الرحلة المعينيّة

ماء العينين بن العتيق

الرحلة المعينيّة

المؤلف:

ماء العينين بن العتيق


المحقق: محمّد الظريف
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-36-634-9
الصفحات: ٣٩٥

قصيدة للشيخ مربيه ربه حسنة رتب

فيها مناسك الحج على سبيل الدعاء

وهذه قصيدة أنشدنيها سيدنا الشيخ مربيه ربه ، أنشأها لما فرغ من حجه أعزه الله ، وهي من أحسن ما يقال في المعنى ، رتّب فيها مناسك الحج ، على سبيل الدّعاء ، وهي :

[رجز]

الحمد لله الذي من حجّه

فضلا عليه ييسّر عليه حجّه

رب ارزقنّي حجك المبرورا

ولتجعلنّ سعينا مشكورا

رب اجعلني حرما معظّما

يزور طه ويحجّ الحرما

يا ربّ البيت وبالمناسك

فلتجعلنّي خير كلّ ناسك

بحرمة الاحرام قوّ حرمي

واحفظه واحفظ نسبتي وحرمي

ولتجعلنّ كلّ من سمع بي

يحرم لي منك بأعلى الرّغب

معتقدا ، ملبيا نحوي ، وهب

على يدى له جميع ما طلب

وبالتّنظّف والاغتسال

وركعتيه اصلحنّ حالي

لبّيك لبّيك ، ولا شريك

لك ، وكل الخير في يديك

لبّيك والنّعمة والحمد لديك

لبّيك لبّيك ولا لك شريك

١٦١

وألبسنّي حلّة الإكرام

مدى المدى بملبس الإحرام

بحرمة الهدي وما استصحبه

أرجو هداه دائما وقربه

بالاغتسال لدخول مكّة

وبالدّخول من كدا الثنيّة

حرّم على النار بهذا الحرم

سرّي وظاهري ولحمي ودمي

وبالذي من دعوات الخير

يدعى هناك هبه لي بخير

وبدخول البيت من باب السلام

وباستلام الحجر ارزقنا السّلام

أنت السّلام ربّنا منك السّلام

وحيّنا اللهمّ رب بالسّلام

وبالطواف ودخول المسجد

وهو التّحيّة له فأيّد

بكلّ تكبير وتقبيل الحجر

أكون ممّن لك حجّ واعتمر

بالركعتين ربّنا خلف المقام

كن لي وبالملتزم أرق المقام

وبالذي من دعوات الخير

يدعى هناك هبه لي بخير

وبالوقوف بالصفا والمروة

والسّعي قلبي املآه بالمروّة

وبالذّكر والتّكبير والهيللة

وبالصلاة لرسول الملّة

١٦٢

وبالذي من دعوات الخير

يدعى هناك هبه لي بخير

بالخطبة الأولى بمكة التي

في الظهر من سابع شهر الحجة

قدم لرتبتي ولا تسقطها

لدرجاتي ارفع ولا تحططها

وبالخروج لمنى في الثامن

هب لي المنى في سائر المواطن

بالصّلوات في وقوتها هناك

ربّ تفضّلن عليّ برضاك

وبالذي من دعوات الخير

يدعى هناك هبه لي بخير

بحقّ إحياء المبيت بمنى

أحي مواتي وارزقنّي المنى

بالاغتسال لشهود عرفه

كوصفه بمكّة المشرفه

وهو بلا دلك سألت المغفره

لله فضلا لست عندي معذره

بالقصر في الظّهرين والجمع هناك

والخطبتين لا تكلني لسواك

هب لي بالوقوف عند عرفات

رضاك في الموقف واحفظ من شتات

رب بذا اليوم وما أنزلت فيه

من رحمة وكلّ أمر تصطفيه

أسألك اللهمّ كلأ ذي النّعم

أنت الذي تعطي الأخصّ والأعم

١٦٣

وبالذي من دعوات الخير

يدعى هناك هبه لي بخير

بسرّ دفع الناس للمزدلفه

بعد الغروب من وقوف عرفه

بالمأزمين وبحرمة المرور

بينهما أصلح لنا كلّ الأمور

بالجمع والقصر وحطّ الرّحل

وبالمبيت أغنني بالفضل

وبوقوف المشعر الحرام

فاغفر ذنوبي واعف عن آثامي

وادع به ولا تقف بالمشعر

قبل صلاة الصبح أو أن تشعر

وبالّذي من دعوات الخير

يدعى هناك هبه لي بخير

بالدّفع قرب ساعة الاسفار

وسر الإسراع بواد النّار

يا ربّنا وحقّ رمي العقبة

سلّم لنا من اقتحام العقبه

وسلّمنّ من عذاب النار

واحفظ جميعنا من الأشرار

بسرّ سرّ الرّمي يوم النّحر

وحرمة الحلق وحقّ النّحر

اذهب جميع البأس والاضرار

عنا بلا بأس ولا إصرار

ولتدفعن عنّا جميع النّقم

واجلب لنا بالخير كلّ النّعم

١٦٤

أوزع لنا شكرا يديم النعمتين

وبالإفاضة وسرّ الرّكعتين

أفض عليننا من جميع الفضل ما

يغبطه ذو الفضل منك كرما

وبالرّجوع لمنى وبالمبيت

بها اهدنا كلّ مقيل ومبيت

هب لي بأفضلية الإقامه

بها إلى الإتمام الاستقامه

ربّ برمي الجمرتين والدّعا

إثرهما ورمي الأخرى أو سعا

وبالذي من دعوات الخير

يدعى هناك هبه لي بخير

وافعله في الثلث والرابع إن

شئت بسرّ فعله قنا الفتن

أكمل بسرّ الحجّ نعماك علي

إليك ملجا الضّعيف والقوي

ربّ أعنّي على إعانه

أهل العيال وأدّ الأمانه

عنّي تجاوز بنزول الأبطح

وبالطّواف للوداع فاصفح

وبالخروج من كذا إلى زيا

رة النبي وصاحبيه كن ليا

يا ربّ أسألك ما سأله

نبيّنا الفاضل أفضله

كذاك ما سأله أصحابه

من كلّ خير حبّذا أصحابه

١٦٥

وإنني أسأل كلّ ما سأل

أستاذنا لربّنا عزوجل

وكلّ ما سأله نبيّ

وعالم وصالح وليّ

وكلّ ما سأله غيرك لك

من كلّ خير وتسابيح ملك

ربّ اعطنا ما طلبوا وسألوا

منك افتضالا ، فصّلوا أو اجملوا

بجاه جاهك وجاه جاه

محمّد الهادي رسول الله

عليه أفضل صلاة الله

ما دام ملكه بلا تناهي

كمل النصف الأول من الرحلة المعينية بحمد الله تعالى

ويتلوه النصف الثاني بحول الله ، ذكر الخروج من مكة المشرفة إلى المدينة المنورة إن شاء الله.

١٦٦

النصف الثاني

استمرار الرحلة

من دخول المؤلف إلى المدينة المنورة

في ١٨ ذي الحجة ١٣٥٧ ه‍ فبراير ١٩٣٩ م

إلى رجوعه إلى طنطان في

٢٩ محرم ١٣٥٨ ه‍ مارس ١٩٣٩ م

١٦٧
١٦٨

بسم الله الرحمان الرحيم

خروجنا من مكة المشرفة إلى المدينة المنورة لزيارته صلى‌الله‌عليه‌وسلم

ثم لما كانت ليلة الأربعاء الثامنة عشر من ذي الحجة الحرام ، بعد أن صلينا المغرب والعشاء ، بمسجد الله الحرام ، طفنا ببيت الله الحرام طواف الوداع ، وتضلعنا من ماء زمزم بحمد الله ثم رجعنا للحجر الأسود واستلمناه وقبلناه ودعونا عند الملتزم على الهيأة المأثورة ، وهي أن يلصق القائم بين الباب والحجر صدره بالبيت ويمد يده اليمنى لجهة باب البيت ، ويده اليسرى إلى جهة المحجر ، نرجوه تعالى نيل الفوز والظفر ، وقضاء كل مأرب ووطر ، بجاه كل من حج واعتمر ، ثم خرجنا من باب الوداع ، لا جعله الله آخر عهدنا بتلك البقاع الطاهرات الطيبات المباركات ، ثم ركبنا السيارة من وقتنا متوجهين إلى المدينة المنورة لزيارته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فسرنا ليلتنا حتى بارحنا مكة المشرفة ، فنزلنا وبتنا فيها وبين جدة ، فركبنا صباحا ، ووصلنا جدة ضحى يوم الأربعاء ، ونزلنا بها إلى قرب الزوال ، ثم ركبنا ، فلما بلغنا كراع الغميم ، غاصت السيارة في خضخاض هناك ، وفسد من آلتها ما عاقها عن الجري ، فنزل وفدنا ، وحملوا الشيخ مربيه ربه على أيديهم حتى جاوزوا به أماكن الطين والماء ، وتفرق أهل السيارة في ذلك الموضع لطلب الظل للمقيل ، وأظلّت أصحابنا على الشيخ بأرديتهم ، وممن باشر ذلك ابن أخيه السيد بوي بن الشيخ حسنّ ، فإن الشيخ اضطجع على فخذه وأظلّه بردائه ، فنام عليه حتى استراح ، وأخبرني السيد بوي أنه نال بتلك الضجعة التي رأس الشيخ فيها على فخذه ما يحمد الله عليه من الفتوحات ظاهرا وباطنا ، وظهرت له أوائل ذلك من تلك الساعة ولم تزل تزداد ، ولله الحمد ، ثم ركب الشيخ محمد الإمام على سيارة أخرى مرت بنا حتى وصل محطة أمامنا ، فرجع لنا بسيارة صالحة ، فركبناها وقت الغروب حتى وصلنا المحطة التي قرب رابغ ، فبتنا هناك ، وركبنا صباحا فوافينا رابغا ضحوة الخميس ، فنزلنا فيه قليلا ، ثم ركبنا لوجهتنا بعد الاستراحة فيه.

١٦٩

مطلب ذكر بعض أحوال أهل البلد والذين بمكة والمدينة

وقد كانت بين المدينة المنورة ومكة المشرفة مناخات ومحلات معدة للاستراحة وللأكل والشرب لمن شاء ذلك من الحجاج ، وربما استرحنا في بعضها ، وأكثر من يعمر تلك المحلات أهل البدو ، وهم الأعراب المتوطنون الحرم الشرف ، وجلهم عاميون ، لا معرفة لهم بالعلم ، بل عامّ فيهم الجهل ، إلا أن اللسان الربي سجية فيهم ، فيتكلمون به عن فصاحة كثيرا بالطبيعة رجالا ونساء وصبيانا ، فمن ذلك أني سألت في بعض المحلات صبيا صغيرا عن بئر بإزائنا ، وحذاءها آبار أخر ، ما اسمها فقال لي : أيّة بئر ، بهذا اللفظ ، فتعجبت من تأنيثه للبئر وإلحاقه تاء التأنيث بأية ، وذلك مخالف لما عليه أهل اللغة الدّارجة اليوم ، لأنهم يذكرون البير ، ولا يلحقون التاء بأي في التأنيث ، وإنما تكلم الصبيّ باللغة الفصحى على الطبيعة. قال تعالى : (وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ)(٣٠٢) وقال الشاعر :

[الطويل]

بأي كتاب أم بأيّة سنّة

ترى حبّهم عارا عليّ وتحسب

وهذا نمط كلامهم غالبا. وأحوالهم في لباسهم ، وإكرامهم للأضياف وكسبهم للأنعام قريبة من حال بلادنا وبواديهم في أرض الشناجطة ، إلا أن بوادينا فيها الزوايا (٣٠٣) الكثيرون المعتنون بالعلم ، وعلماؤها مشهورون ، وقلما تفارقهم المدارس المشحونة بطلبة العلم ، وبلاد المشارقة ليس أهلها كذلك ، وإنما يعتني بالعلم في بلاد المشارقة أهل الحاضرة فقط ، فأهل بواديهم يشبهون حسان (٣٠٤) واللحمة (٣٠٥) من أهل

__________________

(٣٠٢) سورة الحج ، آية ٥٤.

(٣٠٣) الزوايا : تجمع قبلي صحراوي يختص بالعلم والتربية مثل ، إداو علي وتشمشة ، وغيرهما.

(٣٠٤) حسان : تجمع قبلي صحراوي يختص بحمل السلاح.

(٣٠٥) اللحمة : تجمع قبلي صحراوي يختص بتنمية الموارد الاقتصادية.

١٧٠

بوادينا في عدم التعلم ، ونساؤهم يلبسن الثياب السود غالبا كنساء بلادنا. ولا تجدهنّ إلا مستترات غير متبرجات ، ويستوي في ذلك أهل الثروة منهن والفاقة ، لأنا رأيناهنّ يسألن الصدقة لفاقتهن ، وهن على ذلك الحال ، وقد كن يتعرضن لنا ومعهن الصبيان ، فيقفن هنّ والصبيان بإزاء طريق السيارة حتى تمر بهم سائرة. فيقولون : ارم يا حاج ، ارم يا حاج ، يطلبون ما يرمى لهم من الصدقة ، وكانت الحجاج ترمي لهم الدراهم والخبز ، والتمر ، ونحو ذلك مما تيسر ، ولم نزل يومنا هذا نرمي لهم كلما تعرضوا لنا ، كلّ يرمي لهم ما أمكنه.

أبيات بين الشيخ محمد الإمام وجامع الرحلة في الحث على الصدقة

فرأى الشيخ محمد الإمام ابن شيخنا الشيخ ماء العينين جماعتنا وكأنها مسها ملل من الرمي لهم فقال لهم بديهة :

أحجّاج بيت الله ويحكموا فارموا

فاستجاز جامعه ما العينين ، فقلت بديهة :

ليمحي بما ترمونه عنكم الجرم

فقال الشيخ محمد الإمام :

[الطويل]

فمن رام بذر الأجر هذا محلّه

ولا عذر إلا حيث يمنعك العدم

فقال ما العينين :

على أنه لا عدم إن جئت هاهنا

ولا يدرك المعنى سوى من له فهم

فما زالت الجماعة ترمي بالصدقات جهدها ، لمن تعرض لنا من السائلين حتى

١٧١

انقطعوا عنا بإقبال الليل ، فبتنا تلك الليلة ، وهي ليلة الجمعة في بعض المحلات القريبة من المدينة المنورة ، وكانت طريقنا هذه في السيارة على ساحل البحر ، وهي طريقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، في هجرته من مكة إلى المدينة المنورة ، ثم ركبنا صبيحة يوم الجمعة ، ونزلنا ضحى بذي الحليفة عند بئر علي كرم الله وجهه بمحلة هناك ، حتى توضّأنا ، وأصلحنا شؤوننا ، ولبسنا فاخر ثيابنا ، لأن من السنة لداخل المدينة أن يتطيب ويلبس فاخر ثيابه ، فركبنا وقد فاضت العبرات وتوالت الزّفرات وطاشت العقول وشمرت الذيو ، وانتعشت الأرواح والأفكار ، وانبعثت الأسماع والأبصار واستولت على النفوس الأفراح المزدادة ، حتى أخرجتها عن مألوفاتها المعتادة ، لما سطعت أضواء المدينة المنورة وأشرقت ديارها بنوره صلى‌الله‌عليه‌وسلم ساطعة وتلألأت خلال المدينة الغراء سواطع القبّة الخضراء ، وحللنا ساحة تلك البقاع الطاهرات الموذنة بالتقديس ، فكنا على الصفة التي ذكرنا بهذا التخميس :

[الطويل]

بقاع بأرواح المحبّن جأجأت

فلما استبانتها الجسوم تثأثأت

ودانت لها هاماتها وتطأطأت

(هنالك خضراء القباب تلألأت

بها رفرف الأنوار لألأؤه ازدهر)

وذا مسجد الهادي محلّ التذاذة

بتوضيح منهاج الهدى واتخاده

وتيك مغاني نشره ونفاذه

وذاك قباء والبقيع وهذه

قباب أهاله الجهابذة الغرر)

فكم مدمع من خشية الله ساكب

هناك وكم ماش إليها وراكب

وكاب لديها لازدحام المناكب

(فليت مطايا الوهم كانت مراكب

١٧٢

إليها أو الارواح تخدي أو الفكر)

فلم أنتجع إلا فيوض سحابها

ولبّي مرهون بأيدي صحابها

فيا لائما نفسي لطول انتحابها

(إذا ما حططنا الرّحل بين رحابها (٣٠٦)

وداخلنا ذهل الملاقاة والحير)

ومسّت على ما ضاع منّا ندامة

وخامرت الأوصال منّا مدامة

ولاحت لميقات الوصال علامة

(فلا لي ، لا لي عليّ ملامة

فحالة مرء فاقد اللّبّ تغتفر) (٣٠٧)

دخولنا المدينة المنورة

فدخلنا المدينة المنورة بحمد الله قيلولة يوم الجمعة الموفي عشرين من شهر ذي الحجة الحرام ، فتلقّى لنا عند باب المدينة المنورة السيد محمد عبد الله بن الشيخ محمد الخضر بن مايابي الجكني ومن معه من الإخوان والموارد من الشناجطة الساكنين هناك وسلموا على سيادة الشيخ مربيه ربه وسائر الوفد ورحبوا وأظهروا غاية السرور بمقدمنا ، ولهم أيام ، كل يوم يظلون بباب المدينة المنورة في انتظارنا خشية أن ندخلها بغير علمهم ، ثم سار ابن الشيخ محمد الخضر بأمتعتنا إلى داره لننزل فيها.

__________________

(٣٠٦) رحابها : قبابها ، في المعسول ، ج ، ٤ ص ٢٢٣.

(٣٠٧) الأبيات الموضوعة بين قوسين في هذا الجزء من القصيدة هي في الأصل من رائية الشيخ أحمد الهيبة في مدح الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد خمسها الشاعر ابن العتيق كما خمسها الشاعر السوسي الطاهر الأفراني.

١٧٣

دخولنا المسجد النبوي وزيارتنا منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم

وركب الشيخ مربيه ربه وأخوه الشيخ محمد الإمام وجامع الرحلة ما العينين عربية ، وهي الآلة التي يركب فيها ، وتجرها الخيل والبغال ، قاصدين إلى الروضة الشريفة ، وعندما هيأوا لنا أعرض جامعه عفا الله عنه عن ركوبها مع الشيخين ، تواضعا لمدينته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ورغبة في المشي إليه على الرجلين ، فقال الشيخ محمد الإمام : إنما الأدب في ركوبك معنا ، لأن هذه تكرمة لنا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بعثها لنا بباب مدينته المنورة ، ولا ينبغي رد تكرمته ، فعلمت أن ما قاله أبلغ وأرفع مقاما في الأدب ، وركبنا حتى وصلنا المسجد النبوي ، فدخلناه بحمد الله من باب السلام ، وصلينا فيه تحيته ، فقمنا إلى محل المواجهة الكريمة من القبر الشريف.

أبيات أنشأها جامع الرحلة عند زيارته صلّى الله عليه سلم

[الخفيف]

فحططنا الرحال حيث يحط

الوزر عنّا وترفع الحوجاء

وقرأنا السلام أكرم خلق ال

له من حيث يسمع الإقراء

وذهلنا عند اللّقاء وكم ، أذ

هل صبّا من الحبيب لقاء

ووجمنا من المهابة حتّى

لا كلام منّا ولا إيماء

ونحمده تعالى على ما فتح علينا به في ذلك المشهد الأعظم من السلام عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والاستغفار والتضرع والابتهال والدّعاء لنا ولأهلنا وإخواننا وعامة المسلمين ، ثم انحرفنا إلى مسامتة قبر أبي بكر الصديق رضي‌الله‌عنه ، فسلمنا عليه ، ثم إلى مسامتة قبر عمر الفاروق رضي‌الله‌عنه ، فسلمنا عليه أيضا ، ودعونا الله بما المرجو منه تعالى إجابته ،

١٧٤

وجادت القريحة حيث أكرمنا تعالى بزيارته صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذه الأبيات :

[البسيط]

الحمد لله إذ لم يأتني أجلي

حتّى أنخت بباب المصطفى جملي

ظلمت نفسي ، وإذ جئت الرّسول فقد

أيقنت بالفضل أن الله يغفر لي

ومن يجئك رسول الله مرتجيا

يجد ببابك أقصى السّؤل والأمل

أنا العليل وما الشّافي سواك لما

أخافه في كلا الحالين من علل

ثم جلسنا في المسجد لانتظار صلاة الجمعة حتى صليناها ، ثم قمنا لزيارته صلى‌الله‌عليه‌وسلم أيضا ، فلم يمكنا بلوغ المواجهة الشريفة لقوة الازدحام وكثرة الزائرين ، فقرأناه صلّى الله عليه والسلام بحمد الله من حيث أمكننا الوقوف ، ورأينا أن الأدب في عدم مزاحمة الناس هناك ، وأنشأت حين فرغنا من الزيارة بيتين وهما :

[الكامل]

زر حيث ما استطعت النبيّ مواجها

فهواطل الرّحمات ثمّ غزار

ودع الزّحام إذا خشيت إذاية

فبقاع طيبة كلّهنّ مزار

زيارتنا لأهل البقيع رحمهم‌الله

ثم بعد صلاتنا للعصر بالمسجد النبوي ، وزيارتنا منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الجمعة المذكور ، خرجنا لزيارة أهل البقيع ، فبدأنا بزيارة فاطمة الزهراء بنته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبضعته ، ومعها عمها العباس بن عبد المطلب ، فسلمنا عليهما ، ودعونا عندهما ، وقد كان قبراهما رضي‌الله‌عنهما في قبة ، فهدمت في جملة القباب التي هدمتها الحكومة السعودية

١٧٥

بعد استيلائها على الحرم عام ١٣٤٣ ، ثم ملنا إلى قبور بناته صلى‌الله‌عليه‌وسلم الأخر ، وقد كنّ أيضا في قبة فهدمت كسائر قباب البقيع ، ثم زرنا قبر زوجاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد كنّ في قبة أيضا ، فهدمت ، ثم زرنا قبر ولده صلى‌الله‌عليه‌وسلم إبراهيم ، وقد كان منفردا في قبة ، فهدمت ، ثم زرنا فبري الإمام مالك بن أنس وأبي رويم شيخ القراء نافع ، وقد كانا في قبة فهدمت أيضا ثم سرنا لزيارة قبر عثمان بن عفان رضي‌الله‌عنه بجانب البقيع الشرقي ، وقد كان منفردا في قبة ، فهدمت كغيرها ، فلما هدمت هذه القباب المذكورة ، بقيت القبور التي كانت وسطها في وسط دوائر من الحجارة ، موضوعة على أساس القباب مرتفعة على الأرض قدر شبر ، ولم يرتفع معها غيرها ، كما لا يسمح بدفن أحد معها في سالف الزمن ، لكن كل من مات من المسلمين هناك ، يدفن في عامة البقيع ، ثم زرنا عامة أهل البقيع ، خصوصا من عرفنا مبرة منهم ، كالشيخ أحمد ابن الشمس مريد شيخنا الشيخ ماء العينين ونحوه ، ودعونا الله هناك ، واستغفرنا لهم ولأنفسنا ووالدينا وأشياخنا ، وأحبابنا وإخواننا المسلمين الأحياء منهم والأموات ، والحمد لله على جميع النعمات ، وعلى زيارة هذه البقاع الطاهرات ، نرجوه تعالى من فضله مضاعفة الحسنات ، ورفع الدرجات وغفران السيئات.

زيارتنا لشهداء أحد ومسيرتنا لزيارة مسجد قباء

ثم بعد قدومنا بيومين ، خرجنا لزيارة عمّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، سيد الشهداء حمزة ابن عبد المطلب ، رضي الله تعالى عنه وسائر شهداء أحد ، رضي‌الله‌عنهم في سفح جبل أحد وقد كان قبر حمزة رضي‌الله‌عنه منفردا في قبة ، فهدمتها الحكومة السعودية كسائر القباب ، وأما الشهداء ، فقبورهم في حائط مدور عليهم ، ارتفاعه على الأرض قدر أربعة أذرع ، ثم سلمنا على الجميع ، وتبركنا بتلك المشاهد الخيرية ، وطلعنا مع سفح أحد إلى الصخرة التي روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم طلع عليها يوم أحد في شعبة هناك ، للتبرك بآثاره صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والدعاء بها ، ثم انقلبنا فسرنا لزيارة مسجد قباء الذي أسس على التقوى ، وورد عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال فيه : «الصلاة في مسجد قباء كعمرة» فصلينا فيه ما شاء الله بحمد الله ، وحوله بئر أريس ، وهي التي سقط فيها خاتمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من يد

١٧٦

عثمان رضي‌الله‌عنه عند أيام خلافته ، وهي التي جلس عليها صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان أبو موسى الأشعري بوابه ، فجاء عثمان رضي‌الله‌عنه ، فأذن له ، فبشره بالجنة ، وكذلك عمر رضي‌الله‌عنه ، وكذلك عثمان رضي‌الله‌عنه على بلوى تصيبه ، الحديث المشهور ، فشربنا بحمد الله من تلك البير ، ودعونا الله عندها وعند مسجد قباء ، ورجعنا إلى المدينة المنورة ، وبينها وبين قباء قدر سير ساعتين.

تنبيه في ذكر تخميسنا لمديحية الشيخ أحمد الهيبة

وتاريخ وفاته وذكر التخميس تماما في مدحه صلى‌الله‌عليه‌وسلم

تنبيه ، قد قدمنا شعرا عن تخميسنا لقصيدة العلامة الأستاذ الإمام الشيخ أحمد الهيبة (١) ابن شيخنا الشيخ ماء العينين عند ذكر إشرافنا على المدينة المنورة ، وهي قصيدة (٢) شوقية رائعة بديعة تدل على غزارة علمه وبراعة بلاغه ، وشدة محبته له صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقد أنشأها رضي‌الله‌عنه قبل وفاته بقليل ، ومن الله على جامع الرحلة ما العينين بن العتيق بأن خمسها عام ١٣٣٧ ، وهو عام وفاة الشيخ أحمد الهيبة ، ولا شك أنه

__________________

(١) الشيخ أحمد الهيبة ، ولد سنة ١٢٩٤ ه‍ ١٨٧٥ م ، بعد وفاة والده الشيخ ماء العينين تولى قيادة حركة المقاومة في الجنوب ، فحاول التصدي للقوات الفرنسية في الحوز وسوس وغيرهما من الأقاليم المغربية الجنوبية ، لكن ضعف إمكاناته المادية لم تمكنه من تحقيق طموحاته الوطنية ، توفي بكردوس سنة ١٩١٩.

خلف ديوان شعر وبعض الفتاوي الفقهية.

أنظر : سحر البيان ، و، ١٢٨ ـ الأبحر المعينية ، و، ٢ ص ١٤.

الإعلام بمن حل مراكش وأغمات من الأعلام ، ج ، ٢ ص ٤٧٢ ديوان الشيخ أحمد الهيبة ، جمع وتحقيق محمد الظريف.

(٢) قصيدة في مدح الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مطلعها :

كففت انسجام الدمع فانهل وانتشر وعاد عقيقا بعد ما كان كالدّرر

وخمسها الطاهر الافراني ، كما خمسها جامع الرحلة ، أنظر : المعسول ، ج ، ٤ ، ص ، ٢٢٢.

١٧٧

أنشأها قبل هدم قباب البقيع المذكورة بأعوام لأنه توفي قبله فلذلك قال فيما قدمنا من التخميس :

[الطويل]

وذاك قباء والبقيع وهذه

قباب أهاليه الجهابذة الغرر

ولا بأس بإثبات قصيدته رضي‌الله‌عنه ، مع تخميسنا إياها بهذه الرحلة ، لما اشتمل عليه الجميع من أمداحه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومعجزاته وسيرته ، ومدح صحابته رضي‌الله‌عنهم ، نرجوه تعالى أن يتقبل منا ويتجاوز عنا ، ويشفعه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فينا بفضله وكرمه ـ وقد اجتهدت في مطابقة وارتباط معاني التخميس وألفاظه بمعاني القصيدة وألفاظها في أوائل أبياتها وأواخرها ، ومن تدبر ذلك يجده كذلك ، إن شاء الله ، فقلت غفر الله لي ما قلت وما فعلت :

[الطويل]

سرى الوجد خلف الدّمع من مقتلي فدر

بمنسجم كالّدرّ من سلكه انحدر

فلمّا لحاني من على ولهي عثر

(كفكفت انسجام الدّمع فانهلّ وانتثر (٣))

وعاد عقيقا بعد ما كان كالدّرر)

ونبّه صبح البين لمّا تنفّس

ماقي لي من خمرة الوصل نعّسا

فعاد ارتياحي في لعلّ وفي عسى

(وأبدل منّي من جوى البين والأسا

سبات الكرى والنّوم بالسّهد والسّهر)

__________________

(٣) لحاني : لامني.

١٧٨

فبتّ وبي ما ليس يستطاع دفعه

وطرفي مخفوض على الخدّ دمعه

وجنني مرفوع على النّصب وضعه

(وجفني مبنيّ على الفتح رفعه

ولا يتأتّى فيه ضم وما انكسر)

وقد ضلّ لبي في الهوى فنشدته

ولي خبر مذ غاب عنه وجدته

فكيف أصون الدّمع ، هبني رددته

(وقد كان لي لبّ مصون فقدته

فيا ليت شعري أين سار وما الخبر؟)

لئن كان لبّي في سبيل الهوى غوى

فما من شرود منه إلا به ثوى

فقل للألى لم يعرفوا درج الهوى

(هلمّوا ، اقرءوا ما الحبّ منّي وما الجوى

وما العشق ما أحلى الجميع وما أمر)

فكم مدّع بالحبّ يوما تلفظا

ولمّا يمز من الصميم من الشّظى

وما الحبّ إلا ما تثلج والتظى

(فيتلج ما بالمستهام من اللّظى

ويوقد في إثلاجه من لظى سقر) (٤)

وأمّا الجوى فالحقف في القلب مكتمن

وللعشق داء لا دواء به قمن

__________________

(٤) إثلاجه : أضلاعه ، في المعسول.

١٧٩

ولم ينج من زمناه زمن زمن

فسيّان فيه القرب والبعد وهو من (٥)

خفي الخفا أخفا وأظهر ما ظهر)

ففيم ملامي فيه إن كنت ثانيا

إليه لما منه عناني عنانيا

وقد طال في تيهائه هيمانيا

(أهيم إذا ما شمت برقا يمانيا

وإن ماست الأغصان في نسم السّحر)

أو أبصرت بالدّور اللّوائي تطمست

وآرامها بين البطاح تكنّست (٦)

تناوير زهر النجم مهما تودّست

(وتوقاد أضواء النجوم إذا رست (٧)

أو اظلم ليل العاشقين أو اعتكر)

وأدعو نحاة الحبّ هل كان معربا

يسلّمني جمعا فمن يوم أشربا

هوى الشرق قلبا لي فشرّق مغربا

(تغرّب جسمي في التّولّه مغربا

وغرب جفوني بالّدم انهلّ وانهمر)

فما أنا إلا مفرد متفرّق

وإن أنا في جمع المحبّين مغرق

فحتّى متى بالغرب جسمي يعرق

(وقلبي بالشّرق الحجازيّ مشرق

__________________

(٥) زمناه : بليته (زمن) لسان العرب.

(٦) تطمست : اختفت معالمها.

تكنست : دخلت في الكناس ، وهو مولج الوحش من الظباء والبقر تستكن فيه من الحر.

(٧) تودست : تغطت بالنبات.

١٨٠