تاريخ المدينة

قطب الدين الحنفي

تاريخ المدينة

المؤلف:

قطب الدين الحنفي


المحقق: الدكتور محمّد زينهم محمّد عزب
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٤٦

ذكر منبر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وروضته الشريفين

عن ابن أبى حازم (١) أن نفرا جاءوا إلى سهل بن سعد وقد تماروا فى المنبر من أى عود هو فقال : أما والله إنى لأعرف من أى عود هو ومن عمله (ق ٩٧) ورأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أول يوم جلس عليه فقلت : تحدثنا ، فقال : أرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى امرأة انظرى غلامك النجار يعمل لى عودا أذكر الله عليها فعمل هذه الثلاثة الدرجات ثم أمر بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فوضعت هذ الموضع وهى من طرفا الغابة والطرفا شجر يشبه الأثل إلا أن الأثل أعظم منه.

وعن جابر بن عبد الله أن امرأة من الأنصار قالت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يا رسول الله ألا أجعل لك شيئا تقعد عليه فإن لى غلاما نجارا فقال إن شئت ، فعمل له المنبر.

وعن عبد الله بن عمر رضى الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما بدن قال تميم الدارى ألا أتخذ لك منبرا يا رسول الله يجمع أو يحمل عظامك قال : بلى قال : فاتخذ له منبرا مرقاتين.

وعن ابن أبى الزناد أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يخطب فى يوم الجمعة إلى جذع فى المسجد فقال إن القيام قد يشق على وشكى ضعفا فى رجليه فقال تميم الدارى (ق ٩٨) وكان من أهل فلسطين : يا رسول الله أنا أعمل لك منبرا كما رأيت يصنع بالشام.

فلما اجتمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذوو الرأى من أصحابه على اتخاذه قال العباس بن عبد المطلب إن لى غلاما يقال له فلان أعمل الناس فقال له النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فمره يعمل فأرسل إلى أثلة بالغابة فقطعها ثم عملها درجتين ومجلسا ثم جاء بالمنبر فوضعه فى موضعه اليوم ثم راح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الجمعة ، فلما جاوز الجذع يريد المنبر حن الجذع ثلاث مرات

__________________

(١) هو عبد العزيز بن أبى حازم سلمة بن دينار المخزومى مولاهم أبو تمام المدنى ، روى عن أبيه وسهيل بن أبى صالح ، وطائفة وعنه إسماعيل بن أبى أويس ، وقتيبة وعلى بن حجر ، وخلق.

مات بالمدينة سنة ١٨٤ ه‍.

١٠١

كأنه خوار بقرة حتى ارتاع الناس وقام بعضهم على رجليه وأقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى مسه بيده فسكن فما سمع له صوت بعد ذلك ثم رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المنبر فقام عليه.

وقد روى أن هذا الغلام الذى صنع المنبر اسمه مينا بياء ساكنة مثناه من أسفل بعدها نون ، وقال عمر بن عبد العزيز رضى الله تعالى عنه عمله صباح غلام العباس بن عبد المطلب.

قال الواقدى (١) وذلك فى السنة الثانية من الهجرة اتخذه درجتين (ق ٩٩) ومقعدة.

قال ابن أبى الزناد : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يجلس على المنبر ويضع رجليه على الدرجة الثانية ، فلما ولى أبو بكر رضى الله عنه قام على الدرجة الثانية ووضع رجليه على الدرجة السفلى ، فلما ولى عمر رضى الله عنه قام على الدرجة السفلى ووضع رجليه على الأرض إذا قعد ، فلما ولى عثمان رضى الله تعالى عنه فعل كما فعل عمر رضى الله تعالى عنه ست سنين ثم علا فجلس موضع النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكسا المنبر قبطية.

وذكر الشيخ محب الدين عن محمد بن الحسن بن زبالة قال : كان طول منبر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم الأول فى السماء ذراعان وشبر وثلاثة أصابع وعرضه ذراع راجح وطول صدره وهو مسند النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذراع وطول رمانتى المنبر الذى كان يمسكهما صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا جلس يخطب شبر وأصبعان وعرضه ذراع فى ذراع وتربيعه سواء وعدد درجاته ثلاث بالمقعد وفيه خمس أعواد من جوانب الثلاث.

قال الشيخ جمال الدين : هذا ما كان عليه فى حياة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (ق ١٠٠) وفى خلافة أبى بكر وعمر وعثمان رضى الله تعالى عنهم ، فلما حج معاوية رضى الله تعالى

__________________

(١) هو محمد بن عمر بن واقد الواقدى الأسلمى مولاهم المدنى ، قاضى بغداد ، روى عن الثورى والأوزاعى وابن جرير وخلق ، وعنه الشافعى ومحمد بن سعد كاتبه ، وأبو عبيد القاسم ، ثقة.

مات سنة ٢٠٧ ه‍ ، وقيل سنة ٢٠٩ ه‍.

١٠٢

عنه فى خلافته كساه قبطية ثم كتب إلى مروان وهو عامله على المدينة أن ارفع المنبر عن الأرض فدعا له النجارين ورفعوه عن الأرض وزادوا من أسفله ست درجات وصار المنبر تسع درجات بالمجلس.

قال ابن زبالة : لم يزد فيه أحد قبله ولا بعده.

قال الشيخ جمال الدين : هذا فى زمان محمد بن زبالة.

وروى أيضا عن ابن زبالة : أن طول منبر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما زيد فيه أربعة أذرع ، ومن أسفله عتبة.

وذكر ابن زبالة أيضا أن المهدى ابن المنصور لما حج سنة إحدى وستين ومائة قال للإمام مالك بن أنس ، رحمه‌الله تعالى : أريد أن أعيد منبر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم على حاله الأول.

فقال له مالك : إنما هو من طرفا وقد شد إلى هذه العيدان وسمر فمتى تركته خفت أن يتهافت فلا أرى تغييره ، فتركه المهدى على حاله.

قيل إن المهدى فرق فى هذه الحجة ثلاثين ألف ألف درهم ومائة ألف وخمسين ألف ثوب وحمل إليه الثلج من بغداد الى مكة وكسا (ق ١٠١) البيت الحرام ثلاث كساوى بيضاء وحمراء وسوداء توفى بما سندان بموضع يقال له الرد فى المحرم سنة تسع وستين ومائة.

قال الشيخ جمال الدين : وذكر لى يعقوب بن أبى بكر بن أوحد من أولاد المجاورين بالمدينة الشريفة ، وكان أبو بكر فراشا من قوام المسجد الشريف وهو الذى كان حريق المسجد على يديه واحترق هو أيضا فى حاصل الحرم أن هذا المنبر زاده معاوية ورفع منبر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فوقه قد تهافت على طول الزمان ، وأن بعض خلفاء بنى العباس جدده واتخذوا من بقايا أعواد منبر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم امشاطا للتبرك بها والمنبر الذى ذكره ابن النجار هو المذكور أولا فإنه قال فى تاريخه وطول المنبر اليوم ثلاثة أذرع وشبر وثلاثة أصابع والدكة التى هو عليه من رخام طولها شبر وعقد ومن رأسه الى عتبته خمسة أذرع وشبر وأربع أصابع ، وقد زيد فيه اليوم عتبتان وجعل عليه باب يفتح يوم الجمعة.

١٠٣

قال الشيخ جمال الدين : فدل ذلك على أن المنبر الذى احترق غير المنبر الأول الذى عمله معاوية ورفع منبر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فوقه.

قال الفقيه (ق ١٠٢) يعقوب بن أبى بكر : سمعت ذلك ممن أدركت بأن بعض الخلفاء جدد المنبر واتخذوا من بقايا أعواده أمشاطا وأن المنبر المحترق هو الذى جدده الخليفة المذكور وهو الذى أدركه الشيخ محب الدين قبل احتراق المسجد الشريف.

قال الحافظ محب الدين : كتب التاريخ فى سنة ثلاث وتسعين وتوفى سنة ثلاث وأربعين وستمائة ، وكان احتراق المسجد ليلة الجمعة أول رمضان سنة أربع وخمسين وستمائة كما سيأتى.

قال الشيخ جمال الدين : ثم إن الملك المظفر عمل منبرا وأرسله فى سنة ست وخمسين وستمائة ونصب فى موضع منبر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم رمانتان من الصندل ، ولم يزل إلى سنة ست وستين وستمائة عشر سنين يخطب عليه. ثم إن الملك الظاهر أرسل هذا المنبر الموجود اليوم فحمل منبر صاحب اليمن إلى حاصل الحرم وهو باق فيه ونصب هذا مكانه وطوله أربعة أذرع ومن رأسه إلى عتبته سبعة أذرع يزيد قليلا وعدد درجاته سبع بالمقعد والمنقول أن ما بين المنبر ومصلى النبى (ق ١٠٣) صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذى كان يصلى فيه إلى أن توفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أربعة عشر ذراعا.

وأما الروضة الشريفة فتقدم فى باب الفضائل قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما بين قبرى ومنبرى روضة من رياض الجنة» (١) وقد تقدم معنى الحديث.

وفى رواية «ما بين بيتى ومنبرى» (٢).

قال القاضى عياض (٣) قال الطبرى فيه معنيان :

__________________

(١) ورد فى المسند ٣ / ٦٤.

(٢) ورد فى المسند ٢ / ٢٣٦ و ٣٧٦ و ٣٩٧ و ٤٠١ و ٤١٢ و ٤٦٦ و ٥٢٨ و ٥٣٣ و ٥٣٤.

(٣) سبق التعريف به ص : ٤٣.

١٠٤

أحدهما : أن المراد بالبيت بيت سكناه على الظاهر مع أنه روى ما يبينه : ما بين حجرتى ومنبرى.

الثانى : أن البيت هاهنا القبر وهو قول زيد بن أسلم فى هذا الحديث كما روى :

ما بين قبرى ومنبرى.

قال الطبرى : إذا كان قبره فى بيته اتفقت معانى الروايات ، ولم يكن بينها خلاف لأن قبره صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى حجرته وهو بيته.

ذكر سد الأبواب الشوارع فى المسجد

عن أبى سعيد الخدرى رضى الله تعالى عنه قال : خطب النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال إن الله تعالى خير عبدا بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عند الله (ق ١٠٤) فبكى أبو بكر رضى الله تعالى عنه ، فقلت فى نفسى : ما يبكى هذا الشيخ أن يكون عبد خيره الله تعالى بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عند الله تعالى ، فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو العبد ، وكان أبو بكر رضى الله تعالى عنه أعلمنا فقال يا أبا بكر لا تبك إن أمنّ الناس فى صحبته وماله أبو بكر ولو كنت متخذا من أمتى خليلا لاتخذت أبا بكر ولكن أخوة الإسلام ومودته لا يبقين فى المسجد باب إلا سد إلا باب أبى بكر رضى الله تعالى عنه ، وكان باب أبى بكر رضى الله تعالى عنه فى غربى المسجد.

وروى ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر بالأبواب كلها فسدت إلا باب على رضى الله تعالى عنه.

ذكر تجمير المسجد الشريف وتخليقه

ذكر أهل السير أن عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه أتى بسفط من عود فقال :

أجمروا به المسجد لينتفع به المسلمون.

١٠٥

قال الحافظ محب الدين : فبقيت سنة فى الخلفاء إلى اليوم يؤتى فى كل عام بسفط من عود يجمر به المسجد ليلة الجمعة ، ويوم الجمعة عند منبر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من خلفه إذا كان الإمام يخطب ، قالوا : وأتى عمر (ق ١٠٥) رضى الله عنه بمجمرة من فضة فيها تماثيل من الشام وكان يجمر بها المسجد ثم توضع بين يديه ، فلما قدم إبراهيم بن يحيى واليا على المدينة غيرها وجعلها سادجا.

قال الحافظ محب الدين : وهى فى يومنا هذا منقوشة ، قال عفيف الدين المرجانى :

وكذلك هى مستمرة إلى يومنا هذا.

وأما تخليقه فروى أن عثمان بن مظعون رضى الله تعالى عنه تفل فى المسجد فأصبح كئيبا فقالت له امرأته : ما لى أراك كئيبا ، فقال : ما شىء إلا أنى تفلت فى القبلة وأنا أصلى فعمدت فغسلتها ثم خلقتها فكان أول من خلق القبلة.

وعن جابر بن عبد الله أول من خلق القبلة عثمان بن عفان رضى الله تعالى عنه ، ثم لما حجت الخيزران (١) أم موسى وهارون الرشيد فى سنة سبعين ومائة أمرت بالمسجد الشريف أن يخلق فتولى تخليقه جاريتها فخلقته جميعه ، وخلقت الحجر الشريفة جميعها.

ذكر موضع تأذين بلال رضى الله عنه

روى ابن إسحاق أن امرأة من بنى النجار قالت : كان بيتى من أطول بيت حول المسجد ، وكان بلال يؤذن عليه الفجر كل غداة فيأتى بسحر فيجلس على البيت ينظر عليه الفجر ، فإذا رآه تمطى ثم قال : اللهم أحمدك وأستعينك (ق ١٠٦) على قريش أن يقيموا دينك ، قالت : ثم يؤذن.

__________________

(١) زوجة المهدى العباسى وأم ابنيه الهادى وهارون الرشيد ، ملكة حازمة ، فقيهة ، يمانية الأصل ، أخذت الفقه عن الأوزاعى ، وكانت من جوارى المهدى.

ماتت سنة ١٧٣ ه‍.

١٠٦

وذكر أهل السير : أن بلالا كان يؤذن على اسطوانة فى قبلة المسجد يرقى عليها بأقباب ، وهى قائمة إلى الآن فى منزل عبد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنهم.

وعن ابن عمر رضى الله تعالى عنهما : كان بلال يؤذن على منارة فى دار حفصة بنت عمر التى فى المسجد ، وقال : فكان يرقى على أقباب فيها فكانت خارجة من مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم تكن فيه ، وليست فيه اليوم ، وكان يؤذن بعد بلال وقيل معه عبد الله ابن أم مكتوم الأعمى ، وأذن بعدهما سعد بن عائذ مولى عمار بن ياسر ، وهو سعد القرظ ، وسمى سعد القرظ لأنه كان إذا اتجر فى شىء ربح فيه فاتجر فى القرظ فربح فلزم التجارة ، جعله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مؤذنا بقباء ، فلما مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وترك بلال الأذان نقل أبو بكر رضى الله تعالى عنه سعدا هذا إلى مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يزل يؤذن فيه إلى أن مات وتوارث عنه بنوه الأذان فيه إلى زمن مالك رحمه‌الله تعالى وبعده ، أيضا (ق ١٠٧) وقيل إن الذى نقله إلى المدينة للأذان عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه ، وقيل إنه كان يؤذن للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم واستخلفه على الأذان فى خلافة عمر رضى الله تعالى عنه حين خرج بلال إلى الشام.

وقال خليفة بن خياط (١) : أذن لأبى بكر رضى الله تعالى عنه سعد القرظ مولى عمار بن ياسر إلى أن مات أبو بكر رضى الله تعالى عنه ، وأذن بعده لعمر رضى الله تعالى عنه ، حكاه ابن عبد البر.

__________________

(١) هو خليفة بن خياط بن خليفة بن خياط العصفرى أبو عمرو البصرى الحافظ المعروف بشباب ، كان عالما بالنسب والسير وأيام الناس ، روى عن ابن علية وبشر بن المفضل وأبى داود الطيالسى ، وابن عيينة وابن مهدى ، ويزيد بن زريع ، وعنه البخارى وأبو يعلى وبقى بن مخلد ، وحرب بن إسماعيل الكرمانى ، والدارمى ، وعبد الله بن أحمد بن حنبل ، وأبو زرعة وأبو حلم ، كان متقنا عالما بأيام الناس وأنسابهم.

مات سنة ٢٤٠ ه‍.

١٠٧

ذكر زيادة عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه

فى مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

يروى أن عمر رضى الله تعالى عنه قال : لو لا أنى سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول :

«إنى أريد أن أزيد فى المسجد ما زدت فيه».

وعن سلمة بن خباب أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال يوما وهو فى مصلاه فى المسجد : «لو زدنا فى مسجدنا» وأشار بيده نحو القبلة.

فلما ولى عمر رضى الله تعالى عنه قال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (ق ١١٠) قال : «لو زدنا فى المسجد» وأشار بيده نحو القبلة ، فأجلسوا رجلا فى موضع مصلى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم رفعوا يد الرجل وخفضوها حتى رأوا أن ذلك نحو ما رأوا أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم رفع يده ثم مدوا ميقاطا فوضعوا طرفه بيد الرجل ثم مدوه ، فلم يزالوا يقدمونه ويؤخرونه حتى رأوا أن ذلك شبيه لما أشار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الزيادة فقدم عمر رضى الله تعالى عنه فى موضع عيدان المقصورة ، وكان صاحب المقصورة فى زمن الصحابة السائب بن خباب مولى قريش ، وقيل مولى فاطمة بنت عتبة.

قال أهل السير : كان بين المنبر وبين الجدار بقدر ما تمر شاه فأخذ عمر رضى الله تعالى عنه موضع المقصورة وزاد فيه وزاد فى يمين القبلة ، فصار طول المسجد الشريف أربعين ومائة ذراع ، وعرضه عشرين ومائة ، وطول السقف أحد عشر ذراعا ، وسقفه جريد ذراعان ، وبنى فوق المسجد سرة ثلاثة أذرع ، وبنى أساسه بالحجارة (ق ١١١) إلى أن بلغ قامه وجعل لها ستة أبواب ، بابان عن يمين القبلة ، وبابان عن يسارها ، ولم يغير باب عاتكة ، ولا الباب الذى كان يدخل منه النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفتح بابا عند دار مروان بن الحكم ، وبابين فى مؤخرة المسجد.

وروى عن أبى هريرة رضى الله تعالى عنه أنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو بنى هذا المسجد إلى صنعاء كان مسجدى» وروى غيره مرفوعا قال : «هذا مسجدى وما زيد فهو منه ولو بلغ صنعاء كان مؤخر المسجد».

١٠٨

وعن أبى هريرة رضى الله تعالى عنه أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لو زيد فى المسجد ما زيد لكان الكل مسجدى».

وعن عمر رضى الله تعالى عنه قال : لو مد مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى ذى الحليفة لكان منه.

وأدخل عمر رضى الله تعالى عنه فى مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى هذه الزيادة دار العباس ابن عبد المطلب وهبها للمسلمين واشترى نصف موضع كان خطه النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فزاده فى المسجد وبناه على بنيانه (ق ١١٢) الذى كان على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم باللبن والجريد وأعاد عمده خشبا.

ذكر بطحاء مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

عن بشير بن سعيد أو سليمان بن يسار (١) شك الضحاك أنه حدثه أن المسجد كان يرش زمان النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وزمان أبى بكر وعامة زمان عمر رضى الله تعالى عنه ، فكان الناس يتنخمون فيه ويبصقون حتى عاد زلقا حتى قدم أبو مسعود الثقفى فقال لعمر رضى الله تعالى عنه : أليس بقربكم وإذ قال بلى قال فمر بحصباء يطرح فيه فهو آلف للمخاط والنخامة فأمر عمر رضى الله تعالى عنه بها ثم قال هو أغفر للنخامة وألين فى الموطأ.

الغفر بالغين المعجمة التغطية والستر ومنه المغفرة.

وقد حرم التنخم فى المسجد إبراهيم النخعى وقال بنجاستها وتفرد بهذا القول ولم يتبع فيه بل كفارتها سترها.

وعن أبى الوليد قال : سألت ابن عمر رضى الله تعالى عنهما عن الحصباء التى كانت فى المسجد فقال إنّا مطرنا ذات ليلة فأصبحت الأرض (ق ١١٣) مبتلة فجعل

__________________

(١) هو سليمان بن يسار أبو أيوب ، وأبو عبد الرحمن ، أو أبو عبد الله ، من فقهاء المدينة وعلمائهم وصلحائهم ، كثير الحديث ، مات سنة ٩٤ ه‍ ، وقيل سنة ١٠٠ ه‍.

١٠٩

الرجل يجىء بالحصباء فى ثوبه فيبسطه تحته فلما قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاته قال : ما أحسن هذا.

عن محمد بن سعد أن عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه ألقى الحصباء فى مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان الناس إذا رفعوا رءوسهم من السجود ينفضون أيديهم فجىء بالحصباء من العقيق من هذه العرصة فبسط فى المسجد.

قال الشيخ جمال الدين : ورمل مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحمل من وادى العقيق من العرصة التى تسيل من الجما الشمالية إلى الوادى فيحمل منه وليس بالوادى رمل أحمر غير ما يسيل من الجما ، والجماوات أربعة وهو رمل أحمر يغربل ثم يبسط بالمسجد الشريف.

ذكر زيادة عثمان رضى الله تعالى عنه

فى صحيح البخارى أن عثمان رضى الله تعالى عنه ولى الخلافة سنة أربعة وعشرين فلما بلغت خلافته أربع سنين كلمه الناس فى الزيادة وشكوا إليه ضيق المسجد يوم الجمعة فشاور عثمان رضى الله تعالى عنه أهل الرأى (ق ١١٤) من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى ذلك وزاد فى المسجد زيادة كثيرة وبنى جداره بالحجارة المنقوشة بالفضة وجعل عمده من حجارة منقوشة حشوها أعمدة الحديد والرصاص وسقفه بالساج وباشر ذلك بنفسه.

وكان عمله فى أول ربيع الآخر سنة تسع وعشرين وفرغ منه حين دخلت السنة لهلال المحرم سنة ثلاثين فكان عمله عشرة أشهر وزاد فى القبلة إلى موضع الجدار اليوم وزاد فيه من المغرب اسطوانا بعد المربعة ، وزاد فيه من الشام خمسين ذراعا ولم يزد من الشرق شيئا وقدر زيد بن ثابت أساطينه فجعلها على قدر النخل وجعل فيها طيقانا مما يلى المشرق والمغرب ، وبنى المقصورة بلبن ، وجعل فيها كوة ينظر الناس فيها إلى الإمام ، وجعل طول المسجد الشريف ستين ومائة ذراع وعرضه خمسين ومائة وجعل أبوابه ستة

١١٠

على ما كان على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم باب عاتكة والباب (ق ١١٥) الذى يليه باب مروان وباب النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبابين فى آخره.

ذكر زيادة الوليد بن عبد الملك بن مروان

وذلك أنه لما استعمل عمر بن عبد العزيز على المدينة الشريفة أمره بالزيادة فى المسجد فاشترى عمر ما حوله من المشرق والمغرب والشام ، ومن أبى أن يبيع هدم عليه ووضع له الثمن.

فلما صار إلى القبلة قال له عبيد الله بن عبد الله بن عمر لسنا نبيع هذا من حق حفصة ، وقد كان النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسكنها فلما كثر الكلام بينهما قال له عمر بن عبد العزيز :

أجعل لكم فى المسجد بابا وأعطيكم دار الرقيق وما بقى من الدارهم فهى لكم ، يعنى التى تفضل من العمارة ، ففعلوا فأخرج بابهم فى المسجد وهى الخوخة التى تخرج فى دار حفصة رضى الله تعالى عنها وقدم الجدار فى موضعه اليوم ، وزاد من المشرق ما بين الاسطوانة المربعة إلى جدار المسجد ومعه عشرة أساطين من مربعة القبر الشريف إلى الرحبة إلى الشام ، ومد من المغرب اسطوانتين (ق ١١٦) وأدخل فيه حجرات أزواج النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبيت فاطمة رضى الله تعالى عنها ، وأدخل فيه دور عبد الرحمن بن عوف ، ودار عبد الله بن مسعود ، وأدخل فيه من المغرب دار طلحة بن عبيد الله ودار سبرة بن أبى الفاكه (١) ودار عمار بن ياسر وبعض دار العباس ، وعلم ما دخل منها فجعل سائر سواريها التى تلى السقف أعظم من غيرها من السوارى.

وبعث الوليد بن عبد الملك إلى ملك الروم أنّا نريد أن نعمل مسجد نبينا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأعنا فيه بعمال وفسيفساء ، وهى الفصوص المزججة المذهبة فبعث إليه بأربعين من الروم وبأربعين من القبط وبأربعين ألف مثقال عونا له وبأحمال فسيفساء بسلاسل القناديل

__________________

(١) له صحبة نزل الكوفة له عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم حديث واحد ، وعنه سالم بن أبى الجعد ، وعمارة بن خزيمة بن ثابت ، ثقة.

١١١

اليوم وهدم عمر المسجد وأخمد النوره التى يعمل بها الفسيفساء سنة وحمل الفضة من النجل وعمل الأساس بالحجارة والجدار بالحجارة المنقوشة المطابقة وجعل عمد المسجد حجارة حشوها عمد الحديد والرصاص وجعل طوله مائتى ذراع (ق ١١٧) وعرضه من مقدمه مائتى حجر ذراع ومن مؤخره مائة وثمانين ذراعا وعمله بالفسيفساء والمرمر ، وسقفه بالساج وماء الذهب وأدخل الحجرات والقبر المقدس فى المسجد ونقل لبن الحجرات فبنى به داره فى الحرة.

قال الحافظ محب الدين : فهو بها اليوم له بياض على اللبن.

وقال الذين عملوا الفسيفساء : إنما عملنا على ما وجدنا من صور شجر الجنة وقصورها ، وكان عمر بن عبد العزيز إذا عمل العامل الشجرة الكبيرة من الفسيفساء وأحسن عملها نفله ثلاثين درهما.

وكانت زيادة الوليد من المشرق ستة أساطين وزاد من الشام الأسطوانة المربعة التى فى القبر الشريف أربعة عشر اسطوانا منها عشرة فى الرحبة وأربعة فى السقايف الأولى التى كانت قبل وزاده من الاسطوانة التى دون المربعة إلى المشرق أربع أساطين وأدخل بيت النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى المسجد وبقى ثلاثة أساطين فى السقايف (ق ١١٨) وجعل للمسجد فى أربع زواياه أربع منارات وكانت الرابعة مطلة على دار مروان.

فلما حج سليمان بن عبد الملك أذن المؤذن فأطل عليه فأمر بها فهدمت وأمر عمر ابن عبد العزيز حين بنى المسجد بأسفل الأساطين فجعل قدر سترة اثنين يصليان إليها وقدر مجلس اثنين يستندان إليها ، ولما صار إلى جدار القبلة دعا مشايخه من أهل المدينة من قريش والأنصار والعرب والموالى فقال احضروا بنيان قبلتكم لا تقولوا غير قبلتنا فجعل لا ينزع حجرا إلا وضع حجرا وهو أول من أحدث الشرافات والمحراب وعمل الميازيب من رصاص ولم يبق منها إلا ميزابان أحدهما فى موضع الجنائز والآخر على الباب الذى يدخل منه أهل السوق يعنى باب عاتكة وعمل المقصورة من ساج وجعل للمسجد عشرين بابا ، وكان هدمه للمسجد فى سنة إحدى وتسعين ومكث فى بنيانه ثلاث

١١٢

سنين ، فلما قدم الوليد بن عبد الملك حاجا جعل ينظر إلى البنيان فقال حين رأى سقف المقصورة (ق ١١٩) ألا عملت السقف مثل هذا فقال يا أمير المؤمنين : إذن تعظم النفقة جدا ، فقال : وإن كان وكانت النفقة فى ذلك أربعين مثقالا ولما استنفذ الوليد النظر إلى المسجد التفت إلى أبان بن عثمان بن عفان رضى الله تعالى عنه ، فقال أين بنياننا من بنيانكم. فقال أبان إنا بنيناه بناء المسجد وبنيتموه بناء الكنائس.

قال الحافظ محب الدين : وخلى فى بعض الأيام المسجد فقال بعض الروم لأبولن على قبر نبيهم فنهاه أصحابه فلم يقبل ، فلما هم اقتلع فألقى على رأسه فانتثر دماغه فأسلم بعض أولئك النصارى ، وعمل أحدهم على رأس خمس طاقات من جدار القبلة فى صحن المسجد صورة خنزير فظهر عليه عمر بن عبد العزيز فأمر به فضربت عنقه ، وكان عمل القبط مقدم المسجد والروم ما خرج من السقف من جوانبه ومؤخره.

وأراد عمر بن عبد العزيز أن يعمل على كل باب سلسلة تمنع الدواب فعمل واحدة فى باب مروان ثم بدا له عن البواقى (ق ١٢٠) وأقام الحرس فيه يمنعون الناس من الصلاة على الجنائز فيه.

قال الحافظ محب الدين : والسنة فى الجنائز باقية إلى يومنا هذا إلا فى حق العلويين والأمراء وغيرهم من الأعيان والباقون يصلى عليهم خلف الحائط الشرقى إذا وقف على الجنازة كان النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم على يمينه.

وقال عفيف الدين المرجانى : وكذلك الأمر باق إلى هذا التاريخ.

والوليد بن عبد الملك هو الذى بنى مسجد مكة ومسجد المدينة ومسجد دمشق ومسجد الأقصى وقبة الصخرة وأنفق على مسجد دمشق أحد عشر ألف مثقال ونيفا ، وقيل أنفق عليه خراج الدنيا ثلاث دفعات وهو أول من نقل إلى مكة أساطين الرخام ، مدة خلافته ، عشر سنين وتسعة أشهر ، توفى بدير مروان وحمل إلى دمشق فدفن فى مقبرة الفراديس ، وكان مسجد دمشق للصابين ثم صار لليونانيين ثم صار لليهود وفى ذلك الزمان قتل يحيى بن زكريا عليه‌السلام ونصب رأسه على باب جيرون وعليه نصب (ق ١٢١) رأس الحسين ثم غلبت عليه النصارى ثم غلبت عليه المسلمون.

١١٣

ذكر زيادة المهدى

وذلك أنه لما ولى الخلافة آخر ذى الحجة من سنة ثمان وخمسين ومائة ، شرع فى بناء المسجد الحرام ومسجد المدينة المشرفة على ما هما عليه اليوم وبنى بيت المقدس وقد كان هدمه الزلازل وحج فى سنة ستين ومائة واستعمل فى هذه السنة على المدينة جعفر ابن سليمان بن على بن عبد الله بن عباس وأمره الزيادة فى المسجد النبوى وولاه وبناه هو وعاصم بن عمر بن عبد العزيز وعبد الملك بن حبيب الغسانى فزادوا فى المسجد من جهة الشام إلى منتهاه اليوم فكانت زيادته على مائة ذراع ولم يزد فيه من الشرق والمغرب والقبلة شيئا ثم سد على آل عمر خوختهم التى فى دار حفصة فكثر كلامهم فصالحهم أن يخفض المقصورة ثم خفض المقصورة ذراعين وزاد فى المسجد لتلك الخوخة ثلاث درجات وحفر الخوخة حتى صارت تحت المقصورة وجعل عليها فى جوار القبلة شباك حديد فهو عليها اليوم (ق ١٢٢) وكان الذى دخل فى المسجد من الدور دار عبد الرحمن بن عوف ودار شرحبيل وبقية دار عبد الله بن مسعود ودار المسور بن مخرمة وفرغ من بنيانه سنة خمس وستين ومائة وكان ابتداؤه سنة اثنتين وستين ومائة. وعرض منقبة جدار المسجد مما يلى الغرب ذراعان ينقصان شيئا يسيرا وعرض منقبة ما يلى المشرق ذراعان وأربع أصابع وهو أعرضها لأنه من ناحية السيل.

ذكر بلاعات المسجد وسائر صحنه

والسقايات التى كانت فيه

قال الحافظ محب الدين : وفى صحن المسجد أربع وستون بلاعة عليه أرحاء ولها صمايم من حجارة ، وكان أبو البخترى وهب بن وهب القاضى واليا على المدينة لهارون الرشيد وكشف سقف المسجد فى سنة ثلاث وتسعين ومائة فوجد فيه سبعين خشبة مكسورة فأصلحها وكان ماء المطر إذا كثر فى صحن المسجد يغشى قبلة المسجد فجعل

١١٤

بين القبلة والصحن لاصقا حجارة من المربعة التى فى غربى المسجد إلى المربعة التى فى شرقيه التى تلى القبر المقدس تمنع الماء والحصب.

وأما الستائر (ت ١٢٣) التى كانت فى صحن المسجد فذلك أنه لما قدم أبو جعفر المنصور المدينة سنة أربعين ومائة أمر بستور فستر بها صحن المسجد على عمد لها رؤوس كقريات الفساطيط وجعلت فى الطبقات فكانت لا تزال العمد تسقط على الناس فغيرها وأمر بستور أكثف من تلك الستور وحبال تأتى من جدة تسمى القنب وجعلت مشبكة فكانت تجعل على الناس كل جمعة فلم تزل حتى خرج محمد بن عبد الله بن حسن يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من جمادى الآخر سنة خمس وأربعين ومائة فأمر بها فقطعت دراديع لمن كان يقاتل معه فتركت حتى كان زمان هارون فأخذت هذه الأستار اليوم ولم يكن يشتريها فى زمان بنى أمية.

قال عفيف الدين المرجانى : ثم إنها تركت لما جدد الملك الناصر الرواقين.

عن حسن بن مصعب قال أدركت كسوة الكعبة يؤتى بها المدينة قبل مكة فتنشر على الرصاص فى مؤخر المسجد ثم يخرج بها إلى مكة وذلك فى سنة إحدى وثلاثين ومائة. انتهى.

وأما الآن فلا يؤتى بها الى المدينة وإنما يؤتى بها صحبة الركب المصرى.

وأما السقايات فقال محمد بن الحسن بن زبالة : كان فى صحن المسجد (ق ١٢٤) تسع عشرة سقاية على أن كتبنا كتابنا هذا فى صفر سنة تسع وتسعين ومائة منها ثلاث عشرة أحدثتها خالصة وهى أول من أحدث ذلك وثلاث لزيد البربرى مولى أمير المؤمنين وسقاية لأبى البخترى وهب بن وهب وسقاية لسحر أم ولد هارون الرشيد وسقاية تسلسيل أم ولد جعفر بن أبى جعفر.

قال الحافظ محب الدين : وأما الآن فليس به سقاية إلا أن فى وسطه بركة كبيرة مبنية بالآجر والجص والخشب لها درج أربع فى جوانبها والماء ينبع من فوارة فى وسطها يأتى من العين الزرقاء ولا يكون فيه الماء إلا فى المواسم ، بناها بعض أمراء الشام يسمى شامة.

١١٥

قال الشيخ جمال الدين : وكان يحصل بهذه البركة انتهاك لحرمة المسجد فسدت لذلك.

قال الحافظ محب الدين : وعملت الجهة أم الخليفة الناصر لدين الله تعالى فى مؤخر سنة تسعين وخمسمائة سقاية فيها عدة البيوت وحفرت لها بئر إذ فتحت لها بابا إلى المسجد فى الحائط التى تلى الشام وهى تفتح فى المواسم.

ذكر احتراق المسجد الشريف

واحتراق مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (ق ١٢٥) ليلة الجمعة أول شهر رمضان سنة إحدى وخمسين وستمائة بعد خروج نار الحرة الآتى ذكرها فى السنة نفسها فكتب بذلك إلى الخليفة المستعصم (١) بالله تعالى أبى أحمد عبد الله ابن المستنصر فى الشهر المذكور فوصل الصناع والآلة فى صحبة حجاج العراق ، وابتدئ فيه بالعمارة من أول سنة خمس وخمسين وستمائة.

واستولى الحريق على جميع سقوفه حتى لم يبق فيه خشبة واحدة وبقيت السوارى قائمة رصاص بعضها فسقطت واحترق سقف الحجرة المقدسة.

__________________

(١) الثابت هو عبد الله المعتصم ابن منصور المستنصر ابن محمد الظاهر ابن أحمد الناصر من سلالة هارون الرشيد العباسى ، وكنيته أبو أحمد ، آخر خلفاء الدولة العباسية فى العراق ، ولد ببغداد سنة ٦٠٩ ه‍ ، وولى الخلافة بعد وفاة أبيه سنة ٦٤٠ ه‍ والدولة فى شيخوختها ، لم يبق منها للخلفاء غير دار الملك ببغداد فألقى زمام الأمور إلى الأمراء والقواد ، واعتمد على وزيره مؤيد الدين ابن العلقمى ، وكان المغول قد استفحل أمرهم فى أيام سلفه المستنصر ، فكتب ابن العلقمى إلى قائدهم هولاكو «حفيد جنكيز خان» يشير عليه باحتلال بغداد ويعده بالإعانة على الخليفة ، فزحف هولاكو سنة ٦٤٥ ه‍ وخرجت إليه عساكر المستعصم فلم تثبت طويلا ، ودخل هولاكو بغداد ، فجمع له ابن العلقمى ساداتها ومدرسيها وعلماءها فقتلهم عن آخرهم ، وأبقى الخليفة حيا إلى أن دل على مواضع الأموال والدفائن ثم قتله.

وبموته سنة ٦٥٦ ه‍ انقرضت دولة بنى العباس فى العراق وعدد خلفائها ٣٧ ملكوا مدة ٥٢٤ سنة.

١١٦

قال بعضهم فى ذلك :

لم يحترق حرم النبى لحادث

يخشى عليه ولا دهاه الغار

لكنما أيدى الروافض لامست

ذاك الجناب فطهرته النار

قصة هذه النار

على ما نقله ابن أبى شامة والمطرى وغيرهما وذلك أنه لما كانت ليلة الأربعاء ثالث جمادى الآخر سنة أربع وخمسين وستمائة ظهر بالمدينة دوى عظيم ثم زلازل رجفت منها المدينة والحيطان ساعة بعد ساعة وكان بين اليوم والليلة أربع عشرة زلزلة ، واضطرب المنبر (ق ١٢٦) إلى أن سمع منه صوت الحديد واضطربت قناديل المسجد وسمع لسقف المسجد صرير وتمت الزلازل إلى يوم الجمعة ضحّى ثم انبجست الأرض بنار عظيمة من واد يقال أجليين بينه وبين المدينة نصف يوم ثم انبجست من رأسه فى الحرة الشرقية من ولاء قريظة على طريق السوارقية بالمقاعد ثم ظهر لها دخان عظيم فى السماء ينعقد حتى بقى كالسحاب الأبيض وللنار ألسن حمر صاعدة فى الهواء وبقى الناس فى مثل ضوء القمر ، وصارت النار قدر المدينة العظيمة وما ظهرت إلا ليلة السبت.

وكان اشتغالها أكثر من ثلاث منابر وهى ترمى بشرر كالقصر وشررها صخر كالجمال وسال من هذه النار واد يكون مقداره خمسة فراسخ وعرضه أربعة أميال وعمقه قامة ونصف وهو يجرى على وجه الأرض ، وتخرج منه أمهاد وجبال تسير على وجه الأرض وهو صخر يذوب حتى يصير كالآنك فإذا جمد صار أسود وقبل الجمود لونه أحمر.

وسال منها وأنه من نار حتى حاذى جبل أحد وسالت منه احيل بينى نار ، وتنحدر (ق ١٢٧) مع الوادى إلى الشظاة ، والحجارة تسير معها حتى عادت نار حرة العريض ثم وقف أياما تخرج من النار ألسن ترمى بحجارة خلفها وأمامها حتى نبت لها جبل ولها كل

١١٧

يوم صوت من آخر النهار ورئى ضوء هذه النار من مكة ومن ينبع ولا يرى الشمس والقمر من يوم ظهور النار إلا كاسفين.

قال ابن أبى شامة : ظهر عندنا بدمشق أثر الكسوف من ضعف نور الشمس على الحيطان وكلنا حيارى من ذلك ما هو حتى أتى خبر النار.

قال المطرى : سارت النار من مخرجها الأول إلى جهة الشمال مدة ثلاثة أشهر تدب كدبيب النمل تأكل كل ما مرت عليه من جبل أو حجر ولا تأكل الشجر فتثير كل ما مرت عليه فيصير سدا لا سلك فيه لإنسان إلى منتهى الحرة من جهة الشمال ، فقطعت فى وسط وادى الشظاة إلى جبل وغيره فسدت الوادى المذكور بسد عظيم بالحجر المسبول بالنار ولا كسد ذى القرنين لا يصفه إلا من رآه طولا وعرضا وارتفاعا وانقطع وادى الشظاة بسببه وصار السيل ينحبس خلف السد (ق ١٢٨) وهو واد عظيم فتجمع خلفه المياه حتى تصير بحرا كنيل مصر عند زيادته.

قال رحمه‌الله تعالى : شاهدته كذلك فى شهر رجب من سنة تسع وعشرين وسبعمائة.

قال أخبرنى علم الدين سنجر المغربى من عتقاء الأمير عز الدين منيف بن شحة بن القاسم بن مهنا الحسينى أمير المدينة قال : أرسلنى مولاى الأمير المذكور بعد ظهور النار بأيام ومعى شخص من العرب يسمى خطيب بن سنان ، وقال لنا اقربا من هذه النار وانظرا هل يقدر أحد على القرب منها فخرجت إلى أن خرجنا منها فلم نجد لها حرا فنزلت عن فرسى وسرت إلى أن وصلت إليها وهى تأكل الصخر ومددت يدى إليها بسهم فعرق النصل ولم يحترق واحترق الريش. انتهى.

قال عفيف الدين المرجانى : انظر إلى عظيم لطف البارى تعالى بعباده إذ سخرها بلا حرارة إذ لو كانت كنارنا لاحترقت من مدى البعد ، فناهيك بقربها وعظمها ، ولكنها ليست بأول مكارمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وامتنان خالقها عزوجل إذ أخمد حرها وجعل سيرها تهويدا لا انقيادا حفظا لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (ق ١٢٩) لأمته ورفقا بعباده ولطفا بهم (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)(١) وقد ظهر بظهورها معجزات بان بها آيات وأسرار بديعة وعنايات

__________________

(١) ١٤ ك الملك ٦٧.

١١٨

ربانية منيعة ففى انطماس نورها فكرة وبسببه عدم حرها عبرة وسببه خفة سيرها وفى استرسال ديها قدرة وسببه عدم حرها أكلها وفى عدم أكلها حرمة وسببه لا يعضد نبتها.

قال الشيخ جمال الدين : وأخبرتنى بعض من أدركنها من النساء أنهن كن يغزلن على ضوئها بالليل على أسطحة البيوت.

قال رحمه‌الله تعالى : وظهر بظهورها معجزة من معجزات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهى ما ورد فى الصحيحين من حديث أبى هريرة رضى الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تقوم الساعة حتى تظهر نار بالحجاز تضىء لها أعناق الإبل ببصرى» (١) فكانت هى إذ لم يظهر قبلها ولا بعدها مثلها.

ثم قال رحمه‌الله تعالى وظهر لى فى معنى أنها كانت تأكل الحجر ولا تأكل الشجر أن ذلك لتحريم سيدنا (ق ١٣٠) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شجر المدينة فمنعت من أكله لوجوب طاعته وهذا من أوضح معجزاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقدم الى المدينة الشريفة فى جمادى الآخرة من السنة المذكورة فى نجابة من العراق ، وأخبروا أن بغداد أصابها غرق عظيم حتى دخل الماء من أسوارها إلى البلد وغرق كثير من البلد ودخل الماء دار الخليفة وانهدمت دار الوزير وثلاثمائة وثمانون دارا وانهدم مخزن الخليفة وهلك من السلاح شىء كثير وأشرف الناس على الهلاك وتحرقت أزقة بغداد ودخلت السفن وسط البلاد.

وفى تلك السنة احترق مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكانت ليلة الجمعة أول ليلة من رمضان المعظم.

قال الشيخ جمال الدين : وانجرف السد من تحته من سنة تسعين وستمائة لتكاثر الماء من خلفه فجرى فى الوادى المذكور سنة كاملة سيلا يملأ ما بين جانبى الوادى ثم سنة أخرى دون ذلك ثم انخرق فى العشر الاول بعد السبعمائة فجرى سنة أو أزيد ثم انخرق

__________________

(١) ورد فى صحيح البخارى باب الفتن ٢٤ ، وسنن ابن ماجه باب الفتن ٤٢.

١١٩

فى سنة اربع وثلاثين وسبعمائة بعد تواتر أمطار عظيمة وعلا الماء من جنبى السد من دونه مما يلى جبل عين وغيره فجاء سيل (ق ١٣١) طام لا يوصف مجراه على مشهد حمزة رضى الله تعالى عنه وحفروا واديا آخر قبلى جبل عين وبقى المشهد وجبل عين وسط السيل أربعة أشهر ولو زاد الماء مقدار ذراع وصل إلى المدينة الشريفة.

قال رحمه‌الله تعالى وكنا نقف خارج باب البقيع على التل الذى هناك فنراه ونسمع خريره ثم استقر فى الوادى بين القبلى الذى أحدثته النار والشمالى قريبا من سنة وكشف عن عين قديمة قبل الوادى فجددها الأمير ودى بن جماز أمير المدينة الشريفة فى ولايته. انتهى.

رجعنا إلى المقصود قال الشيخ جمال الدين : ولما ابتدأوا بالعمارة قصدوا ازالة ما وقع من السقوف على القبور المقدسة فلم يجسروا ورأوا من الرأى أن يطالعوا الإمام المستعصم فى ذلك وكتبوا إليه فلم يصل إليهم جواب وحصل للخليفة المذكور شغل باستيلاء التتار على بلادهم تلك السنة فتركوا الردم وأعادوا سقفا فوقه على رؤوس السوارى التى حول الحجرة الشريفة ، فإن الحائط الذى بناه عمر بن عبد العزيز رضى الله تعالى عنه حول بيت النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين هذه السوارى التى حول بيت النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم يبلغ به السقف (ق ١٣٢) الأعلى بل جعلوا فوق الحائط وبين السوارى إلى السقف شباكا من خشب يظهر من تأمله من تحت الكسوة على دوران الحائط جميعه لأنه أعيد بعد الاحتراق على ما كان عليه قبل ذلك وسقفوا فى هذه السنة وهى السنة خمس وخمسين الحجرة الشريفة وما حولها إلى الحائط الشرقى إلى باب جبريل عليه‌السلام ومن جهة المغرب الروضة الشريفة جميعها إلى المنبر المنيف.

ثم دخلت سنة ست وخمسين وستمائة فكان فى المحرم منها واقعة بغداد وقتل الخليفة المذكور ووصلت الآلة من مصر وكان المتولى بها تلك السنة الملك المنصور على ابن عبد الملك المعز بن أيبك الصالحى فأرسل الآلات والأخشاب فعملوا إلى باب السلام ثم عزل صاحب مصر المذكور وتولى مكانه مملوك أبيه الملك المظفر سيف الدين قطز

١٢٠