تأريخ المستبصر

ابن المجاور

تأريخ المستبصر

المؤلف:

ابن المجاور


المحقق: ممدوح حسن محمّد
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٤٠

من بنى عمه ، فلما دخل البلاد جباها وأنفذ بمال من خراج البلد إلى مدينة السلام ، فلما كان ما كان من قصة الأمين وقتله وتولى المأمون الخلافة عصى الرجل المتولى فى اليمن وتغلب على البلاد وقطعها وصار يرفع الدخل إلى خزانته.

فلما كان سنة تسع وتسعين ومائة أتى إلى المأمون بقوم فيهم رجل من ولد عبيد الله بن زياد فانتسب أحدهم فقال : اسمه محمد بن قلان بن عبيد الله بن زياد ... إلى عبيد الله بن زياد ، وانتسب منهم رجل إلى سليمان بن هشام بن عبد الملك ، ومن هذا الرجل الوزير خلف بن أبى الطاهر وزير جياش بن نجاح ، فقال المأمون لهذا الأموى : إن الإمام أبا جعفر المنصور عبد الله بن محمد بن على ابن عبد الله بن عباس ضرب عنق سليمان بن هشام وولديه فى يوم واحد ، فقال الأموى : أنا من ولده الأصغر سليمان ومنا قوم بالبصرة.

وانتسب رجل إلى تغلب واسمه محمد بن هارون ، فبكى المأمون وقال : أنى لى بمحمد بن هارون؟ يعنى وافق اسمه اسم أخيه محمد الأمين ابن هارون الرشيد ، فقال المأمون : أما الأمويان فيقتلان ، وأما التغلبى فيعفى عنه رعاية لاسمه واسم أبيه.

قال ابن زياد : وما أكذب الناس يا أمير المؤمنين ، يزعمون أنك حليم كثير العفو متورع عن سفك الدماء بغير حق ، فإن كنت تقتلنا بذنب فلم ننزع يدا من الطاعة ولم نفارق فى بيعتك رأى الجماعة ، وإن كنت تقتلنا يا أمير المؤمنين بجنايات بنى أمية فيكم فالله تعالى يقول : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى)(١) فاستحسن المأمون

__________________

(١) الآية : ١٥ من سورة الإسراء.

٨١

كلامه فعفى عنهم جميعا ، وكانوا أكثر من مائة رجل ، ثم أضافهم إلى أبى العباس الفضل بن سهل ، ذى الرئاستين ، ويقال : إلى أخيه الحسن بن سهل.

فلما بويع لإبراهيم ابن المهدى ببغداد فى المحرم سنة اثنتين ومائتين وافق ذلك ورود عامل اليمن بخروج الأشاعر عن الطاعة ، فأثنى الحسن بن سهل على محمد بن زياد وعلى المروانى وعلى التغلبى عند المأمون وإنهم من أعيان الرجال وأفراد الكفاة ، وأشار بتسييرهم إلى اليمن ، يعنى أن ابن زياد يكون أميرا ، وابن هشام وزيرا ، والتغلبى حاكما مفتيا ، فمن ولد التغلبى محمد بن هارون قضاة زيد وهم بنو أبى عقامة ، ولم يزل الحكم فيهم يتوارث حتى أزالهم على بن المهدى حين أزال دولة الحبشة ، فخرج الجيش الذى جهزه المأمون إلى بغداد لمحاربة إبراهيم بن المهدى ، وحج ابن زياد ومن معه سنة ثلاث ومائتين وسار إلى اليمن وفتح تهامة بعد حروب جرت بينه وبين العرب ، واختط زبيد فى شعبان سنة أربع ومائتين ، وفى هذا التأريخ مات الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعى بمصر.

وحج من اليمن جعفر ، مولى ابن زياد ، بمال وهدايا سنة خمس وسافر إلى العراق فصادف المأمون بها فعاد جعفر هذا فى سنة ست إلى زبيد ومعه ألف فارس من مسودة خراسان وسبعمائة فارس فعظم أمر ابن زياد وملك إقليم اليمن بأسره الجبال والتهائم ، وتقلد جعفر هذا أمر الجبال واختط بها مدينة المذيخرة وهى ذات أنهار ، والبلاد التى كانت لجعفر تسمى إلى الآن مخلاف جعفر ، وكان جعفر هذا أحد الكفاة الدهاة ، وبه تمت دولة ابن زياد ، وهذا الذى اشترط على العرب بتهامة أن لا يركبوا الخيل.

٨٢

وملك ابن زياد حضرموت وديار كندة والشحر والمرباط وأبين ولحج وعدن والتهائم إلى حلى ، وملك من الجبال الجند وأعماله ومخلاف جعفر ومخلاف المعافر وصنعاء وصعدة ونجران وبيحان.

وواصل ابن زياد الخطبة لبنى العباس وحمل الأموال والهدايا السنية هو وأولاده من بعده ، وهم إبراهيم بن محمد هذا الذى هو الملك وأقام فى الملك بعده زياد ابن إبراهيم فلم تطل مدته ، ثم ملك بعده أخوه أبو الجيش إسحاق بن إبراهيم وطالت مدته ، فلما أسن وبلغ الثمانين فى الملك تشعب عليه من دولته بعضها ، فممن أظهر له بعض ما يكره ملك صنعاء ، وهو من أولاد التبابعة من حمير ، واسمه يوسف بن أسعد بن يعفر ، ولكنه كان يخطب لأبى الجيش ولأبويه ، وكانت ترفع أموال إلى أسعد بن يعفر لا تزيد على أربعمائة ألف دينار فى السنة يصرف بعضها فى المروة ولقاصديه.

وأما صاحب بيحان ونجران وجرش فهمّ أيضا بأن يخرج من طاعة ابن زياد ، وهمّ صاحب صعدة فثار بها الشريف الحسنى المعروف بالرسى.

ويقال فى رواية أخرى : إن أمير المؤمنين محمد الأمين ولّى محمد بن زياد بن محمود بن منصور اليمن فجاء محمد بن زياد إلى أرض الحصيب فوجد قوما يقتتلون فى كل يوم إلى ضحوة نهار ويفترقون ، فدخل بينهم وأصلح بينهم ، وبنى قصرا على باب غلافقة ، وآثاره إلى الآن باقية ، فسكن فيه واشترى ألف عبد ، ويقال : بل جاء بعساكر عظيمة من العراق وقال لهم : إذا دخل القوم للضيافة فالسيف عليهم ، ونادى فى مشائخ البلاد وكبار القبائل من الأشاعر وقدم لهم طعاما قد أحضر ، فلما اشتغلوا

٨٣

بالأكل والتناول لبست العبيد وأركبوا السيف من حضر فلم ينج منهم أحد ، وركب السيف على من كان حولهم من العربان من أهل القرى والعمارات ، وما زال على حاله إلى أن رجعت الخلق تستجير به ، فكل من كان فى طاعته كان يترك على رأسه أثر وهو قلنسوة من خوص النخل على هذا الوضع :

ويعطيه زوج بقر ومهار على هذا الوضع : يعنى لحرث الأرض فحرثت الخلق وعمر المكان وبقى الأثر والمهار سنة إلى الآن.

حدثنى أحمد بن سعيد بن عمرو بن عويل قال : حدثنى شيخ كبير قد ناطح عمره المائة قال : حدثنى أبى عن جدى قال : إنى كنت أرعى البقر عند مسجد الأشاعر وبها حينئذ عقدة شجر وغدير ماء.

ويقال : لما تعدى ابن زياد مكة صار كل منزل ينزله يأخذ تراب أرضه يشمه ويبنى فى ذلك المنزل قرية ، وما زال على حاله إلى أن قدم أرض الحصيب فأخذ من

٨٤

أرضه كف تراب فشمه وقال لأهل الدولة : أقيموا بنا هاهنا! قالوا : ولم؟ قال : لأن هذه الأرض أرض نزه زبدة هذه البلاد ، قالوا : وبم صح عندك ذلك؟ قال : لأنها طيبة بين واديين ، يعنى وادى زبيد ووادى رمع ، فلما سكن المكان بناه مدينة سماها زبيد ، واشتق زبيدا لأنها من الزبدة على ما جرى فى اليوم الأول.

فصل : قال عبد النبى بن على المهدى للحاضرين : إنى أتعجب من أهل هذين الواديين. قالوا : وما رأيت من عجائبه؟ قال : رأيت كل خلق الله من الرجال يميل طبعهم إلى الفحولة والذكورة إلا من سكن بين هذين الواديين فإن طباعهم مائلة إلى الخنث وخصال النساء ، قالوا : وبم تحقق عندك ذلك؟ قال : كل من الخلق يميل إلى ما يصلح به دينه ودنياه إلا أهل زبيد فإنهم مائلون إلى الأكل والشراب والملابس النظاف والمركوب الوطىء وشم الطيب وميل طباعهم إلى النساء أكثر من ميل طباعهم إلى الرجال ، فقال بعض من حضر المجلس : ما وضعت بين واديين إلا كرجل يسكن بين امرأتين يميل إلى من مالت نفسه وسكنت جوارحه إليها.

قال ابن المجاور : ومعظم رجالهم يتحدثون ويتغانجون ويتمفطعون ويتقصفون تقصيف النساء فى الحديث والحركة.

حدثنى أحمد بن على بن عبد الله الجماعى الواسطى قال : ملك اليمن ملك من التبابعة يسمى الزبا فسأل رجل آخر فقال : ما فعل الله بزبا؟ فقال : بيد ، أى هلك ، فسمى البلد زب بيد.

وقال آخرون : إنما سميت زبيد زبيدا لأن لها واديا يسمى زبيدا فسميت البلد باسم الوادى.

٨٥

وقال آخر : بل كانت الإبل ترعى فى العقدة وفى جمع الإبل ناقة تسمى زبيد عضت الناقة فى العقدة فعرف الموضع باسم الناقة. وأما العقدة فصحيحة بقى إلى الآن شجر الأراك كثيرا مما يلى الدروب وخصوصا موضع يسمى حافة مسجد الهند وغيرها من المواضع.

وقال آخرون : بل كانت امرأة تسكن رأس وادى زبيد تسمى زبيدة.

وقال ابن المجاور : ما أظنها إلا زبيدة بن جعفر بن أبى جعفر المنصور ، فإن محمد المنصور بن زياد بنى لها دارا ما بين وادى زبيد ورمع وهى التى سعت فى بناء المكان فى دولة أمير المؤمنين الأمين.

ذكر تمام قصة آل زياد

لما مات الحسين بن سلامة انتقل الأمر إلى طفل من آل زياد واسمه عبد الله وكفلته عمته وعبده أستاذ الدار واسمه مرجان ، وهو من عبيد الحسين بن سلامة ، فاستقرت الوزارة لمرجان ، وكان له عبدان فحلان من الحبشة رباهما فى الصغر وولاهما فى الكبر ، أحدهما يسمى نفيس ، وهو الذى تولى التدبير فى الحضرة ، والثانى يسمى نجاح وهو جد ملوك زبيد الذين أبادهم على بن المهدى سنة أربع وخمسين وخمسمائة.

ونجاح هذا هو أبو الملك سعيد الأحول قاتل على بن محمد الصليحى القائم فى اليمن بالدعوة المستنصرية ، وهو أيضا أبو المكرم الفاضل أبى الطامى جياش ،

٨٦

ولم يزل الملك فى عقب جياش المذكور إلى التأريخ المذكور ، فكان نجاح يتولى أعمال الكدراء والمهجم ومور والواديين ، هذه الأعمال الشأمية والأعمال الشمالية عن زبيد ، ثم وقع التنافس بين نفيس ونجاح عبدى مرجان على وزارة الحضرة ، وكان نفيس ظلوما غشوما ، ونجاح عادلا رءوفا ، إلا أن مولاهما مرجان يميل مع نفيس غلى نجاح ، ونمّ إلى نفيس أن إبراهيم بن زياد مولاه وعمته كاتبا نجاحا وإنها تميل إليه ، فشكى فعلها إلى مولاهم مرجان فقبض مرجان عليها وعلى ابن أخيها إبراهيم بن زياد ، وهو آخر بنى زياد ، ودفعهما إلى نفيس فبنى عليهما جدارا وهما قائمان يناشدانه الله عزوجل حتى ختم عليهما ، وزالت دولة بنى زياد وانتقلت إلى عبيد عبيدهم ، فتكون دولة بنى زياد فى اليمن مائتين وثلاث سنين لأنهم اختطوا مدينة زبيد سنة أربع ومائتين وزالت عنهم سنة سبع وأربعمائة.

فصل : وكان بنو زياد لما اتصل بهم اختلال دولة العباسية من قتل المتوكل وخلع المستعين تغلبوا على ارتفاع اليمن وركبوا بالمظلة وساسوا قلوب الرعية ببقاء الخطبة لبنى العباس ، فلما قتل إبراهيم بن زياد وقبض على عمته تملك نفيس وركب بالمظلة وضرب السكة باسمه واسم الحسين بن سلامة ، فلما انتهى إلى نجاح ما فعله نفيس فى مواليه ركب وقصد نفيسا إلى زبيد فجرى بينهما عدة وقائع منها يوم رمع ويوم فشال على نجاح ، ومنها يوم العقدة ، ويوم العرق ، وفيه قتل نفيس على باب سهام ، وقتل بين الفريقين خمسة آلاف رجل.

وفتح نجاح زبيد فى سنة اثنتى عشرة وأربعمائة ، وقال نجاح لمرجان : ما فعل مولاك بموالينا؟ قال : هم فى ذلك الجدار ، فأخرجهما نجاح وصلى عليهما وبنى

٨٧

عليهما مشهدا وأدخل مرجانا فى موضعهما فبنى عليه وعلى جثة نفيس حائطا ، وركب نجاح بالمظلة وضرب السكة باسمه وكاتب أهل العراق وبذل الطاعة ، فنعت نجاح بالمؤيد نصير الدين وفوض إليه تقليد القضاء والنظر فى الجزيرة اليمنية ، ولم يزل نجاح مالكا للتهائم وقاهرا لأهل الجبال ، وكوتب وخوطب بالملك وبمولانا.

ومن أولاده سعيد وجياش ومعارك والذخيرة ومنصور ، فتغلبت ولاة الحسين بن سلامة على الحصون ، فتغلب على عدن ولحج وأبين والشحر وحضرموت بنو معن ابن زائدة ، وقيل : من غير ولد معن بن زائدة الشيبانى ، وتغلب على السمدان وعلى حصن السواء والدملوة وصبر وحب والتعكر ومخلاف الجند ومخلاف المعافر قوم من حمير يقال لهم : بنو الكرندى ، وتغلب على حصن حب وحصن عزان وبيت عز وحصن الشعرين وحصن أنور والقيل والسحول وحصن خدد والشوافى السلطان أبو عبد الله الحسين التبعى ، وتغلب على حصن أشيح ، وهو مقر الداعى سبأ بن أحمد الصليحى ، وعلى حصن مقرى ، وحصون وصاب ومخاليفها قوم من البكيل ، وهم من همدان ، وتغلب على صنعاء ومخاليفها قوم من همدان ، وتغلب على حصن مسار وجبل تيس قوم من حراز ، ومنه ثار الصليحى دعوة المستنصرية.

وبعهدهم تولى الحسين بن سلامة ومات فى سنة اثنتين وأربعمائة ، وتولى بعده الأمير على بن محمد الصليحى وقتل فى الثانى عشر من ذى القعدة سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة ، وتولى بعده الملك السيد الأعظم عظيم العرب المكرم أحمد ابن محمد بن على الصليحى ، ومات فى سنة أربع وثمانين وأربعمائة ، وأسند

٨٨

الدعوة إلى سبأ بن أحمد بن المظفر بن على الصليحى ، وتولى بعده سعيد الأحول ، وقتل تحت حصن الشعرين سنة إحدى وثمانين وأربعمائة.

وفى هذه السنة خرج أخوه جياش بن نجاح وخلف بن أبى الطاهر الأموى الوزير مسافرا إلى الهند ، وأول من أدار سور زبيد الحسين بن سلامة وبعده الحبشة.

وتولى بعد ذهابهم الشيخ على بن المهدى القرتبى ، وقعد على سرير الملك يوم الجمعة الرابع عشر من رجب سنة أربع وخمسين وخمسمائة ، وأقام بها على ابن المهدى بقية رجب وشعبان ورمضان ، ومات فى شوال من السنة ، فكان مدة ملكه شهرين وواحد وعشرين يوما ، وادعى الخلافة وفيه يقول :

سير الأنام قديمها وحديثها

فرح القلوب وروضة المتنزه

أشهى من الماء الزلال على الظما

وألذ من عصر الشباب الأمره

فاليوم يحتج الخليفة بعده

بالقانمين الهاديين وزهره

شبليه سبطيه اللذين إليهما

شرف الإمامة والخلافة ينتهى

ويعنى بهما معاذا وعبد النبى فإنهما توليا على زبيد وبعض الجبال مدة ست عشرة سنة ، وأداروا على زبيد سورا ثالثا ، وبعدهم ملك الغز البلاد ، فأول من ملكها شمس الدين والدولة توران شاه بن أيوب عامين ، وبعده سيف الدولة مبارك بن كامل بن مقلد بن منقذ ، وبعده أخوه خطاب عامين ، وبعده سيف الإسلام طغتكين بن أيوب ، أدار على البلد سورا وركب على السور أربعة أبواب :

باب غلافقة ينفذ إلى غلافقة ، وباب سهام ينفذ إلى سهام ، وباب الشبارق ينفذ إلى حصن قوارير ، وباب القرتب ينفذ إلى الجبل ، بالطين واللبن فى عرض عشرة أذرع.

٨٩

قال ابن المجاور : عددت أبراج زبيد فوجدتها مائة برج وتسعة أبراج ، بين كل برج وبرج ثمانون ذراعا ، ويدخل فى كل برج عشرون ذراعا ، إلا برجّا فإنه مائة ذراع ، يصح دور البلاد عشرة آلاف ذراع وتسعمائة ذراع ، وأقام متمكنا ست عشرة سنة.

وحدثنى بعضهم فى مسجد السدرة يوم الخميس الخامس عشر من ذى القعدة سنة أربع وعشرين وستمائة قال : إن سيف الإسلام أراد أن يدير حول البلد سورا ثانيا ذا طول وسعة ، وأمر الجند أن يسكنوا ما بين السورين بدوابهم وأموالهم ، فلما بنى السور وفرغ منه مات ولم يمكنه مراده ، وتولى بعده الملك المعز إسماعيل بن طغتكين ست سنين ، وبعده الأكراد سنة ، وبعدهم أتابك سنقر عشر سنين ، وبعده الملك الناصر أيوب بن طغتكين عامين ، وبعده الخواتين ثلاثة شهور ، وبعدهن غازى بن جبريل ثلاثة أيام ، ويقال : سبعة أيام ، وبعده شاه بن عمر بن شاهنشاه بن شاذى ، ويقال : سبعة شهور وبعده الملك المسعود يوسف بن محمد بن أبى بكر ابن أيوب.

ذكر الجنابذ وقتل الصليحى

هى ثلاث قباب مبنيات بالآجر المحكوك والجص ، قريب بعضها من بعض ، يكون ما بين كل واحد إلى الآخر مقدار أربعة أذرع ، بناء الأمير على بن محمد الصليحى ، وأراد أن يبنى من زبيد إلى مكة فى كل مرحلة من المراحل مسجدا

٩٠

ورباطا يذكر به بعد موته ، وما زال بينى إلى أن وصل المهجم ونزل بظاهرها بضيعة يقال لها : بئر أم الدهيم ، وبئر خيمة أم معبد.

قال سعيد الأحول بن نجاح : لما دخلنا إلى المخيم لم يشعر بنا إلا عبد الله بن محمد فركب وقال : يا مولاى اركب فهذا والله الأحول بن نجاح والعدد الذى جاء به كتاب أسعد بن شهاب البارحة من زبيد ، فقال الصليحى لأخيه عبد الله : إنى لا أموت إلا ببئر أم الدهيم وخيمة أم معبد ، ظانا أنها أم معبد التى نزل بها النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين هاجر ومعه أبو بكر ، فقال رجل لعلى : قاتل عن نفسك ، فهذه والله بئر أم الدهيم بن عبس ، وهذا المسجد هو خيمة أم معبد بنت الحارث العبسى.

قال جياش : فأما الصليحى فأدركه رفق اليأس من الحياة فأراق الماء فى سراويله ولم يرم من مكانه حتى قطعنا رأسه بسيفه ، وكنت أول من طعنه ، وشركنى فيه عبد الملك بن نجاح بطعنة ، وأنا حززت رأسه بيدى ونصبته فى عود المظلة ، وفيه العثمانى يقول :

ما كان أقبح وجهه فى ظلها

ما كان أحسن رأسه فى عودها

ودخل سعيد إلى زبيد يوم السادس عشر من ذى القعدة سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة ، وقتل سعيد الأحول فى وقعة حصن الشعرين سنة إحدى وثمانين وأربعمائة ، فلما زالت دولة بنى الصليحى والحبشة وملك مملكتهم على بن المهدى وتولى بعده بنو مهدى عبد الله ومعاذ وعبد النبى فبنوا لعلى ضريحا فكانوا يقولون لعساكرهم المهاجرين والأنصار : طوفوا حول تربة الشيخ على بن المهدى كما تطوفون بروضة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٩١

وقالت العامة : جبل قوارير عرفات ، والجنابذ الكعبة ، والبئر بئر زمزم ، وهذه التربة روضة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ويقال : إن سيف الدولة أخذ من الجنابذ مالا عظيما ، والآن يسكن فيه قوم من الفقراء من ذرية الشيخ محمد بن أبى بكر بن أبى الباطل الصريفى.

وقد أدار حول الجنابذ بدر الدين محمود بن جماز الفلاح الموصلى حائطا مربعا ، وقد بنى جمال الدين أبو الحسين على بن محمد بن وهيب درجا يصعد فيها إلى فوق القباب بحماره ، فكان أهل زبيد يقولون إذا رأوه على ذلك : محمد قد كب البراق وصعد إلى أعلى عليين ، وكان آخرون يقولون : ركب عيسى حماره.

ويقال : لما بنيت بنيت مساجد ، وقيل : تربة بعض أهله ، وكتب داخل القباب بالذهب واللازود ونقش فى الجص نقشا يبقى ببقاء العالم على هذا الوضع.

قال ابن المجاور : وصلت إلى المسجد فى أواخر ذى الحجة سنة ست وعشرين وستمائة ، وشاهدت مقتل (١) الصليحى ، وكان قد بنى على أكمة كان بالقرب منها مسجد يسمى مسجد عرفات ، ولم يبق من المسجد إلا رسوم وأطلال ، وجميع تلك الأراضى التى هى حول المسجد ملك القاضى إبراهيم بن صالح الحاكم بالمهجم.

__________________

(١) اسم مكان من الفعل : «قتل» أى المكان الذى قتل فيه الصليحى.

٩٢

وهذه صفة مدينة زبيد ، والله سبحانه أعلم وأحكم :

٩٣

صفة دار شخار بن جعفر

لما أقام ابن زياد فى زبيد بنى شخار بن جعفر دار الملك فى زبيد ذات طول وعرض بالآجر والجص بناء وثيقا على مقاطع الطريق وكل من تولى بزبيد سكنها ، وكان له باب عال بالمرة ينظرون منه من فى الطريق على فرسخين ، وحفر حوله خندق عظيم عريض ، وبقى الباب على حاله إلى أن هدمه المسعود يوسف بن أبى بكر سنة ثمانى عشرة وستمائة ، ويقال : إنما سعى فى هدمه الأمير أيبك العزيزى ، فلما هدمه أخذ آجره وبنى به دورا ، وكل ما بنى من آجره انقطع ذلك البناء من الأساس ، وقد بقى إلى الآن آثار ذلك الباب والدرجة شبه الجبل العالى ، والله أعلم.

ذكر انقطاع العرب من تهامة

لما كثر نزول العرب بها قام القائد ريحان الكهلانى ، مولى سعيد بن نجاح كبس للعرب ليلا وهم مرتبون على باب زبيد وكانوا فى ثلاثة آلاف فارس وعشرة آلاف رجل ، وحمل عليهم فلم ينج منهم إلا اليسير ، وهلك الباقون ، فسلّم العرب تهامة بعدها ، والله سبحانه أعلم وأحكم.

٩٤

ذكر النخل

أول من غرس النخل الأمير على بن محمد الصليحى ، ويقال : الحبشة فى أول دولة على بن المهدى ، لما حضروا الحبشة وصلت عير من أرض الحجاز حملهم التمر فكانوا يأكلون التمر ويرمون النوى ، فمن نداوة الأرض طلع النخل ، فلما رأت أهل البلاد ذلك وعرفوا غرسه غرسوه وكثر النخل ، وهو عشر قطع : الأبيض والكديحا والمجرشية والمحلة والأثيل والمجازع وكروة والمحجر والقهيرا والمغارس وحجنة ، وكل واحدة من هذه القطع يكون عرضها وطولها ربع فرسخ ، وأما الرطب الذى بها فثلاثة أصناف : حمارى وصفارى وخضارى ، كلها ذات ألوان مختلفة ، فإذا حمل النخل يتقبل كل واحد من الناس على قدره ، ويجىء إليه الناس من باب حرض إلى آخر أعمال أبين وينزل أهل الجبال إلى تهامة ، وكم من امرأة تطلق من جهة النخل وكم تنكح امرأة من جهة النخل قال الشاعر :

هذا الشقح واللقح والطلع منه قد افتتح

يا غازلات اغزلوا فالنخل قد صار بلح

وقال آخر :

من عرف النخل والقباله

أمسى وفى قلبه ذباله

وعاش فيه معاش سوء

وناله الدّين لا محاله

ويقيمون الناس فى النخل مدة شهرين أو ثلاثة ويكون غالب أكلهم الحموضات

٩٥

والملوحات ، وهم فى لعب وضحك وشرب ، ويعمل من التمر والبر والرطب نبيذ يسمى الفضيخ يصح عمله فى يوم وليلة ويشرب النساء مع الرجال ، ويقولون : إنه ينفع ، لكن مضرته أكثر من نفعه (١) وأول من عمله فى هذه البلاد رجل من أهل الشام ، ويحصل منه كل عام تسعين ألف دينار غير الذى يصل إلى الخزانة وعمال السلطان ونواب الديوان وغير النخيل السلطانية والأوقاف وغير الذى لأرباب الجاهات وأصحاب الدولة ، يصح من جميع ما ذكرناه مائة وثلاثون ألف دينار ، وكان ضمانه فى دولة الحبشة وأيام بنى المهدى كل عام سبعون ألف دينار ، وما يأخذونه نقدا ، بل تمرا ، ويخرج حوالات والصرف ثلاثة جوز درهم ، وكل أربعة دراهم دينار ، وكل أربعة دنانير ونصف بدينار أحمر.

وما رجع خراج النخل كذا إلا أن سيف الإسلام أوصى طغتكين بن أيوب بالعدل على أهل الحرث والظلم على أهل النخل ، فهو الذى ابتدى بهم من عهده ، فقيل له فى ذلك فقال : إن الفلاح يحرث ويسقى ويبذر ويحصد ويعزق ويذرى فى الهوى ويجد مشقة عظيمة فالواجب أن يرفق بهم [أما] أصحاب النخل فإنهم يجنون الثمرة من العام إلى العام بلا عناء ولا تعب كما قال الله تعالى : (وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ)(٢) وكل نخل يهرب منه صاحبه يأخذه السلطان على كيسه بالخراج الذى عليه له ، وكل نخل يأخذه السلطان يسمى الصوافى ، أى يصفى لبيت المال.

__________________

(١) يراجع هذا الموضوع بتوسع فى كتاب : «الأشربة وذكر اختلاف الناس فيها» لابن قتيبة ، تحقيق / ممدوح حسن محمد ، من إصدارات : «مكتبة الثقافة الدينية».

(٢) الآية : ١٠ من سورة ق.

٩٦

قال ابن المجاور : وبلغ مال النخل سنة أربع وعشرين وستمائة مائة وعشرة آلاف دينار نقدا غير ما حمل إلى الخزانة ، وفى هذا العام قال أهل زبيد :

ما شاء النخل ولا شاء زبيد ، يعلق بالمليمة ويضرب بالجريد.

وما استخلص هذا المال إلا الأمير الوالى الصارم مابس الكاملى ، كان من وزن قبالة وزن مثله مضاعف ، فإذا فرغ النخل خرج الصغار مع الكبار والأخيار مع الفجار بالطبل والزمر بعدما يكبسون جملا عدة تامة من الأجراص والقلاقل ويشد فى رقبته المقانع والحلى ، ويركب كل أربعة من الناس على جمل ، وناس منهم على الشقادف ، يمشون إلى مسجد مشرف على ساحل البحر ، والموضع موضع مبارك فيه وطئة ناقة معاذ بن جبل وإثر كلكلها لما رجع من اليمن إلى الحجاز بعد وفاة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم عبر على هذه البلاد والسواحل ، ويسمى هذا الموضع الفازة ، أعنى الذى يتبحرون فيه ، وينزل فيه النساء مع الرجال فى البحر خليط مليط وهم فى شرب ولعب ورقص وقصف وزائد وناقص ، وما يخرج إلى هذه الأماكن إلا فى كل أسبوع يومين : يوم الاثنين ويوم الخميس ، وإذا رجعوا من هنالك دخلوا البلد رأسا واحدا.

ذكر شجر الكاذى

هو شجر يطلع فى ناحية مسجد معاذ بن جبل يشبه النخل ، وهو ورد على هيئة الصبرة التى تزرع فى العراق والهند فى المراكز فى سطوح الدروب ولكن ورق الكاذى رقيق شبه خوص النخل ذات شوك خشن ، لم ينعقد ورده إلا من برق البرق ، فإذا برق البرق طلع منه كثير بالمرة ، وإن لم يكن البرق لم يكن منه شىء ، وهذا

٩٧

شىء عجيب (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ)(١) وكذلك لا يستدل على إقليم الجاوة مسافرو البحر إلا بكثرة لمع البرق ، لأنه يكون فى أيام موسم سفارة الجاوة الأمطار كثيرة ، ويستد الأفق بالغمام ويشتد هيجان البحر.

وقال آخرون : إنه يطلع فى تلك الأعمال شجر السندروس كثيرا ، فإذا جرى السندروس من شجره بان لأهل السفارة البحر كلمع البرق وذلك من كثرة الأمواج التى ترفع المركب وتهبطه.

ويقال : إن الكاذى يتربى من البرق ، وكذلك الحنّون لم يفتح إلا فى الليالى البيض ، والخيار يدور مع دور الشمس واللينوفر ، ويزيد مد البحر فى الليالى المظلمة ، وكل خشب يقطع فى ليالى البيض يسوّس ، وكل خشب يقطع فى نقص القمر يتلفه السوس ، ولم يقطع الطواحين إلا فى الليالى البيض ، وينقطع جميع مياه الأرض عند طلوع سهيل ، ولم تصح دباغة الأدم إلا به ، وقال ربان بن جبير : إذا طلع سهيل نقص ماء البحر أربعين ذراعا.

وأما ورد الكاذى فلم يكن فى سائر المشمومات ألذ منه رائحة ولا أطيب منه ، وماؤه بارد يابس ، ينفع لمن هو محرور رطب ، ويسمى عند الهنود كيورا.

__________________

(١) الآية : ٨ من سورة النحل.

٩٨

صفة زبيد

سماها النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أرض الحصيب ، لأن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لمعاذ بن جبل : يا معاذ ، إذا وصلت أرض الحصيب فهرول ، فإن بها نساء يشبهن حور العين. قال الهبيتى :

وقل لجناتها سأبدلها

سيلا كسيل مأرب عرما

أيشرب الخمر فى ربا عدن

والسمر والبيض فى الحصيب ظما

وله أيضا :

ولرب يوم بالحصيب وردتّها

بالقطب كان على الأعاجم أكره

وعواصف بحصيبة عصفت على

حبشانها وعلى الدعى الوهوه

ولابن المجاور :

محب ومحبوب قضى الدهر فيهما

ببعد وهل للشمل جمع مهذب

فها ذاك فى أرض الحجاز موسوس

وهذاك فى أرض الحصيب معذّب

وتسمى أرضها تهامة ، وأما تهامة فإنها قطعة من اليمن وهى جبال مشتبكة ، وكلها مشرف على بحر القلزم (١) مما يلى غربيها ، وشرقيها بناحية صعدة وحرض ونجران ، وشماليها حدود مكة ، وجنوبيها من صنعاء على نحو عشر مراحل ،

__________________

(١) هو البحر الأحمر.

٩٩

وتسمى فى عدن الشام وتسمى فى المهجم اليمن ، وتسمى عند آل عمران كوش ، وتسمى باللغة المعروفة زبيد ، من إقليم اليمن لأنها أيمن القبلة.

وقال النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنى لأجد نفس الرحمن من قبل اليمن» والمعنى فى قوله لأويس القرنى وكان يتنفس شوقا إلى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولأجل هذا أخبر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذا الخبر.

وقال النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الكعبة يمانية ، والركن الأيمن يمانى ، والإيمان يمانى».

وذكر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى معنى اليمن أخبارا كثيرة ، ويقال : سهيل اليمن وجزع اليمن وعقيق اليمن ، وقال الشاعر :

بعدت ورب العرش عمن تحبه

هواك عراقى وأنت يمانى

وقال آخر :

قالت لأخت لها تبدى مراجعة

وما أرادت بها إلا لتقلقنى

بالله قولى له من غير معتبة

ماذا أردت بطول المكث فى اليمن

وقال آخر :

وما غريب وإن أبدى تجلده

إلا سيذكر بعد الغربة الوطنا

إلا العراقى والمصرى فإنهما

لا يرجعان إذا ما شارفا اليمنا

وقال قيس بن الملوح العامرى :

ألا لا أحب النسر إلا مصاعدا

ولا البرق إلا أن يكون يمانيا

وقال ابن المجاور :

كرا من بر اين همى نبستم

جرا ديده أم چون عدن

١٠٠