الرحلة المعينيّة

ماء العينين بن العتيق

الرحلة المعينيّة

المؤلف:

ماء العينين بن العتيق


المحقق: محمّد الظريف
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-36-634-9
الصفحات: ٣٩٥

١
٢

٣
٤

وبمجرد وصولنا إلى هذه الحجرة وجلوسنا فيها ، قد أتت عدّة نساء وأحضرن أمام كل واحد منا خوانا صغيرا لأجل وضع الأكل عليه ، فجلسنا على هذه المقاعد متربعين كالعادة العربية. ثم أحضروا لنا الأكل ، فأوّلا قد أحضروا لنا المرقة المعروفة بالشربة ولم يحضروا لنا ملاعق لأجلها ، بل إنهم من غريب أمرهم أنهم قد استعاضوا عنه بكاسات صغيرة يشربونها بها. وبعد ذلك أحضروا لنا نوعا من السمك حسن الصنع ، وعدة من أنواع الخضراوات والأرز. وكان الأكل بواسطة خشبتين صغيرتين يقبضهما الإنسان ويجعلهما شبه (الكماشة) ثم يأكل بهما ، وكل شخص له آنية مخصوصة ...

من نص الرحلة ص ٦٠

وفي اليوم التالي قد أصبح الهواء معتدلا والجو رائقا والسماء مصحية ، فرأينا أن هذه الفرصة لزيارة المعبد الذي على قمة الجبل. ولما أخبرونا أن هذا المعبد في محل في غاية الارتفاع وأن الواصل إليه لا بد أن يجتاز ٠٠٠ ، ٢٠ (ألف) درجة حتّى يصل إليه ، رأينا أن هذا أمر صعب وتعب كثير ، فأخبرونا أن هناك رجالا يحملون الإنسان وهو جالس على كرسي من الخيزران حتّى يوصلوه إليه وسهلوا لنا الأمر ، فتوجهنا إليه ووجدنا هذه الكراسي يجلس فيها ويحمل كل واحد منها أربعة رجال ، كل اثنين من جهة. والذي يظهر في الأمر أنها سهلة ، ولكنها في الحقيقة متعبة تعبا كثيرا ...

من نص الرحلة ص ٨٩

٥
٦

استهلال

تهدف هذه السّلسلة بعث واحد من أعرق ألوان الكتابة في ثقافتنا العربية ، من خلال تقديم كلاسيكيّات أدب الرّحلة ، إلى جانب الكشف عن نصوص مجهولة لكتاب ورحّالة عرب ومسلمين جابوا العالم ودوّنوا يوميّاتهم وانطباعاتهم ، ونقلوا صورا لما شاهدوه وخبروه في أقاليمه ، قريبة وبعيدة ، لا سيما في القرنين الماضيين اللذين شهدا ولادة الاهتمام بالتجربة الغربية لدى النّخب العربية المثقفة ، ومحاولة التعرّف على المجتمعات والنّاس في الغرب ، والواقع أنه لا يمكن عزل هذا الاهتمام العربي بالآخر عن ظاهرة الاستشراق والمستشرقين الذين ملأوا دروب الشّرق ، ورسموا له صورا ستملأ مجلدات لا تحصى عددا ، خصوصا في اللغات الإنكليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية ، وذلك من موقعهم القوي على خارطة العالم والعلم ، ومن منطلق المستأثر بالأشياء ، والمتهيء لترويج صور عن «شرق ألف ليلة وليلة» تغذّي أذهان الغربيين ومخيّلاتهم ، وتمهّد الرأي العام ، تاليا ، للغزو الفكري والعسكري لهذا الشرق. ولعل حملة نابليون على مصر ، بكل تداعياتها العسكرية والفكرية في ثقافتنا العربية ، هي النموذج الأتمّ لذلك. فقد دخلت المطبعة العربية إلى مصر مقطورة وراء عربة المدفع الفرنسي لتؤسس للظاهرة الاستعمارية بوجهيها العسكري والفكري.

٧

على أن الظّاهرة الغربية في قراءة الآخر وتأويله ، كانت دافعا ومحرضا بالنسبة إلى النخب العربية المثقفة التي وجدت نفسها في مواجهة صور غربيّة لمجتمعاتها جديدة عليها ، وهو ما استفز فيها العصب الحضاري ، لتجد نفسها تملك ، بدورها ، الدوافع والأسباب لتشدّ الرحال نحو الآخر ، بحثا واستكشافا ، وتعود ومعها ما تنقله وتعرضه وتقوله في حضارته ، ونمط عيشه وأوضاعه ، ضاربة بذلك الأمثال للناس ، ولينبعث في المجتمعات العربية ، وللمرة الأولى ، صراع فكري حاد تستقطب إليه القوى الحيّة في المجتمع بين مؤيد للغرب موال له ومتحمّس لأفكاره وصياغاته ، وبين معاد للغرب ، رافض له ، ومستعدّ لمقاتلته.

وإذا كان أدب الرحلة الغربي قد تمكن من تنميط الشرق والشرقيين ، عبر رسم صور دنيا لهم ، بواسطة مخيّلة جائعة إلى السّحري والأيروسيّ والعجائبيّ ، فإن أدب الرحلة العربي إلى الغرب والعالم ، كما سيتّضح من خلال نصوص هذه السلسلة ، ركّز ، أساسا ، على تتبع ملامح النهضة العلميّة والصناعيّة ، وتطوّر العمران ، ومظاهر العصرنة ممثلة في التطور الحادث في نمط العيش والبناء والاجتماع والحقوق. لقد انصرف الرّحالة العرب إلى تكحيل عيونهم بصور النهضة الحديثة في تلك المجتمعات ، مدفوعين ، غالبا ، بشغف البحث عن الجديد ، وبالرغبة العميقة الجارفة لا في الاستكشاف فقط ، من باب الفضول المعرفي ، وإنما ، أساسا ، من باب طلب العلم ، واستلهام التجارب ، ومحاولة الأخذ بمعطيات التطور الحديث ، واقتفاء أثر الآخر للخروج من حالة الشّلل الحضاريّ التي وجد العرب أنفسهم فريسة لها. هنا ، على هذا المنقلب ، نجد أحد المصادر الأساسية المؤسّسة للنظرة الشرقية المندهشة بالغرب وحضارته ، وهي نظرة المتطلّع إلى المدنيّة وحداثتها من موقعه الأدنى على هامش الحضارة الحديثة ، المتحسّر على ماضيه التليد ، والتّائق إلى العودة إلى قلب الفاعلية الحضارية.

إن أحد أهداف هذه السّلسلة من كتب الرحلات العربية إلى العالم ، هو

٨

الكشف عن طبيعة الوعي بالآخر الذي تشكّل عن طريق الرحلة ، والأفكار التي تسرّبت عبر سطور الرّحالة ، والانتباهات التي ميّزت نظرتهم إلى الدول والناس والأفكار. فأدب الرحلة ، على هذا الصعيد ، يشكّل ثروة معرفيّة كبيرة ، ومخزنا للقصص والظواهر والأفكار ، فضلا عن كونه مادة سرديّة شائقة تحتوي على الطريف والغريب والمدهش مما التقطته عيون تتجوّل وأنفس تنفعل بما ترى ، ووعي يلمّ بالأشياء ويحلّلها ويراقب الظواهر ويتفكّر بها.

أخيرا ، لابد من الإشارة إلى أن هذه السّلسة التي قد تبلغ المائة كتاب من شأنها أن تؤسس ، وللمرة الأولى ، لمكتبة عربية مستقلّة مؤلّفة من نصوص ثريّة تكشف عن همّة العربيّ في ارتياد الآفاق ، واستعداده للمغامرة من باب نيل المعرفة مقرونة بالمتعة ، وهي إلى هذا وذاك تغطي المعمور في أربع جهات الأرض وفي قارّاته الخمس ، وتجمع إلى نشدان معرفة الآخر وعالمه ، البحث عن مكونات الذات الحضارية للعرب والمسلمين من خلال تلك الرحلات التي قام بها الأدباء والمفكرون والمتصوفة والحجاج والعلماء ، وغيرهم من الرّحالة العرب في أرجاء ديارهم العربية والإسلامية.

محمد أحمد السويدي

٩
١٠

المقدّمة

يشكل تراث الصحراء المغربية جزءا هاما من التراث المغربي ، ورافدا متميزا من روافده الثرة ، وكان هذا التراث وحتى بداية القرن الماضي معروفا في سائر المراكز الثقافية المغربية ، وخاصة في مراكش والرباط ومكناس وتطوان ، يتداوله العلماء والمهتمون ، تقريظا وتذييلا وتهميشا ، ويتنافس رجال المطابع والمكتبات في طبعه وإخراج متونه ، وخاصة مؤلفات علماء مدرسة السمارة.

وقد حاول المستعمر القضاء على هذا التراث في إطار سياسته القائمة على ضرب مقومات وحدة الشعوب المستعمرة ، فقام بإحراق خزانة الشيخ ماء العينين خلال الهجوم الفرنسي على مدينة السمارة سنة ١٩١٣ ، وخرب ونهب العديد من الذخائر العلمية والمآثر التاريخية ، لكن قوة وأصالة هذا التراث ، وتشبث المغاربة به ، وحرصهم على صيانته والمحافظة عليه جعله يتخطى كل التحديات ، ويواصل فعاليته الإشعاعية.

وبعد استرجاع المغرب لأقاليمه الصحراوية ، قامت حركة علمية نشيطة للتعرف بهذا التراث وإبراز قيمته العلمية ، فأنجزت بعض الدراسات القيمة (١)

__________________

(١) من هذه الدراسات ـ ثقافة الصحراء لأستاذنا الدكتور عباس الجراري ـ الصحراء من خلال بلاد تكنة ، مصطفى ناعمي ـ مناقب الصحراء ، للأستاذ عبد الوهاب بنمصور ، تحقيق ديوان الأبحر

١١

التي حاولت إعادة الاعتبار له ونفض الغبار عن بعض ذخائره العلمية ، لكن هذه الدراسات رغم أهميتها ، لم تصل بعد إلى الإلمام بهذا التراث والإحاطة بجوانبه المتنوعة ..

من هنا جاء الاهتمام بإخراج هذا العمل الذي بادر مشروع ارتياد الآفاق إلى إعادة طبعه وتعميم الاستفادة منه ، رغبة منه في التعريف بالتراث الجغرافي العربي ، وحرصا منها على إبراز قيمته العلمية.

وقد حظيت الرحلة المعينية بهذا الاهتمام قبل غيرها من النصوص التراثية الصحراوية لعدة اعتبارات منها :

١. قيمتها العلمية ، فهي تقدم للملتقى مادة متنوعة قلما يجدها مجتمعة في كتاب واحد ، من أحاديث وأخبار وأشعار وبيانات جغرافية وببليوغرافية وتاريخية واجتماعية وغيرها ، وتحلق به في فضاءات ثقافية مختلفة قلما يحصلها في رحلة واحدة ، فينتقل بين طرفاية وطنطان وسيدي إفني وتطوان والأندلس وطرابلس ومصر ومكة والمدينة وغيرها ، ويتعرف على عدد من العلماء ، والأدباء والشعراء ورجال الفكر والسياسة ، ويقف على المآثر التاريخية والعمرانية والأشعار والإجازات والرسائل ، وغيرها من العناصر التي تشكل مادتها وتساهم في بنائها.

وتتضاعف القيمة العلمية لهذه الرحلة وتزداد قبولا عند الباحثين والعلماء بما تحتوي عليه من شهادات ونصوص شعرية وفتاوى فقهية وإفادات اجتماعية وثقافية ضاعت مصادرها الأصلية ، ولم يبق لها أثر في الخزانات العامة والخاصة ، فهي تتضمن نقولا من كتب أصبحت في حكم المفقود ، كما هو الشأن بالنسبة لرحلة الشيخ ماء العينين ، وأشعارا لا أثر لها فيما تبقى من الدواوين والمختارات ، كقصيدة العتيق بن محمد فاضل بن احمد الملقب بالليل ، والد المؤلف في مدح

__________________

المعينية الجزء الأول والثاني ، أحمد مفدي ، المداح محمد المختار ، ـ الشعر العربي في الصحراء المغربية ، مفدي أحمد ـ الحياة الأدبية في الزاوية المعينية ، محمد الظريف ، ـ الحركة الصوفية وأثرها في أدب الصحراء المغربية لمحمد الظريف ، أيضا ، وغيرها.

١٢

السلطان مولاي الحسن ، وقصيدة المؤلف نفسه في تخميس رائية الشيخ أحمد الهيبة في مدح الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبعض أشعار الشيخ مربيه ربه والشيخ محمد الإمام وإبراهيم الإلغي وإدريس الجاي ، وغيرها من الأشعار والرسائل والإجازات ، وتحيل على بعض المصادر التي لم يعد لها أثر في فهارس الخزانات العامة ولا في دلائل المكتبات الخاصة ، مثل كتاب المؤلف الذي يجمع بعض مساجلاته الشعرية ومذكراته العلمية مع أدباء فاس ومكناس وسلا والرباط والدار البيضاء ومراكش (١) وفتاويه الفقهية في أكل ذبائح النصارى ونكاح نسائهم ورقي مرضاهم (٢) ، وغيرها من الكتب والمصادر التي تحيل عليها وتلفت الانتباه إلى وجودها.

٢. مكانة صاحبها ، فمؤلفها ماء العينين بن العتيق ـ كما يبدو من خلالها ، وكما عرف به غير واحد من العلماء ـ يعد مثالا للمشاركة العلمية والالتزام الديني والوطني ، ونموذجا حيا لعلماء الصحراء ، تأليفا وصرامة وبديهة وقرظا للشعر. ويكفي أنه سبط الشيخ ماء العينين وخريج مدرسة السمارة.

٣. قيمتها الوحدوية : فهي تمثل مظهرا بارزا من مظاهر التواصل بين شمال المغرب وجنوبه من جهة وبين المغرب وباقي بلدان العالم الإسلامي من جهة ثانية ، ومن الصور التي تعكس هذا البعد الوحدوي الذي يميزها ، قول المؤلف في وصف اجتماع أعضاء المركز العام لبيت الوحدة الغربية بتطوان بوفد الحجاج الصحراويين المتوجهين إلى الديار المقدسة عبر المنطقة الخليفية بشمال المغرب : «ومما زارنا أقوام أدباء من أهل الوحدة المغربية ، منهم الشيخ أحمد بن محمد معنينو السلوي ، ورئيس المركز العام للوحدة المغربية ومدير جريدتها السيد عبد السلام بن المقدم ، والحاج احمد التمسماني ، وصنوه القائد السيد الحاج محمد بن المقدم ، والسيد الحاج المختار بن الصادق أحرضان الطنجي ، والكاتب السيد محمد بن الفقيه والسيد محمد الزواق التطواني ، والشاب الشاعر الشريف عبد

__________________

(٢) الرحلة المعينية.

(٣) نفس المصدر.

١٣

الوهاب بن عبد الرحمان بنمنصور ... والأستاذ الجليل مؤسس الوحدة المغربية الشيخ المكي الناصري ... فقام الشاب الأديب عبد الوهاب بنمنصور ، وألقى خطبة حسنة مشتملة على الترحيب بنا وعلى الاستبشار والفرح بمقدمنا ، وعلى أن لهم محبة زائدة بجنابنا ، وأنشد بعد الخطبة هذه الأبيات :

إن جيد العلى بكم قد تحلى

وشعاع الصلاح منكم تجلى

وغرام في الله يجمعنا اليو

م وحب الإله من شهد أحلى

أيها الزائرون شرفتمونا

مرحبا بالكرام أهلا وسهلا

فأجزني يا إبن العتيق أجزني

إنكم في الشعر أسمى وأعلى

فأجازه ابن العتيق ، وألقى خطبة تقتضي جواب الخطب التي ألقيت في هذا الاجتماع ، وأنشد ارتجالا :

يا إخوة المجد يا أعلام سبسبه

والنازلين بأعلى ذروة الرتب

لله إيخاؤكم هذا فبينكم

آخت لبان العلى والعلم والأدب

قد سرنا اليوم ما ألقيتموه لنا

تبارك الله من شعر ومن خطب

ثم قام الأديب إبراهيم الإلغي السوسي ، وأنشد قصيدة في الترحيب بسائر الوفد ، يقول في مطلعها :

خطر النسيم مبشرا بالأسعد

ويد الصباح تبل وجه الأنجد

١٤

إلى أن يقول :

فاليوم لاحظت السعادة خلسة

بعيونها قلب الغريب المبعد

من قبل كان البين فرق بيننا

فالآن أمسينا كعقد منضد

إن صح ترحيب الغريب بمثله

فأنا أرحب بالوفود الورد (١)

هذه الوفود النازلات برحبنا

لبّت نداء الله دون تردد

ويتكرر مثل هذا اللقاء الوحدوي الذي شهدته تطوان بين رجال الحركة الوطنية المغربية في شمال المغرب وجنوبه بصور أخرى في طرابلس والسويس ومكة والمدينة فيشمل أطراف الأمة الإسلامية كلها شرقا وغربا وشمالا وجنوبا. ومن الصور التي تجسده قول المؤلف في ذكر أعلام الفكر والسياسة الذين اجتمع بهم في مكة : «ومن الأعيان والرؤساء الذين أتونا زائرين بمكة المشرفة للتبرك بالشيخ ووفده ، واجتمعنا بهم ، وتذاكرنا مع بعضهم ، واستمد بعضهم من سيادة الشيخ ، الأمير شكيب أرسلان ... الشيخ محمد خليل بن عبد القادر اطيبة ، الشيخ جعفر بن صالح الكثيري من أرض حضر موت ، الشيخ محمد بن أمير جان بن غلام جان بن أمير الله ، من الأفغان ، وناصر السنة الشيخ مصطفى المحامي المصري ، مدرس وخطيب في مقام السيدة زينب ، الشيخ السيد محمد زبارة ، أمير من أمراء اليمن ، السيد عبد القيوم ولد سبائبة حيدراباد ، من الهند ، خلف الله الصالح من سودان مصر ...»

وهذا البعد الوحدوي يخرج بهذه الرحلة من إطارها التاريخي والجغرافي المحددين ويزيدها عمقا واتساعا ، فلا يشعر القارئ وهو يتبع مراحل هذه الرحلة الممتدة بين طنطان والمدينة المنورة بأنه ينتقل من كيان إلى كيان آخر مختلف عنه ، أو يحس

__________________

(٤) نفسه ص ١٤ ـ ١٥.

١٥

بوجود شروخ فاصلة بين الفضاءات المكونة لها أو ينتابه شعور بالغربة وهو يجوبها ويذاكر أهلها ويساجلهم ، ولكنه يشعر بالاطمئنان والانسجام والتناغم معها ، ولعل هذا البعد الوحدوي الذي يميز هذه الرحلة وغيرها من الرحلات الحجازية راجع بالإضافة إلى نوعية هذه الرحلات ومقاصدها ، إلى نظرة الإسلام إلى الذات وإلى الكيان الإسلامي بصفة عامة ، وهي نظرة تقوم عل مبدإ وحدة كيان الأمة الإسلامية على الرغم من تعدد ألسنتها واختلاف شعوبها وقبائلها ، وهو مبدأ ظل حاضرا في اللاشعور الجمعي الإسلامي ، على الرغم من التشرذم الذي أصاب هذه الأمة على امتداد التاريخ ، وسيظل أفق انتظار واعد لنهضتها وتطلعات شعوبها.

٤. قيمتها الجمالية : وتتمثل في كيفية حوارها للفضاءات الزمانية والمكانية التي تتحرك داخلها ، وأسلوب عرضها لشريط الذكريات التي عاشها المؤلف وهو ينتقل داخل هذه الفضاءات ، فهي تتعامل مع المكان كخلفية مؤطرة لأمكنة تحرك رحلة الشيخ مربيه ربه ومرافقيه من جهة ، وتضفي على هذه الأمكنة جمالية من جهة أخرى ، وهذا الأمر جعلها تتحرك داخل ثنائيات مكانية وزمانية متعددة تحمل دلالات رمزية تحكمها قيم الاتساع والضيق والحرية والسجن ، والمقدس الخالد والعرضي الزائل ، والمألوف والغريب والشرعي والعرفي ، وغيرها من الثنائيات التي تتقابل داخلها ، ورغم هذا التعدد الزماني والمكاني الذي يميزها فإن السياق الوحدوي العام الذي يؤطرها أهل صاحبها لتحويل المطلق الزماني والمكاني إلي تحديدات مكانية قابلة للرؤية البصرية ، فهو لا يكاد يذكر مغادرة أو وصولا أو لقاء أو واقعة دون ذكر السنة واليوم أو الليلة والشهر والسنة التي حصل فيها ذلك ، وهي سمة لازمة في جميع مؤلفاته (١)

لهذه الاعتبارات وغيرها استقر العزم على إخراج هذه الرحلة ، لتساهم ضمن غيرها من الأعمال الجغرافية في إكمال الصورة العامة للأدب الجغرافي المغربي بصفة خاصة والعربي بصفة عامة.

ولم يكن إنجاز هذه المهمة سهلا ، وذلك لأسباب كثيرة ، منها :

__________________

(٥) نفسه ص ٨.

١٦

١ ـ صعوبة التحقيق أساسا ، فهو عمل علمي شاق ، يقتضي الأمانة والدقة والصبر ، وهي أمور عزت في هذا الزمان.

٢ ـ اختلاف الأصول المعتمدة في إخراج هذه الرحلة ، فقد انتهت إلينا منها نسختان مختلفتان في الحجم والمادة ، الأولى مصورة على شريط ميكرو فيلم مستخرج من نسخة أصلية مكتوبة بخط مؤلفها. وتتألف من قسمين ، الأول يتكون من ٩٣ ورقة من الحجم المتوسط ، والثاني يتكون من ١١٥ ورقة من نفس الحجم ، وهي مليئة بالأشعار والأخبار وأسماء الرجال والإجازات والنقول والرسائل والإفادات الفقهية والأدبية ، ومكتوبة بخط مغربي صحراوي واضح ، لكن إخراجها من المكرو فيلم ، قراءة أو تصويرا لا يتأتى بسهولة ، وقد استخرجت منها صورة توجد بالخزانة الحسنية بالرباط. ويبدو أنها أقدم النسخ وأسلمها وأكملها وأقربها إلى تاريخ إنجازها. فقد انتهى المؤلف من نسخها ـ كما جاء في آخر ورقة منها ـ في متم صفر ١٣٥٨ ه‍ ، أي بعد شهر من عودته من الديار المقدسة ، ولذلك اعتمدتها في هذا الإخراج ، واعتبرتها النسخة الأم. ويوجد هذا الشريط بالخزانة العامة بالرباط تحت رقم ٨٠.

الثانية ، بخط مؤلفها أيضا ، وتتكون في مجموعها من ٦٧ ورقة من الحجم الكبير. وتخلو ممّا في النسخة الأولى من أشعار وإجازات وفوائد علمية وأدبية ، ومع ذلك توجد بها بعض الإفادات التي لا توجد في النسخة الأولى. ويبدو من خلال ورقتها الأخيرة أنها كتبت في رمضان سنة ١٣٥٨ ه‍ ، أي بعد ستة أشهر من كتابة النسخة الأولى ، ولذلك اعتبرتها نسخة تكميلية. وقد استخرج منها المرحوم علي مربيه ربه سنة ١٩٦٣ نسخة مرقونة في ٥٣ صفحة ، وزودني بها ـ جازاه الله خيرا ـ سنة ١٩٨٣. وتوجد بخزانة الأستاذ شيبة ماء العينين. ويبدو أنها ملخص للنسخة الأم.

٣ ـ خلو المتن المخطوط من علامات الترقيم ، من نقط وفواصل وأقواس ، مما يجعل التمييز بين كلام المؤلف والنصوص المستشهد بها صعبا في كثير من الأحيان.

٤ ـ كثرة أسماء أعلام الرحلة واختلاف درجاتهم ومستوياتهم وأماكنهم ، وعدم وجود مصادر لتراجم الكثير منهم ، وخاصة الأعلام المغمورين الذين وردت أسماؤهم

١٧

في الرحلة لمجرد مشاركتهم فيها ، أو لالتقاء المؤلف بهم عرضا في تطوان وطرابلس والحجاز.

٥ ـ كثرة النصوص الشواهد في الرحلة وتنوعها ، فقد جمع فيها صاحبها أنواعا مختلفة من الشواهد وفنون القول من آيات قرآنية وأحاديث نبوية وأشعار ورسائل وإجازات وفوائد فقهية وتاريخية وجغرافية ، وكثيرا ما يهمل ذكر أصحابها ومظانها ، مما يجعل توثيقها صعبا ، ويضيع الكثير من الجهد في البحث عن مصادرها.

وقد تمكنت بعون الله وقوته من تخطي كل هذه الصعوبات ، فاعتمدت النسخة الأولى أساسا في إخراج هذا العمل ، وأكملتها بما ينقصها مما ورد في النسخة الثانية من إفادات ، وأضفت عناوين للفقرات المهمة اعتمادا على فهرس الموضوعات الذي أثبته المؤلف في نهاية هذه الرحلة ، وحاولت التعريف ببعض الأعلام الذين ذكرت أسماؤهم فيها اعتمادا على ما توافر لي من مصادر شفوية ومخطوطة ، مثل كتاب «الأبحر المعينية» للشيخ محمد الغيث النعمة ، و «سحر البيان» للمؤلف نفسه ، وكتاب «النفحة الأحمدية» للشيخ أحمد بن الشمس ، ومرددات ومحفوظات بعض الصحراويين ، ما عدا الأعلام الذين لم يتركوا أثرا يذكر ، أو الذين لم تحفظ الرواية الشفوية أو كتب التراجم أخبارهم.

كما قمت بتخريج الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي لم يذكر المؤلف مصادرها ، والأشعار التي تتخللها ، وحاولت ضبط أوزانها ، وشرح بعض غوامضها وشكل بعض كلماتها ، وقدمت لذلك بمقدمة مركزة حاولت فيها التعريف بصاحبها وتلخيص محتوياتها ، فجاء العمل ـ كما يبدو في صورته المطبوعة ـ متكاملا يجمع بين كمال النسخة الأم وإضافات النسخة الفرع.

التعريف بالمؤلف

تمثل حياة ابن العتيق سجلا حافلا بالعطاءات ، جامعا للمزايا ، مثيرا للدهشة ، فقد جمعت سيرته كل صفات النبل والكمال ، من تواضع ونزاهة علمية والتزام ديني

١٨

ووطني.

ولد سنة ١٣٠٧ ه‍ ـ ١٨٨٧ م. بالساقية الحمراء ، وما كاد يتجاوز سن الرضاع حتى توفي والده ، فكفله جده الشيخ ماء العينين ، وتولى تربيته بنفسه. قضى معظم شبابه بالسمارة ينعم بطيبها ، وينهل من معارفها إلى أن دعى داعي البين إلى مغادرتها إلى تزنيت سنة ١٩١٠ ، بعد اشتداد الضغط الأجنبي عليها. بعد وفاة جده الشيخ ماء العينين ، لازم خاليه الشيخ أحمد الهيبة والشيخ مربيه ربه وآزرهما فيما اضطلعا به من أمور الجهاد في الحوز وسوس ، فكان يشجعهما ويشيد ببطولاتهما ، ويتصل بالعلماء وأهل الحل والعقد من أهل سوس لمساندتهما إلى أن تم تطويق المقاومة في الجنوب وتصفية آخر معاقلها سنة ١٩٣٤ ، فعاد إلى الصحراء مرة ثانية واشتغل فيها بالقضاء بمدينة طانطان ونواحيها.

في سنة ١٣٥٧ ه‍ ـ ١٩٧ م. قام بزيارة الديار المقدسة على نفقة المخزن المغربي ضمن الوفد الصحراوي الذي ترأسه الشيخ مربيه ربه ، التقى خلالها بعدد من العلماء ورجال الفكر والسياسة في تطوان وطرابلس والسويس والحجاز وأشبيلية وغيرها ، مثل عبد الوهاب بنمنصور والمكي الناصري وأحمد معنينو وشكيب أرسلان وابن مايابا الجكني وغيرهم.

بعد استقلال الجزء الشمالي من المغرب ، توجه ضمن أول وفد صحراوي لتجديد البيعة والولاء للسلطان محمد الخامس وتهنئته بالعودة من المنفى وتكسير قيود الحماية.

في أواخر سنة ١٩٥٦ عين أستاذا بالكلية اليوسفية بمراكش ، وظل يدرس بها إلى أن توفي سنة ١٣٧٦ ه‍ ـ ١٩٥٧ م. بعد سبعين سنة من العطاء والمساهمة في بناء الوطن.

ويمكن أن نميز في حياته ثلاث محطات بارزة ، أشاد بها معظم الذين عاصروه أو ترجموا له.

المحطة الأولى : تتعلق بنسبه ، فهو ينتمي إلى أسرة شريفة طبقت شهرتها الآفاق هي أسرة الطالب المختار ، فأبوه هو العتيق محمد فاضل بن محمد الليل ابن محمد بن أحمد الطالب المختار ، وجدته لأبيه هي الرحمة بنت الشيخ محمد فاضل بن مامين ،

١٩

وأمه هي العالي أمّ ابنة الشيخ ماء العينين.

وقد حظيت هذه الأسرة باحترام كبير داخل الصحراء وخارجها ، وتميز أبناؤها بالنبوغ والمشاركة العلمية والغيرة الوطنية ، فجده الشيخ ماء العينين كان من العلماء العاملين الذين ذاع صيتهم في المشرق والمغرب ، وقصده القريب والبعيد ، فكانت زاويته بالسمارة منارا للعلم وقلعة للجهاد ، وقد جعله ملوك المغرب نائبا عنهم في الأقاليم الصحراوية منذ عهد المولى عبد الرحمان ، وكلفوه بتعميرها وحمايتها مما كان يهددها من أخطار أجنبية ، وشهرته تغنى عن التعريف به.

وأبوه العتيق ـ كما ذكر صاحب سلوة الأنفاس (١) وغيره ممن ترجم له ـ كان من العلماء المشاركين والشعراء المفلقين ، شارك في معركة الداخلة سنة ١٣٠٢ ه‍ ـ ١٨٨٤ م ، وأبلى فيها بلاء حسنا ، وله فيها قصيدة ينتصر فيها للحق ، ويدعو إلى مقاومة المستعمر (٢) ، وقد حظي بلقاء السلطان مولاي الحسن سنة ١٣٠٩ ه‍ ـ ١٨٩١ م بفاس ، ومدحه بقصيدة يقول في بعض أبياتها :

أميرنا وأرى الأوصاف توضحه

ما يوضح الموضحان الإسم واللقب

من هو ملجأ أهل الأرض يلجئها

لبابه الملجئان الخوف والرغب

فللضعيف عطوف منحن أبدا

كأنه المشفقان أمه والأب

وفي الحروب إذا نار الوغى اشتعلت

كأنه الحارقان الجمر واللهب (٣)

وكان ينوي الحج ، ويتهيأ للخروج إليه من فاس ، لكنه أصيب بالجذري وتوفي

__________________

(٦) سلوة الأنفاس ج. ٣ ، ص ٣٥٦.

(٧) الأبحر المعينية ج. ١ ص ، ٥٣٥ ، تحقيق أحمد مفدي ـ مرقونة كلية الآداب فاس.

(٨) الرحلة المعينية ، و ٥٧ ـ ٥٨.

٢٠