تاريخ المدينة

قطب الدين الحنفي

تاريخ المدينة

المؤلف:

قطب الدين الحنفي


المحقق: الدكتور محمّد زينهم محمّد عزب
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٤٦

وأقبلت الفتن كقطع الليل المظلم وإنى والله ما تمسكون على بشىء إنى لم أحل إلا ما أحل القرآن ولم أحرم إلا ما حرم القرآن» فلما فرغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من كلامه قال له أبو بكر رضى الله تعالى عنه يا نبى الله أراك قد أصبحت بنعمة منه وفضل كما تحب واليوم يوم ابنة خارجة أفآتيها؟ قال : نعم. ثم دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وخرج أبو بكر رضى الله عنه إلى أهله بالسيح وخرج على رضى الله تعالى عنه من عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال المسلمون : يا أبا الحسن ، كيف أصبح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (ق ١٩٦) قال أصبح بحمد الله تعالى باريا. قال : فأخذ العباس بيده ثم قال يا على أنت والله عبد العصى بعد ثلاث أحلف بالله لقد عرفت الموت فى وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما كنت أعرفه فى وجوه بنى عبد المطلب فانطلق بنا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن كان هذا الأمر فينا عرفناه وإن كان فى غيرنا امرناه فأوصى بنا الناس فقال والله لا أفعل والله لئن منعناه لا يؤتيناه أحد بعده ، فتوفى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين اشتد الضحى من ذلك اليوم ، قيل إن الصلاة التى صلاها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو جالس عن يمين أبى بكر رضى الله تعالى عنه صلاة الظهر قاله ابن وضاح (١) وأبو عبد الله بن عتاب.

وذكر ابن الجوزى أن جبريل عليه‌السلام أتى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل موته بثلاثة أيام فقال يا أحمد إن الله تعالى أرسلنى إليك يسألك عما هو اعلم به منك ، يقول : كيف تجدك فقال : أجدنى (ق ١٩٧) يا جبريل مغموما وأجدنى يا جبريل مكروبا وأتاه فى اليوم الثانى فأعاد السؤال فثنى الجواب. ثم اليوم الثالث مثل ذلك وهو يجيب كذلك فإذا ملك الموت يستأذن فقال : يا أحمد هذا ملك الموت يستأذن عليك ولم يستأذن على آدمى قبلك ولا يستأذن على آدمى بعدك فقال ائذن له فدخل فوقف بين يديه فقال إن الله تعالى أرسلنى إليك وأمرنى أن أطيعك فإن امرتنى أن اقبض نفسك قبضتها وإن أمرتنى أن أتركها تركتها.

__________________

(١) هو محمد بن وضاح بن بزيع مولى الأندلس عبد الرحمن بن معاوية الأموى هو الحافظ الكبير أبو عبد الله القرطبى ولد سنة ٢٠٠ ه‍ كان عالما بالحديث بصيرا بطرقه وعلله ورعا زاهدا متعففا صبورا على نشر العلم وله خطأ كثير وغلط وتصحيف ولا علم له بالفقه ولا بالعربية ، مات سنة ٢٨٩ ه‍.

١٦١

فقال جبريل : يا أحمد إن الله تعالى قد اشتاق إليك قال امض إلى ما أمرت به يا ملك الموت.

فقال جبريل : السلام عليك يا رسول الله هذا آخر موطئى الأرض إنما كنت حاجتى فى الدنيا.

فتوفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم مستندا إلى ظهر عائشة فى كساء ملبد وإزار غليظ وتوفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أثر السم لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى وجعه الذى مات فيه «ما زالت (ق ١٩٨) أكلة خيبر تعاودنى فالآن أوان قطعت أبهرى».

قال ابن إسحاق : إن كان المسلمون ليرون أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مات شهيدا مع ما أكرمه الله تعالى به من النبوة.

توفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الاثنين حين اشتد الضحى لاثنتى عشرة ليلة خلت من ربيع الأول وقيل لليلتين خلتا منه ودفن ليلة الأربعاء وقيل ليلة الثلاثاء ، وكانت وفاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم لتسع مائة وخمسة وثلاثين سنة من سنى ذى القرنين حكاه المسعودى فى مروج الذهب.

وقد بلغ من العمر ثلاثا وستين سنة وقيل ستين والأول أصح روى الثلاثة مسلم وهى صحيحة فقول من قال ثلاثا وستين فهو على أصله ، ومن قال ستين فهو لأنهم كانوا فى الزمان لا يذكرون الكسر ، ومن قال خمسا وستين حسب السنة التى ولد فيها والتى توفى فيها صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال الحاكم (١) اختلفت الرواية فى سن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (ق ١٩٩) ولم يختلفوا أنه ولد عام الفيل وأنه بعث وهو ابن أربعين سنة ، وأنه أقام بالمدينة عشرا وإنما اختلفوا فى مقامه بمكة بعد البعث فقيل عشرا وقيل ثلاث عشرة وقيل خمس عشرة.

__________________

(١) هو الحاكم الحافظ الكبير امام المحدثين أبو عبد الله محمد بن عبد الله محمد بن حمدويه بن نعيم الضبى الطهمانى النيسابورى يعرف بابن البيع صاحب المستدرك والتاريخ وعلوم الحديث والمدخل والاكليل ومناقب الشافعى. ولد سنة ٣٤١ ومات سنة ٤٠٥ ه‍ حدث عنه الدارقطنى وابن ابى الفوارس والبيهقى والخليلى ، وتفقه بأبى سهل الصعلوكى وابن أبى هريرة ثقة.

١٦٢

وسجى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببردة وحبرة ، وقيل إن الملائكة سجته.

وكذب بعض أصحابه بموته دهشة منهم عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه ، وأخرس بعضهم فما تكلم إلا بعد الغد منهم عثمان بن عفان رضى الله تعالى عنه.

واقعد آخرون منهم على بن أبى طالب رضى الله تعالى عنه.

قال عفيف المرجانى : والحكمة فى ذلك أنه لما كان عمر رضى الله تعالى عنه أبلغ الناس نظرا وأعلاهم فراسة صحيح تحيل الفكر عظيم قياسه أدهش حتى لم يتخيل موت المختار صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ولما كان عثمان رضى الله عنه اتقان الفصاحة وله فى القول على من سواه رجاحة أخرس بانطلاق حجب الأستار ، ولما كان على رضى الله تعالى عنه سيف (ق ٢٠٠) الله تعالى القاطع وعليه أسلم القوة واقع أقعد عن هذه الخطوات الأقدار ولم يكن أثبت من العباس وأبو بكر رضى الله تعالى عنهما.

وبقى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى بيته يوم الاثنين وليلة الثلاثاء.

فلما كان يوم الثلاثاء أقبل الناس على جهاز رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسمعوا من باب الحجرة حين ذكروا غسله لا تغسلوا فإنه طاهر مطهر ثم سمعوا بعد غسلوه ، فإن ذلك إبليس وأنا الخضر.

وقال إن فى الله تعالى عزاء من كل مصيبة وخلفا من كل هالك ودركا من كل فائت فبالله فثقوا وإياه فارجوا فإن المصاب من حرم الثواب ثم كلمهم مكلم من ناحية البيت غسلوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعليه ثيابه ، وكانوا قد اختلفوا فى ذلك فغسلوا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى قميصه وكانوا لا يرون أن يقلبوا منه عضوا إلا انقلب بنفسه ، وإن معهم لحفيفا كالريح يصوت بهم أرفقوا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنكم ستكفونه.

وتولى غسله على والعباس والفضل وقثم ابنا العباس (ق ٢٠١) يقلبونه معه وأسامة ابن زيد وشقران موليا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصبان الماء وأوس بن خولى الانصارى ممن حضر غسله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

١٦٣

ويروى عن على رضى الله تعالى عنه قال أوصانى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يغسله غيرى فإنه لا يرى أحد عورتى إلا طمست عيناه وسطعت منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وديح لم يجدوا مثلها قط.

وكفن صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى ثلاثة أثواب بيض سحولية من كرسف ليس فيها قميص ولا عمامة كان فى حنوطه صلى‌الله‌عليه‌وسلم المسك ثم وضع على سريره فى بيته ودخل الناس يصلون عليه أرسالا افذاذ الرجال ثم النساء ثم الصبيان ولم يؤمهم أحد بوصية منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال فيها : أول من يصلى على خليلى وحبيبى جبريل ثم ميكائيل ثم اسرافيل ثم ملك الموت مع ملائكة كثيرة.

وقيل فعل ذلك صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليكون كل منهم فى صلاة ، وقيل ليطول وقت الصلاة فيلحق من يأتى من حول المدينة.

واختلفوا فى مكان دفنه فقائل يقول بالبقيع وقال (ق ٢٠٢) قائل عند منبره وقال قائل فى مصلاه فجاء أبو بكر رضى الله تعالى عنه فقال إن عندى من هذا خبرا وعلما.

سمعت النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «ما قبض نبى إلا دفن حيث توفى» فحول فراشه وحفر له موضعه وكان بالمدينة عبيدة بن الجراح يفرج كحفر أهل مكة ، وكان أبو طلحة يلحد لأهل المدينة ، فبعث العباس خلفهما رجلين وقال : اللهم خر لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجاء أبو طلحة فلحد لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودفن صلى‌الله‌عليه‌وسلم من وسط الليل ليلة الأربعاء ونزل قبره صلى‌الله‌عليه‌وسلم على والعباس رضى الله تعالى عنهما وقثم والفضل ابنا العباس وشقران مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأوس بن خولى وبسط شقران تحته فى القبر قطيفة حمراء كان يفرشها صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل كان يغطى بها وقيل إن عبد الرحمن بن الأسود نزل معهم وكذلك عبد الرحمن بن عوف وأطبق أسامة على قبره صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسلم سبع لبنات نصبن نصبا.

ولما دفن صلى‌الله‌عليه‌وسلم (ق ٢٠٣) جاءت فاطمة رضى الله تعالى عنها فوقفت على قبره وأخذت قبضة من تراب الأرض فوضعته على عينها وبكت وأنشأت تقول :

ماذا على من شم تربة أحمد

أن لا يشم مدى الزمان عواليا

صبت على مصائب لو أنها

صبت على الأيام عدن لياليا

١٦٤

وتوفيت بعده صلى‌الله‌عليه‌وسلم بستة أشهر وقيل ثمانية أشهر وقيل ثلاثة أشهر وقيل سبعون يوما وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبرها أنها أول أهله لحوقا به فكان كذلك ، وقبض صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن مائة ألف وأربعة وعشرين الفا من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم ، قاله أبو موسى ، وقال أيضا شهد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حجة الوداع أربعون الفا من الصحابة ، روى عنه وسمع منه ، وشهد معه تبوك سبعون الفا.

وفاة أبى بكر الصديق

رضى الله تعالى عنه

ذكر محمد بن جرير الطبرى (١) أن اليهود سمت أبا بكر فى أزرة وقيل أكل هو والحارث بن كلدة حريرة أهديت (ق ٢٠٤) لأبى بكر رضى الله تعالى عنه. فقال الحارث ارفع يدك إن فيها السم سنة وأنا وأنت نموت فى يوم واحد فماتا فى يوم واحد عند انقضاء سنة ، وقيل توفى من لدغة الحريش ليلة الغار ، وقيل كان به طرف من السل قاله الزبير بن بكار ومرض خمسة عشر يوما وكان فى داره التى قطع له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجاءه دار عثمان رضى الله عنه وتوفى رضى الله تعالى عنه بين المغرب والعشاء من ليلة الثلاثاء لثمان ليال بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاثة عشرة من الهجرة.

وقال ابن اسحاق : توفى يوم الجمعة لسبع ليال بقين من جمادى الآخرة ، وقيل فى

__________________

(١) هو محمد بن جرير بن يزيد بن كثير الإمام العالم الحافظ أبو جعفر الطبرى أحد الأعلام وصاحب التصانيف الطواف. قال الخطيب : كان احد الأئمة ، يحكم بقوله ، ويرجع إلى رأيه لمعرفته وفضله ، جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره ، فكان حافظا لكتاب الله بصيرا بالمعانى ، فقيها فى أحكام القرآن الكريم ، عالما بالسنين وطرقها ، صحيحها وسقيمها ، ناسخها ومنسوخها ، عارفا بأقوال الصحابة والتابعين بصيرا بأيام الناس واخبارهم له «تاريخ الإسلام» و «التفسير» الذى لم يصنف مثله قال أبو حامد الاسفرايينى : لو رحل رجل إلى الصين فى تحصيله لم يكن كثيرا و «تهذيب الآثار» لم ار فى معناه مثله وله فى الأصول والفروع كتب كثرة ولد سنة ٢٢٤ ه‍ ومات ٣١٠ ه‍.

قال ابن خزيمة : ما اعلم على أديم الأرض اعلم منه وقال الفرغانى : بث مذهب الشافعى ببغداد ثم اتسع علمه وأداه اجتهاده إلى ما اختار فى كتبه ، وعرض عليه القضاء فأبى.

١٦٥

جمادى الأولى حكاه الحاكم ، وقيل يوم الاثنين لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة.

كانت خلافته سنتين وثلاثة أشهر إلا خمس ليال ، وقيل عشر ليال وقيل ثمانية أيام وقيل سبعة عشر يوما استوفى بخلافته سن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ولما ولى الخلافة استعمل عمر بن الخطاب رضى الله عنه على الحج ثم حج من قابل (ق ٢٠٥) أعنى فى رجب سنة اثنتى عشرة.

وتوفى أبو بكر قبل أبى قحافة فورث أبو قحافة منه السدس ورده على ولد أبى بكر رضى الله تعالى عنه. ومات أبو قحافة فى المحرم سنة أربع عشرة من الهجرة ، وهو ابن سبع وتسعين.

وغسلت أبا بكر رضى الله تعالى عنه زوجته أسماء بوصية منه وابنه عبد الرحمن يصب عليها الماء وحمل على السرير الذى حمل عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصلى عليه عمر رضى الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بوصية منه والصق لحده بلحد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودخل قبره عمر وعثمان وطلحة وعبد الرحمن بن أبى بكر رضى الله تعالى عنهم.

ذكر وفاة عمر

رضى الله تعالى عنه

يروى أنه خرج يطوف بالسوق بعد حجته فلقيه أبو لؤلؤة فيروز الفارسى غلام المغيرة ابن شعبة وكان نصرانيا وقيل مجوسيا أعدا على المغيرة بن شعبة فإن على خراجا كثيرا قال فكم خراجك ، قال درهمان فى كل يوم؟ قال (ق ٢٠٦) فايش صناعتك. قال نقاش مجال حداد وقال فما أرى خراجك كثيرا على ما تصنع من الأعمال ثم قال له وبلغنى أنك قلت لو أردت أن أعمل رحى تطحن الريح لفعلت. قال : نعم فاعمل لى.

قال لئن سلمت لأعملن لك رحى تتحدث بها من بين المشرق والمغرب ثم انصرف.

فقال عمر لقد توعدنى العلج آنفا ثم أتى عمر منزله فجاءه كعب الأحبار فقال :يا أمير المؤمنين اعهد فإنك ميت بعد ثلاثة أيام. فقال : وما يدريك.

فقال : أجد فى كتاب الله تعالى التوراة فقال عمر : إنك لتجد عمر بن الخطاب فى

١٦٦

التوراة قال اللهم لا ولكن أجد صفتك وحليتك وأنه قد فنى أجلك.

فلما كان من الغد جاءه كعب فقال : ذهب يومان وبقى يوم وليلة وهى لك إلى صبيحتها فلما كان الصبح خرج عمر إلى الصلاة ودخل أبو لؤلؤة فى الناس فى يده خنجر له رأسان نصابه فى وسطه ، فضرب عمر ست ضربات إحداهن تحت سرته وهى التى قتلته وسقط (ق ٢٠٧) عمر وظهر العلج لا يمر على أحد يمينا وشمالا إلا طعنه حتى طعن ثلاثة عشر رجلا مات منهم سبعة وقيل ستة فطرح عليه رجل من المسلمين برنسا واحتضنه من خلفه فنحر العلج نفسه وأخذ عمر بيد عبد الرحمن بن عوف رضى الله تعالى عنه فقدمه فصلى بالناس بقل هو الله أحد (١) وقل يا أيها الكافرون وحمل عمر رضى الله تعالى عنه إلى منزله ودخل عليه المهاجرون والأنصار يسلمون عليه ودخل فى الناس كعب فلما نظر إليه عمر أنشأ يقول :

واوعدنى كعب ثلاثا أعدها

ولا شك أن القول ما قاله كعب

وما بى حذار الموت إنى لميت

ولكن حذار الذنب يتبعه الذنب

طعن يوم السبت غرة المحرم سنة أربع وعشرين بعد حجته تلك السنة وقيل طعن يوم الاثنين لأربع ليال بقين من ذى الحجة سنة ثلاث وعشرين وقيل لثلاث ليال من ذى الحجة وبقى ثلاثة أيام بعد الطعنة ثم توفى واستأذن عائشة رضى الله تعالى عنها أن يدفن مع صاحبيه فأذنت له وقالوا (ق ٢٠٨) له أوص واستخلف فقال : ما أجد أحدا أولى ولا أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر الذين توفى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو عنهم راض فسمى عثمان وعليا والزبير وطلحة وسعد وعبد الرحمن بن عوف فهم الشورى.

وتوفى يومئذ وسنه ثلاث وستون سنة وقيل ستون وقيل إحدى وستون وقيل ست وستون وقيل خمس وستون ، ونزل قبره عثمان وعلى وعبد الرحمن بن عوف والزبير وسعد بن أبى وقاص وقيل صهيب وابنه عبد الله بن عمر عوضا من الزبير وسعد.

__________________

(١) سورة الإخلاص.

١٦٧

تولى الخلافة سنة ثلاثة عشرة من الهجرة لثمان بقين من جمادى الآخرة وقيل بويع له فى رجب وقيل فى ذى الحجة من السنة المذكورة فكانت مدة خلافته عشر سنين وستة أشهر وأربعة أيام.

دفن عمر رضى الله تعالى عنه

قالت عاتكة ابنة زيد بن عمرو بن نفيل امرأة عمر بن الخطاب ترثاه :

وفجعى فيروز لا درده

بأبيض تال للكتاب منيب

رؤوف على الأدنى غليظ على القوى

أخا ثقة فى النائبات نجيب

(ق ٢٠٩)

متى ما يقل لا يكذب القول فعله

سريع إلى الخيرات غير فطوب

وعاتكة امرأته تزوجها عبد الله بن أبى فقتل عنها ثم عمر فقتل عنها ثم الزبير فقتل عنها ثم توفيت سنة إحدى وأربعين.

ولما دفن رضى الله تعالى عنه لزمت عائشة ثيابها الدرع والخمار والإزار وقالت إنما كان أبى وزوجى فلما دخل معهما غيرهما لزمت ثيابى وابتنت حائطا بينها وبين القبور وبقيت فى بقية البيت من جهة الشام.

ويروى عنها رضى الله تعالى عنها أنها رأت فى المنام أنه سقط فى حجرتها ثلاثة أقمار فذكرت ذلك لأبى بكر رضى الله تعالى عنه فقال : خيرا قال : يحيى فسمعت بعد ذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما دفن فى بيتها قال أبو بكر رضى الله تعالى عنه هذا أحد أقمارك يا بنيه وهو خير.

قاله عفيف الدين المرجانى.

١٦٨

فضائل عمر رضى الله تعالى عنه

عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما قال : رأيت عمر رضى الله تعالى عنه فى المنام فقلت له يا أمير المؤمنين (ق ٢١٠) من أين أقبلت؟ قال من حضرة ربى عزوجل فسألته ماذا فعل الله تعالى بك.

فقال أوقفنى بين يديه فسألنى ثم قال : يا عمر تناديك امرأة على شاطئ الفرات قد هلك من شياهها شاة وتقول واعمراه واعمراه تستغيث بك فلا تجيبها.

فقلت وعزتك وجلالك ما علمت ذلك وأنت أعلم منى.

فقال لى وقد كان يجب عليك ، وإنى أرعد من تلك المسألة إلى هذا الوقت.

قال ابن عباس رضى الله تعالى عنهما : ثم ماذا؟ قال : رددت إلى مضجعى فهبط على منكر ونكير فقالا لى من ربك؟ ومن نبيك؟ فقلت لهما أما تستحيان منى ولمثلى تقولان هذا وجذبتهما إلى وقلت الله ربى وضجيعى نبيى.

وأنتما من ربكما فقال : منكر لنكير والله يا أخى ما ندرى نحن المبعثون إلى عمر أم عمر المبعوث إلينا فرفع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأسه من لحده. فقال لهما هو عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه هو أعرف بربه منكما.

ما جاء أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبا بكر وعمر رضى الله تعالى عنهما

وعيسى عليه‌السلام خلقوا (ق ٢١١) من طينة واحدة

وأن كل مخلوق يدفن فى تربته التى خلق منها

عن أنيس بن أبى يحيى (١) قال : لقى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جنازة فى بعض سكك المدينة فسأل عنها فقالوا فلان الحبشى فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «شق من أرضه وسمائه إلى التربة التى خلق منها».

__________________

(١) هو أنيس بن أبى يحيى بن سمعان الأسلمى ، روى عن أبيه وإسحاق بن سالم ، وعن ابن أخيه إبراهيم ابن محمد بن أبى يحيى وإبراهيم بن سويد بن حيان ، وحاتم بن إسماعيل ، ويحيى القطان ، وصفوان ابن عيسى ، ومكى بن إبراهيم ، ثقة.

مات سنة ١٤٦ ه‍ وقيل سنة ١٤٤ ه‍.

١٦٩

قال الحافظ محب الدين بن النجار : فعلى هذا طينة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم التى خلق منها من المدينة وطينة أبى بكر وعمر رضى الله تعالى عنهما من طينة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهذه منزلة رفيعة وفى قوله تعالى (مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ)(١) إشارة إلى رد الإنسان إلى طينة المبدأ التى منها النشأة الأولى فالإنسان يدفن فى مكان أخذ تربته على حد الموازنة فلا يقال لأهل البقيع إنهم من تربة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنما لهم شركة فى الأرض المأخوذ منها دليله ما روى عن عبد الله بن مسعود رضى الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما من مولود (ق ٢١٢) وفى سرته من تربته التى يخلق منها فإذا أرد إلى أرذل عمره رد إلى تربته التى خلق منها حتى يدفن فيها وإنى وأبا بكر وعمر خلقنا من تربة واحدة وفيها ندفن». انتهى.

ومن دفن منه جزء بأرض ودفن جزء آخر بأرض أخرى يمكن أن يقال خلق من تربتين من أرضين ، وقيل لا يمكن وليست تربته إلا ما حازت عجب الذنب منه لأنها فيما يظهر أنها تربة حفرته بدليل بقائها ومنها ينبت من النشأة الثانية كذا ذكره عفيف الدين المرجانى.

قال أهل السير : وفى بيت عائشة رضى الله عنها موضع قبر فى السهوة الشريفة قال سعيد بن المسيب فيه يدفن عيسى ابن مريم عليه‌السلام.

وعن عبد الله بن سلام عن أبيه عن جده قال : يدفن عيسى ابن مريم عليه‌السلام مع النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصاحبيه رضى الله تعالى عنهما ويكون قبره الرابع فطينته من طينتهم.

وعن أبى هريرة رضى الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا أهبط الله تعالى (ق ٢١٣) المسيح عليه‌السلام فيعيش فى هذه الأمة ما يعيش فيموت؟؟؟. مدينتى هذه ويدفن إلى جانب قبر عمر رضى الله تعالى عنه فطوبى لأبى بكر وعمر رضى الله تعالى عنهما يحشران بين نبيين» فانظر إلى هذا الفضل العظيم.

__________________

(١) ٥٥ ك طه ٢٠.

١٧٠

عن هارون بن موسى القزوينى (١) قال : سمعت جدى أبا علقمة سئل كيف كان الناس يسلمون على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل أن يدخل البيت فى المسجد فقال : كان يقف الناس عند باب البيت يسلمون عليه وكان الباب ليس عليه غلق حتى هلكت عائشة رضى الله تعالى عنها.

وقيل كان الناس يأخذون من تراب قبر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأمرت عائشة رضى الله تعالى عنها بجدار فضرب عليهم.

ويروى أن امرأة قالت لعائشة رضى الله تعالى عنها اكشفى لى قبر رسول الله فكشفته لها فبكت حتى ماتت.

ما جاء فى وضع القبور المقدسة وصفة الحجرة الشريفة

وسبب الاختلاف فى ذلك شدة هيبة تخلق الناظر فتزيل منه كيفية (ق ٢١٤) التمييز كما قيل بعض من نزل الحجرة المقدسة لسبب يأتى فقال لا أرى ما رأيت.

روى عمر بن نسطاس قال : رأيت قبر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما هدم عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه البيت مرتفعا نحوا من أربع أصابع عليه حصباء إلى الحمرة ما هى ، ورأيت قبر أبى بكر رضى الله تعالى عنه وراء قبر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ورأيت قبر عمر رضى الله تعالى عنه أسفل منه وهذه صفته :

النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم

أبو بكر رضى الله تعالى عنه

عمر رضى الله تعالى عنه

وعن عائشة رضى الله تعالى عنها قالت : رأس النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما يلى المغرب ، ورأس أبى بكر عند رجل النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعمر خلف ظهر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهذه صفته :

__________________

(١) هو هارون بن موسى بن حيان التيمى أبو موسى القزوينى ، روى عن عبد الرحمن بن عبد الله الدشنكى والحسن بن يوسف بن أبى المفتاب ، وعبد العزيز بن المغيرة ، وأبى هارون البكاء ، وأبى ياسر عمار بن منصور ، وإبراهيم بن موسى الفراء ، ثقة ، مات سنة ٢٥٢ ه‍ ، وقيل سنة ٢٥٣ ه‍.

١٧١

النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم

عمر رضى الله تعالى عنه أبو بكر رضى الله تعالى عنه

(ق ٢١٥) وعن نافع بن أبى نعيم رضى الله عنه أن صفة قبر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقبر أبى بكر وعمر رضى الله تعالى عنهما : قبر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم امامهما إلى القبلة مقدما ثم قبر أبى بكر رضى تعالى عنه حذا منكبى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقبر عمر رضى الله تعالى عنه حذا منكبى أبى بكر رضى الله تعالى عنه وهذه صفته :

قبر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم

أبو بكر رضى الله تعالى عنه

عمر رضى الله تعالى عنه

وعن القاسم بن محمد بن أبى بكر الصديق رضى الله تعالى عنه قال : دخلت على عائشة رضى الله تعالى عنها فقلت : يا أمه؟ أرينى قبر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصاحبيه رضى (ق ٢١٦) الله تعالى عنهما فكشفت لى عن قبورهم فإذا هى لا مرتفعة ولا لاطئة مبطوحة ببطحاء حمراء من بطحاء العرصة وإذا قبر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمامهما ، رجلا أبى بكر رضى الله تعالى عنه عند رأس النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورأس عمر رضى الله تعالى عنه عند رجلى أبى بكر رضى الله تعالى عنه ، وهذه صفته :

النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم

أبو بكر رضى الله تعالى عنه عمر رضى الله تعالى عنه

وروى ابن المنكدر (١) بن محمد عن أبيه قال : قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقبر أبى بكر

__________________

(١) هو محمد بن المنكدر بن عبد الله بن الهدير التيمى ، روى عن أبيه وجابر ، وابن عمر ، وابن عباس ، وأبى أيوب وأبى هريرة وعائشة ، ثقة ، مات سنة ١٣٠ ه‍ ، وقيل سنة ١٣١ ه‍.

وعنه أبو حنيفة ومالك والزهرى وشعبة والسفيانان ، قال ابن عيينة : كان معه معادن الصدق ، ويجتمع إليه الصالحون.

١٧٢

خلفه وقبر عمر عند رجل النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهذه صفته فافهم ترشد والله سبحانه وتعالى الموفق للصواب :

النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم

أبو بكر رضى الله تعالى عنه عمر رضى الله تعالى عنه

وعن عبد الله بن محمد بن عقيل قال : خرجت فى ليلة مطيرة إلى المسجد حتى إذا كنت عند دار المغيرة بن شعبة لقيتنى رائحة والله ما وجدت مثلها قط فجئت المسجد فبدأت بقبر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإذا جداره قد انهدم فدخلت فسلمت على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومكثت فيه مليا ورأيت القبور فإذا قبر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقبر أبى بكر عند رجليه وقبر عمر عند رجلى أبى بكر رضى الله تعالى عنهما وهذه صفته :

قبر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم

أبو بكر رضى الله تعالى عنه عمر رضى الله تعالى عنه

(ق ٢١٨) وعلى هذه الصفة المذكورة روى عن عبد الله بن الزبير أيضا.

وقد اختلفت الرواية فى قبره صلى‌الله‌عليه‌وسلم هل هو مسنم أو مسطح فروى الوصفان جميعا والمسنم المرتفع وكذلك اختلفوا فى قبر ضجيعيه رضى الله تعالى عنهما.

قال الحافظ محب الدين : وسقط جدار حجرة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذى هو موضع الجنائز فى زمان عمر بن عبد العزيز رضى الله تعالى عنه فظهرت القبور فأمر عمر بن عبد العزيز رضى الله تعالى عنه بقباطى فخيطت ثم ستر الموضع وأمر ابن وردان أن يكشف عن الأساس فبينما هو يكشفه إذ رفع يده وتنحى ، فقام عمر بن عبد العزيز فزعا فرأى قدمين ورأى الأساس وعليهما السعد ، فقال له عبد الله بن عبيد الله بن عبد الله بن عمر رضى الله تعالى عنهما : أيها الأمير لا يروعك فهما قدما جدك عمر بن الخطاب رضى

١٧٣

الله تعالى عنه ضاق البيت عنه (ق ٢١٩) فحفر فى الأساس فقال له يا بن وردان غط ما رأيت ففعل.

وعن هشام بن عوف عن أبيه قال لما سقط الحائط فى زمن الوليد أخذوا فى بنيانه فبدت لهم قدم ففزعوا وظنوا أنها قدم النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى قال لهم عروة لا والله ما هى قدم النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما هى إلا قدم عمر رضى الله تعالى عنه.

وأمر عمر بن عبد العزيز أبا حفصة مولى عائشة رضى الله تعالى عنها وناسا معه فبنوا الجدار وجعلوا فيه كوة فلما فرغوا منه وربعوه دخل مزاحم مولى عمر رضى الله تعالى عنهما فقم ما سقط على القبر من التراب والطين ونزع القباطى.

قال الحافظ محب الدين : وبنى عمر بن عبد العزيز على حجرة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم حائطا ولم يوصله إلى السقف بل دونه بمقدار أربعة أذرع وأدار عليه شباكا من خشب.

قال الشيخ جمال الدين : وبعد احتراق (ق ٢٢٠) المسجد أعيد الشباك كما كان أولا وهو يظهر لمن تأمله من تحت الكسوة.

وأدخل عمر بن عبد العزيز بعض بيت فاطمة رضى الله تعالى عنها من جهة الشمال فى الحائط الذى بناه محرفا يتقى على ركن واحد كما سنبينه فصار لها ركن خامس لئلا تكون الحجرة الشريفة مربعة كالكعبة فيتصور جهال العامة أن الصلاة إليها كالصلاة إلى الكعبة وبقى بقية من البيت من جهة الشمال وفيه اليوم صندوق مربع من خشب فيه اسطوان وخلفه محراب.

قال الحافظ محب الدين : ولما ولى المتوكل الخلافة أمر إسحاق بن سلمة وكان على عمارة الحرمين من قبله بأن يازر الحجرة المقدسة بالرخام من حولها ففعل ولم يزل إلى سنة ثمان وأربعين وخمسمائة فى خلافة المقتفى فجدد ناريز جمال الدين الأصبهانى وجعل الرخام حولها قامة وبسطة وهو الذى عمل الشباك الدائر بالحجرة المقدسة (ق ٢٢١) الملاصق بالسقف وهو الذى احترق ، وكان من خشب الصدف والأبنوس مكتوبا باقطاع الخشب الاردايك سورة الإخلاص صنعة بديعة ولم يزل حتى عمل لها الحسين

١٧٤

ابن أبى الهيجاء صهر الملك الصالح ستارة وعليها الطرز والجامات المرموقة بالأبريم وادار عليها إزارا من الأبريم مكتوبا فيه سورة يس فعلقها نحو العامين ثم جاءت من الخليفة ستارة فنفذت تلك المقدمة إلى مشهد على بالكوفة وعلقت هذه عوضها.

فلما ولى الإمام الناصر لدين الله تعالى نفذت ستارة أخرى فعلقت فوق تلك المذكورة. فلما حجت أم الخليفة وعادت العراق نفذت ستارة فعلقت على الستارتين.

قال ابن النجار : ففى يومنا هذا عليها ثلاثة ستائر ثم قال رحمه‌الله تعالى واليوم فى رصف سقف المسجد الذى بين الحجرة والقبلة نيف وأربعون قنديلا كبارا (ق ٢٢٢) وصغارا من الفضة المنقوشة والساج وفيها اثنان بلون واحد ذهب وفيها قمر فضة مغموس فى الذهب نفذتها الملوك وأرباب الأموال.

قال المرجانى وهى إلى الآن باقية.

قال المطرى : ولم يكن على الحجرة الشريفة قبة بل كان ما حول حجرة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم حصيرا فى السطح مبنيا بالآجر مقدار نصف قامة يميز الحجرة عن السطح إلى سنة ثمان وسبعين وستمائة فى دولة السلطان الملك المنصور قلاوون عمل هذه القبة وهى أخشاب أقيمت وسمر عليها ألواح خشب ثم ألواح رصاص وعمل مكان الحصر شيئا آمن خشب وتحته بين السقفين أيضا شباك خشب بكيه وفى سقف الحجرة الشريفة بين السقفين ألواح خشب سمر بعضها إلى بعض وسمر عليها ثوب مشمع ، وهناك طابق مقفل إذا فتح كان النزول منه إلى ما بين حائط بيت النبى وبين الحايز الذى بناه عمر بن عبد العزيز (ق ١٢٣).

قال ولما حج السلطان الملك الظاهر فى سنة سبع وستين وستمائة اقتضى رأيه أن يدير على الحجرة الشريفة درابزينا. فقال ما حولها بيده وعمل الدرابزين الموجود اليوم وأرسله فى سنة ثمان وستين واداره عليها وفيه ثلاثة أبواب قبلى وشرقى وغربى ونصبه ما بين الأساطين التى تلى الحجرة الشريفة إلا من ناحية الشمال فإنه زاد فيه إلى متهجد النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وظن ذلك زيادة حرمة للحجرة المقدسة فحجر طائفة من الروضة مما يلى بيت النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلو

١٧٥

كان عكس ما حجره وجعله من الناحية الشرقية والصق الدرابزين بالحجرة مما يلى الروضة لكان أخف إذ الناحية الشرقية ليست بها الروضة ولا من المسجد القديم بل مما زيد فى أيام الوليد ثم قال : ولم يبلغنى أن أحدا انكر ذلك ولا ألقى إليه بالا وهذا من أهم ما ينظر فيه ، وكان بالدرابزين الذى عمله الملك الظاهر نحو القامتين. فلما كان فى تاريخ سنة أربع وتسعين وستمائة زاد عليه الملك العادل زين الدين كتبغا شباكا دائرا عليه ورفعه حتى أوصله السقف.

قال رحمه‌الله تعالى مما أحدث فى صحن المسجد الشريف قبة كثيرة عمرها الإمام الناصر لدين الله تعالى فى سنة سبعين وخمسمائة لحفظ حواصل الحرم وذخائره مثل المصحف العثمانى ولما احترق المسجد بقى ما فيها ببركة المصحف الكريم ولكونها فى وسط المسجد ، ومما أحدث أيضا فى الصحن من جهة القبلة رواقان أمر بإنشائهما السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون فى سنة تسع وعشرين وسبعمائة فاتسع ظل السقف القبلى بهما وعم نفعهما وهما المقوس أعلاهما وأزيلت المقصورة التى كانت تطل الحجرة الشريفة للاستغناء عنها بهما ، وكان فى إزالتها أمام الشريفة شرف الدين أبو الفتح محمد بن محمد بن أحمد الأسيوطى وذلك أنه كان يجتمع فيها أهل البدع ، وكانت لهم كالمتجهد فاجتهدوا فى ازالتها وهدمها ليلا وأدخلها (ق ٢٢٥) فى الحجرة الشريفة وذلك فى أواخر سنة ثمان وعشرين وسبعمائة وتوفى رحمه‌الله تعالى يوم الرابع والعشرين من صفر سنة خمس وأربعين وسبعمائة.

قال الحافظ محب الدين : واعلم أن فى سنة ثمان وأربعين وخمسمائة سمعوا صوت هذه الحجرة المقدسة وكان الأمير يومئذ قاسم بن مهنا الحسينى فأخبروه بالحال فقال ينبغى أن ينزل شخص لينظر ما هذه الهدة فلم يجدوا أمثل حالا من الشيخ عمر النسائى شيخ شيوخ الصوفية بالموصل فاعتذر لمرض كان به يحتاج إلى الوضوء فى غالب الأوقات فالزموه فامتنع من الأكل والشرب مدة.

١٧٦

وسأل النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم إمساك المرض عنه بقدر ما يبصر ويخرج ونزل بحبال من بين السقفين ومعه شمعة ودخل إلى الحجرة فرأى شيئا من السقف قد وقع على القبور المقدسة فأزاله وكنس التراب بلحيته وأمسك الله تعالى عنه الداء بقدر ما خرج وعاد إليه.

توفى الشيخ عمر بمكة بعد نزوله بتسع سنين (ق ٢٢٦) فى سنة ست وخمسين وخمسمائة.

وكذلك أيضا فى سنة أربع وخمسين وخمسمائة فى أيام قاسم المذكور وجد فى الحجرة رائحة منكرة فذكروه للأمير فزمرهم بالنزول ، فنزل الطواشى ببان الأسود أحد خدام الحجرة الشريفة ونزل معه الصفى الموصلى متولى عمارة المسجد وهارون السدوى الصوفى بعد أن بذل جملة من المال للأمير فى ذلك فوجدوا هرا قد هبط من الشباك الذى فى أعلى الحايز بين الحايز وبين بيت النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخرجوه وطيبوا مكانه وكان نزولهم يوم السبت الحادى عشر من ربيع الآخر.

***

١٧٧
١٧٨

الفصل

التاسع

فى حكم زيارة

النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفضلها ...

١٧٩
١٨٠