الرحلة المعينيّة

ماء العينين بن العتيق

الرحلة المعينيّة

المؤلف:

ماء العينين بن العتيق


المحقق: محمّد الظريف
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-36-634-9
الصفحات: ٣٩٥

المغرب ليلة الجمعة ، فزارنا فيها تلك الليلة من أعيان أهل المدينة السيد أحمد ابن محمد العالم رئيس المحكمة الإسلامية الشرعية العليا ، والسيد محمد بن نصر الدين محسن ، وهو من كبراء أهل البلدة ، فسلما ورحّبا ، وقالا لسيدنا الشيخ مربيه ربه : إن باشا المدينة فرح بمقدمه ومقدم وفده ، وأنه كان يريد التلقي لهم في الباخرة ، حتى عاقه مرض أصابه منذ أيام ، وأنه يلتمس العذر ويطلب صالح الدعاء ، فاشتركنا معهما الدعاء وانصرفا.

صلاتنا للجمعة في مدينة طرابلس ومذاكرتنا مع بعض علمائها

فلما كان بالغد يوم الجمعة ، نزل أكثر الركب إلى المدينة لصلاة الجمعة ، وفيهم الشيخ محمد الإمام وجامعه ، فصليناها في جامع الباشا المتقدم ذكره ، والتقينا هناك مع سادة علماء أجلاء من أهل المدينة ، فتذاكرنا معهم في بعض الفنون العقلية والنقلية ، فإذا هم في غاية الأدب والمعرفة بالعلوم ، فأطلعونا على مكتبتهم ، فوجدناها مشتملة على كثير من الكتب المعتبرة ، وبالغوا في إكرامنا والإحسان علينا ، ولهم أخلاق طيبة وآداب جمة وكرم زائد ، فمن السادة المذكورين ، وإن كانوا كثيرين ، الشيخ طاهر بن عبد الرزاق الشريف الإدريسي البشتي (٢٤٠) ، أحد قضاة البلد ، والأستاذ الشيخ عبد الرحمان بن علي القلهوبي ، والمدرس في مدرسة القراءات ، الشيخ مصطفى الهوني ، والشيخ طاهر بن أحمد الشريف ، المدرس بالمدرسة الأهلية (٢٤١) ، والأستاذ الشاعر أحمد فقيه حسن بن محمد ، المتقدم ذكره ، وأخبرنا أنه بعث لنا أبياتا يخاطبنا به ـ وفد الشناجطة ـ ولعلها لم تصل إلى الباخرة إلا

__________________

(٢٤٠) عبد الرزاق بن الطاهر البشتي : ولد بالزاوية سنة ١٩٠٤ ، اشتغل بالقضاء والمحاماة والتدريس مدة طويلة ، كان له نشاط سياسي داخل حزب الاستقلال الذي استلم مقاليد السلطة من حكومة الاحتلال. وهو شاعر ومؤلف توفي سنة ١٩٦٢.

(٢٤١) الطاهر أحمد الشريف ، ولد بطرابلس ، اشتغل بالتدريس ثم إدارة العدل بولاية طرابلس ، توفي سنة ١٩٦٠.

١٢١

بعدنا ، فأنشدنا إياها.

أبيات بعثها أحمد فقيه حسن لوفدنا الشناجطة وما أجابه به صاحب الرحلة ومطلعها :

[الطويل]

أحجاج بيت الله بالله بلّغوا

تحية صبّ للنبيّ محمد

إلى أن قال :

فأنتم بني شنجيط لا شك سادة

بكم يقتدي ربّ الذكاء ويهتدي

طرابلس لا زال يشهد أهلها

بفضلكم في كلّ ناد ومشهد

لقد أخصبت لمّا نزلتم بأرضها

وكيف وما فيكم سوى كلّ سيّد

فلما سمعها جامعه ما العينين عفا الله عنه ، كتب له في جوابها حالا :

زففت إلينا أحمد بن محمّد

مخدّرة من ذهنك المتوقّد

تحمّلنا فيها تحية شيّق

لنقراها عند المقام المحمّد

إلى أن قلت :

لقد دلّنا ما أنت مسديه جودة

على أنّك الحاوي حلى كلّ جيّد

وإنّك خنذيذ البلاد وندبها

وإنّ العلى تلقى إليك بمقود (٢٤٢)

__________________

(٢٤٢) خنذيذ : خطيب مصقع ، سيد حليم. ـ ندبها : وفدها ، في «ب» و ٣٤.

١٢٢

إلى آخرها.

فوقع الاستحسان من الجميع ودعونا وتوادعنا ، فركبنا نحو الباخرة ودخناها وقت المغرب ، وقد رأينا في أهل طرابلس تواضعا عجيبا عموميا ، وأخلاقا جميلة لطيفة ، وطباعا رقيقة ظريفة وكرما طبيعيا ، وسخاء أنفس ، واعتبارا لعامة الحجاج وخاصتهم. ومن أحسن ما فيهم أن نساءهم لا يخرجن إلى الطرقات ولا يتبرّجن ، وأحرى الشريفات منهن ، ومن ألجأها الحال إلى الخروج ، فمن قواعدهن لا تراها إلا وهي مستترة غاية. وأحوال صحاريهم وباديتهم في كسبها ومعاشها وأكثر أمورها قريبة من أحوال الشناقطة.

أول من افتتح طرابلس

فائدة : أول من افتتح طرابلس عمرو بن العاص ، سنة اثنين وعشرين ٢٢ ، ثم صارت تابعة لعمال العباسيين. ثم ملكها الأغالبة ، ثم العبيديون ، وهم دولة الفاطميين ، ثم امتكلتها جزيرة صقلية سنة ٥٤٠ ، ثم دولة الموحدين سنة ٥٥٣ ، ثم فتحتها الدولة العثمانية سنة ٩٥٠ ، واستمرت بأيدي المسلمين تحت سيطرة الدولة التركية إلى أن ضعف حالها أوائل هذا القرن الرابع عشر ، فاستولت عليها إيطاليا ، وهي ألآن تحت حكمهم ، والله المستعان.

قدومنا على بور سعيد من أرض مصر ومسيرنا مع القنال

إلى البحر الأحمر وتاريخ حفر القنال

ثم لما كان وقت القيلولة يوم السبت الثالث والعشرين من ذي القعدة الحرام ، أقلعت الباخرة بنا من طرابلس في وجهتها للحرم الشريف بعون الله قاصدة بور سعيد ، فلما كانت صبيحة يوم الثلاثاء السادس والعشرين من ذي القعدة ، رست بنا الباخرة في مرسى بور سعيد ، وهي مدينة مصرية على مدخل قنال السويس من جهة الشمال ، أنشئت سنة ١٢٧٧ عند الشروع في حفر القنال في عهد الخديوي

١٢٣

سعيد ابن محمد علي ، وهي من أجود الموانئ المصرية ، ولها مستقبل كبير ، وربما حلت محل الإسكندرية لكونها أقرب إلى سواحل أوربا.

فلما كان أول وقت العصر من يوم الثلاثاء المذكور ، سارت الباخرة بنا آخدة قنال السويس ، وهو الخليج المحدث منذ سبعين سنة ، قرن بين البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر ، وهو بحر القلزم ، وقد لبثت العملة في اتصال البحرين المذكورين عشر سنين ، وذلك من تاريخ ١٨٥٨ مسيحية إلى ١٨٦٩ ، فتم القنال.

قدوم ولد الخليفة علينا هو وقومه بالباخرة

ثم رست بنا الباخرة وقت انتصاف الليل عند مدينة السويس ليلة الأربعاء ، فلما كانت صبيحة يوم الأربعاء طلع علينا في الباخرة ولي العهد ابن الخليفة المولى الحسن بن المولى المهدي ، سميّ جده المولى المهدي ، ومعه من كان بمصر من رجال الوحدة المغربية لطلب العلم صحبة كبيرهم الفقيه الشاعر الأديب السيد محمد بن اليماني (٢٤٣) ، ومعهم راعي بيت المغرب بمصر الأستاذ محمد حبيب أحمد المدرس بكلية أصول الدين والسكرتير لشيخ الجامع الأزهر ، ففرح أهل الباخرة بطلوعهم ، وأقاموا لهم حفلة حسنة.

وتحادثنا ساعة مع السيد محمد بن اليماني وراعي بيت المغرب الأستاذ محمد ، فوجدنا لكل منهما مشاركة في العلم وأدبا رائقا ومعرفة زائدة ، ثم توادعنا معهم ، وأقلعت الباخرة بنا متوجهة جدة في حفظ الله وأمانه وقت العصر من اليوم المذكور.

وصولنا لمقابلة رابغ وإحرامنا

فلما كان من الغد يوم الخميس ، أتى رئيس الباخرة سيدنا الشيخ مربيه ربه

__________________

(٢٤٣) محمد بن اليماني : هو محمد بن اليماني الناصري ، من أدباء المغرب وشعرائه البارزين ، ولد بالرباط سنة ١٨٩١ ، وتوفي بالمدينة المنورة سنة ١٩٧١ ، أنظر : من أعلام الفكر المعاصر بالعدوتين الرباط وسلا ، ج ، ٢ ص ، ٢٣٤.

١٢٤

وأطلعه على سطح الباخرة ، وأراه جهة رابغ ، وهو الذي يلزم المار به من الحجاج الإحرام عنده ، وقال له : سنعلم الحجاج قبل وصوله الليلة بثلاث ساعات ليتهيأ الناس للإحرام بالاغتسال ولبس ثياب الإحرام ، فلما كان بعد العشاء ليلة الجمعة صوّتت الباخرة صوتا شديدا ثلاث مرات ، كما وعد رئيس الباخرة سيدنا الشيخ إعلاما بقرب رابغ ، فاشتغل الحجاج بالاستعداد للإحرام ، فما تمت الساعات الثلاث حتى فرغوا من شأنهم ، فلما وصلت الباخرة مقابلة رابغ عند انتصاف الليل ، صوتت أيضا إعلاما بوصوله ، فأحرمنا وقت انتصاف ليلة الجمعة التاسعة والعشرين من ذي القعدة وأعلنا بالتلبية لعلام الغيوب ، وسألناه تعالى غفران الذنوب ، وأنشدنا جامعه حين تجردنا من لبس المخيط بصدق النيات ووصلنا رابغا محل الميقات.

[الطويل]

تجرّدت لما وصلت لرابغ

ولبّيت للمولى كما حصل النّدا

وقلت إلهي عندك الفوز بالغنى

وإنّي فقير قد أتيت مجرّدا

مطلب في كوننا أهللنا بالعمرة ، وحديث جابر الدال على فضلية ذلك

وأهللنا بالعمرة لما ورد عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حجة الوداع من الحث على التمتع بالعمرة إلى الحج. ويكفي من ذلك حديث جابر (٢٤٤) الذي حدث به عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد أورده مسلم في صحيحه ، فقال ما نصه : «حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة وإسحاق بن ابراهيم جميعا عن حاتم قال أبو بكر ، قال حاتم بن اسماعيل المدني عن جعفر بن محمد عن أبيه ، قال : دخلنا على جابر بن عبد الله ، فسأل عن القوم ، حتى انتهى إليّ فقلت : أنا محمد بن علي بن حسين ، فاهوى بيده إلى رأسي ، فنزع زرّي

__________________

(٢٤٤) جابر : هو جابر بن عبد الله بن عمرو الخزرجي الأنصاري ، صحابي من المكثرين في الرواية عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، توفي سنة ٨٧ ه‍ ، أنظر : الإصابة في تمييز الصحابة ، العسقلاني ، ج ، ١ ، ص. ٢١٣.

١٢٥

الأعلى ، ثم الأسفل ، ثم وضع كفه بين تديي وأنا يومئذ غلام شاب ، وقال : مرحبا بك يا ابن أخي ، سل عما شئت ، وسألته وهو أعمى ، وحضر وقت الصلاة ، فقام في نساجة ملتحفا بها ، كلما وضعها على منكبيه رجع طرفاها إليه من صغرها ، ورداؤه إلى جنبه على المشجب ، فصلى بنا ، فقلت : أخبرني عن حجة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فقال بيده ، فعقد تسعا فقال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكث تسع سنين لم يحج ، ثم أذّن في الناس في العاشرة أن رسول الله صلى عليه وسلم حاجّ ، فقدم المدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن يأتمّ برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويعمل مثل عمله ، فخرجنا معه حتى أتينا ذا الحليفة ، فولدت أسماء بنت عميس (٢٤٥) محمد بن أبي بكر ، فأرسلت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كيف أصنع؟ قال اغتسلي واستشعري (٢٤٦) بثوب وأحرمي. فصلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المسجد ، ثم ركب القصواء حتى إذا استوت به ناقته على البيداء ، نظرت إلى مدّ بصري بين يديه من راكب وماش ، وعن يمينه مثل ذلك وعن يساره مثل ذلك ومن خلفه مثل ذلك ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين أظهرنا ، وعليه ينزل القرآن ، وهو يعرف تأويله ، وما عمل به من شيء عملنا به ، فأهلّ بالتوحيد :» لبّيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك لبيك ، وأهلّ الناس بهذا الذي يهلّون به ، فلم يردّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليهم شيئا منه ، ولزم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلبيته ، قال جابر : لسنا ننوي إلا الحج ، لسنا عرف العمرة ، حتى أتينا البيت معه استلم الركن ، فرمل (٢٤٧) ثلاثا ومشى أربعا ، ثم نفذ إلى مقام إبراهيم ، فقرأ : واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ، فجعل المقام بينه وبين البيت ، فكان أبي يقول : ـ ولا أعلمه ذكره إلا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كان يقرأ في الركعتين : «قُلْ هُوَ اللهُ

__________________

(٢٤٥) أسماء بنت عميس : هي أخت ميمونة زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأخت لبانة زوجة العباس ، هاجرت مع زوجها جعفر إلى الحبشة ، ثم إلى المدينة ، فلما قتل زوجها جعفر ، تزوجها أبو بكر ، فولدت له محمدا ، ثم مات عنها فتزوجها علي بن أبي طالب ، فولدت له يحيى بن علي بن أبي طالب ، أنظر : السيرة النبوية لابن هشام ، ج. ١ ص ٢٥.

(٢٤٦) استشعري : إلبسي (شعر) ، لسان العرب.

(٢٤٧) رمل : أسرع في مشيته وهز منكبيه.

١٢٦

أَحَدٌ» و (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) ، ثم رجع إلى الركن فاستلمه ، ثم خرج من الباب إلى الصفا ، فلما دنا من الصفا قرأ : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) ، ابداء بما بدأ به الله ، فبدأ بالصفا ، فرقى حتى رأى البيت ، فاستقبل القبلة فوحد الله وكبّره. وقال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، لا إله إلا الله وحده ، أنجز وعده ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده ، ثم دعا بين ذلك ، قال مثل هذا ثلاث مرات ، ثم نزل إلى المروة حتى انصبت قدماه في بطن الوادي ، حتى إذا صعدتا ، مشى حتى أتى المروة ، ففعل على المروة كما فعل على الصفا حتى إذ كان آخر طوافه على المروة قال لو أني استقبلت من أمر ما استدبرت لم أسق الهدي ، وجعلتها عمرة ، فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل وليجعلها عمرة ، فقام سراقة بن مالك بن جعشم فقال : يا رسول الله ألعامنا هذا أم لا بدّ؟ ، فشبك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصابعه واحدة في الأخرى ، وقال دخلت العمرة في الحج مرتين لا ، بل لأبد أبد ، وقدم عليّ من اليمن ببدن (٢٤٨) النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فوجد فاطمة ممن حلّ ، ولبست ثيابا صبيغا ، واكتحلت ، فأنكر ذلك عليها ، فقالت : إن أبي أمرني بهذا ، قال : فكان عليّ يقول بالقران (٢٤٩) ، فذهبت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم محرشا على فاطمة للذي صنعت ، مستفتيا لرسول الله فيما ذكرت عنه ، فأخبرته أني أنكرت ذلك عليها ، فقال : صدقت صدقت ، ماذا قلت حين فرضت الحج؟ قال : قلت اللهم إنّي أهلّ بما أهلّ به رسولك ، قال : فإن معي الهدي ، فلا تحل ، قال : وكان جماعة الهدي الذي قدم به علي من اليمن والذي أتى به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مائة ، قال : فحلّ الناس كلّهم وقصروا إلا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن كان معه هدي ، فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج ، وركب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ، ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس ، وأمر بقبّة من شعر تضرب له بنمرة (٢٥٠) ، فسار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام

__________________

(٢٤٨) بدن : ج بدنة وهي النافلة أو البقرة تنحر بمكة ، سميت بذلك لأنها تسمن.

(٢٤٩) القران : الجمع بين الحج والعمرة.

(٢٥٠) نمرة : الجبل الذي عليه أنصاب الحرم بعرفات.

١٢٧

كما كانت قريش تصنع في الجاهلية ، فأجاز رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى أتي عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة ، فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء ، فرحلت له ، فأتى بطن الوادي ، فخطب النّاس وقال : «إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع ودماء الجاهلية موضوعة وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث ، كان مسترضعا في بني سعد فقتلته هذيل ، وربى الجاهلية موضوع ، وأول ربى أضع ربانا ربى عباس بن عبد المطلب ، فإنه موضوع كله ، فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهنّ بأمانة الله واستحللتم فروجهنّ بكلمة ، ولكم عليهنّ أن لا يطئن فرشكم أحدا تكرهونه ، فإن فعلن ذلك فاضربوهنّ ضربا غير مبرح ، ولهن عليكم زرقهّن وكسوتهن بالمعروف. وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به ، كتاب الله ، وأنتم تسألون عنّي ، فما أنتم قائلون؟ قالوا : نشهد أنّك قد بلّغت وأدّيت ونصحت ، فقال بأصبعه السّبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس : اللهم أشهد ، اللهمّ اشهد ، ثلاث مرات ، ثم أذّن ثم أقام ، فصلى الظهر ، ثم أقام فصلى العصر ، ولم يصلّ بينهما شيئا ، ثم ركب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى أتى الموقف فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات ، وجعل جل المشاة بين يديه واستقبل القبلة ، فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس ، وذهبت الصّفرة قليلا حتى غاب القرص ، وأردف أسامة خلفه ، ودفع رسول الله صلى الله عليهم وسلم ، وقد شنّف للقصواء الزّمام حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله ، ويقول بيده اليمنى : أيها الناس السّكينة السّكينة ، كلما أتى جبلا من الجبال أرخى لها قليلا حتى تصعد ، حتى أتى المزدلفة ، فصلى بها المغرب والعشاء بآذان واحد وإقامتين ، ولم يسبّح بينهما شيئا ، ثم اضطجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى طلع الفجر ، فصلى الفجر حين تبيّن له الصّبح بأذان وإقامة ، ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام ، فاستقبل القبلة ، فدعاه وكبّر وهلّله ووحّده. ولم يزل واقفا حتى أسفر جدا فدفع قبل أن تطلع الشمس ، وأردف الفضل بن عباس ، وكان رجلا حسن الشعر ، أبيض وسيما ، فلما دفع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرّت به ظعن يجرين فطفق الفضل ينظر إليهنّ ، فوضع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يده على وجه الفضل ، فحوّل الفضل وجهه إلى الشّقّ الآخر ينظر ، فحول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يده من

١٢٨

الشق الآخر على وجه الفضل يصرف وجهه من الشّقّ الآخر ينظر حتى بطن محشر ، فحرك قليلا ، ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى ، حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصيات يكبّر مع كلّ حصاة منها مثل حصى الخزف ، وهي من بطن الوادي ، ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثلاثا وستين بيده ، ثم أعطى عليا ، فنحر ما غير ، وأشركه في هديه ، ثم أمر من كلّ بدنة ببضعة ، فجعلت في قدر فطبخت ، فأكلا من لحمها وشربا من مرقها ، ثم ركب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأفاض إلى البيت فصلى بمكة الظهر ، فأتى بني عبد المطلب يسقون على زمزم فقال : انزعوا بني عبد المطلب ، فلو لا أن يغلبكم الناس على سقايتكم ، لنزعت معكم ، فناولوه دلوا فشرب منه (٢٥١)». وسقنا الحديث بطوله لما اشتمل عليه من العلم.

مقدمنا لجدة وبعض من لقينا فيها

ثم لما كان وقت الضحى من يوم الجمعة المذكور رست الباخرة بنا عند جدة ، وهي ثغر الحجاز على البحر الأحمر ، فاشتغل الناس بالنزول إليها ، ونزلنا وقت العصر من اليوم المذكور ، وكان نزولنا عند الشيخ صالح بنأجمجوم ، وهو رجل ذو كرم وأخلاق حسنة واعتناء بالحجاج ولا سيما بالوارد منهم من قطر شنقيط ، وعليه سيم الخير ، فرحّب بنا وأكرنا فلما كان وقت العشاء ليلة السبت الأخيرة من ذي القعدة ، دعانا ولد المطوّف الذي عيناه [للصحبة أيام الحج](٢٥٢) ، واسم المطوف الشيخ عبد الله الكردي ، وكان رجلا له مشاركة في العلم وأدب كبير ، وكرم شهير ، واسم ولده الذي دعانا أحمد (٢٥٣) ، وكان شابا ظريفا أديبا. ومن عادة أهل الحرم أن المطوف أو نائبه يتلقّى لفرقته من الحجاج بجدة ، ويتولى شؤونهم ، وهم يدفعون له ما ينوبهم من لوازم تلك البلاد ، فسرنا مع ولد المطوف المذكور لداره في جدة ، فأحسن علينا وبالغ في

__________________

(٢٥١) صحيح مسلم مع شرحه ، المجلد الثالث ص ٢٣٩ ، دار الكتب العلمية بيروت ، لبنان ، د. ت.

(٢٥٢): «ب» ، و، ٦٣.

(٢٥٣) أحمد : محمد في «ب» ، ٣٦.

١٢٩

إكرامنا. وأقمنا بجدة يوم السبت ، ودعانا في هذا اليوم ، الفقيه الشريف السيد عبد العزيز بن أبي القاسم الدباغ المتقدم ذكره ، أنه ممن زارنا بتطوان إلى داره بجدة ، فسار إليه الشيخ محمد الإمام وجامعه وبعض وفدنا ، فوجدنا عنده الشريف الأديب السيد محمد الباقر بن شيخ التربية العلامة الشهير سيد محمد بن الشيخ الكبير الكتاني ، ومعه بعض الأعيان من فاس وغيرهم ، منهم مولاي عبد السلام بن مولاي حماد الإدريسي الزرهوني ، وسيد محمد بن عبد الحفيظ الكتاني ، فبالغ في إكرامنا ، ولم يقصّر في إعظامنا ، وكان مجلسنا عنده مجلس سكينة ووقار ، تناشدنا فيه ما يناسب الحال من الأشعار ، وتذاكرنا فيه المذاكرة العلمية وتعاطينا فيه كؤوس المعارف الفهمية ، وكلّ منا هنأ أصحابه بالوصول ، ورجونا منه تعالى الحج المقبول.

ثم لما كان بعد العشاء ليلة الأحد افتتاح ذي الحجة الحرام ، ركبنا في السيارة بقصد مكة المشرفة ، فلم نبعد ، وبتنا في بعض المحلات دونها ، وركبنا بعد صلاة الصبح وقت الإسفار ، فأتينا بئر ذي طوى بعد طلوع الشمس ، فاغتسلنا منها غسلا خفيفا كما هو سنة المحرم لدخول مكة ، نرجو به منه تعالى تخليصنا من أسر الذنوب وفكه.

دخولنا مكة المشرفة

ثم سرنا من ذى طوى على الأقدام لندخل مكة من حيث كان يدخلها عليه‌السلام : فسلكنا طريقة الثنية العليا ، وهي المسماة بكداء ، بالفتح ، ومنها يتشرف على مقبرة مكة المسماة بالحجون ، وهي إحدى المقابر التي تضيء لأهل السماء ، كما تضيء الكواكب لأهل الأرض ، كما ورد في الأحاديث ، فدخلنا مكة المشرفة بمسرات وأفراح ، لم تغادر في الحشا أثر أحزان وأتراح ، ضحى يوم الأحد فاتح ذي القعدة الحرام ، واثقين منه تعالى نيل كل مرام ، فقصدنا المسجد الشريف الحرام ، ودخلناه بحمد الله من باب بني شيبة من باب السلام ، فشاهدنا البيت العتيق ، وقد تدلت أستاره ، وأشرقت أضواء منظره وأنواره ، فلما ابتهجت بشهوده وقرت أبصارنا ، وانشرحت بمشهده صدورنا وأسرارنا ، قطعنا ما كنا فيه من التلبية ، وقرأناه الوارد

١٣٠

الممكن من الأدعية ، وبادرنا وسط الزحام الحجر الأسعد ، وقد اضطرب القلب هيبته وارتعد ، فقبلنا يمين الله في أرضه ، والشاهد لمن قبله يوم عرضه إلى سيد الأحجار في الحرم الذي قضى الخالق الباري بتعظيم شأنه :

[الطويل]

حثثنا مطايا الشّوق والشوق في الفلا

فجاءت بنا إنسان عين زمانه

فطفنا ببيت الله بحمده سبعا على الصفة المأمور بها شرعا ، وصلينا خلف المقام ركعتي الطّواف ، متحققين بفضله تعالى إلا من كل ما يخاف ، وعدنا للبيت فوقنا بالملتزم ، ثم تضلعنا بحمد الله من ماء زمزم ، ثم خرجنا للسعي من باب الصفا ، كما كان يفعل معدن الصفا ، وبدأنا بما بدأ به الله ، (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ)(٢٥٤) ، فارتقينا على الصفا ووقفنا ، وباستقبال الكعبة الشريفة تشرفنا ، فهللنا ما شاء الله وكبرنا ، ومن الأدعية المأثورة بقدر ما أمكننا أكثرنا ، فسعينا سبعا بين الصفا والمروة ، متمسكين من السنة بأوثق عروة ، فحلقنا على الإتمام ، ونزعنا بالإحلال لباس الإحرام.

ثم رجعنا إلى المسجد الحرام ، شاكرين الله على ما منّ من الإنعام ، ببلوغ المقاصد والمرام في مشاهدة ذلك المقام ، فلم نزل به حتى اجتمع وفدنا ، فدعانا المطوف الشيخ عبد اللطيف الكردي المتقدم ذكره إلى داره ، وهي قريبة من المسجد ، فأكرمنا وأحسن علينا ، وكنا تركنا أثاثنا بداره.

__________________

(٢٥٤) سورة البقرة ، أية ١٥٨.

١٣١

بعض التعريف بالشيخ أحمد بن الشمس (٢٥٥) الذي نزلنا عند مريده بمكة

فلما كانت عشية يومنا أتانا الفقيه السالك بن امبيريك ، مريد سيدنا الشيخ مربيه ربه ، ومعه محمد إبراهيم مريد شيخنا الشيخ سعد أبيه (٢٥٦) بن شيخنا الشيخ محمد فاضل (٢٥٧) بن مامين ، وكانا مجاورين في الحرم الشريف ، وقالا إنهما أرسلهما الحكيم السيد أعزاز الدين الهندي لسيدنا الشيخ ووفده ، يستدعيهم للنزول بداره ، فحملنا أثاثنا إلى داره ، ونزلنا عنده ، فرحب بنا وأحسن مثوانا ، وهو من موارد الشيخ أحمد بن الشمس ، مريد شيخنا الشيخ ماء العينين ، الذي صدره بعدما صحبه نحو

__________________

(٢٥٥) أحمد بن الشمس : من أبرز أعلام الزاوية المعينية ، ولد سنة ١٨٦٣ بنشنقيط ، صحب الشيخ ماء العينين نحو ثلاثين سنة ، تصدر نشر الفاضلية في قبيلته اداو لحاج ، ثم استخلفه الشيخ ماء العينين في زاويته بفاس ، فظل بها إلى أن استباحتها القوات الفرنسية ، فهاجر إلى الحرمين وسكن المدينة المنورة ، وظل بها إلى أن توفي سنة ١٩٢٣ ، خلف عدة أعمال أدبية وعلمية منها كتابه «النفحة الأحمدية» ، أنظر ترجمته في : الأبحر المعينينة ، و ١٣٧ ، معجم الشيوخ ، لعبد الحفيظ الفاسي ، ج ، ١ ص ١٢٥ ، الموسوعة المغربية للإعلام البشرية والحضارية ، عبد العزيز بن عبد الله ص ، ٣٠ معلمة الصحراء.

(٢٥٦) سعد أبيه : هو الشيخ سعد بوه بن الشيخ محمد فاضل بن مامين ، ولد حوالي سنة ١٨٥٠ بالحوض ، بعد وفاة والده هاجر إلى تكانت مع بعض مريديه ، وظل يتنقل بين بوجابية وخروفة وتوزيكيت وأكنانت إلى أن اسقر بدائرة أمير الترارزا ، فتكونت لديه مجموعة مرابطية تحمل اسمه في منطقة القبلة. توفي سنة ١٣٣٥ ه‍ ١٩١٧. له أشعار كثيرة ومؤلفات متنوعة في مختلف العلوم الإسلامية ، أنظر ترجمته في : الأبحر المعينية ، و. ١١. النفحة الأحمدية ، ج ، ٢ ص ٦٠. بلاد شنقيط المنارة والرباط ، ص ١٥١.

(٢٥٧) الشيخ محمد فاضل : هو الشيخ محمد فاضل بن مامين ، تولى تجديد القادرية في الجنوب ، وتصديرها إلى عدد من المناطق المجاورة بعد أن كانت تنحصر في أزواد وولاتة والنعمة وبلاد القبلة ، توفي سنة ١٢٨٦ ه‍ ١٨٦٩ ، خلف عدة أعمال علمية منها «سيف المجادل» ، و «سيف السكت» وغيرهما ، أنظر : الحركة الصوفية وأثرها في أدب الصحراء المغربية ، ص ١١٥.

١٣٢

ثلاثين عاما ، وظهر عليه من الفتح والبركة والتسخير ما لا يوصف ، وأمره شهير ، صدره شيخنا أولا لقبيلة إدو الحاج بأرض شنجيط ، ثم رجع لشيخنا ، فأرسله خليفة لزاويته في فاس ، فكان له بها شأن عظيم ، انقادت له علماء فاس وسلموا له في العلم الظاهر والباطن ، وكثرت اتباع شيخنا مع ما كان لهم من الكثرة بواسطته في تلك النواحي ، وجعله شيخنا واسطة في أكثر الشؤون بينه وبين سلطان المغرب ، فكانت له مكانة عند السلطان والقواد وسائر الدولة كبيرة ، وهو ذو أشواق وأذواق وجذب عظيم ، مع اتساعه في سائر العلوم ، وشدة تعلقه بشيخنا ، وسلبه إرادته في إرادته. وله تآليف كثيرة في أكثر الفنون ، وجلّ تآليفه في أخبار شيخنا وكراماته وبث فضائله وفوائده ، وهو مظهر من مظاهر شيخنا العظام ، أودع فيه ما استوجب به غاية الإجلال والإعظام ، ثم انتقل بعد وفاة شيخنا رضي‌الله‌عنه إلى الحرمين ، فحج مرارا ، وظهر فيهما ظهورا لا يوصف ، وكثرت أتباعه ، وخضعت له جبابرة الملوك ، وتتلمذت عليه أهل الجذب والسلوك ، وله كرامات كثيرة ، وأموره في خرق العادات شهيرة ، ولم يزل بالمدينة المنورة مجاورا خير الأولين والآخرين حتى توفي بها رحمه‌الله ، ودفن بالبقيع ، وقبره هناك شهير يزار وتقضى عنده الحاجات. وقد اختصرنا غاية ترجمته لأنا لو تتبعناها لاحتجنا إلى طول كثير ، وقد ظهرت بركته على مريده إعزاز الدين المذكور ، وانتفع به باطنه وظاهره ، واستقام به حاله ، فعاملنا معاملة التلاميذ الخالصين لأشياخهم ، من تواضع والتماس بركة ، وامتثال أمر ، وبذل ال إلى غير ذلك ، جزاه لله خيرا. فلم نزل بحمد الله تعالى ملازمين المسجد الحرام في أكثر أوقاتنا ليلا ونهارا ، لإقامة الصلوات به ولإدمان الطواف ، ولم نتفرغ لغير ذلك من زيارة مشاهد الخير التي ينبغي للحاج زيارتها بمكة لقلة الإقامة بها ، فاغتنمنا الاشتغال بها بما هو أفضل وآكد ، من ملازمة البيت الحرام ، فلم نفارقه ـ بحمد الله ـ إلا في أوقات الضروريات التي لا بد منها ، وإلا إذا ستدعانا أحد الأحبة الأعيان لمحله ، لما في ذلك من جبر الخاطر وإجابة الدواعي المأمور بهما.

١٣٣

بعض الأعيان الذين اجتمعنا بهم بمكة من الشناجطة

وغيرهم ، واجتماعنا بسادن الكعبة ودخولنا لها

وممن ندينا لمحله ، وتعاهد زيارتنا ، وأظهر لنا المحبة الكاملة والخصوصية الزائدة عند قدومنا لمكة المشرفة ، الأستاذ العلامة عمر بن حمدان المحرسي ، المدرس في الحرمين الشريفين ، فأتاه سيادة الشيخ وجميع وفده ، وصادفنا بداره كثيرا من الكبراء والعلماء والرؤساء من أهل مكة ومصر والعراق والشام ، وغير ذلك من الحجاج ، فاحتفل بالجميع احتفالا كبيرا ، وقدم من الأطعمة الحسنة والأشربة المستحسنة ، وبسط من الفرش المنمقة والنمارق المصفوفة والزرابي المبثوثة ما ينبئ عن كرمه وسخائه وفضله ، مع كمال البسط والإكرام والمبرة والإنعام ، ووقعت في المجلس محاضرات أدبية ومذاكرات علمية آلت إلى إنشاد أشعار مستظرفة وإنشاد أبيات مستملحة فيما يقتضيه الحال ، بعضها أنشأه جامعه ما العينين بن العتيق ، عفا الله عنه ، وبعضها أنشأه الشيخ محمد الإمام ، ومنها ما أنشأه بعض أولئك الحاضرين ، ثم كتبت جل أسماء الأدباء والعلماء الحاضرين ، وكتبت أشعار المحاضرة فذهبت عليّ أيامنا في منى لمرض أصابني هناك ، هي وجلّ التقاييد التي فيها أسماء الأعيان الذين اجتمعنا بهم في مكة المشرفة ، وفيها كثير من صفة أحوالنا وأيامنا بها ، مع أني لم أتفرغ لكتب كثير من ذلك للشغل عنه بما هو أولى بي منه ، فلذلك لم أذكر من تلك الشؤون في هذه الرحلة إلا القليل.

والشيخ عمر هذا المذكور هو المرجوع إليه في المذهب المالكي بمكة والمدينة وقته ، وهو المدرس فيهما ، وعادته أن يقيم في كل واحدة من البلدتين الطاهرتين ستة أشهر للتدريس بها ، ثم يتوجه إلى الأخرى ، فهو شيخ المالكية هناك. وأما شيخ المذهب الحنفي بمكة المشرفة وقته ، فيسمى الشيخ محمد المرزوقي أبو حسين ، وشيخ المذهب الشافعي بها ، الشيخ أحمد ناضرين ، وقاضي القضاة بمكة المشرفة الساعة يسمى الشيخ عبد الله بن حسن النجدي ، من آل الشيخ ، وأولئك يقلدون في كثير من أحكامهم الإمام أحمد بن حنبل ، والقاضي بمكة في المحكمة الكبرى ، محمد القاري الحنفي ، وتحته في القضاء القاضي محمد فود المصري المالكي.

١٣٤

والإمام بالمسجد الحرام ، عبد الله ، ويعرف بكنيته ، أبا السّمح ، وهو مصري وله مشاركة في العلم ، وإتقان وتجويد حسن لكتاب الله العظيم ، وكان جهير الصوت ، يسمع وقت جهره في الصلاة أكثر الناس ، وله قراءة حسنة.

وممن ندبنا لمحله أيضا من أهل مكة المشرفة ، الشيخ الحسين بن قاضي المستعجلة ، عبد الغني ، بحضرة الشيخ وسائر الوفد ، فبالغ في إكرامنا ، وكان رجلا ظريفا أديبا ، له محبة زائدة في جانبنا لمصاحبته الشيخ محمد حبيب الله الجكني (٢٥٨) ابن الشيخ سيد عبد الله بن مايابي ، وتعلمه منه ، فأورثه ذلك شدة الحب لنا ، والقرب لجانبنا ، لأن الشيخ محمد حبيب الله من مواريد شيخنا الشيخ ماء العينين ، وآباء المذكور من مواريد والده شيخنا الشيخ محمد فاضل بن مامين ، وقد صدره شيخنا الشيخ محمد فاضل ، وظهرت عليه بركات كثيرة ، وكان له صيت كبير وانتفع به كثير من الناس ، وكان علامة مشهورا في بلده ، وله أولاد كلهم علماء أجلاء ، منهم الشيخ محمد حبيب الله المذكور ، ومنهم وهو أجلهم وأعلمهم وأورعهم ، العابد الناسك ، الواصل الجامع ، الشيخ محمد العاقب (٢٥٩) مريد شيخنا الشيخ ماء العينين وقد صدره ، وظهر عليه من الفتح والاستقامة والكمالات ظاهرا وباطنا ما لا يوصف ، وتآليفه في كل فن كثيرة ، ومنهم العلامة المشارك ، صاحب التآليف العديدة ، الشيخ محمد

__________________

(٢٥٨) محمد حبيب الله الجكني : من علماء تجاكنت المشهورين ، هاجر إبان الاحتلال الفرنسي لشنقيط والصحراء واستقر بمصر بعد أن حج ، توفي سنة ١٣٦٤ ه‍ ١٩٤٥ ، خلف عدة مؤلفات من أشهرها كتابه «زاد المسلم فيما اتفق عليه البخاري ومسلم» (مطبوع) ، انظر ترجمته في بلاد شنجيط المنارة والرباط ، ص ، ٥١٨.

(٢٥٩) محمد العاقب ، هو محمد العاقب بن عبد الله بن مايابا الجكني ، ولد بنشنجيط ، ثم هاجر إلى السمارة بعد اشتداد الضغط الفرنسي على جنوب الصحراء ، توفي بفاس عام ١٣٢٧ ه‍ ١٩٠٩ ودفن بزاوية الشيخ ماء العينين بها ، خلف عدة أعمال علمية منها كتابة «مجمع البحرين في مناقب الشيخ ماء العينين» أنظر ترجمته في ـ سحر البيان ـ و، ١٥٢ ـ النفحة الأحمدية ، ج ، ٢ ص ١٢٢ ـ ١٢٩ ـ بلاد شنجيط المنارة والرباط ، ص ، ٥٢٤.

١٣٥

الخضر (٢٦٠) ، المتوفى بالمدينة المنورة رحمه‌الله ، إلى غير ذلك منهم ، جزوا خيرا.

وممن ندينا أيضا بمكة المشرفة ، الأديب الظريف ، الشيخ عدنان بن عمر الكتبي ، فحضرنا جميعا عنده ، وبالغ في إكرامنا ، وكان رجلا كيسا ، له آداب زائدة ومعرفة كبيرة بمكارم الأخلاق ، والإحسان والفتوة جزي خيرا.

ومن الأعيان والرؤساء الذين أتونا زائرين بمكة المشرفة للتبرك بالشيخ ووفده ، واجتمعنا بهم وتذاكرنا مع بعضهم ، واستمد بعضهم من سيادة الشيخ ، الأمير شكيب أرسلان (٢٦١) ، وهو شهير في تلك الناحية ، بالعلم والبراعة ، وهو من كبار كتاب العالم ، وله خبرة كبيرة بعلوم التاريخ ، ومن تآليفه : «الحلل السندسية في الأخبار والآثار الأندلسية» (٢٦٢) ومنتخب بديع لتاريخ ابن خلدون (٢٦٣) يشتمل على ما علق به على غوامض أبحاثه ، الشيخ محمد خليل بن عبد القادر اطيبة ، الشيخ جعفر بن صالح الكثيري من أرض حضر موت ، الشيخ محمد بن أمير جان بن غلام جان بن أمير الله ، من الأفغان ، وناصر السنة الشيخ مصطفى المحامي المصري مدرس

__________________

(٢٦٠) محمد الخضر : هو محمد الخضر بن مايابا الجكني ، من علماء الصحراء ، المبرزين ، حج وأقام في المدينة المنورة ، فكان مفتيا للمالكية بها ، اشتهر بخلافه مع التيجانيين ، وله مؤلفات في ذلك من أشهرها «مشتهى الخارق الجاني» وغيره ، توفي سنة ١٣٥٤ ه‍ ١٩٣٥ م. أنظر ترجمته في بلاد شنقيط المنارة والرباط ص ٥١٨.

(٢٦١) الأمير شكيب أرسلان : عالم بالأدب والسياسة مؤرخ من أكابر الكتاب ، ينعث بأمير البيان ، ولد بلبنان سنة ١٢٨٦ ه‍ ١٨٦٩ ، أقام بجنيف نحر ٢٥ سنة ، وعاد إلى بيروت فتوفي بها ودفن بالشويفات سنة ١٣٦٦ ه‍ ١٩٤٦ م عالج السياسة الإسلامية قبل انهيار الدولة العثمانية ، أصدر مجلة بالفرنسية هي La nation arabe ، كما ألف عددا من الكتب في التاريخ والأدب والسياسة ، أنظر ترجمته في الاعلام ، ج ، ٣ ص ١٧٤.

(٢٦٢) الحلل السندسية في الأخبار والآثار الأندلسية ، طبع منه مجلدان ، وهو في عشرة.

(٢٦٣) منتخب لتاريخ ابن خلدون ، هو ملحق للجزء الأول من تاريخ ابن خلدون ، فيه مجموعة من التعليقات عليه ، وهو مطبوع ، أنظر بشأنه المرجع السابق.

١٣٦

وخطيب في مقام السيدة زينب ، الشيخ محمد زباره (٢٦٤) ، أمير من أمراء اليمن ، السيد عبد القيوم ولد سبائبة حيدراباد ، من السند ، خلف الله الصالح ، من سودان مصر ، أبو العزم الشيخ محمد المصطفى ، مدرس بجمعية المحافظة طنطا ، [الشيخ أحمد التبري الفاسي الإدريسي بن أبي بكر ، المجاور بمكة الشرفة](٢٦٥) ، السيد الشيخ عبد الله بن عباس الكتبي ، الشاعر بباب السلام ، الشيخ محمد أمين الكتبي ، بمدرسة الغلام والمسجد الحرام ، وقد أنشد هذه الأبيات في مدح سيادة الشيخ وقت مجيئه زائرا :

[الطويل]

هنيئا لنا هذا مربّيه ربّه

فلا تعذ لاني إنني أنا صبّه

خليليّ هذا ربعه ومطافه

وقوفا قليلا بي فإني أحبه

فإن تسألا عن مذهبي فهو حبّه

وإن تنشدا عن مطلبي فهو قربه

تحدّر من أصل شريف إذا بدت

عناوينه في الأفق تخجل شهبه

وليّ تقيّ ليس يشقى جليسه

وينبوع علم ليس تظمأ صحبه

__________________

(٢٦٤) محمد زبارة : هو محمد بن محمد بن يحيى زبارة الحسني ، مؤرخ يماني من علماء صنعاء ، ولد سنة ١٣٠١ ه‍ ـ ١٨٨٤ م ، تولى إمارة القصر السعيد في عهد الإمام يحيى ، توفي بصنعاء سنة ١٣٨١ ه‍ ـ ١٨٦١ ، اهتم بتراجم اليمنيين ، فصنف كتبا كثيرة جلها مطبوع ، منها : «إتحاف المهتدين» في العترة النبوية ، ترجم فيه لعشرين ومائة إمام ، و «تحفة المسترشدين بذكر الأئمة المجددين» ، نيل الوطر من تراجم رجال اليمن في القرن الثالث عشر في مجلدين ، وغيرها ، أنظر ترجمته في الاعلام ، ج ، ٧ ، ص ، ٨٥ ..

(٢٦٥) «ب» و، ٤٧.

١٣٧

وهذا ما حضرني الآن من الأعيان الذين أتونا زائرين ، وأما من اجتمعنا به منهم في المسجد الحرام وأيام الحج ، فأكثر من أن يحص ، ولو تتبعنا بعضهم لطال بنا.

وأما أهل بلادنا الشناجطة ، فقد اجتمعنا بكثير منهم ، مجاورين في أرض الحرم ، فمن الذين لقينا بمكة المشرفة.

من الجكنيين (٢٦٦) :

أحمد فال ، وبدّ ، وأمين بن عثمان ، وأحمد بن الخراش ، ومحمد الأمين بن عبد الله.

ومن العلويين (٢٦٧) :

محمد عبد الفتاح ، والشيخ محمد الأمين ، ومحمد محمود بن المامون.

ومن المسوميين (٢٦٨) :

الشيخ بن باب ، والحاج بن محق ، ومحمد محمود بن عبد الودود.

ومن الحسنيين (٢٦٩) :

محمد حبيب الله اليوسفي ، ومحمد حبيب الله إدّا وكشلّوي.

ومن آل بارك الله (٢٧٠) :

الشيخ ابن سيد الأمين ، وداماني (٢٧١) اسمه ، عبد الله العتيق.

__________________

(٢٦٦) الجكنيين : نسبة إلى تجكانت ، وهي من قبائل الزوايا المنحدرين من المرابطين ، وقد اشتهر أهلها بالعلم حتى ضرب بهم المثل ، فقيل العلم الجكني ، حياة موريتانيا ، ص ٤١.

(٢٦٧) العلويين : نسبة إلى إيداوعلي ، وهي من قبائل الزوايا أيضا ، اشتهر أهلها بالعلم والصلاح والتجانبية.

(٢٦٨) مسوميين : نسبة إلى قبائل مسومة الموريتانية ، الوسيط في تراجم أدباء شنجيط ، ص ، ٤٩٥.

(٢٦٩) الحسنيين : نسبة إلى قبائل إدا بلحسن الموريتانية ، نفس المرجع ص ٥٠٢.

(٢٧٠) آل بارك الله : من قبائل الزوايا الشهيرة في الصحراء ، من أشهر علمائها الشيخ محمد المامي صاحب كتاب البادية.

(٢٧١) داماني : نسبة إلى أولاد دامان ، وهي من قبائل الترارزة المشهورة في شنجيط ، حياة موريتانيا ، ص ٩٠.

١٣٨

ومن الإبييريين (٢٧٢)

حمود بن السيد بن المختار بن هيب ، وأحمد بن الدّاه ، ومحمد ماء العينين.

ومن التندغيين (٢٧٣) :

محمد المصطفى.

ومن تنواجيو (٢٧٤) ، محمد بن الشيخ.

ولقينا من قبيلتنا ، آل الطالب مختار (٢٧٥) ، الأديب الناسك الفاضل ، السيد محمد فاضل بن العلامة الولي سيد هيب ، قدم حاجا من جهة أدرار ، قريبا من شنجيط ، وكان من خيار أبناء عمنا الساكنين هناك ، ومعه رفقة ، أحمد سالك بن محمد بن عابدين بن بيروك ، من قبيلة آيت موسى بن علي (٢٧٦) الساكنين بأدرار ، والنّات ، وبها يعرف من قبيلة إداولحاج (٢٧٧) وثلاثة من قبيلة أولاد أبي السباع (٢٧٨) ، محمد الأمين ولد بن يحيى ، ومحمد سالم بن غيلان ، وأحمد بن السّبعي ، والسيد المصطفى بن عبد الله بن أوفي ، وهو الطبيب الصالح الشهير في أرضه.

وبالجملة فقد التقينا مع كثير من الإخوان ، أهل العلم والصلاح من سائر الأقطار ، وتذاكرنا معهم فيما يقتضيه الحال ، لكن جل ذلك إنما يقع في المسجد الحرام ، ولا يخفى أن أهل المسجد ـ لا سيما ، من الحجاج كلهم مقبل على شأنه ، من صلاة

__________________

(٢٧٢) الإبييريين : نسبة إلى أولاد إبييري ، من قبائل البراكنا الشهير في موريتانيا ، نفس المرجع ص ، ٩٨.

(٢٧٣) التندغيين : نسبة إلى تندغة ، وهي من القبائل الموريتانية الشهيرة بالعلم الوسيط ، ص ، ٣٤٣.

(٢٧٤) تنواجيو : من قبائل موريتانيا الشهيرة.

(٢٧٥) آل الطالب المختار : من قبائل الحوض الشهيرة بالعلم والصلاح ، وإليها ينسب الشيخ ماء العينين.

(٢٧٦) آيت موسى وعلي ، قبيلة مشهورة بالصحراء وإليها ينتسب أبناس بيروك قادة مدينة كولمين ، وهي من قبائل تكنة المعروفة.

(٢٧٧) أداولحاج : من قبائل موريتانيا الشهيرة ، اشتهرت بحروبها مع كنتة ، الوسيط ص ٥٠٧.

(٢٧٨) أولاد أبي السباع : تجمع قبلي كبير يمتد من جنوب مراكش إلى موريتانيا ، اشتهر أهله بالتجارة والعلم والوطنية.

١٣٩

وطواف وتلاوة وأذكار ، ونحو ذلك ، فقليلا ما يجدون فسحة من أنفسهم لغير ذلك.

وممن اجتمعنا بهم من أهل مكة المشرفة ، رئيس السدنة الحالي الشيخ محمد ابن محمد صالح بن أحمد بن محمد زين العابدين الشيبي ، المتولى رئاسة السدنة في اليوم الحادي عشر من شهر رمضان سنة ١٣٥١ ، وهو من الأشيبة بن عثمان بن أبي طلحة الحجبي الثابت نسبهم ، المعروفون أنهم سدنة الكعبة المعظمة ، جاهلية وإسلاما ، من عهد عبد الدار بن قصي ، إلى عهد شيبة بن عثمان إلى هذا العصر ، وبيتهم من أشراف بيوت قريش ، ووظيفتهم من أعظم الوظائف الإسلامية ، ولا يزال وجودهم من معجزات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لقوله : «خذوها يا بني أبي طلحة خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم» (٢٧٩). فبقاء آل شيبة ، وخلود سدانة الكعبة المعظمة بأيديهم ، مع تبادل الولاة والحكام ، وطول الزمان ، من عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الآن ، لا شك ولا مريّة أن ذلك من أعظم معجزات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن الله تعالى حفظ هذه العائلة الكريمة كما حفظ بيته الحرام من تعدّ المعتدين ، وسيحفظهما بمشيئته تعالى إلى يوم القيامة.

وكان رئيس السدنة الشيخ محمد المذكور صاحب آداب وسكينة ووقار وأخلاق حسنة ، وقد التقى مع سيادة الشيخ مربيه ربه ، في حجته في العام الماضي ، وأظهر له الخصوصية ، والتمس منه البركة وكذلك فعل معه في مقدمنا هذا ، ومع سائر وفدنا وكان يفتح الكعبة في يوم معين أو يومين في كل جمعة ، فتدخلها الناس للتبرك والتيامن وامتثال السنة ، وكان إذا فتحها ، ورأى أحدا من وفدنا ، يقدمه على غيره في الدخول ، ويظهر له الاعتناء ، ولا يقبل أن يأخذ منه شيئا ، كما يأخذه من الداخلين غيرنا على حسب مراتبهم ، وقد صادفتها يوم فتحها بعد ما كنت أطوف وسادنها المذكور عند بابها جالس على سلم منصوب هناك يرقى معه إلى الباب ، لأن الباب مرتفع على الأرض نحو أربعة أذرع ، ورأيت سيدنا الشيخ مربيه ربه داخل الباب جالسا ، وبإزائه أخوه الشيخ محمد الإمام ، فأشار إلى سيدنا الشيخ أن اصعد ، ونبّه

__________________

(٢٧٩) مختصر المقاصد الحسنة ، حديث رقم ٤٠٣.

١٤٠