تاريخ المدينة

قطب الدين الحنفي

تاريخ المدينة

المؤلف:

قطب الدين الحنفي


المحقق: الدكتور محمّد زينهم محمّد عزب
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٤٦

قال أهل التاريخ والسير : كان سكنى العماليق (١) غزة وعسقلان وساحل بحر الروم ، وما بين مصر وفلسطين ، ثم سكنوا مكة والمدينة والحجاز كله وعتود (٢) فبعث اليهم موسى جندا من بنى اسرائيل فقتلوهم.

وعن زيد بن اسلم (٣) قال : بلغنى ان ضبعا رعيت وأولادها رابضة فى حجاج عين رجل من العماليق.

قال : ولقد كان يمضى فى ذلك الزمان اربعمائة سنة وما يسمع بجنازة .. وكان جالوت من العماليق وكان عوج وامه عناق من العماليق الذين كانوا بأريحا.

قال ابن عمر (٤) : كان طول عوج ثلاثة وعشرين الف ذراع وثلاثمائة وثلاثين ذراعا

__________________

(١) من شعوب جنوبى فلسطين قديما ، حاربهم العبرانيون منذ دخولهم أرض المعاد حتى أيام الملك حزقيا (٧١٦ ـ ٦٨٧ ق م).

(٢) بكسر أوله وسكون ثانيه وفتح الواو وآخره دال ، قيل : هو اسم موضع بالحجاز.

انظر : معجم البلدان ٤ / ٨٣.

(٣) هو زيد بن أسلم المدنى الفقيه ابن أسامة ، ويقال أبو عبد الله مولى عمر بن الخطاب.

روى عن أنس وجابر بن عبد الله وسلمة بن الأكوع وابن عمرو وأبى هريرة وعائشة ، وعنه ابنه أسامة وأيوب السختيانى وروح بن القاسم والسفيانان وابن جريج ، وكان له حلقة فى المسجد النبوى.

قال يعقوب بن شيبة : ثقة من أهل الفقه والعلم ، عالم بتفسير القرآن.

وكان يقول : ابن آدم اتق الله يحبك الناس ، وإن كرهوا.

مات سنة ١٣٦ ه‍.

انظر : طبقات المفسرين للداودى ١ / ١٧٦ ، العبر ١ / ١٨٣ ، طبقات القراء لابن الجزرى ١ / ٢٩٦ ، خلاصة تذهيب الكمال ١٠٨ ، تذكرة الحفاظ ١ / ١٣٢ ، تهذيب التهذيب ٣ / ٣٩٥ ، طبقات الحفاظ ٥٣.

(٤) هو عبد الله بن عمر بن الخطاب أبو عبد الرحمن العدوى المدنى الفقيه ، أحد الأعلام فى العلم والعمل ، شهد الخندق ، وهو من أهل بيعة الرضوان ، وممن كان يصلح للخلافة فعين لذلك يوم الحكمين مع وجود مثل الإمام على وفاتح العراق سعد ونحوهما رضى الله عنهما ، ومناقبه جمة اثنى عليه النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ووصفه بالصلاح ، توفى سنة ٩٤ ه‍.

انظر : نكت الهميان ١٨٣ ، النجوم الزاهرة ١ / ١٩٢ ، العبر ١ / ٨٣ ، طبقات القراء لابن الجزرى ١ / ٤٣٧ ، شذرات الذهب ١ / ٨١ ، تذكرة الحفاظ ١ / ٣٧ ، تاريخ بغداد ١ / ١٧١ ، الإصابة ١ / ٣٣٨ ، أسد الغابة ٣ / ٣٤٠.

٢١

وثلثى ذراع ، بذراع الملك ، وعاش ثلاثة آلاف سنة ، .... (١) واحدى بنات آدم لصلبه ، وهى أول من بغى على وجه الأرض فهلكت كانت كل أصبع من أصابعها ثلاثة أذرع فى ذراعين ولدت حواء على اثرها قابيل ثم هابيل.

قال ابن قتيبة (٢) فى تأويل مختلف الحديث ومن العجب أن عوجا كان فى زمن (ق ٣) موسى عليه‌السلام وله هذا الطول ، وكان لفرعون موسى من فسطاط مصر إلى أرض الحبشة جبال فيها معادن الذهب والفضة والزبرجد والياقوت طمس الله تعالى عليها فصارت حجارة لقول موسى عليه‌السلام [كما حكى القرآن الكريم](رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ)(٣) وفرعون أول من خضب بالسواد.

ذكر سكنى اليهود الحجاز

بعد العماليق

اعلم أن موسى عليه‌السلام لما أهلك فرعون ، وطئ الشام وأهلك من فيها ، وبعث بعثا من اليهود إلى الحجاز وأمرهم ألا يستبقوا من العماليق أحدا بلغ الحلم فقدموا فقتلوهم

__________________

(١) كلمة غير واضحة بالأصل.

(٢) هو عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينورى النحوى اللغوى الكاتب ، نزيل بغداد.

قال الخطيب : كان رأسا فى العربية واللغة والأخبار وأيام الناس ، ثقة دينا فاضلا ، ولى قضاء الدينور وحدث عن إسحاق بن راهويه وأبى حاتم السجستانى وعنه ابنه القاضى أحمد وابن درستويه.

قال البيهقى : كان كراميا ، قال الحاكم : أجمعت الأمة على أنه كذاب ، له عدة مصنفات منها «إعراب القرآن» و «معانى القرآن» و «مختلف الحديث» و «جامع النحو» و «الخيل» و «ديوان الكتاب» و «خلق الإنسان» و «دلائل النبوة» و «الأنواء» و «مشكل القرآن».

ولد سنة ٢١٣ ه‍ ، ومات سنة ٢٧١ هجرية.

(٣) ٨٨ ك يونس ١٠.

٢٢

وقتلوا ملكهم ، وكان يقال له الأرقم بن أبى الأرقم ، واستحيوا ابنا له شابا وقدموا به فقبض موسى عليه‌السلام قبل قدومهم.

فتلقتهم بنو إسرائيل فوجدوا الغلام معهم فقالوا : ان هذه لمعصية منكم لما خالفتم من أمر نبيكم ، والله لا تدخلوا علينا بلادنا ، وحالوا بينهم وبين الشام فرجعوا فسكنوا الحجاز وكانت الحجاز إذ ذاك شجر (ق ٤) بلاد الله تعالى واظهر ماء.

قالوا : وكان هذا اول سكنى اليهود الحجاز بعد العماليق وكان جميعهم بزهرة بعين الحرة والسافلة مما يلى القف ، وكانت لهم الأموال بالسافلة ونزل جمهورهم بمكان يقال له يثرب بمجتمع السيول ، سيل بطحان والعقيق (١) وسيل قناة مما يلى زغاية ، وخرجت قريظة وأخوتهم بنو هدل معا وهم بنو الخزرج والنضير بن النحام بن الخزرج.

وقيل قريظة والنضير أخوان ، وهما ابنا الخزرج بن الصريح ، فخرجوا بعد هؤلاء فتتبعوا آثارهم فنزلوا بالعالية على واديين يقال لهما مذينب ومهزوز ، فنزلت بنو النضير على مذينب (٢) واتخذوا عليه الأموال ، ونزلت قريظة وهذل على مهزور ، واتخذوا عليه الأموال وكانوا أول من احتفر بها الآبار واغترس الأموال وابتنى الآطام والمنازل ، فكان جميع ما ابتنى اليهود بالمدينة من الآطام تسعة وخمسين أطما والآطام الحصون واحدها أطم (ق ٥).

__________________

(١) بفتح أوله وكسر ثانيه وقافين بينهما ياء مثناة من تحت.

قال أبو منصور : والعرب تقول لكل مسيل ماء شقه السيل فى الأرض فأنهره ووسعه عقيق ، وقال الأصمعى : الاعقة الأودية.

انظر : معجم البلدان ٤ / ١٣٨ ـ ١٣٩.

(٢) بوزن تصغير المذنب وأصله مسيل الماء بحضيض الأرض بين تلعتين.

وقال ابن شميل : المذنب كهيئة الجدول يسيل عن الروضة ماؤها إلى غيرها فتفرق ماءها فيها والتى يسيل عليها الماء مذنب أيضا ، وقال ابن الأعرابى : مذنب الوادى ، والمذنب الطويل الذنب.

انظر : معجم البلدان ٥ / ٩١.

٢٣

قال الخطابى (١) : هو بناء من الحجارة ومثله الآجام والصياصى.

ثم نزل أحياء من العرب على يهود وذلك انه كان بالمدينة قرى وأسواق من يهود بنى إسرائيل ، وكان قد نزل عليهم أحياء من العرب ابتنوا معهم الآطام والمنازل قبل نزول الأوس والخزرج وهم بنو أنيف ، حى من بلى ، ويقال إنهم من بقية العماليق.

وبنو مرثد حى من بلى وبنو معاوية بن الحارث بن بهثة من بنى قيس بن غيلان ، وبنو الجذمى حى من اليمن ، وكان جميع ما ابتنى العرب من الآطام بالمدينة ثلاثة عشر أطما.

ذكر نزول الأوس والخزرج المدينة

لم تزل اليهود الغالبة على المدينة حتى جاء سيل العرم ، وكان منه ما كان وما قص الله تعالى فى كتابه ان أهل مأرب وهى أرض سبأ كانوا آمنين فى بلادهم تخرج المرأة بمعزلها لا تتزود شيئا تبيت فى قرية وتقيل فى أخرى حتى تأتى الشام ، ولم يكن فى ارضهم حية ولا عقرب ولا ما يؤذى ، فبعث الله تعالى إليهم ثلاثة عشر نبيا فكذبوهم (ق ٦) وقالوا : (رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا)(٢) فسلط الله تعالى عليهم سيل العرم ، وهو السيل الشديد الذى لا يطاق.

وقيل العرم اسم الوادى وقيل اسم المياه وذلك ان الله تعالى سلط عليهم جرذا يسمى الخلد ، والخلد هو الفأر الأعمى فنقب السد من اسفله حتى دخل السيل عليهم فغرقت

__________________

(١) هو الإمام الخطابى العلامة المفيد المحدث الرحال أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم بن خطاب البستى صاحب التصانيف ، سمع أبا سعيد بن الأعرابى وأبا بكر بن داسة والأصم ، ومنه الحاكم ، وصنف شرح البخارى ومعالم السند وغريب الحديث ، وشرح الأسماء الحسنى والعزلة ، وغير ذلك ، وكان ثقة متثبتا من أوعية العلم ، أخذ اللغة عن أبى عمر الزاهد ، والفقه عن القفال وابن أبى هريرة. مات سنة ٣٨٨ هجرية.

(٢) ١٩ ك سبأ ٣٤.

٢٤

ارضهم ، وقيل أرسل عليهم ماء أحمر فخرب السد وتمزق من سلم منهم فى البلاد.

وكان السد فرسخا فى فرسخ ، بناه لقمان الأكبر العادى للدهر على زعمه ، وكان يجتمع إليه مياه اليمن من مسيرة شهر ، وتقدم فى الباب قبل هذا قصته طريق الكاهنة ، وما قالت لقومها وانها قالت لهم : من كان منكم يريد الراسيات فى الوحل المطمعات فى المحل فليلحق بيثرب ذات النخل ، فلحق بها الأوس والخزرج فوجدوا الآطام والأموال والقوة لليهود فعاملوهم زمانا ، فصار لهم مال وعدد.

فمكث الاوس والخزرج معهم ما شاء الله ، ثم سألوهم ان يعقدوا بينهم الجوار او حلفا (ق ٧) يأمن به بعضهم من بعض ويمتنعون به ممن سواهم ، فتعاقدوا وتحالفوا واشتركوا وتعاملوا ، فلم يزالوا على ذلك زمانا طويلا حتى قويت الأوس والخزرج وصار لهم مال وعدد ، فلما رأت قريظة والنضير حالهم خافوا أن يغلبوهم على دورهم وأموالهم فتنمروا لهم حتى قطعوا الحلف الذى كان بينهم وكان النضير أعد وأكثر فأقامت الأوس والخزرج فى منازلهم وهم خائفون أن تجليهم يهود حتى نجم منهم مالك بن عجلان اخو بنى سالم بن عوف بن الخزرج.

ذكر قتل اليهود

واستيلاء الأوس والخزرج على المدينة

لما نجم مالك بن عجلان سوده الحيان عليهما فبعث هو وجماعة قومه إلى من وقع بالشام من قومهم يخبرونهم حالهم ويشكون إليهم غلبة اليهود لهم ، وكان رسولهم الرمق ابن زيد بن امرئ القيس أحد بنى سالم بن عوف من الخزرج ، وكان قبيحا دميما شاعرا بليغا فمضى حتى قدم الشام على ملك من ملوك غسان الذين ساروا من يثرب إلى الشام يقال له (ق ٨) أبو جبيلة (١) من ولد حفنة بن عمرو بن عامر ، وقيل كان أحد بنى

__________________

(١) واسمه عبيد بن سالم بن مالك بن سالم.

٢٥

جشم بن الخزرج ، وكان قد أصاب ملكا بالشام وشرفا فشكا إليه الرمق حالهم وغلبة اليهود لهم وما يتخوفون منهم وانهم يخشون أن يخرجوهم.

فأقبل أبو جبيلة فى جمع كثير لنصرة الأوس والخزرج ، وعاهد الله تعالى ألا يبرح حتى يخرج من بها من اليهود ويذلهم أو يصيرهم تحت أيدى الأوس والخزرج فسار وأظهر أنه يريد اليمن حتى قدم المدينة وهى يومئذ يثرب فلقيهم الأوس والخزرج وأعلمهم ما جاء به.

فقالوا : إن علم القوم ما تريد تحصنوا فى آطامهم فلم تقدر عليهم ولكن تدعوهم للقائك وتلطفهم حتى يأمنوك ويطمئنوا فتستمكن منهم ، فصنع لهم طعاما وأرسل إلى وجهائهم ورؤسائهم فلم يبق من وجهائهم إلا أتاه وجعل الرجل منهم يأتى بحاشيته وحشمة رجاء ان يحبوهم الملك.

وكان قد بنى لهم حيزا وجعل فيه قوما وأمرهم من دخل عليهم منهم أن يقتلوه حتى أتى على وجهائهم ورؤسائهم (ق ٩) فلما فعل ذلك عزت الأوس والخزرج بالمدينة واتخذوا الديار والاموال.

وانصرف أبو جبيلة وتفرقت الأوس والخزرج فى عالية المدينة وسافلها ، وكان منهم من جاء إلى عفاء من الأرض لا ساكن فيه فنزله ، ومنهم من لجأ إلى قرية من قراها واتخذوا الأموال والآطام ، وكان ما بنوا من الآطام مائة وسبعة وعشرين أطما ، وأقاموا كلمتهم واحدة وأمرهم مجتمع.

ثم دخلت بينهم حروب عظام وكانت لهم أيام ومواطن وأشعار ، فلم تزل تلك الحروب بينهم حتى بعث الله تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأكرمهم الله تعالى بأتباعه والأوس والخزرج حيان ينسبان الى قطحان لأن من قطحان افترقت سبع وعشرون قبيلة منهم الاوس والخزرج وهما الانصار وهو جمع نصير وسموا انصارا حين آووا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونصروه.

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أسلمت الملائكة طوعا والأوس والخزرج طوعا وجميع العرب كرها».

٢٦

الفصل الثانى

فى ذكر فتح المدينة

وهجرة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم

وأصحابه إليها

٢٧
٢٨

ذكر ما جاء فى فتحها

قالت عائشة (١) رضى الله عنها : «كل البلاد افتتحت بالسيف ، وافتحت المدينة بالقرآن».

قال الحافظ مجد الدين بن النجار فى تاريخه : فالمدينة الشريفة لم تفتح بقتال إنما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعرض نفسه فى كل موسم على قبائل العرب ويقول : «ألا رجل يحملنى إلى قومه فإن قريشا قد منعونى أن أبلغ كلام ربى» فيأتونه ويقولون له : قوم الرجل أعلم به ، حتى لقى فى بعض السنين عند العقبة نفرا من الأوس والخزرج ، قدموا فى المنافرة التى كانت بينهم فقال لهم : «من أنتم؟» فقالوا : نفر من الخزرج.

قال : «أمن موالى يهود؟» قالوا : نعم ، قال : «أفلا تجلسون أكلمكم» قالوا : بلى ، فجلسوا معه فدعاهم إلى الله عزوجل وعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن.

وكانوا أهل شرك أصحاب أوثان ، وكانوا إذا كان بينهم وبين اليهود الذين معهم بالمدينة شىء قالت اليهود لهم ، وكانوا أصحاب كتاب وعلم : إن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم (ق ١١) مبعوث الآن ، وقد أظل زمانه فنتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم ، فلما كلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أولئك النفر ودعاهم إلى الله تعالى قال بعضهم لبعض : يا قوم تعلمون والله أنه النبى الذى توعدكم به يهود فلا تسبقنكم إليه فاغتنموه وآمنوا به ، فأجابوه فيما دعاهم إليه وصدقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام.

وقالوا إنا قد تركنا قومنا وبينهم من العداوة والشر ما بينهم وعسى أن يجمعهم الله

__________________

(١) هى عائشة أم المؤمنين بنت أبى بكر الصديق ، كان فقهاء أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يرجعون إليها ، وتفقه بها جماعة ، يروى عن أبى موسى قال : ما أشكل علينا أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حديث قط فسألنا عائشة إلا وجدنا عندها منه علم. ماتت سنة ٥٧ ه‍.

٢٩

تعالى بك فسنقدم عليهم وندعوهم إلى أمرك ونعرض عليهم الذى أجبناك اليه من هذا الدين فإن يجمعهم الله تعالى عليه فلا رجل أعز منك.

ثم انصرفوا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم راجعين الى بلادهم وقد آمنوا وصدقوا وكانوا ستة.

أسعد بن زرارة ، وهو أحد النقباء ليلة العقبة الاولى والثانية ، وعوف بن عفراء ، وهى أمه ، وأبوه الحارث بن رفاعة ، ورافع بن مالك بن العجلان ، وقطبة بن عامر بن حديدة ، وعقبة بن عامر بن نابئ ، وجابر بن عبد الله بن (ق ١٢) رياب.

فلما قدموا المدينة إلى قومهم ذكروا لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما جرى لهم ودعوهم إلى الإسلام ففشى فيهم حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا ولرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيها ذكر.

فلما كان العام المقبل وافى الموسم اثنا عشر رجلا فلقوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالعقبة وهى العقبة الأولى فبايعوه ، فلما انصرفوا بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم معهم مصعب بن عمير إلى المدينة وأمره أن يقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام ويفقههم فى الدين ، وكان منزله على أسعد بن زرارة.

ولقيه فى الموسم الآخر سبعون رجلا من الأنصار ، ومنهم امرأتان فبايعوه وأرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه الى المدينة ثم خرج الى الغار بعد ذلك ثم توجه هو وأبو بكر رضى الله عنه الى المدينة.

***

٣٠

ذكر هجرة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه

إلى المدينة الشريفة

اعلم أن هجرة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم الى المدينة هى من بعض معرفة دلائل صفات (ق ١٣) نعوته فى الكتب الإلهية ، وقد نطقت الأخبار بأن المدينة دار هجرة بنى الخزرج فى آخر الزمان.

ذكر صاحب الدر المنظم (١) والشهرستانى (٢) فى كتاب (أعلام النبوة) فى قصة ملخصها أن سيف بن ذى اليزن الحميرى لما ظفر بالحبشة وذلك بعد مولد النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) للإمام أحمد بن محمد بن على بن حجر الهيتمى السعدى الأنصارى شهاب الدين شيخ الإسلام أبو عباس فقيه باحث مصرى ، مولده سنة (٩٠٩ ه‍ / ١٥٠٤ م) فى محلة أبى الهيتم «من إقليم الغربية بمصر» وإليها نسبته.

والسعدى نسبة إلى بنى سعد من عرب الشرقية «بمصر» تلقى العلم فى جامع الأزهر وله تصانيف كثيرة منها «مبلغ الأدب فى فضائل العرب» و «الجوهر المنظم» و «رحلة إلى المدينة» و «الصواعق المحرقة على أهل البدع والضلال والزندقة» و «تحفة المحتاج لشرح المنهاج» فى فقه الشافعية و «الخيرات الحسان فى مناقب أبى حنيفة» و «الفتاوى الهيمية» أربع مجلدات و «شرح مشكاة المصابيح للتبريزى» و «شرح الأربعين النووية» و «رد نصيحة الملوك» و «تحرير المقال فى آداب وأحكام يحتاج إليها مؤدبو الأطفال» و «أشرف الوسائل إلى فهم الشمائل» وغير ذلك.

مات سنة (٩٦٥ ه‍ / ١٥٥٧ م).

(٢) هو محمد بن عبد الكريم بن أحمد أبو الفتوح الشهرستانى من فلاسفة الإسلام ، كان إماما فى علم الكلام وأديان الأمم ومذاهب الفلاسفة ، يلقب بالأفضل ، ولد فى شهرستان «بين نيسابور وخوارزم» سنة (٤٧٩ ه‍ / ١٠٨٦ م) وانتقل إلى بغداد سنة ٥١٠ ه‍ فأقام ثلاث سنين وعاد إلى بلده وتوفى بها.

قال ياقوت فى وصفه «الفيلسوف المتكلم صاحب التصانيف» كان وافر الفضل ، كامل العقل ، ولو لا تخبطه فى الاعتقاد ومبالغته فى نصرة مذاهب الفلاسفة والذب عنهم لكان هو الإمام ، من كتبه «الملل والنحل» ثلاثة أجزاء و «نهاية الإقدام فى علم الكلام» و «الإرشاد إلى عقائد العباد» و «تلخيص الأقسام لمذاهب الأنام» و «مصارعات الفلاسفة» و «تاريخ الحكماء» و «المبدأ والمعاد» و «تفسير سورة يوسف بأسلوب فلسفى». مات سنة (٥٤٨ ه‍ / ١١٥٣ م).

٣١

قصدته وفود العرب بالتهنئة وخرج اليه وفد قريش وفيهم عبد المطلب الى صنعاء وهو فى قصرة المعروف بعمدان ، فلما دخلوا عليه وأنفق ما أنفق قال سيف لعبد المطلب إنى وجدت فى الكتاب المكنون والعلم المخزون الذى اخترناه لأنفسنا دون غيرنا خبرا جسيما وخطرا عظيما فيه شرف الحياة وفضيلة الوفاة وهو للناس عامة ولرهطك كافة وللخاصة ، ثم قال : اذا ولد بتهامة غلام به علامة كانت له الإمامة ولكم به الزعامة إلى يوم القيامة ولو لا أن الموت يجتاحنى قبل مبعثه لسرت بخيلى ورجلى حتى أصير يثرب دار ملكى فإنى أجد فى الكتاب الناطق والعلم السابق أن يثرب استحكام ملكه وأهل نصرته (ق ١٤) وموضع قبره ، ولو لا أنى أقيه الآفات وأحذر عليه العاهات لأوطأته العرب ، ولكنه صارف إليك ذلك عن غير يقين من معك ، ثم أمر لكل واحد من قومه بجائزة وأجاز عبد المطلب بأضعافها ثم قال : ائتنى بخبره وما يكون من أمره على رأس الحول ، فمات سيف قبل ان يحول عليه الحول.

وقد جاء فى بعض الأحاديث : أخبرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن صفته فى التوراة : «عبدى أحمد المختار مولده بمكة ومهاجره بالمدينة» أو قال طيبة «أمته الحمادون لله تعالى على كل حال» وقيل معنى قوله تعالى (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى)(١) اى ضالا عن الهجرة فهداك إليها ، وقيل وجدك ضالا بين مكة والمدينة فهداك إلى المدينة.

وقيل فى قوله عزوجل : (التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ)(٢) ان السائحين المهاجرون وقيل لم يهاجر صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى طلب الهجرة لقوله تعالى (رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ) (ق ١٥) (نَصِيراً)(٣) فالداعى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرية مكة والولى والنصير الأنصار.

__________________

(١) ٧ ك الضحى ٩٣.

(٢) ١١٢ م التوبة ٩.

(٣) ٧٥ م النساء ٤.

٣٢

عن على (١) رضى الله تعالى عنه قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أتانى جبريل عليه‌السلام فقلت له يا جبريل من يهاجر معى؟ قال أبو بكر ، وهو يلى أمتك من بعدك لأنه افضل أمتك» (٢).

وفى صحيح البخارى (٣) من حديث الهجرة ان النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال للمسلمين «إنى رأيت أمر هجرتكم ذات نخل بين لابتين وهما الحرتان» (٤).

وفى الصحيحين من حديث أبى موسى الأشعرى (٥) رضى الله عنه عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال «رأيت فى المنام أنى أهاجر من مكة الى أرض بها نخل فذهب وهلى إلى انها اليمامة أو هجر فاذا هى المدينة بيثرب».

فلما ذكر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا المنام لأصحابه هاجر من هاجر منهم قبل المدينة ورجع عامة

__________________

(١) هو أمير المؤمنين على بن أبى طالب رضى الله عنه أبو الحسن الهاشمى قاضى الأمة وفارس الإسلام ، جاهد فى الله حق جهاده فنهض بأعباء العلم والعمل واستشهد فى رمضان سنة ٤٠ ه‍ ، وسنه ستون عاما.

(٢) ورد فى صحيح البخارى باب خمس أو مغازى ١٤ ، ونفقات ٣ ، وفرائض ٣ ، واعتصام ٥ ، وسنن أبى داود باب امارة ١٩ ، وسنن الترمذى باب السير ٤٤ ، والمسند للإمام أحمد ١ / ٢٠٨ ـ ٢٠٩.

(٣) هو أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة الجعفى مولاهم ، روى عن الإمام أحمد وإبراهيم بن المنذر وابن المدينى وآدم بن أبى إياس وقتيبة وخلق ، وعنه مسلم والترمذى وإبراهيم الحربى وابن أبى الدنيا وأبو حاتم والمحامى والغريرى ومنصور بن محمد السفى ، وله عدة مصنفات منها الجامع الصحيح ، والتاريخ الكبير ، والأدب المفرد والقراءة خلف الإمام.

ولد سنة ١٩٤ ه‍ ، ومات سنة ٢٥٦ ه‍.

(٤) كذلك ورد فى سنن النسائى.

(٥) هو أبو موسى الأشعرى عبد الله بن قيس ، استعمله النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع معاذ على اليمن ، ثم ولى لعمر الكوفة والبصرة ، وكان عاملا صالحا تاليا صالحا لكتاب الله ، إليه المنتهى فى حسن الصوت بالقرآن ، حدث عنه طارق بن شهاب وابن المسيب وخلق ، وقال أبو إسحاق : سمعت الأسود يقول : لم أر بالكوفة اعلم من على وأبى موسى.

مات سنة ٤٤ ه‍.

٣٣

من كان هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة ، وكان أول من هاجر إلى الحبشة حاطب بن عمرو (١) وقيل عبد الله بن عبد الأسد بن هلال (٢) ، وأول مولود فى «ق ١٦» الإسلام بأرض الحبشة عبد الله بن جعفر بن أبى طالب (٣).

وتجهز أبو بكر رضى الله عنه قبل المدينة ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : على رسلك فإنى أرجو أن يؤذن لى ، فقال أبو بكر رضى الله تعالى عنه وهل ترجو ذلك بأبى أنت وأمى؟

قال : نعم ، فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليصحبه وعلف راحلتين كانتا عنده الخبط أربعة أشهر.

وقالت عائشة رضى الله عنها : بينما نحن يوما جلوس فى بيت أبى بكر رضى الله عنه فى حر الظهيرة قال قائل لأبى بكر هذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم متقنعا فى ساعة لم يكن يأتينا فيها ، قال أبو بكر : فدا له أبى وأمى والله ما جاء به فى هذه الساعة إلا أمر. قال : فجاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاستأذن فأذن له ، فدخل فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبى بكر أخرج من عندك ، فقال أبو بكر رضى الله عنه إنما هم أهلك بأبى أنت وأمى. قال : فإنى قد أذن لى فى الخروج (ق ١٧) فقال أبو بكر : الصحبة يا رسول الله ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نعم ، قال أبو بكر : فخذ بأبى أنت يا رسول الله إحدى راحلتى هاتين. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالثمن.

قالت عائشة رضى الله عنها فجهزناهما أحسن الجهاز وصنعنا لهم سفرة فى جراب ،

__________________

(١) هو حاطب بن أبى بلتعة بن عمرو بن عمير بن سلمة بن صعب اللخمى حليف بنى أسد بن عبد العزيز ، قديم الإسلام ، روى عنه على بن أبى طالب رضى الله عنه فى اعتذاره عن مكاتبة قريش.

مات سنة ٣٠ ه‍ ، وله سبعون عاما.

(٢) هو عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر مخزوم المخزومى ، أبو سلمة المكى ، أمه برة بنت عبد المطلب ، وكان أخا النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الرضاعة ، وهاجر الهجرتين وشهد بدرا.

توفى بالمدينة فى حياة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرجعه من بدر فتزوج النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بزوجته أم سلمة ، مات سنة ٣ ه‍.

(٣) هو عبد الله بن جعفر بن أبى طالب الهاشمى ، روى عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعن أمه أسماء بنت عميس وعمه على بن أبى طالب وعثمان وعمار بن ياسر ، كان عبد الله بن جعفر بن أبى طالب جوادا ممدحا.

مات سنة ٨٠ ه‍ ، وقيل سنة ٨٢ ه‍ ، وقيل أيضا سنة ٨٤ ه‍.

٣٤

والسفرة طعام يتخذه المسافر ، وكان أكثر مما يحمل فى جلد مستدير ، فنقل اسم الطعام إلى الجلد كالرواية اسم للبعير ، ونقلت الى المزادة قاله الخليل.

قالت عائشة رضى الله عنها فقطعت أسماء بنت أبى بكر (١) قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب فبذلك سميت ذات النطاقين.

والنطاق أن تأخذ المرأة فتشتمل به ثم تشد وسطها بخيط ثم ترسل الأعلى على الأسفل.

قال : ثم لحق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبو بكر رضى الله عنه بغار «جبل ثور» فمكثا فيه ثلاثا يبيت عندهما عبد الله بن أبى بكر رضى الله تعالى عنه وهو غلام شاب لقن فيلجه من عندهما بسحر فيصبح مع قريش بمكة كبائت (ق ١٨) فلا يسمع أمرا الا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام ، ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبى بكر رضى الله عنه منحة من لبن فيريحها حتى يذهبا ساعة من العشاء فيبيتان فى رسل حتى ينعق بهما عامر بغلس ففعل ذلك فى كل ليلة من تلك الليالى الثلاث واستأجر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبو بكر رجلا من بنى الأيل هاديا ماهرا بالهداية وهو على دين كفار قريش فأمناه فدفعا إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث براحلتيهما.

وانطلق معهما عامر بن فهيرة ، والدليل فأخذ بهم طريق السواحل وكان اسم دليلهم عبد الله بن الأريقط الليثى ولم يعرف له إسلام بعد ذلك.

وكانت هجرته صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الاثنين لثلاث خلون من شهر ربيع الأول وقيل كانت آخر ليلة من صفر ، وعمره إذ ذاك ثلاث وخمسون سنة بعد المعراج بسنة وشهرين ويوم واحد.

فكان بين البعث والهجرة اثنتا عشرة سنة وتسعة (ق ١٩) أشهر وعشرون يوما ، وقيل

__________________

(١) هى أسماء بنت أبى بكر الصديق زوج الزبير بن العوام ، روت عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعنها ابناها عبد الله وعروة ابنا الزبير وأحفادها عباد بن حمزة وعبد الله بن الزبير.

ماتت سنة ٧٣ ه‍.

٣٥

كانت اقامته بمكة بعد النبوة ثلاث عشرة سنة ، ومروا على خيمة أم معبد (١) الخزاعية فى قديد (٢) وكانت امرأة برزة جلدة تحتبى وتجلس بفناء الخيمة أو القبة ثم تسقى وتطعم فسألوها تمرا ولحما ليشتروه فلم يصيبوا عندها شيئا من ذلك وإذا القوم مرملون مسنتون.

فقالت لو كان عندنا فى بيتى ما أعوزكم القرى ، فنظر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى شاة فى كسر خيمتها فقال ما هذه الشاة يا أم معبد؟ فقالت شاة خلفها الجهد عن الغنم. فقال : هل بها من لبن؟ فقالت هى أجهد من ذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أفتأذنين لى أن أحلبها؟ قالت : نعم بأبى أنت وأمى إن رأيت بها حلبا ، فدعى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالشاة فمسح ضرعها وذكر اسم الله تعالى وقال اللهم بارك لها فى شاتها فتفاجت ودرت واجترت فدعى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإناء ينهض الرهط فحلب فيها حتى علاه إليها ، ويروى الثمال فسقاها فشربت حتى رويت (ق ٢٠) وسقى أصحابه حتى رووا وشرب آخرهم ، وقال ساقى القوم آخرهم شربا ، فشربوا جميعا عللا بعد نهل حتى رضوا ثم حلب فيه ثانيا عودا على بدء ثم عاده عندها ثم ارتحلوا عنها بعد أن بايعها.

فقل ما لبث ان جاء زوجها أبو معبد (٣) اكتم بن أبى الجون يسوق أعنزا عجافا تساوكن هؤلاء ويروى تساؤك هزلا ، فلما رأى أبو معبد اللبن وقال من أين لك هذا أم

__________________

(١) هى أم معبد الأنصارية ، روت عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان يدعو : «اللهم طهر قلبى من النفاق ، وعملى من الرياء وعينى من الخيانة فإنك تعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور». ثقة.

(٢) اسم موضع قرب مكة ، قال ابن الكلبى : لما رجع تبع من المدينة بعد حربه لأهلها نزل قديدا فهبت ريح قدت خيم أصحابه فسمى قديدا.

انظر معجم البلدان : ٤ / ٣١٣ ـ ٣١٤.

(٣) الثابت هو نافذ أبو معبد مولى ابن عباس ، حجازى ، روى عن مولاه. ثقة.

مات بالمدينة سنة ١٠٤ ه‍.

انظر تهذيب التهذيب.

٣٦

معبد والشاة عازب حيال ولا حلوب فى البيت قالت : لا والله إلا أنه مر بنا رجل مبارك كان من حديثه كيت وكيت قال صفيه لى يا أم معبد قالت : رأيت رجلا ظاهر الوضاه أبلج الوجه أو منبلج الوجه لم تعبه ثجلة ولم تزره صقلة أو صعلة ويروى لم تعبه ثجلة ، رحيما قسيما فى عينيه دعج فى أشفاره وطف أو غطف وفى صوته صحل وفى عنقه سطع ، وفى لحيته كثافة أزج أقرن إذا صمت فعليه الوقار وإن تكلم سما وعلاه البهاء أجمل الناس وأبهاه من بعيد وأحسنه (ق ٢١) وأجمله من قريب حلو المنطق والمنظر فصل لا نزر ولا وهزر.

كأن منطقه خرزات نظم يتحدرن ربعة لا يأمن من طول ولا تقتحمه عين من قصر غصن بين غصنين فهو انضر الثلاثة منظرا وأحسنهم قدرا له رفقاء يحفون به إن قال أنصتوا لقوله ، وإن أمر تبادروا إلى أمره محفود محشود لا عابس ولا مفند.

قال أبو معبد : هذا والله صاحب قريش الذى ذكر لنا من أمره ما ذكر بمكة لقد هممت أن أصحبه ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلا.

وأصبح صوت بمكة عاليا بين السماء والأرض يسمعونه ولا يرون قائله ينشد بيتا من الشعر (١) :

جزى الله رب الناس خير جزانه

رفيقين حلا خيمتى أم معبد

قال : فأصبح الناس قد فقدوا نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخذوا على خيمتى أم معبد حتى لحقوا بالنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ابن اسحاق : (٢) بلغنى أنه لما خرج قال أهل السير ولقى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) ورد هذا البيت فى الكامل فى التاريخ ، وتكملة الأبيات

مما نزل بالهدى واغتديا به

فأفلح من أمسى رفيق محمد

ليهنى بنى كعب مكان فتى بهم

ومقعدها للمؤمنين بمرصد

(٢) هو محمد بن إسحاق بن يسار صاحب المغازى القرشى المطلبى مولاهم أحد الأئمة ، روى عن أبيه وابان ابن عثمان وابان بن صالح وجعفر الصادق ، والزهرى وعطاء ونافع ومحول وخلق ، وعنه شعبة ويحيى الأنصارى وشريك والحمادان والسفيانان وزياد البطائى وآخرون ، ثقة حسن الحديث.

مات سنة ١٥٠ ه‍ ، وقيل سنة ١٥١ ه‍.

٣٧

الزبير (١) فى ركب من المسلمين كانوا تجارا قافلين من الشام فكسا الزبير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (ق ٢٢) وأبا بكر ثيابا بيضا و.

سمع المسلمون بالمدينة بمخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مكة فكانوا يغدون كل غداة إلى ثنية الوداع ينتظرون قدوم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فحين قدم قال قائلهم شعرا :

طلع البدر علينا

من ثنيات الوداع

وجب الشكر علينا

ما دعا لله داع

أنت يا مرسل حقا

جئت من أمر مطاع

جئتنا تمشى رويدا

نحونا يا خير ساع

وأضيفت الثنية إلى الوداع لأنها موضع التوديع هو اسم قديم جاهلى وهذه الثنية خارج المدينة.

وأقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الى المدينة وكان مردفا لأبى بكر رضى الله عنه ، وأبو بكر شيخ يعرف والنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم شاب لا يعرف فيلقى الرجل أبا بكر فيقول الرجل يا أبا بكر من هذا الرجل الذى بين يديك فيقول هذا الرجل الذى يهدينى السبيل فيحسب الحاسب أنه يعنى الطريق ، وإنما يعنى سبيل (ق ٢٣) الخير.

وقدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة بظهر الحرة فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم فى آل عمرو بن عوف (٢) فقام أبو بكر للناس وجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صامتا وطفق من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحيى أبا بكر حتى أصابت الشمس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأقبل

__________________

(١) هو الزبير بن العوام بن خويلد الأسدى القرشى أبو عبد الله الصحابى الشجاع ، أحد العشرة المبشرين بالجنة وأول من سل سيفه فى الإسلام وهو ابن عمة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسلم وله ١٢ عاما ، وشهد بدرا وأحدا وغيرهما ، وكان على بعض الكراديس فى اليرموك وشهد الجابية مع عمر بن الخطاب ، قتله ابن جرموز غيلة يوم الجمل سنة ٣٦ ه‍.

(٢) هو عمرو بن عوف بن زيد بن ملحة بن عمرو بن بكر أبو عبد الله المزنى ، كان قديم الإسلام ، روى عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، استعمله النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثقة.

٣٨

أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه فعرف الناس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند ذلك ، ونزل صلى‌الله‌عليه‌وسلم على كلثوم بن الهدم ، وفى هذه الحرة قطعة تسمى أحجار الزيت سميت به لسواد أحجارها كأنها طليت بالزيت وهو موضع كان يستقر فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبعضهم يقول أحجار البيت وأحجار الليث وذلك خطأ.

قال البراء بن عازب (١) : أول من قدم علينا المدينة مصعب بن عمير وابن أم مكتوم وكانا يقرئان الناس ثم قدم عمار بن ياسر وبلال ثم عمر بن الخطاب رضى الله عنهم (ق ٢٤) فى عشرين من أصحاب النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم قدم النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشىء فرحهم برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى جفل إلا ما يقلن قدم رسول الله المدينة ووعك أبو بكر رضى الله عنه وبلال قالت : فدخلت عليهما فقلت يا أبت كيف تجدك ... (٢)

قالت فكان أبو بكر اذا أخذته الحمى يقول كل امرئ مصبح فى أهله والموت أدنى من شراك نعله ، وذكر أبو عبيد الله المرزبانى (٣) ان هذا البيت لحكم بن الحارث بن

__________________

(١) هو البراء بن عازب بن الحارث الخزرجى ، قائد صحابى من أصحاب الفتوح ، أسلم صغيرا وغزا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خمس عشرة غزوة أولها غزوة الخندق ، ولما ولى عثمان الخلافة جعله أميرا على الرى بفارس سنة ٢٤ ه‍.

مات سنة (٧١ ه‍ / ٦٩٠ م).

* بياض فى المخطوطة.

(٢) هو محمد بن عمران بن موسى المرزبانى أبو عبيد الله ، اخبارى مؤرخ أديب ، أصله من خراسان ، ومولده (٢٩٧ ه‍ / ٩١٠ م) ووفاته ببغداد (٣٨٤ ه‍ / ٩٩٤ م) كان مذهبه الاعتزال ، له كتب عجيبة أتى على وصفها ابن النديم منها «المفيد» فى الشعر والشعراء ومذاهبهم نحو خمسة آلاف ورقة و «شعر حاتم الطائى» و «المواشح» و «أخبار البرامكة» نحو خمسمائة ورقة و «أخبار المعتزلة» كبير و «المستنير» فى أخبار الشعراء المحدثين و «الرياض» فى أخبار العشاق و «الرائق» فى الغناء والمغنين و «أخبار بنى مسلم الخراسانى» و «أخبار شعبة بن الحجاج» و «أخبار ملوك كندة» و «أخبار أبى تمام» و «المرائى» و «تلقيح العقول» و «الشعر» و «أشعار الخلفاء» و «ديوان يزيد ابن معاوية الأموى» و «أشعار النساء».

مات سنة (٣٨٤ ه‍ / ٩٩٤ م).

٣٩

غصيك النهشلى وكان جاهليا قتل يوم الوفيط وهو يوم كان لبنى قيس بن ثعلبة على بنى تميم وكان حكيم ينشده فى ذلك اليوم وهو يقاتل ، وكان بلال إذا أقلع عنه الحمى يرفع عقيرته فيقول شعرا :

ألا ليت شعرى هل أبيتن ليلة (١)

بواد وحولى إذ خرو جليل

وهل أردن يوما مياه مجنة

وهل يبدونّ لى شامة وطفيل

قالت عائشة رضى الله عنها فجئت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبرته فقال : «اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد (ق ٢٥) وصحها وبارك لنا فى صاعها ومدها وانقل حماها واجعلها بالجحفة» (٢).

قال أهل السير : وأقام على بن أبى طالب رضى الله عنه بمكة ثلاث ليال وأيامها حتى أدى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الودائع التى كانت عنده للناس حتى إذا فرغ منها لحق برسول الله فنزل معه على كلثوم بن الهدم ولم يبق بمكة من المهاجرين إلا من حبسه أهله أو فتنوه.

عن زيد بن أسلم عن أبيه فى قوله عزوجل (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ)(٣) قال : جعل الله تعالى مدخل صدق المدينة ومخرج صدق مكة وسلطانا نصيرا الأنصار.

وقيل أدخلنى غار ثور مدخل صدق وأخرجنى يعنى منه إلى المدينة مخرج صدق ، وقيل غير ذلك ، والله أعلم.

__________________

(١) ورد البيتان فى القرى لقاصد أمر القرى ٦٦٧.

(٢) ورد فى صحيح البخارى باب فضائل المدينة ١٢ ، ومناقب الأنصار ٤٦ ، ومرضى ٨ و ٢٢ ، ودعوات ٤٣ ، وسنن ابن ماجه باب حج ٤٨٠ ، والموطأ باب المدينة ١٤ ، والمسند ٥ / ٣٠٩ ، ٦ / ٥٦ ، ٦٥ ، ٢٢ ، ٢٦٠.

(٣) ٨٠ م الإسراء ١٧.

٤٠