الرحلة المعينيّة

ماء العينين بن العتيق

الرحلة المعينيّة

المؤلف:

ماء العينين بن العتيق


المحقق: محمّد الظريف
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-36-634-9
الصفحات: ٣٩٥

أمسى به الكفر مهدوم البنا وغدا

دين الشرائع منسوخا بشرعته

لو كان شاهد شداد جلالته

لعفّر الوجه تعظيما لحرمته

أما وسطوته بمن طغوا وأبوا

إلا الضلال وحزبهم بسطوته

لمستقيم صراط الله مندرج

في محض سنته وفي أسنّته

تضعضع الكفر واتخفاظ ذروته

يجري إلى البعث من أيّام بعثته

قد بادرته ببدر كلّ بادرة

جذّت بوادره ورأس حيّته

واغتاله هرم أفنى شبيبته

والدين أول يوم من شبيبته

واجتثّ في أحد وحاد محتده

ولم يزل تندب الصرعى ببغيته

وحزبه انهدّ في الأحزاب موقفه

وهال أحزابه أهوال وقعته

ويوم خيبر لم يترك له خبرا

ويوم مؤتة كان يوم موتته

والصلح والفتح كانا توأمين على

إزهاقه وذهاب روح غيرته

وحان يوم حنين حينه وجرى

على محبته تصحيف محنته

واذكر أسود المهاجرين من هجروا

أوطانهم في رضى المولى وخشيته

٢٢١

فما أمالهم الغصن الممال ولا اللّ

حظ المحاكي سهامهم بطعنته

ولا انثنوا لثنايا شادن كحل

حاشا ولا التفتوا لحسن لفتته

كأنما الخال مسك في مورّده

كأنما سنة تجري بمقلته

كلا ولا جنحوا يوم الوداع لمن

بين الجوانح شبّت نار فتنته

من كلّ ممتلئ الإزار ناظره

يفدي نواظره المرضى بصحّته

فرّوا إلى الله كلّ عن حلائله

عن والديه وصحبه وإخوته

ما صدهم عن رسول الله ما وجدوا

بل زادهم في التزامه وصحبته

أولئك الأولون السّابقون على

جرد اليقين إلى تصديق دعوته

واذكر مواطن للأنصار شاهدة

بأنهم نصروه حقّ نصرته

تبوءوا الدّار والايمان ، حبّهم

لمن يهاجر فيهم عن عشيرته

سمّاهم الله أنصارا وبشّرهم

بالمصطفيأنهم هم دار هجرته

والموثرون لو اشتدّت خصاصتهم

والقائمون بعزّه ومنعته

فكم أعزّوا ذليلا بعد ذلّته

وكم أذلوا عزيزا بعد عزّته

٢٢٢

هم الصّحابة من فازوا بصحبتهم

لخير مصطحب سادوا بصحبته

فبايعوه على ما الله قال له

والله جلّ تولّى عقد بيعته

كل نحا نحوه وسنّ سنته

يرعى رعيّته يحمي لحومته

من كلّ من شاب في الأهوال مفرقه

لم يله إلا بسيفه وصهوته

تكبو الجياد ولا تكبو عزائمه

ينبو الحسام اليماني دون نجدته

يجرّ أذياله في كلّ معترك

شاكي السلاح مناه في منيّته

إذا تخلّل درعا خلته أسدا

يصول أو خلت ثعبانا بحلّته

لله كم صبّحوا من جحفل لجب

تعتّر النجم في منسوج هبوته

ومعقل عقلوا سبيا عقائله

أمسى قفارا يعزّى في أعزّته

سل العراقين هل للفرس باقية

وهل بقاء لكسرى بعد كسرته

وسل عن الرّوم شامهم وقيصرهم

عن نصره قصّرت ألطاف حيلته

يا مهبط الوحي معدن العلوم ويا

من يعلم السّر يا أسرار حكمته

يا من محيّاه مخضلّ الحياء به

يكاد يقطر ماء من أسرار حكمته

٢٢٣

يا ضئضئ المجد شؤبوب المكارم يا

من في الغيوب حضوره كغيبته (٨١)

يا مالي العين والأسماع منقبة

وبهجة وكمالا عند ذكرته

يا من إذا الغيث غاض فاض مزبده

وغرّق الجدب في أنهار ضفّته

يا من تعاظم هيبة وموهبة

والناس بين رجائه وخشيته

يا من أباح حصون الشّرك بارقه

حتّى محا بسناه ليل ظلمته

يا أوجه الخلق وجها عند خالقه

ومن تخرّ الوجوه نحو قبلته

فهب شفاعتك العظمى لمعترف

بما اجتناه وبالغ في مبرّته

يا رب هب لي به عظيم منزلة

هذا عبيد شكا من عظم زلّته

يا ربّ واجعل رضاك حلّتي أبدا

والشّكر سمني بحليه وحليته

في ذمة الله من أولى الأمور له

وهو الذي لا يضيع من بذمّته

أنعش أغثني أرش يا ملجأي أملي

من لا يبالي بذنب عفو رأفته (٨٢)

__________________

(٨١) ضئضئ المجد : أصله.

(٨٢) أرش : أصلح حالي.

٢٢٤

استغفر الله يا ذا المنّ مغفرة

للعبد بالتاء تمحو حاء حوبته (٨٣)

عبد أطاع الهوى والفجر مختلط

بليله وأطاع غيّ شرّته

إني ومن لي وكلّ من تعلق بي

في سور مأمنه وأمن حوطته

أصلح بنا الدين والدنيا وأمّة من

به تشفّع يجلو غين غمته (٨٤)

يا رب أصلح لنا الدارين إن لنا

تمسّكا بالنبيّ الهادي وعروته

إذا تسامت لشكره قرائحنا

تملي شمائله ضروب نعمته

كأنما اللؤلؤ المكنون ينثر أو

مختوم مسك يفضّ عند مدحته

لو حاول الشّعرا نظم الكواكب في

سمط الثناء لأعيوا دون جملته

وليس يحتاج مدحا بعد خالقه

إذ غيره لا يؤدّي نشر طيّته

فاقرأ لياسين والضّحى ومثلهما

إن كنت جاهل قدره ورتبته

يا ربّ صلّ صلاة لا نظير لها

عليه ما ارتاح مرتاح لرحمته

سلم سلاما عليه لا يكافئه

بين النبيئين إلا قدر رفعته

__________________

(٨٣) حوبته : شدة وسوء حاله.

(٨٤) غين : غشاء.

٢٢٥

قصيدة للشيخ محمد الإمام في مدحه صلى‌الله‌عليه‌وسلم

وأما مديحية الشيخ محمد الإمام الهمزية فها هي (١)

[البسيط]

ما كنت مذ زمن ترجوه هذاؤه

هذا شفيع الورى بشراك هذاؤه (٢)

هذا النبيّ الذي ما مثله بشر

وإن تشأ وصفه تنبيك أسماؤه

هذا النبيّ سراج الكون جوهره

ومن تدور به للكون أرحاؤه

وذا خليفته الصّديق صاحبه

من لا ترى في جميع الصحب أكفاؤه

فريدة القوم في كلّ المناقب بل

يتيمة العقد عقد الدّين عصماؤه (٣)

وذاؤه عمر الفاروق تلوهما

من لا تزيغ عن التوفيق أراؤه

موطّد الدين والمرسي قواعده

حتى استقامت بأيد العدل عوجاؤه

وذاك منبره الأسمى ومسجده

وحيث أزواجه كانت وأبناؤه

حيث النّبوءة تبدو من منازله

وحيث تتلى من التّنزيل أنباؤه

__________________

(١) أنظر القصيدة في : «صاحب الجأش الربيط» ص ٨٤ ـ ٨٥ ـ ٨٦.

(٢) هذا البيت مأخوذ من مطلع قصيدة الشاعر الشنقيطي عبد الله بن سيدي محمود المتوفى سنة ١٢٥٥ ه‍ ، في نفس الموضوع ، الوسيط ، ص ٣٦١ ـ ٣٦٣.

(٣) عصماؤه : قلادته.

٢٢٦

وذا البقيع ألا أحبب به بلدا

تقضى به لأخ الحوجاء حوجاؤه (٤)

وذا النقيع وذا وادي العقيق وذا

معسول أمواهه الجاري وحصباؤه (٥)

حيث الأحيّة تزهو في جوانبه

وحيث يجري إلى ساحاته ماؤه

وحيث تلتفّ بالأيك الغصون به

وحيث تمتدّ تحت الدّوح أفياؤه (٦)

ولتزم طرفك نحو السّفح من أحد

تذهب على الفور لمح الطّرف أقداؤه

وذي مدينته الغرّاء موطنه

دار السرور لمن وافى ونعماؤه

وذي حدائقها تهتزّ باسقة

حسنا كما هزّت النشوان صهياؤه (٧)

محلّ هجرته مأوى لعترته

أنوار شمس الهدى فيها وأضواؤه

مقرّ من هاجروا لله أو نصروا

أصحابه وهم حقّا أحيّاؤه

__________________

(٤) البقيع : مقبرة المدينة يؤمها الحجاج ـ

ـ الحوجاء : الحاجة.

(٥) وادي العقيق : واد قرب المدينة كثير العشب والماء ، النقيع : موضع قرب المدينة ، كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم حماه لخيله.

(٦) الأيك : الشجر الكثيف الملتف مفرده : أيكة

(٧) الصهباء : الخمر.

٢٢٧

وهم هم جنده في كلّ نائبة

وهم هم أنجم الإسلام لألاؤه (٨)

وهم عيون الهدى تيجان هامته

سواد مقلته بل هم سويداؤه

يا حبذا بلد كان الحبيب به

تمحى به عن أخ الحوجاء حوجاؤه

فاستفرغ الجهد في نيل الوصول له

إصباحه نحوه دأبا وإمساؤه

واستعمل الذّهن في صوغ المديح له

يكون إنشاده فيه وإنشاؤه

قالوا ألم تر أحزاب العدى حشرت

من دونه فكست للجوّ ظلماؤه

فقلت هل يرعوي قلب المحبّ وهل

تثنى عن الفلك الدّوّار جوزاؤه (٩)

كيف اصطباري وهذا الرّكب مرتحل

تهفوا بذكر حبيب الله أنداؤه (١٠)

من كلّ حرّان قد ذابت حشاشته

من حرّما اتّقدت بالشوق أحشاؤه

إن سدّت الطرق عن مغناه أو منعت

فاستعجمت عن دقيق الفكر آراؤه

فانصب من العزم جسرا للعبور له

لتنزوي من سحيق الرّبع أرجاؤه

__________________

(٨) لألاء السراج : ضوؤه.

(٩) ارعوى ارعواء من الشيء : كف عنه فهو مرعو

(١٠) الاصطبار : الصبر.

٢٢٨

ولا تردّك أعداء له عرضت

فلن تردّ عن المحبوب أعداؤه

ما حكم ذي الشّوق كلا حكم مسألة

بل ما اقتضت من دواعي الوصل أهواؤه

وإنّ لله ألطافا مشاهدها

تجري بريح من التّوفيق آناؤه

فاقطع بماضي سيوف العزم منصلتا

حرف المضارع إن يعجبك إمضاؤه (١١)

لا تنتظر بابترام الأمر أهبته

فقبل تشحيذ حدّ السيف إنضاؤه (١٢)

ولا تكن مثل من كانت عزيمته

كما تلوّن فوق الغصن حرباؤه

إنّ الفتى من متى يهمم بناحية

كادت تسابق همّ القلب أعضاؤه

لا تطبي قلبه بيضاء غانية

ريّ الخلاخل غرثى الكشح هيفاؤه (١٣)

لعساء تفترّ عن در متى برزت

تندكّ من طود عقل المرء صمّاؤه (١٤)

__________________

(١١) المنصلت : من السيوف : الصقيل الماضي ، النافذ.

(١٢) إنضاء السيف : او انتضاؤه ، من انتضى السيف : أستله من غمده.

(١٣) غرثى الكشح : دقيقة الخصر

ـ هيفاء : رقيقة الخصر

ـ ري الخلاخل : طيبة الرائحة

(١٤) لعساء : من لعس لعسا : كان في شفته لعس أي سواد مستحسن.

ـ تفتر : تتفتح

٢٢٩

لم يدر ذو العذل ما يخفي المشوق وما

تضمّنت من أليم الوجد أحشاؤه

هم تقلقل في صدري أجمجمه

واليوم قد غلب المصدور إخفاؤه (١٥)

لم تجد سوف سوى تسويف صاحبها

حتّى تفوت من المقصود آناؤه

أرى من العجز كون الصّب في طرف

من البساط وفي الثّاني أحبّاؤه

لا يؤيسنّك ضعف عن وصولكه

قد تسبق الذّود عند العود عرجاؤه (١٦)

قلبي بتلك المغاني هائم كلف

إن هام قلب فتى تامته حسناؤه

واها لصبّ بأقصى الغرب ينعشه

رجاؤه ويذيب القلب إرجاؤه

ما الشّام قصدي وما تبديه غوطته

ولا العراق وما تخفيه زوراؤه (١٧)

كلّا ولا اليمن الزّاهي برقّته

وما وشت من لطيف الصّنع صنعاؤه

كلّا ولا أربي ما شاد تبّعه

ولا الذي نمّقت من بعد أذواؤه

__________________

(١٥) تقلقل : تحرك ، وردت في صاحب الجأش الربيط «تجلجل» وكلاهمها صحيح.

ـ جمجم شيئا في صدره : أخفاه ولم يبده.

(١٦) لا يؤيسنك : كذا في الأصل ، إلا أن الوزن لا يستقيم بها

(١٧) الغوطة : موضع بالشام كثير الماء والشجر : غوطة دمشق.

ـ الزوراء : دجلة بغداد وكذا مدينة بغداد.

٢٣٠

ولا اشتياقي إلى نجد وأربعه

ولا عقائل ضمّتهنّ أحياؤه

ولا بمصر وما تبدي عجائبها

من كلّ ما حيّر الأذهان أنباؤه

كلا ولا القصد ما يجنى من أزهرها

من يانع العلم إذ تمليه قرّاؤه

فللحجا حاجز عند الحجاز له

عن شوق أرض سوى ما ضمّ أرجاؤه

كانت لقلبي أهواء مفرقة

فاستجمعت في الحجاز اليوم أهواؤه

فلا لبانة لي إلا بساحته

ففي المدينة لبناه وأسماؤه

وحبّذا البلد السّامي بمبعثه

وبيته والذي ضمّته بطحاؤه

وحبّذا مازماه والصّفا ومنى

حيث الصّفا ومنى قلبي ورغباؤه

فتلك أوّل أرض شمّ تربتها اله

ادي وأول ما مسّته أعضاؤه

وكان مسرح عينيه مطارحها

وكانت أبناؤه فيها وأباؤه

لطفا بمغترب في أرض عترته

لم تجل غربته فيها أودّاؤه

إن شام برقا بأكناف الحمى برقت

أشواقه وهمت للجفن أنواؤه (١٨)

__________________

(١٨) شام البرق : نظر إليه أين يتجه وأين يمطر.

٢٣١

وإن رأى خبرا تهتج لواعجه

كأنما اشتعلت بالنّار أحشاؤه

أو لامه لاثم فيما يحاوله

كأنّما كان عند اللّوم إغراؤه

يا نعمه بلدا طوبى لساكنه

تشد وعلى فنن الإسعاد ورقاؤه

به ينال جميع السّؤل قاصده

وتنجلي عن حجا المغموم غمّاؤه (١٩)

ويشتفي من عضال الداء أجمعه

من كلّ ما عجزت عنه أطبّاؤه

ويستنير به ديجور باطنه

نورا وتفعم بالخيرات أوداؤه (٢٠)

دين عليّ إذا ما جئت تربته

تمريغ وجهي بها شكرا وإغضاؤه

وألثم التّرب تشريفا لحضرته

لتشتفي من رسيس الشّوق أدواؤه (٢١)

أقول بشراي ذا مغنى المشفّع في

كلتا الحياتين يا بشراي هذاؤه

هناك ألقي عصا التّسيار مبتهجا

وتستريح إذا للعزم أنضاؤه

فيصبح الصّدر مشروحا بحضرته

مؤيّدا محت الضرّاء سرّاؤه

__________________

(١٩) قاصده : طالبه ، في ، صاحب الجأش الربيط.

(٢٠) الديجور : الظلام.

(٢١) رسيس الشوق : أوله ، بقيته وأثره.

٢٣٢

أقول إن يدعني شوق إلى وطني

ما كنت مذ زمن ترجوه هذاؤه

تلك العزيمة والرّحمان يعلمها

العزم منّي ومن مولاي إمضاؤه

أنت المؤمّل في تبليغ عبدك ما

إليه وجهته تلفى وإيماؤه

(واجمع لشملي مع الأحباب قاطبة

جمع السلامة يا من جلّت أسماؤه (٢٢))

فوفّقنّي لما يرضيك من عمل

وفي المقال أيا من جلت أسماؤه (٢٣)

ثمّ الصلاة على المختار ما طلعت

شمس وما انبلجت للصّبح أضواؤه

نزولنا عند ابن الشيخ محمد الخضر بالمدينة المنورة

وإحسانه إلينا هو ومن هناك من الشناجطة جزوا خيرا

ولم يزل نزولنا أيامنا بالمدينة المنورة عند الشيخ محمد بن عبد الله بن الشيخ محمد الخضر ابن مايابي الجكني وبالغ في إكرامنا ، والإحسان إلينا ، جزي خيرا.

ومن إحسانه أنه دائما يهيئ عند كل وقت من أوقات الصلاة عربية ، يركبها الشيخ

__________________

(٢٢) هذا البيت ساقط من الرحلة مثبت في قصيدة بخط الشاعر توجد بخزانة الشيخ المصطفى ماء العينين بأكادير.

(٢٣) ورد هذا البيت بصيغة أخرى ، كما سبقه بيت آخر سقط من هذه القصيدة هو :

وأجمع لشملي مع الأحباب قاطبة

جمع السلامة يا من جلت أسماؤه

ووفقني لما يرضيك من عمل

ففي رضاك منى قلبي ورغباؤه

أنظر : صاحب الجأش الربيط أيضا.

٢٣٣

مربيه ربه ومن شاء من خاصته معه إلى المسجد النبوي ذهابا وإيابا ، ويتولى القيام بالشؤون التي تنوبنا بنفسه ، ويباشر خدمتنا بيده ، من تناول الطعام والشراب وإصلاح الفراش واللباس ، إلى غير ذلك من إكرامه لنا ، جزي خيرا. وكان من هناك من الشناجطة يأتون دائما لزيارتنا كسائر أهل المدينة المنورة. وكلّ من أتانا يباشر بالإحسان زيادة في الاعتناء بنا مع كمال التواضع ، والانبساط ، وكذلك ابن عمه محمد فاضل ابن الشيخ محمد تقي الله ابن مايابي ، فقد كان يكثر التردد علينا ، ويظهر السرور والفرح بمقدمنا ، ويبلغ في إكرامنا ، وكذلك جميع الشناجطة الذين هناك لم يقصروا في إكرامنا وقلما يفارقون الشيخ مربيه ربه لطلب الإفادة منه ، وأخذ الأوراد عنه ، والاستمداد به ، ولا سيما الجكنيون ، فهم أكثر من هناك ، وأظهروا لنا من المحبة والمودة والقرابة ما لا يوصف ، كمن ذكر من أهل مايابي ، ومثل ابن عمهما محمد محمود بن الشيخ ، والسيد محمد عبد الله بن آد ، والشيخ عمر ، وكذلك محمد بن سيد من قبيلة بارتيل (٢٤) وهو من تلامذة شيخنا الشيخ ماء العينين ، وكذلك محمد نور التركزي ، وهو رجل ذائق ، واصل ، عارف ، ديّن ، من موارد الشيخ أحمد بن الشمس ، مريد شيخنا الشيخ ماء العينين ، فقلما يفارقنا ، وكذلك الشيخ موسى الفوتاوي ، من موارد الشيخ أحمد بن الشمس أيضا ، إلى غير ذلك ممن لم تحضرني أسماؤهم ، ولم أتفرغ لكتبها ، لقلة مدة إقامتنا في المدينة المنورة ، وللاشتغال فيها بحمد الله بما هو آكد عندي من ذلك.

فائدة فيما أتى به شيخنا الشيخ ماء العينين في رحلته

في مقدار ما بين قبره صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومناراته وأبواب سور

المدينة المنورة وأسماء الجميع

فائدة ، قال شيخنا الشيخ ماء العينين رضي‌الله‌عنه في رحلته في مقدار ما بين منبره

__________________

(٢٤) بارتيل : تجمع قبلي موريتاني يضم القبائل التالية : أهل اعمر بن أوبك ، أهل محمد بن بيه ، أهل الطالب جبريل ، أهل أغيلاس ، أهل اعلي بنان ، توجن الله ، وغيرها ، أنظر بشأنها : حياة موريتانيا الجغرافيا ، ص ، ٥٣

٢٣٤

صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقبره الشريف ، وفي عدد أبواب حرمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومناراته وأبواب سور المدينة ، وأسماء الجميع ، ما نصه : «فائدة. قدمت ما بين منبره صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقبره الشريف الذي ورد في الحديث ، وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة» (٢٥). وقد أفتى كثير من العلماء بأن من دخله وحلف من امرأته أنه دخل الجنة حيّا ، لا تطلق عليه ، فوجدته قدر خمسين قدما ، لأني قدمت من النبر إلى الشباك المتوليه ، فوجدته أربعين قدما بقدمي ، وما بين الشباكين قدرته بعشرة ، وبعد ذلك قيل لي إنه كذلك والله تعالى أعلم.

فائدة في عدد أبواب حرم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومناراته وأبواب سور المدينة المنورة التي تدخل إليها وتخرج منها ، وأسماء الجميع ، أما أبواب المسجد فأولها من جهة المغرب باب السلام ، ويتلوه باب الرحمة ، ويتلوه الباب الجديد ، المعروف بباب عبد المجيد ، ويتلوه باب جبريل ، ويتلوه باب النساء ، فهي خمسة ، وأما المنارات ، فمنارة باب السلام ، ويقال لها الريسي ، ومنارة باب الرحمة ومنارة عبد المجيد ، وقد وجدتها تصنع مع بقية المسجد ، وذلك لأن عبد المجيد بنى الحرم النبوي كله ، وجدده إلا موضع الروضة الشريفة ، تركوه لأنهم علموا أنهم لا يقدرون على بناء مثل بنائه ، وقد وجده ، أي الحرم ثمانية صفوف ، وزاده بأربعة ، فصار إثنى عشر صفا ، وهذه المنارة أكبر منارة رأينها إلا منارة واحدة في مراكش تسمّى الكتبية ، وسيأتي الكلام عليها إن شاء الله ، ويتلو منارة عبد المجيد ، منارة تسمى السليمانية ، نسبة إلى السلطان سليم ، فهي أربعة ، وأما أبواب سور المدينة فأولها من جهة المغرب العنبري ، وهو الذي يدخل منه الحجاج غالبا حين مجيئهم من مكة المشرفة ، ويتلوه يمينا باب قباء ، ويتلوه باب العالي ، ويتلوه باب الجمعة ، ويتلوه الباب الجديد ، وهو الذي جعله أيضا عبد المجيد ، ويتلوه باب السلام ، ويتلوه باب الكوم ، فهي سبعة ، وأما الباب المعروف بالمصري ، فإنه لا يخرج من المدينة كلا ، وإنما هو مخرج للمناخة ، وتلك معدودة من المدينة ، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام ، انتهى كلام شيخنا الشيخ ماء العينين رضي‌الله‌عنه ، وهو في غاية الضبط والإتقان ، ولذلك اكتفينا به جزاه الله عنا برضاه الأكبر وأكرمنا بجاهه وجاه نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، برضى الله والنظر إلى وجهه الأعظم.

__________________

(٢٥) مختصر المقاصد الحسنة ، الحديث رقم ٨٧٦ ، والحديث بصيغة أخرى ـ قبري : بيتي.

٢٣٥

ذكر مدة إقامتنا بالمدينة المنورة وفضيلة من صلى

في المسجد النبوي أربيعن صلاة على صاحبه الصلاة والتسليم

وكانت مدة إقامتنا بالمدينة المنورة ، ثمانية أيام ، حتى تفضل الله علينا بأن صلينا في مسجده صلى‌الله‌عليه‌وسلم أربعين صلاة مكتوبة ، ففي الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال : «من صلى في مسجدي أربعين صلاة ، كتب له براءة من النار ، وبراءة من العذاب وبراءة من النفاق» ، وحدثني الأستاذ الشيخ مربيه ربه ، أن بعض العلماء ، لا يشترط كون تلك الصلوات من الفرائض ، بل حصل عنده الفضيلة بأربعين صلاة في مسجده صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولو من النوافل ، نحمده تعالى على ما أنعم به علينا من فضله ، نرجوه تعالى أن يتقبل منا ، وأن لا يكلنا إلى أقوالنا ولا إلى أعمالنا ، وأن يتولانا بمحض فضله وكرمه ، ثم لما صلينا صلاة الصبح بالحرم النبوي يوم السبت الثامن والعشرين من ذي الحجة تقدمنا إلى محل مواجهته صلى‌الله‌عليه‌وسلم لزيارة الوداع ، على الحالة التي لا يعلمها إلا الله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، فدعونا الله بما المرجو منه تعالى إجابته بذلك المقام ، ونحمده تعالى حيث أنعم علينا بالقيام عند مواجهته الشريفة عليه الصلاة والسلام.

[الخفيف]

ورجعنا وللقلوب التفاتا

ت إليه وللجسوم انثناء

وسمحنا بما نحب وقد يس

مح عند الضرورة البخلاء

خروجنا من المدينة المنورة على ساكنها

السلام وأبيات لجامع الرحلة أنشأها وقتئذ

فخرجنا من المسجد النبوي قرب طلوع الشمس من يومنا ، وخرجنا من المدينة المنورة بعد طلوعها ، فلما نهضت بنا السيارة ، التفت إلى ذلك المنظر البهيج ، مستنشقا طيب ذلك الأريج ، باهتا في تلك الجلالات الباهرة ، والأنوار الساطعة

٢٣٦

الزاهرة ، والمشاهد الكريمة الشريفة العظيمة ، فجرت على لساني هذه الأبيات ، لا جعله الله آخر عهدي بتلك الحضرات العليات ، وأعادني إليها مرارا ، وأماتني على حسن الختام بجوار نبيه عليه الصلاة والسلام ، والأبيات هي :

[البسيط]

متى الرجوع لمن قلبي بهم نزلا

فلا وربّك لا أبغي بهم بدلا

أستودع الله من أودعتهم خلدي

فلم أطق حيرة قولا ولا عملا

إني لأغبط قلبي حيث عندهم

ثوى وأرثى لجسمي أنه ارتحلا

نزلنا بجدة وركوبنا منها إلى السويس

قافلين ، وبيتان لجامع الرحلة أنشأهما وقتئذ

ثم سرنا يومنا ، فبتنا ليلة الأحد في محلة قريبة من رابغ ، وجئنا رابغا بعد أن أدلجنا وقت صلاة الصبح ، فنزلنا عنده إلى وقت الضحى ، فركبنا ودخلنا جدة وقت القيلولة ، فوجدنا الباخرة قد دخلها من كان فيها من الحجاج ، وهي تنتظرنا ، فنزلنا بجدة ، فلما صلينا الظهر ، ركبنا زورقا إلى الباخرة ، فدخلناها عشية يوم الأحد التاسع والعشرين من ذي الحجة ، فاحتفل أهلها لدخولنا احتفالا عظيما ، فلما كان قبل الغروب بقليل من اليوم المذكور ، أقلعت الباخرة بنا قاصدة السويس ، راجعة مع اثرها لجهة المغرب ، فنظرت إلى جهة الحرم الشريف ، وقلت :

[الرجز]

لا تجعل اللهم ذا من كرمك

أخر عهدنا بأرض حرمك

وأينما كنا فجد بنعمك

ربّ علينا واحمنا من نقمك

٢٣٧

مرسى الباخرة بنا افتتاح عام ١٣٥٨ بجبل الطور

فلما كانت صبيحة يوم الثلاثاء ، وهو أول يوم من المحرم فاتح ١٣٥٨ ، عرفنا الله خيره وخير ما بعده ، ووقانا ضريهما ، رست بنا الباخرة عند جبل الطور ، فظلت هناك يومئذ حتى دنت الشمس من مغربها.

مرسى الباخرة بنا في السويس وطلوع العلامة الشيخ

محمد حبيب الله بن مايابي إلينا فيها هو ومن معه ، وما جرى بيننا وبينهم

أقلعت بنا الباخرة ، فرست صبيحة يوم الأربعاء بنا في السويس في محلها الذي رست بنا فيه ، ونحن ذاهبون إلى الحج ، فلما ارتفع النهار ، طلع علينا ونحن في الباخرة الأستاذ العلامة الشيخ محمد حبيب الله بن الشيخ سيد عبد الله بن مايابي الجكني ، ومعه الأديب المجيد السيد محمد بن اليماني المتقدم ذكرهما ، ففرح بهما الشيخ مربيه ربه وسائر الوفد ، ورفع الشيخ مجلسهما ، ومعهما الأديب الشيخ المختار بن أحمد محمود الجكني ، القاطن بمصر وقته ، وأتحف الشيخ محمد حبيب الله سيادة الشيخ مربيه ربه وأقرباءه بشيء من الكتب ، منها ما هو من مؤلفاته ، ومنها ما هو من غيرها ، وتحدثنا معه قدر ساعتين وكتب لي إجازة في مؤلفاته وجميع مروياته ، وأتحفنا أيضا بشيء من الزاد معتبر ، وأنشدنا قطعة لنفسه ، أنشأها في مدح سيادة الشيخ مربيه ربه ، وتهنشته بالحج ، كتبها بخطه ، وهذا نص ما كتبه.

قطعة امتدح بها الشيخ محمد حبيب الله سيادة الشيخ مربيه ربه

هذه قطعة قليلة ساقها الاشتياق مع الاستعجال واشتغال البال بالمرض وهي :

[الوافر]

مربّه الإله إليه شوقي

تزايد بالغداة وبالعشيّ

٢٣٨

متى حجّ المير الفخم كنّأ

كمن بالحجّ أحرم للعليّ

ومن فرط اشتياقي كاد جسمي

يطير إلى الأبيّ ابن الأبيّ

ولو أني ملآت الطّرس مدحا

لهذا الشهم ذي المجد السّنيّ (٢٦)

لما أدّيت ما في القلب ممّا

أكنّ له إلى يوم الّلقيّ

فتى رام المكارم في صياه

ولم يبرح يسارع في الرّقيّ

ولمّا لم أقابلكم لعذر

حمى عن رأي وجهكم البهيّ

فبالبيت الحرام لكم أهني

وفتح في مواجهة النّبيّ

صلاة الله دائمة عليه

نعمّ الآل بالعرف الزّكيّ

أنشأها طالب دعواتكم النافعة ، خادم السنة ، محمد حبيب الله الشنجيطي إقليما ، الجكني نسبا المدني مهاجرا ، انتهى من خطه.

قصيدة للشيخ المختار الجكني امتدح بها أيضا سيادة الشيخ مربيه ربه.

وكذلك أنشأ ابن عمه ، الشيخ المختار بن أحمد محمود المذكور قصيدة في مدح سيادة الشيخ مربيه ربه ، أتى بها معه ، وأنشدها ابن عمه الشيخ محمد حبيب الله

__________________

(٢٦) الطرس : الصحيفة.

٢٣٩

في المجلس نيابة عنه في الإنشاد بين يدي الشيخ أعزه الله مطلعها :

[البسيط]

قد أشرق الشّرق بالأنوار إذ سطعا

تنوير طلعة شمس الغرب مذ طلعا

وازدان واتسعت أرجاؤه وعلت

وحقّ للشرق لمّا ضاء واتسعا

فقد أتاه إمام ما أتى بلدا

من سائر الأرض إلا أزدان وارتفعا

نجل الحلاحل ما العينين من شهدت

أفعاله والسجايا أنه برعا (٢٧)

ربّاه دون مربّ فحوى ال

آداب والخلق المحمود والورعا

له يدان يد على العدو ردى

تغتالهم ويد تغني من انتجعا

إلى أن قال :

حلاحل نفع الله الأنام به

كما بآبائه من قبله نفعا

من معشر علموا بالفضل واتسعوا

مستمسكين بما الهادي لهم شرعا

الفضل شنشنة فيهم وعادتهم

وفيه أصغرهم أباءه تبعا (٢٨)

__________________

(٢٧) الحلاحل : السيد في عشيرته ، الشجاع الركين في مجلسه.

(٢٨) شنشنة : خليقة وطبيعة وسجية.

٢٤٠