظه وكلأه الله مرة كتابا يستقدمني فيه لحضرته العلية ، وأودعه هذه الأبيات :

[الطويل]

لئن غاب يا عينيّ ماؤكما إذا

فما هو عن عين الضّمير بغائب

له صورة في القلب لم يقضها النّوى

ولم تتخطّفها أكفّ النّوائب

إذا ساءني منه نزوح دياره

وضاقت عليّ في نواه مذائب

__________________

(٩) البري : الخلخال.

ـ ريا المعاصم : ممتلئة المعاصم

٢٩١

عطفت على شخصه غير نازح

محلّته بين الحشا والتّرائب

فكتب له أطال الله بقاءه ، في جوابه هذه الأبيات :

[الطويل]

أسود فروع فوق بيض ترائب

أم استنّ فوق الطرس مزبر كاتب (١٠)

أتاني على شحط المزار خطابه

فلم أر ذاتا غير ذات مخاطب

فتى عن سؤالي حاجب العين والحجا

وهل هو إلا نصب عيني وحاجب

فكيف إمام الصّفّ عنك تربّصي

بمغنى ومغناطيس شوقك جاذب

وقال الشيخ محمد الإمام دام بقاؤه أيضا مخاطبا جامع الرحلة ما العينين ابن العتيق في مقدم قدمه على الحضرة الشريفة صانها الله بعدما طالت غيبته عنها ، جزاه الله عنا بطول العمر في العافية (١١).

[البسيط]

بشراك بالسّعد غنّى الطّائر الغرد

وأنجزتك ليالي الوصل ما تعد

__________________

(١٠) استنّ : جرى في نشاطه على سننه في جهة واحدة.

ـ الطرس : الصحيفة.

ـ المزبر : القلم.

(١١) أنظر هذه القصيدة في : مجموع يحجب ، و، ٣٦.

٢٩٢

بدر المنى ساطعا هذاؤه وذه

شمس التهاني بأفق السّعد تتّقد

بمقدم من حبيب شدّ ما انتزحت

به يد البعد تبّت للبعاد يد

فأصبحت ثمرات البشر يانعة

تخال قنوانها باللّطف تنعقد (١٢)

أما ترى حلبات المجد منذ أتى

في كلّ غاياتها تجري وتطرد

لمّا تنشّقت من عرف الوصال شذى

سرت حميّا الشّفا في كلّما أجد

يا مرحبا بك من علق لجانبنا

تهدي الرّكاب به عيرانة أجد (١٣)

فانجاب مذ جابت البيداء حندسها

وانحلّ مذ حلّ في ساحاتنا العقد (١٤)

رغد المعاش لمن نأت أحبّته

ضنك وضنك لديهم عيشة رغد (١٥)

ما إن يزاحم وسط القلب منزله

أنّى تغالب عن أشبالها الأسد

كم فكّ عوصاء ما انفكّت مغلّقة

وعزّ مصدر من لبابها يرد

__________________

(١٢) القنوان : م. القنو : هو العذق وهو من النخل كالعنقود من العنب

(١٣) الركاب : الإبل : العيرانة : الناقة الصلبة

ـ ناقة أج : قوية

(١٤) الحندس : الليل الشديد الظلمة

(١٥) الضنك : من ضنك : إذا ضعف رأيه.

٢٩٣

محسّد من أناس دون منصبه

لا زال فوق الذي من أجله حسدوا

قد زان صدر النديّ اليوم مشهده

ما زان جيد الفتاة السّمط والغيد (١٦)

لعساء تفترّ عن أغرّ ذي شنب

كأنّه أقحوان الرّمل أو برد (١٧)

أصمت فؤادك عن قوس موتّرة

ما إن لمن قتلت عقل ولا قود (١٨)

ومن تأوّد غصن في علائلها

لو لا الغضارة لا يلفى به أود (١٩)

هذا ونسأل مولانا رعياتكم

وأن يبلّغ للجميع ما قصدوا

فلما أنشدنا منئشها ـ أطال الله حياته ـ بحضرة ألأستاذ سيدنا الشيخ مربيه ربه ، قال في استحسانها هذين البيتين ارتجالا ، وهما :

[البسيط]

يا من يحاول شعرا رائقا سلسا

من نسج يلمعة أثوابه جدد

أنشد على ثقة لما تحاوله

بشراك بالسّعد غنّى الطائر الغرد

__________________

(١٦) السمط : الخيط ما دام الخرز أو اللؤلؤ منتظما فيه.

ـ الغيد : النعومة.

(١٧) قود : قصاص

(١٨) الشنب : من شنب شنبا : كان أبيض الأسنان فهو حسنها.

(١٩) أود : انحناء.

٢٩٤

وقال جامع الرحلة ما العينين بن العتيق ـ غفر الله له ـ في جوابها (٢٠) :

[البسيط]

يا خير من منه مدت للثناء يد

فلم يكن منه أحرى بالثنا أحد

من غادرت من على أجداده جددا

بيضا ، فجدّت به من بعدها الجدد (٢١)

ولا تزلّ له عن نهجها قدم

إذا تشعّبت الطرائق القدد (٢٢)

وآخت السّؤدد الطّبعيّ مهجته

طفلا فشدّ به للسؤدد العضد

من لا يني في مجاز المجد يرصده

حقيقة حين لم يوجد له رصد

لم يحكه في صميم المكرمات فتى

وهل يقاس بصافي العسجد الزّبد؟

القدوة العمدة المرسي مطنّبة ال

علياء ، فهو لها الأوتاد والعمد (٢٣)

لا غرو أن جدت يا أهل الثناء به

فليس من غير كسب المنفق الصفد (٢٤)

__________________

(٢٠) أنظر مجموع يحجب ، و ٣٦.

(٢١) جدد : ج ، جدة ، طريقة.

(٢٢) القدد : من القدة ، وهي الفرقة والطريقة من الناس إذا كان هوى كل واحد على حدة ، وفي البيت إشارة إلى قوله تعالى : (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً) سورة الجن ، الآية ١١.

(٢٣) مطنبة : مشدودة بالأطناب ، أي الحبال.

(٢٤) الصفد : العطاء.

٢٩٥

أحبب ببشر وترحيب يريه لنا

من فضلكم في محيّا فكره الخلد (٢٥)

نحن الألى عن نور مشهدكم

وبدر مشهدكم صبر ولا جلد

ما للمعيشة تنغيص كبعدكم

أنّى يطيق النّوى عن روحه الجسد

قد كابدت كبدي من بينكم كبدا

وكيف تصبر عن أفلاذها الكبد؟ (٢٦)

ما افترّ ثغر اللّيالي عن بوارقكم

واصطاد للوصل عصفور النوى صرد (٢٧)

فالكلّ منّا بحمد الله مبتهج

وقد تهيّا لنا من أمرنا رشد (٢٨)

لا زال ذلكم المغنى البهيج لنا

روض اجتماع إلى أفيائه نفد (٢٩)

وكعبة حجّها يطبي الوفود كما

يطبي لكعبته حجّاجه البلد

ودمت وارث طه يا خليفته

في الكون صلّى عليه الواحد الصّمد

__________________

(٢٥) الخلد السكون.

(٢٦) بينكم : فراقكم.

(٢٧) صرد : من الصرد ، وهو طائر فوق العصفور يصيد العصافير.

(٢٨) في هذا البيت إشارة إلى قوله تعالى : (رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً) سورة الجن الآية ١٠.

(٢٩) لا زال ذلكم المغنى البهيج لنا : لا زال مغناكم الميمون عوض لنا ، في مجموع يحجب.

٢٩٦

وقال الشيخ محمد الإمام أيضا يخاطبني ، وقد ارتجلنا أشعارا في محاضرة أدبية يطول جلبها :

[الطويل]

أمن خاض في بحر العلم لجته الوسطى

فشطّ بها والغير ما جاوز الشّطا

لعمرك لم يلبغ مديحك مفلق

ولو شطّ في أمداحه فيك ما شطّا

لأن المعاني في علاك تزاحمت

فأطّت سماء الفكر من حملها أطّا (٣٠)

وإنّ بنات الفكر عزّ اقتناصها

على غير كفء يفهم القصد والشرطا

وإني فتحت الباب من ذاك ناحيا

لماء عيون المجد في الأخذ والإعطا

فأعطيت قوس الشعر باريّها الذي

لدى ذهنه حطّت رحالتها حطّا

فأجبته :

أواسطة العقد الإلاهي ما تعطى

عزيز مداه من مراتبك الوسطى

وما رام في مجد يساميك مرتق

برفعته إلا تدحرج وانحطّا

أ إذ لم تقس في الشعر أعطيت قوسه

وأيّ مجيد منك أجدر بالمعطى

فذهنك في الآداب جوّلت طرفه

ولمّا تجاوز في مناهجها القسطا

__________________

(٣٠) أطت : صوتت ، عجزت عن الحمل.

٢٩٧

تني الشّم عن درك الإمام ولو خدت

بفيح علاه نجب همّاتهم خبطا (٣١)

فمن يغترف من بحر أمداحه يصب

ومن يعترف بالعجز عنه فما أخطا (٣٢)

وأمثال هذه المخاطبات بحمد الله كثير ، وإنما أتينا بطرف منها يسير ، دلالة على ما ذكرنا من أمر الشيخين ، جزاهما الله بطول العمر وقرة العينين ، ونحمده تعالى على نعمة مرافقتهما إلى الحرمين ، رزقنا الله بجاههما ، وجاه جدهما صلى‌الله‌عليه‌وسلم سعادة الدارين ، وكفاية الهمّين ، والحفظ من شر الثقلين ، آمين.

ذكر مسائل فقهية

مسائل فقهية ألقاها بعض وفدنا الحاج أيامنا بكناري بعد مسير الشيخ مربيه ربه عنا ، وذلك أنا كنا ذات يوم في بعض مجالسنا ، فاستفتانا بعض الجلساء عن ثلاث مسائل اقتضى الحال البحث عن حكمها.

المسألة الأولى : هل يحل أكل ذبائح النصارى أم لا؟ والجواب عن ذلك

الأولى ، هل يحل أكل ذبائح النصارى لنا أم لا؟ الثانية ، هل يباح لنا نكاح نسائهم أم لا؟ الثالثة ، هل تجوز لنا رقيا مرضاهم أم لا؟ فسارع بعض الحاضرين إلى الجواب بما لا مقنع فيه ، فالتفت السائل إلى جامع الرحلة ما العينين بن العتيق ـ غفر الله له ـ واستفتاني ، خصوصا عن المسائل الثلاث ، فقلت له : لو لا الوعيد الوارد فيمن سئل عن علم يعلمه فكتمه لما تكلمت في هذه المسائل بأدنى كلمة لأنها من

__________________

(٣١) خدت : أسرعت.

(٣٢) أنظر هذه المساجلة في : مجموع يحجب ، و، ١٩٠.

٢٩٨

الأحكام الشهيرة ، المشحونة بها الكتب الفقهية ، لكن حيث عنيتني بالخطاب لم يسعني ترك الجواب ، والله الموفق للصواب ، فأقول : أما المسألة الأولى وهي هل يحل لنا أكل ذبائح النصارى ، أم لا؟ فالجواب فيها ، أنه يحل لنا أكل ذبائحهم ، لقوله تعالى ، (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ)(٣٣) ، قال البغوي في تفسيره ما نصه : «يريد ذبائح اليهود والنصارى ومن دخل في دينهم من سائر الأمم قبل مبعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حلال لكم ، فأما من دخل في دينهم بعد مبعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلا تحل ذبيحته ، ولو ذبح يهودي أو نصراني على اسم غير الله ، كالنصراني يذبح باسم المسيح ، فاختلفوا فيه ، قال ابن عمر لا يحل ، وهو قول ربيعة ، وذهب أكثر أهل العلم إلى أنه يحل ، وهو قول الشعبي وعطاء والزهري ومكحول ، سئل الشعبي ، وعطاء عن النصراني يذبح باسم المسيح ، قالا : يحل ، فإن الله تعالى قد أحل ذبائحهم ، وهو يعلم ما يقولون ، وقال الحسن : إذا ذبح اليهودي او النصراني ، فذكر اسم غير الله ، وأنت تسمع ، فلا تأكله ، فإذا غاب عنك فكل ، فقد أحل الله لك» (٣٤). وقال الخازن في تفسيره ما نصه : «يعني ، وذبائح أهل الكتاب حل ، وهم اليهود والنصارى ومن دخل في دينهم من سائر الأمم قبل مبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأما من دخل ف دينهم بعد مبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهم متنصروا العرب من بني تغلب ، فلا تحل ذبيحته روي عن علي بن أبي طالب ، قال : لا تأكل من ذبائح نصارى العرب بني تغلب فإنهم لم يتمسكوا بشيء من النصرانية إلا بشرب الخمر ، وبه قال ابن مسعود ، ومذهب الشافعي أن من دخل في دين أهل الكتاب ، بعد نزول القرآن ، فإنه لا تحل ذبيحته ، وسئل ابن عباس عن ذبائح نصارى العرب ، فقال : لا بأس به. ثم قرأ : ومن يتولهم منكم فإنه منهم ، وهذا قول الحسن وعطاء وابن أبي رباح والشعبي وعكرمة وقتادة والزهري والحكم وحماد ، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك ، وإحدى الروايتين عن أحمد ، والرواية الأخرى ، مثل هذا مذهب الشافعي ، وأجمعوا على تحريم ذبائح المجوس وسائر أهل الشرك من مشركي العرب وعبدة الأصنام ، ومن لا كتاب لهم ،

__________________

(٣٣) سورة المائدة ، الآية ٥.

(٣٤) تفسير البغوي المعروف بمعالم التنزيل ص ١٤ ـ ١٥ ـ ج ٢ دار الفكر ١٣٩٩ ه‍ ١٩٧٩ م.

٢٩٩

وأجمعوا على أن المراد بطعام الذين أوتوا الكتاب ، ذبائحهم خاصة.» (٣٥). وقال ابن حيان في تفسيره «البحر» (٣٦) ما نصه : «طعامهم هنا هي الذبائح كذا قال معظم أهل التفسير ، قالوا لأن ما كان من نوع البر والخبز والفاكهة وما لا يحتاج فيه إلى ذكاة ، لا يختلف في حلها باختلاف حال أحد ، لأنها لا تحرم بوجه سواء كان المباشر لها كتابيا أو مجوسيا ، أم غير ذلك ، وأنها لا يبقى لتخصيصها بأهل الكتاب فائدة ، ولأن ما قبل هذا في بيان الصيد والذبائح. فحمل هذه الآية على الذبائح أولى إلى أن قال :

«وإذا حملنا الطعام على ما قاله الجمهور من الذبائح ، فقد اختلفوا فيما هو حرام عليهم ، أيحل لنا أو يحرم؟ فذهب الجمهور إلى أن تذكية الذمي مؤثرة في كل الذبيحة ، ما حرم عليهم منها ، وما حل فيجوز لنا أكله كالشحوم المحضة. وهذا هو الظاهر لقوله : (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ»)(٣٧) وهذا المحرم عليهم ليس من طعامهم ، وهذا الخلاف موجود في مذهب مالك» إلى أن قال أيضا : «وذهب الجمهور ، ابن عباس والحسن وعكرمة وابن المسيب والشعبي وعطاء وابن شهاب والحكم وقتادة وحماد ومالك وأبو حنيفة وأصحابه أن لا فرق بين بني إسرائيل والنصارى ، ومن تهود أو تنصر من العرب أو العجم في حل أكل ذبيحتهم» (٣٨).

وحاصل فقه المسألة في مشهور مذهب الإمام مالك هو ما لخصه الإمام ابن جزي في قوانينه ، فقال ما نصه : «فأما أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، رجالهم ونسائهم ، فتجوز ذبائحهم على الجملة اتفاقا ، واختلف منها في فروع ، وهي إن كان الكتابي عربيا ، جازت ذبيحته عند الجمهور ، خلافا للشافعي في أحد قوليه ، وإن

__________________

(٣٥) تفسير الخازن المسمى لباب التأويل في معاني التنزيل ج ٢ ص ١٤ دار الفكر ١٩٧٩.

(٣٦) يقصد كتاب «البحر المحيط» أو التفسير الكبير لأبي عبد الله محمد بن يوسف بن حيان الأندلسي الغرناطي المتوفى بالقاهرة سنة ٧٥٤ ه‍ مكتبة مطابع النصر الحديثة ، المملكة العربية السعودية ، أنظر ترجمته في ، طبقات الشافعية الكبرى ، ج ٦ ص ٣١.

(٣٧) سورة المائدة ، الآية ٥.

(٣٨) البحر المحيط. ابن حيان ، ج ٣ ص ٤٣١ ، ط ١ مطبعة السعادة ١٣٢٨.

٣٠٠