الرحلة المعينيّة

ماء العينين بن العتيق

الرحلة المعينيّة

المؤلف:

ماء العينين بن العتيق


المحقق: محمّد الظريف
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-36-634-9
الصفحات: ٣٩٥

الشريف ، وما تفرق النادي ، حتى صلوا الصبح بمحضر من السلطان ، وكنت ممن أنشأ تلك الليلة في مدح مولانا السلطان ، وتهنئته بالعيد المولدي ، لا بأس بإيرادها هنا ، وهي (٥٣) :

[الكامل]

بشر المنى بك أشرقت أعلامها

يشدو على فنن السّرور حمامها

وحظائر الأفراح منك تنسمت

أرواحها وتبسّمت أكمامها (٥٤)

زانت إمامتك الزمان وكيف لا

تزدان أزمنة وأنت إمامها

لم تبق من رتب الكمال مزية

إلا وانت ملاكها وقوامها

لله درّك يا ابن يوسف من فتى

يرعى به للمكرمات ذمامها (٥٥)

أنت المليك الكامل الكرم الذي

نجلتك من غرّ الملوك كرامها

أجدادك الصيد الغطارفة الألى

غبطت بها الغرب العراق وشامها

موفورة أعراضها مبذولة

أموالها موصولة أرحامها

وحميدة أخلاقها وسديدة

آراؤها وحديدة أفهامها

__________________

(٥٣) أنظر هذه القصيدة في : باقة من شعر أقاليم الجنوب ، ص ٤٦.

(٥٤) الأفراح : العرفان ، في باقة شعر من أقاليم الجنوب ، ص ٤٦.

(٥٥) ابن يوسف : ممجد ، في باقة شعر من أقاليم الجنوب.

٢٦١

فمحلّ إيطان السّماحة راحها

ومحلّ تيجان الخلافة هامها

ترك العلى لبنيه إسماعيلها

إرثا وأورثها بنيه هشامها

حتى جلست على أريكة عرشها

ملقى إليك عنانها وزمامها

لم تحك في فخر الجدود ومن يرم

فخر النفوس فما سواك عصامها

تحنوا لمنبرك الرؤوس مهابة

إنّ الأسود مهيبة آجامها (٥٦)

أسهرت جفنك في تدابير الأمو

ر فأصبحت بك متقنا إبرامها

وكفيت ما تشكو الرعية فانجلت

لأواؤها بك وانتفت أسقامها

وتعلّمت جهلاؤها وتأدبت

أحلافها وتيقّظت نوامها

عنيت بسيبك عن بعولتها أيا

ماها وعن آبائها أيتامها

كم من مدارس للعلوم نشرتها

نشرت ثناءك في الورى أقلامها

ومساجد شيّدتها وعمّرتها

أضحى بفضلك حاكما إحكامها

وكم اعتصمت بسنة الهادي فما

ترضى سوى ما تقتضى أحكامها

__________________

(٥٦) الرؤوس مهابة : الأكابر هيبة ، في : باقة شعر من أقاليم الجنوب.

٢٦٢

وكم احتفلت بعيد طلعته فعندك

لا تزال بهيجة أيّامها

فاهنأ بها من ليلة سرّت بشا

ئرها بجدّك واستنار ظلامها

هي ليلة القدر الولاديّ التي

عن البرية خيرها وسلامها

هل في اللّيالي مايوازي ليلة

عن طلعة المختار زيح لثامها

من حبّه بالغت في تعظيمها

أو ليس من تعظيمه إعظامها

أحبب بها من مدحة نبوية

باتت تدار بمنتداك مدامها

ما أنت إلا البدر في هالاته

لمّا أحاط بجانبيك ندامها

فلقد رقيت سنام كل مكانة

في الفضل عزّ المرتقين سنامها

ونثرت كلّ يتيمة للمجتدي

فبدا بمدحك للمجيد نظامها

ودعت مكارمك الوفد فلم ترم

تترا إليك فيستفاد مرامها

ووليّ عهدك يقتفيك فنفسه

عن رسل مجدك يستحيل فطامها

أنتم قديما سادة أبناؤكم

ما إن تزل عن إثركم أقدامها

ماذا أعدّد من خلالكم التي

لا يستطاع كمالها وتمامها

٢٦٣

مطلب اجتماعنا تلك الليلة بالنقيب ابن زيدان ، وذكر كتابه الذي بعث لنا

قبل ذلك وصحبته الأجزاء المطبوعة من تأليف الإتحاف ، وذكر جوابنا له

والقصيدة التي قرظنا بها كتابه المذكور

واجتمعت في هذه الليلة بكثير من أجلة العلماء ، وأئمة الفضلاء ويلامع الأدباء ، وفيهم العلامة الأستاذ الفقيه المشارك الأديب ، النبيه ، الشريف ، نقيب العائلة السلطانية ، السيد عبد الرحمان بن زيدان (٥٧) ، فقابلي بما لا يوصف من السرور والفرح بماقاتي ، ولم يفارقني تلك الليلة ولا أيامنا بالرباط بعد ذلك ، حتى ركبنا في السيارة معا إلى داره بمكناس ، فبالغ في إكرامنا والإحسان علينا ، ولبثنا عنده أياما في أحسن حال ، نبيت ونظل في المذاكرة العلمية والأدبية ، نتعاطى عنده كؤوس الإفادة من جميع الفنون ، وكان من أغزر الأشراف علما وأدبا ، وأوسعهم اطلاعا ، وأحلاهم مجلسا ، وأكرمهم نفسا ، وأقومهم نهجا ، فحمدنا الله على ما منّ به من اجتماعنا ، لأن كل واحد منا كان معلق البال بلقاء الآخر ، وقد كان بعث لي كتابا عام ١٣٥٥ ، ومعه خمسة أجزاء ، تمّ طبعها من تاريخه المسمى «إتحاف أعلام الناس» ، ونص ما كتبه لي :

«الحمد لله وحده ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه ، من عبد ربه خديم العلم والعلماء عبد الرحمان بن محمد بن عبد الرحمان بن علي بن محمد بن عبد الملك بن زيدان بن فخر الملوك وجد سلاطين المغرب الأقصى السلطان إسماعيل الأكبر ، دفين مكناسة الزيتون ، إلى حبه صاحب الفضيلة والنبل ، العلامة ابن العتيق ، آدام الله إجلاله وإكباره وسؤدده وفخاره ، وأمنه ورعاه ، وأمنه ورعاه وزاد في

__________________

(٥٧) عبد الرحمان بن زيدان : ولد بمكناس سنة ١٨٧٣ ، تلقى دراسته الأولى في مكناس وزرهون ثم ارتحل إلى المشرق ، تولى نقابة الإشراف بمكناس وزرهون ، توفي بمكناس سنة ١٩٤٦ ، خلف عدة آثار أدبية منها : «إتحاف أعلام الناس بجمال حاضرة مكناس» و «الدرر الفاخرة بمآثر العلويين بفاس الزاهرة» و «العز والصولة في معالم نظام الدولة» ، وكثيرا من الأشعار ، أنظر ترجمته في : الشعر الوطني المغربي في عهد الحماية ، ص ٢٢٠. أهم مصادر التاريخ والترجمة أحمد المكناسي ص ١٣.

٢٦٤

حسنه ومغناه ، وسلام على جنابه الأرفع ، ورحمة الله وبركاته ، أما بعد ، بإن رابطة العلم والأدب ، وصفاء الود المؤسس على تقوى من الله ورضوان ، تراث توارثه الأبناء عن الآباء ، حدا بي إلى مفاتحة جنابكم الملحوظ بعين الإكبار والإجلال بالمراسلة وإهدائكم ما تم طبعه من تاريخنا من إتحاف أعلام الناس ، وهو أجزاء خمسة ، راجيا أن لا ينبذ وراءكم ظهريا ، وأن تعيروه حصة من وقتكم الثمين ، المعمور بما يقرب من الله زلفى اقتفاء لآثار الأسلاف المتقين ، وتنبيهي على ما زاغ به القلم ، أو نبا عنه البصر ، وضمه من خطا وخطل ، شأن البشر ، وقد زرت في هذه الأيام الأخيرة القطر السوسي ، ولم يكن لي علم بمحل استقراركم ، حتى رجعت لتارودانت ، وراجت المذاكرة بيني وبين محب الطرفين الفقيه الأديب ، السيد محمد الشنجيطي البيضاوي (٥٨) ، باشا تارودانت في العلماء والأدباء المعاصرين ، فأخبرني بأنكم العلم المفرد في هذا الزمان ، وشنف سمعي بما منحكم الله من الشمائل الشماء ، وميزكم به دون من عداكم من علو الكعب في الأدب الراقي والشعر الفائق الرائق ، والوقوع على بديع النكت العلمية والدقائق ، أسفي على عدم زيارتكم ، وتجديد المواثق والعهود وإحكام ربط صلة الوصل ، ولو بكتب سواد في بياض ، والله أرجو أن لا يحرمنا من اللقى على حالة رضى الله والرسول ، فنتملى من آدابكم الجم ، والسلام التام ، عائد على مقامكم الأسمى ، ورحمة الله وبركاته ، من كاتبه مجلّ قدركم ابن زيدان المذكور صدره ، في فاتح صفر الخير عام ١٣٥٥.

عنواني إن تنازلتم للجواب يكون هكذا :

نقيب العائلة السلطانية ، الشريف عبد الرحمان ابن زيادان بمكناس ه.

انتهى من خطه ، جزي خيرا ، ووقي ضيرا ، فلما وصلني الكتاب أجبته بما نصه :

__________________

(٥٨) محمد الشنجيطي البيضاوي : ولد بشنقيط ، سنة ١٣٢٢ ه‍ ، تلقى تعليمه الأول في شنجيط وحضر دروس علماء الرباط وفاس والمشرق ، اشتغل بالتعليم والقضاء والترجمة والصحافة ، فكان محررا في جريدة السعادة ، ثم باشا في تارودانت ، له أشعار كثيرة ومقالات نقدية هامة ، أنظر ترجمته في الشعر الوطني المغربي» ص ، ٢٤٣. ديوان العلامة الأديب محمد البيضاوي الشنقيطي ، جمع وتقديم ، محمد الظريف.

٢٦٥

«الحمد لله وحده ، صلى الله على سيدنا محمد ، وعلى آله وصحبه وسلم.

إلى سيادة الأخ في الله ، العلامة الشهير ، الأستاذ الكامل الكبير ، الفقيه المشارك ، الأجل ، العمدة ، الجامع ، الأفضل ، واسطة عقد العلماء الأعيان ، بحر يواقيت المعاني والبيان ، أعجوبه الزمان ، شمس العرفان ، عظيم القدر والشأن ، نقيب العائلة السلطانية ، الشريف سيدي عبد الرحمان بن زيدان زاد الل احترامه وأدام إعظامه وإكرامه ، وأبقى نجوم سعده طالعة ، وثمار علمه يانعة. من أخيه وحبيبه ما العينين بن العتيق ، دفين فاس الجديد ، الإدريسي القلقمي ، سلام يليق بمجادته العظى ، ومقامه الأسمى ، ورحة الله تعالى وبركاته ، هذا وقد وصلني كتابكم الأبهى بما تضمنه من خطابكم الأشهى ، مصحوبا بالأجزاء الخمسة التي تم طبعها من تاريخ سيادتكم «أتحاف أعلام الناس» ، فحل منى محل الإنسان من السواد والسويداء من الفؤاد ، ومثلكم من بدأ بالفضل والامتنان ودعته آصرة الود الأدبي إلى مزيد الاعتناء والإحسان بعلو همتكم ، وسمو رتبتكم أهل لما تفضلتم به من افتتاح المراسلة التي هي غاية المنية ونهاية البغية ، ومن إتحافي بتاريخكم الإتحاف ، السافر عن محاسن أسلافكم الأشراف ، ومنذ وصل يدي ، جعلته نصب عيني ، ولم أغادر حاجزا بينه وبيني ، فألقيته بحرا زاخرا ، وروضا زاهرا ، تقتني منه درر الآثار ، وتجتنى منه ثمر الأخبار ، أخذ من فنون التاريخ أنفعها ، ومن أساليب التأليف أبدعها ، شفى الغليل في موضوعه المراد ، ونمقه بلطائف الاستطراد ، فضم الفوائد الجليلة ، والمآثر الجميلة ، والنكت العجيبة ، والنتف المطربة ، والآداب الرائقة ، والأشعار الفائقة ، ما يقرّ آماق الناظرين ، ويشنف آذان السامعين ، فلا مطعن فيه لحاسد ، ولا مغمز فيه لنا قد ، فأذن بفخامة قدركم العلي ، وتبحركم في العلمين النقلي والعقلي. وقد تلقيته بأيدي القبول والسرور والاحتفال والحبور ، راجيا منه تعالى أن يجعله عملا مبرورا وسعيا مشكورا وأن يمتع المسلمين بدوام بقائكم وأن لا يحرمنا من الابتهاج بلقائكم ، وقد سمحت القريحة بأبيات في تقريظه ، ملتمسا من سيادتكم نظرها بعين الرضا والمسامحة ، جعلنا الله وإياكم من الراضين المرضيين الهادين المهتدين المتمسكين بسنته عليه الصلاة والسلام ، بالتمام ، والسلام ، كما بدأ يعود على جنابكم المحمود. في ٢٠ صفر الخير عام ١٣٥٥. ما العينين بن العتيق المذكور».

٢٦٦

والتقريظ المشار إليه هو :

[الطويل]

حبا بعبير الآس نفسي حبيبها

فأهلا بريح لا أني استطيبها (٥٩)

ولا عجب أن كان للصّدر شارحا

بآدابه صدر النوادي أديبها

سراج الهدى ، إكليل مكناسة الذي

به اشتهرت آثارها وشعوبها

من أربى على عبد الحميد كتابة

وأمّا بنات الفكر فهو حبيبها (٦٠)

لو استاق أرباب التواريخ نفحة

سرت من عبير الآس يشفي هبوبها

لدان ابن قاضيها وهان عليّها

وغار ابن عيساها وحار خطيبها

كسا آل إسماعيل ممّا يحوكه

ملابس فخر ليس يبلى قشيبها

معادن أشراف الخلائق من عنت

لدولتهم مرد الملوك وشيبها

فما أسلم الأعراض ممّا يشينها

وما أخلص ، الأعراق ممّا يشوبها

__________________

(٥٩) لآ أني : لا أزال.

(٦٠) حبيبها : يعني أبا تمام.

٢٦٧

مناقب أشراف تباهي وتزدهي

بأن ابن زيدان الشريف نقيبها

فمن بالمزايا منك أولى وإن دعت

فتاها القضايا من سواك يجيبها؟

ومن ذا لداء الجهل غيرك مبرئ

وهل يبرئ الأدواء إلا طبيبها؟

وإتحافك الأعلام بالعلم شاهد

بأنّك علّام الورى وأريبها

جزيت على إهداء أجزائه التي

أبانت لنا سحر البيان ضروبها

لخمستها ترتاج خمسة راحتي

ويوحشني عن مقلتيّ مغيبها

لئن فاح من مكناس طيب بأهلها

فقد زان أضعافا بطيبك طيبها

إن تعجب الأحوال منها فقد طبى

بوصفك إيّاها العجيب عجيبها

ملأت بها الألباب حتّى كأنما

ترى الناس منها ما تعيه قلوبها

وأطلعتها في الغرب شمسا لشوقها

عيون الأقاصي تستهلّ غروبها

فلا زلت نور العصر ما لاح نيّر

وما عاقبت يوما شمالا جنوبها

ولو لا خوف الإطالة ، لذكرت طرفا مما جرى بيني وبين الشريف ابن زيدان المذكور ، وغيره ممن اجتمعت به من الأجلاء في سفري هذا لزيارة الوالد والشيخ حسن ـ رضي‌الله‌عنهما ـ أيامنا بفاس ومكناس وسلا والرباط والدار البيضاء ومراكش ، وغيرها من

٢٦٨

المذاكرات العلمية والمحضرات الأدبية ، والمساجلات الشعرية ، والمفاكهات الودية ، والإفادات الدينية ، ونحو ذلك ، وقد أفردت لذلك سفرا مستقلا ، ذكرت فيه ما يشفي ويكفي ، فليراجعه من شاءه.

سفرنا من مدينة تطوان وتوادعنا نحن

والشيخ محمد الإمام ومن معه فيها

ولنرجع إلى ما كنا يصدده من أمر رحلتنا الحجية ، وذلك أنا سافرنا من مدينة تطوان صبيحة يوم الجمعة الثامن عشر من المحرم ، بعد ما توادعنا نحن والشيخ محد الإمام بن شيخنا الشيخ ماء العينين ، وابن أخته يحجب بن خطر ورفقاؤهم من بعمرانة بتطوان ، وافترقنا معهم هناك ، وتركناهم بنية الرجوع إلى مدينة إيفن ، بعضهم في الطيارة ، وبعضهم في السيارة ، على الهيئة التي قدموا بها في ذهابهم ، وبعدما توادعنا نحن وأعيان البلد من أهل المخزن وغيرهم ، فركبنا على السيارات بقصد مدينة سبتة ، وركب معنا بعض الأحبة لتشييعنا ، كالعبادلة بن الشيخ محمد الأغظف بن شيخنا الشيخ ماء العينين ، ورفيقه أحمد بن سيد أحمد ابن عيدّ ، الساكنين وقتهما بتطوان للتعلم ، وكأبناء القائد ادريس بنعيش ، ووزير الأحباس السيد محمد ابن عبد القادر بن موسى المتقدم ذكرهم ، والترجمان «بنيت» ، وغيرهم ، حتى وصلنا سبتة ، فركبنا السفينة قيلولة يوم الجمعة المذكور ، وودعنا المشيعون هناك ، ورجعوا.

وصولنا لمدينة اشبيلية وبعض صفة جامعها وواديها

الكبير وركوبنا منها متوجهين كناري

ثم أقلعت بنا الباخرة ، فرست وقت الظهر بنا عند الخزيرات ، فنزلنا بها وركبنا من ساعتنا السيارات متوجهين مدينة إشبيلية ونزلنا دونها عشية ببعض المحطات ، حتى استرحنا وتغدينا ، فوصلناها وقت المغرب ، فتلقى لنا أهلها فرحين بمقدمنا وأنزلونا منزلا حسنا رائقا ، وأحسنوا ضيافتنا ، فلما كان من الغد ، يوم السبت التاسع

٢٦٩

عشر من المحرم ، سرنا للتفسح في مدينة اشبيلية والاعتبار في بعض مئاثرها ، ورؤية بعض محاسنها ، فدخلنا الجامع الشهير بمسجد بني عباد ، فوجدناه في غاية الحسن والاتساع والإبداع وإحكام البناء وإتقان السواري ، على كثرتها ، وقد درت بسارية من سواريه لأقيس قدر عظمها ، فإذا هي سبع وعشرون خطوة لمن يمشي دائرا بها ، وجميع سواريه الكثيرة كذلك ، وفيه صومعة لا توصف حسنا واختراعا وطولا ، ولم تتغير على تطاول العهد ومرور الأعصار ، إلى غير ذلك من تلك المآثر الحسنة ، كالوادي الكبير الذي حولها ، وهو وادي في غاية الحسن وصفاء الماء وعذوبته ، وبإزائه الرياض الزاهرة وسائر الأغراس والزروع الباهرة ، يسرح الطرف في ناضرها بكلتا الضفتين المعتدلتين في ميزان المحاسن اعتدال الكفتين ، وتسير فيه البواخر ، فركبنا عشية يومنا ، يوم السبت الباخرة ، فأقلعت بنا بعد صلاة المغرب قاصدة جزائر كناري ، سالكة بنا الوادي الكبير المذكور ، فلما مضت من الليل ، وصلت البحر المحيط ، فسارت بنا معه لوجهتنا إلى كناري بحمد الله وعونه ، فلبثنا بين إشبيلة وكناري ثلاثة أيام.

وصولنا إلى جزيرة كناري

ووصلنا كناري عشية يوم الثلاثاء ، الثاني والعشرين من المحرم ، ففرح بنا أهلها ، وأنزلونا في المحل الذي نزلنا فيه لما مررنا بها في ذهابنا ، ولم يقصروا في إكرامنا والإحسان علينا ، وهنأونا بالسلامة والحج والإياب بخير ، فبتنا بها ليلة الأربعاء والخميس مجتمعين.

ذكر ركوب الشيخ مربيه ربه من عندنا في

كناري وأبيات خاطبني بها قبل ركوبه

فلما كانت صبيحة يوم الخميس الرابع والعشرين من المحرم ، ركب سيادة الشيخ مربيه ربه ومعه أهله الطيارة لجهة الطرفاية ، ثم أقام سائر الوفد بعده بكناري ثلاثة أيام ، وقبل ركوب الشيخ مربيه ربه ـ أعزه الله ـ خاطب جامع الرحلة ما العينين بن

٢٧٠

العتيق ـ غفر الله لهما ـ بهذه الأبيات الثلاثة على عادة كرمه وفضله أعزه الله وهي :

[الخفيف]

قسما بالهوى ونجل العيون

إن ماء العيون ماء العيون

كل صفو من خلّة يعتريه

غير غير صفو ماء العيون

ذاك ابن العتيق يا رب صنه

عن كيود العديو سوء العيون

فجزاه الله عني بأحسن جزائه ، على ما يقابلني به دائما من إكمال الخصوصية وإخلاص المودة ، وشدة الاتحاد وإتمام الإيثار ، وإبداع الأسرار ، وإظهار الابرار ، ووضع أثواب المحافظة بيني وبينه ، حتى كأني لا فرق بيني وبينه مع الإحسان الكثير المتواصل ، والإكرام والتبجيل والإجلال بمحاسن الأقوال والأفعال ، وما ذلك إلا لما جبله الله عليه من مكارم الأخلاق ، وحسن الشمائل ، وكرم النفس ، وجمال الطباع ، والتخلق بالأخلاق الرحمانية ، والتأدب بالآداب النبوية ، ولما زرعه الله بحمده له في باطنه من أمحاض النصيحة وأظهار المحبة وإعطاء الكلية من كل ما هو أهل له من كل ما لا يفي بشكره جناني ولا يعبر عن حقائقه لساني.

مخاطبات شعرية أدبية بين سيادة الشيخ

مربيه ربه وجامع الرحلة ومنها ما هو للشيخ محمد الإمام

وكثيرا ما يخاطبني ـ أعزه الله ـ وتمم له مراده ، وأحاطه وكبت أعداءه وحساده ، بنحو ما خاطبني به في هذه الأبيات في نظمه ونثره ، لكمال اجماله ، ومزيد بره ، فمن ذلك أبيات ثلاثة راعى فيها الجناس التام ، في اسم الوالد رضي‌الله‌عنه كما راعاه في اسمي أنا في ذه الأبيات الثلاثة المذكورة ، خاطبني بها قبل هذه ، لما قدمت على حضرته الشريفة وهي :

٢٧١

[الوافر]

عليك مدى الزمان ابن العتيق

سلام علّ بالراح العتيق (٦١)

تنمّ به المحبّة كالمرايا

تريك محاسن الوجه العتيق

وطير البشر يشدوا والتحايا

تكرر مرحبا يا بن العتيق

فأجبته أعزه الله مراعيا في الجواب ما راعاه من الجناس :

[الوافر]

أمن في الكون نبت عن العتيق

وبيتك فيه كالبيت العتيق

ومن من قدرك الكبراء أمسوا

بمنزلة الهجين من العتيق (٦٢)

نرى أخلاقك الحسنى مرايا

حديث المجد والمجد العتيق

وكتب لي مرة ، دام عزه وعلاه هذه الأبيات في كتاب يستقدمني لحضرته الشريفة ، وهي :

[البسيط]

يا خير من منه أهل العلم تنتفع

__________________

(٦١) عل : مزج وهو العل ، أي الشربة الثانية.

ـ الراح : الخمر

ـ العتيق : المعتق.

(٦٢) الهجين : الذي به هجنة ، أي اختلاط بغيره ، وهو عكس العتيق.

٢٧٢

وخير من لسبيل الحقّ يتّبع

ماء العيون من العلياء شيمته

والمجد ديدنه والعلم والورع

أقدم علينا وأهلا مرحبا بكم

إنّ الطيور على أشكالها تقع (٦٣)

وأنشدني يوما أعزه الله ، وقد كنت أنشده بعض أشعاري ، هذين البيتين من ارتجاله :

[الوافر]

أما وبنات فكرك يا فصيح

لبا لآداب طبعك يستريح

وفينا أنت محمود المزايا

وسعيك عندنا السّعي الرّبيح

فأجبته أعزه الله ارتجالا :

أما وخلالك التي تريح

وما أنا عوض دونك أستريح

لسعي لا تؤم به ذميم

ومدح لا تراد به قبيح

وقد لبثت أنا وأخوه الشيخ محمد الإمام مدة مقيمين عنده ، فلما هممنا بالسفر ، قال أعزه الله مخاطبا لنا :

[الوافر]

أكوكبي الهداية والإمامة

ومؤتمري أوامر الاستقامه

__________________

(٦٣) الطيور على أشكالها تقع : مثل عربي معروف.

٢٧٣

مقامكما إلى يوم القيامه

كيوم واحد تلك الإقامه

وعندي لم يزد تلك الإقامه

سوى الإنعام في دار المقامه

فأجبته أنا غفر الله لي بقولي :

[الوافر]

أمن للأمة المولى أقامه

إماما لم يقم شهم مقامه

شهودكم الشفاء لنا وما إن

يفارق من يفاركم سقامه

ويوم لا نراكم فيه يحكى

لدينا طوله يوم القيامه

وكذلك كنا مرة أخرى مقيمين عنده ـ أعزه الله ـ فلما هممنا بالسفر ، خاطبنا بهذه الأبيات :

[الطويل]

رياض التداني دانيات قطوفها

وجوه الأماني شامخات أنوفها

بليلات أنس بيّض الله وجهها

تباهت بأنواع السّرور ظروفها

ليال بإخوان قضينا حقوقها

تسامت مبانيها وولت صروفها

فيا ليت يوم البين يوم قدومكم

رياض التداني دانيات قطوفها

٢٧٤

فأجابه الشيخ محمد الإمام ، دام عزه بقوله :

[الطويل]

بيوت المعالي عاليات سقوفها

بكم كلّها أنواعها وصنوفها

تقدّمت في محراب كلّ فضيلة

وصلّت بكم أفذاذها وصفوفها

ومن يرمنك الوجه يبصر بديهة

سطور المعالي تستبين حروفها

ومن يستطل يوما مقاما فإنما

لديك الليالي تستقل أنوفها

وقال جامع الرحلة ما العينين بن العتيق مجيبا له أعزه الله :

[الطويل]

لنعلك شمّ الصّيد تعنو أنوفها

ولم تستقم إلا وراك صفوفها

وشمس المنى لولاك ما ابيضّ وجهها

ولا يخشى ما دمت دمت كسوفها

ومن كرم تبدي لوفدك منّة

عليك ووطف الفضل منك وكوفها (٦٤)

تفارقنا إن فارقتك نفوسنا

ولم يطب إلا في حماك عكوفها

وكنت أنا والشيخ محمد الإمام معه في مجلس يوما ، فأنشدنا أعزّه الله هذين

__________________

(٦٤) وطف : وطفاء وهي الديمة التي طال مطرها أو قصر ، لسان العرب ، (وطف)

ـ وكوفها : سيلانها ، نفس المصدر ، (وكف).

٢٧٥

البيتين :

[الكامل]

هذا هو النّادي الذي تعلو به

جلساؤه ، لا ينتهي ترحابه

غابت عواذله ، وفي أنس المنى

حضرت على ما تبغي غيابه

فقال جامع الرحلة ـ غفر الله له ـ ، مجيبا له أعزه الله :

[الكامل]

إن النّديّ بك استنار شهابه

وحلا برؤيته إليك خطابه

فبفيض سرّك تغتذي أرواحه

وبنور كشفك تهتدي ألبابه

فقال الشيخ محمد الإمام :

يا حبّذا ناد مضت أوقاته

طيبا كما قد تشتهي أربابه

أحسن به لولاكم لم يحل ما

من عصرنا معدومة أضرابه

فقال الشيخ مربيه ربه ـ أعزه الله ـ مخاطبا لهما :

[الكامل]

لا غرو إن أذكى بيانكما الحجى

وهو الذي لا يستطاع عجابه

فالبرق غالب حاله لا سيما

بعد التخافق تستهلّ سحابه

٢٧٦

فقال جامع الرحلة ـ غفر الله له ـ يخاطبه :

الفضل تخفق رأيه وقبابه

بكم ومنكم تستهلّ سحابه

ومجامع المجد الصّحيح بكفّكم

فالكلّ منكم يستفاد نصابه

وقال الشيخ محمد الإمام يخاطبه أيضا :

بحر العلوم بجانبيك عبابه

ولمن أتى موضوعة أكوابه

ما أن تزال بفيضكم وبنولكم

مملوءة أسراره وعيّابه (٦٥)

وقال الشيخ مربيه ربه ـ دام عزه ـ يخاطبني أيضا وأخاه الشيخ محمد الإمام يوما :

[الطويل]

هو البحر أنتم أهله وحللتم

بذروته الدنيا وعروته القصوى

فأين مياه الأرض من ماء زمزم

وأين المراسيل العتاق من القصوا (٦٦)

فقال جامع الرحلة ـ غفر الله له ـ مجيبا له :

[الطويل]

إليكم تناهت صحّة الفهم والعزوى

ولا حسن إلا لأخلاقكم يزوى (٦٧)

__________________

(٦٥) عيابه : ج. عيبة ، وهو موضع السر ، لسان العرب (عيب)

(٦٦) المراسيل : ج ، مرسال ، وهي الناقة السهلة السير ، نفس المصدر ،

ـ القصوا : الناقة المقطوعة الأذن ، قصو : وهو لقب ناقة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم

(٦٧) يزوي : يجمع.

٢٧٧

ولو أن غيلان انتهى لنديّكم

لما كان مشغوفا بميّ ولا حزوى (٦٨)

فقال الشيخ محمد الإمام مجيبا :

[الطويل]

أدامك ربّي في السّرور كما تهوى

معافى من الأدواء والشّرّ والبلوى

بك ازدان وجه الأرض واخضلّ نبتها

وعن أهلها انزاح المكاره والأسوا (٦٩)

وقال جامع الرحلة يوما ، وقد كان هو والشيخ محمد الإمام في نادي الأستاذ الشيخ مربيه ربه ، فباسطهما على وجه الإكرام :

[الطويل]

إذا لاح في النّادي الإمام ببشره

وفاح شهيّ الطّبع منه بنشر

ير الذهن منشور البديع بطيّه

ويستوضح المطوي منه بنشره

فقال الشيخ محمد الإمام يخاطبه أيضا ، أعزه الله :

أما وفتور الطّرف منها وسحره

ولعس اللّما منها ومكنون درّه

__________________

(٦٨) غيلان : هو ذو الرمة غيلان بن عقبة الشاعر العربي المعروف

ـ مي : معشوقة ذي الرمة

ـ حزوى : جبل من جبال الدهناء التي رددها ذو الرمة في شعره كثيرا

(٦٩) أنظر هذه المساجلة في : مجموع يحجب ، و ١٧٧.

٢٧٨

لنعم زمان كنت صدر نديّه

ولسنا نؤدّي الدهر واجب شكئره

فقال الشيخ مربيه ربه ، مخاطبا لهما :

[الطويل]

أما والذّي أغرى العواذل بالّذي

أثار هوى الصّبّ المصون بصدره

لنعم ونعم المنتدى منتداكما

وما قدّروا مقداره حقّ قدره

وكنا معه يوما ـ أعزه الله ـ في بعض المجالس ، فبذل من المعروف ، وأوضح من العلم ، ما هو عادته أعزه الله ، فقال الشيخ محمد الإمام يخاطبه :

[الطويل]

إذا جعل الأقوام معروفهم لفظا

بلا عمل قارنت فعلك واللّفظا

وإن جعلوا الدعوى إلى العلم سلّما

جعلت صحيح النّقل والضبط والحفظا

فقال جامع الرحلة يخاطبه أيضا :

[الطويل]

وإن يزعموا بالجدّ إدراك رتبة

يروك جمعت الجدّ والجدّ والحظّا (٧٠)

وعن وجهك العلياء لم تعد عينها

وإن هي للخطّاب لم تلتفت لحظا

__________________

(٧٠) الجد : الحظ والرزق ، وفي البت جناس تام.

٢٧٩

فقال الشيخ مربيه ربه مخاطبا لهما :

[الطويل]

لعمري لقد أحرزتما رتبة العلا

فلم تدعا منها لغيركما حظّا

على حسن الأخلاق طبعا جبلتما

فعين سروري لا تني بكما يقظى (٧١)

إلى غير ذلك مما جرى بيننا ـ بحمد الله ـ من نحو هذه المخاطبات ، في المراسلات والمحاضرات ، وهو أكثر من الإحصاء وأطول من الاستقصاء ، مع أن المخاطبات الشعرية قليلة ، بالنسبة إلى المخاطبات النثرية. ولو لا خشية الإطالة ، لأتينا من ذلك بما يورق الأذهان ، ويشنف الآذان ، فلنقتصر على جوابه ـ أعزه الله ـ لرسالة بعثتها له في المحرم ، فاتح عام ١٣٤٦ ه‍ ، تشتمل على أشعار ، ما كان منها لغيري عزوته لقائله ، وما لم أعزه فهو من إنشادي ، غفر الله لي :

رسالة أدبية من جامع الرحلة إلى الشيخ مربيه ربه وجواب رائق من الشيخ إليه

ونص ما كتبت له : بسم الله الرحمان الرحيم ، وعلى سيدنا محمد ، وعلى آله أفضل صلاة وتسليم :

[البسيط]

على جبينك تاج العزّ منظور

وفي يمينك سيف النّصر مشهور

وتحت وطأتك الأملاك خاضعة

وفوق رأسك بند الفتح منشور

__________________

(٧١) أنظر هذه المساجلة في مجموع يحجب ، و ١٧٤.

٢٨٠