تأريخ المستبصر

ابن المجاور

تأريخ المستبصر

المؤلف:

ابن المجاور


المحقق: ممدوح حسن محمّد
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٤٠

جعلنا فى أفضل المجالس وأشرفها ، فقال : أنت فى جدة الصلاة فيها بتسعة عشر ألف صلاة والدرهم فيها بمائة ألف وأعمالها بقدر ذلك يغفر الله للناظر فيها مد بصره.

قال ابن المجاور : وما أظن هذه البركة إلا من جهة أم البشر حوّى صلوات الله عليها لأنها مدفونة بظاهر جدة.

وكان الفرس قد بنوا عليها ضريحا بالآجر والجص محكما بقى إلى سنة إحدى وعشرين وستمائة فعند هذا التأريخ تهدم وارتدم بعضها على بعض ولم يعد بناءه ، ورأيته عامرا قائما ، وقد رأيته خرابا وقد ارتدم بعضه على بعض ، وهو موضع مبارك مستجاب فيه الدعوة.

ذكر أخذ الجزية من المغاربة

حدثنى إسماعيل بن عبد السيد بن البيع البغدادى قال : إن الأمير على بن فليتة ابن قاسم بن محمد بن جعفر بن أبى هاشم كان يأخذ من المغاربة جزية فى جدة إذا قدموا للحج ، كان يأخذ من كل رأس سبعة يوسفية وزن كل يوسفى ثلاثة عشر قيراطا وحبة بوزن مكة ، وكان القواد يوزنون المغاربة أيضا على كل رأس يوسفى فى دية الكلب.

والموجب لذلك أنه جاء فى جدة كلب فأخذ رغيف خبز فالتامت المغاربة فقتلوه فقامت القواد ليقتلوا المغاربة ، فلما رأت المغاربة عين الهلاك أقروا على

٦١

أنفسهم أن يزن كل واحد منهم يوسفى فى دية الكلب ، فتقرر ذلك عليهم فكانوا يزنون للأمير سبعة يوسفية ويوسفى للقواد وصار المبلغ ثمانية يوسفية على كل رأس.

ومن لم يزن كانوا يأخذونه ويدلونه فى صهريج من صهاريج جدة ، والأصح فى صهريج مسجد الأبنوس ، ويقال : إنهم كانوا يصيرونهم إلى جزيرة صندلة ، وقيل : إلى جزيرة أبى سعيد ويعلقون أحدهم بحقوه وقد عرش بها أخشاب لهذا الفن.

فإذا حج الناس وقضوا مناسكهم وأفاض كلّ راجعا إلى مقصده فحينئذ يخرجون المغاربة من الصهاريج والجور وقسطوهم على المراكب الراجعة إلى مصر والراجعة إلى عيذاب والقلزم.

فصل : سئل قائد من القواد : لم تأخذون منهم هذا اليوسفى وهم أشد الناس بخلا وأنزق الناس فى الخلق؟ قال : لقول الشاعر :

وخذ القليل من البخيل وذمه

إن القليل من البخيل كثير

قال الحسن بن محمد بن الحوت : ليس هو كذلك وإنما كان يزن أحدهم سبعة يوسفية ونصف كل يوسفى ستة وعشرون قيراطا وحبتين بوزن مكة ، وفى دية الكلب نصف يوسفى فصار المبلغ ثمانية يعقوبية ، أسس ذلك فى دولة الأمير عيسى ابن فليتة وبقى يحيى على حاله إلى أواخر دولة الأمير مكثر ، فلما كثرت الأقاويل ووصل هذا الخبر إلى مسامع العالم أنفذ صلاح الدين أبو المظفر يوسف بن أيوب إلى الأمير مكثر بأربعة آلاف أردب حنطة ، والأصح ستة آلاف أردب ، إلى جدة وإلى مكة وقال له : خذ هذا القدر واترك عن المغاربة الجزية مع دية الكلب ، فأزال الأمير

٦٢

مكثر ذلك كله فى سنة ست وثمانين وخمسمائة ، وبقى الأمر على حاله فى أيام الأمير قتادة بن إدريس بن مطاعم بن عبد الكريم وأراد ان يرد الشىء إلى أصله ، يعنى أخذ الجزية من المغاربة فأدركه الموت وارتفع عنهم.

حدثنى أبو الربيع سليمان بن الربيع الطرابلسى قال : وكان ملوك الفاطميين يوزنون ، المغاربة جزية على كل رأس دينارين وقيراطين.

فصل : قال ابن المجاور : رأيت فى المنام ليلة الثلاثاء ثالث عشر ذى القعدة سنة أربع وعشرين وستمائة كأنى حدثنى الأمير ناصر الدين فاروت والى عدن ، وفى هذا التأريخ تولى إمرة الحاج إضافة إلى ولايته الأولى ، وكان الحاج قد رجع من مكة إلى اليمن ، وكأنه يقول : كل من حج ورجع إلى الهند يوزنه عبد الغفور بن أحمد ابن محمد بن محمد الصناديقى البصرى جزية عن كل رأس اثنين وتسعين قلى ، ولو أن الحاج عقّال لما سافروا إلى الهند إلا فى مركبى حتى كنت أعطيهم مقرعتى فيأمن القوم من شر عبد الغفور فى أخذ الجزية منهم ، وبنو مهدى ولاة زبيد ما كانوا يستحلون أخذ المكوسات من أحد ما خلا الحاج ، وإنهم كانوا يأخذون منهم مقام الدرهم ثلاثة دراهم.

ذكر الجار

وهو مرسىّ قريب من جدة ترسى فيه المراكب الواردة من الديار المصرية وهو بحر أسود جيفه وموج هائل تبطل فيه حيلة السابح.

فصل : سمعت من ألفاظ جماعة بمكة وغيرها أنه وقع من يد بعض السراملة

٦٣

قدوم بهذا المكان فشد فى وسطه جراب ونزل ليأخذ الفاس فلما غور فى النزول سمع هاتفّا يقول له : إلى أين أنت نازل يا عبد الله؟ فقال : نزلت لآخذ ما انفلت من يدى ، فرد عليه الهاتف : انفلت من مركب بهذا المكان أنجر فهو فى النزول إلى قيام الساعة ، والله أعلم وأحكم.

ذكر جزر مطارد الخيل

يقال إنه فى قديم العهد لم يكن هذا بحرا وإنما كان عرصة إلا أنه لا فرق بين بر العرب وبر السودان ، فلأجل ذلك أن السودان كانت تملك إقليم اليمن جميعا دائما فى زمن الجاهلية والإسلام ، ولما كثر الماء فى البحر وظهرت صعوبته من قريب صاروا يعدونه فى المراكب ، فلما غرّق البحر هذه الأراضى وكل موضع كان عاليا رجع جزيرة فى البحر يقال لها جزر المطارد ، أى مطارد الخيل ، ويقال : ان العرب فى قديم الزمان كانوا يطاردون الخيل فى قعر هذا البحر لما كان ناشفّا ، ويقال : مرابط الخيل بهذه الأمكنة والعلف والشجر موجود.

صفة جدة

هى مدينة صغيرة على ساحل البحر وهى فرضة مكة ، وليس يمكن بها السكون لازدحام الخلق بها فى أيام الموسم الحاج لأنه يلتام إليها من جميع أطراف بلاد العالم والربع المسكون والبحر المعمور من ديار مصر والمغرب والهند واليمن ، وإذا قل الماء على أهلها نقلوه من القرين من نصف الطريق ما بين مكة وجدة ،

٦٤

وأهلها من نسل العجم وبناؤهم من الحجر الكاشور وخوص وكلها خانات ، والخان المعروف بها خان البصر ، وهما خانان متقابلان بمخازن كبار ، ويقال : إنه بنى بظاهرها الأمير شمس الدين طنبغا خان كبير عظيم سنة ثلاث وعشرين وستمائة ، وكل من بنى بها بيت خوص يزن للسلطان فى كل بيت فى السنة ثلاثة دراهم ملكية ، وأما الدور التى هى بالحجر والجص فليس عليها شىء لأنها ملك لأصحابها وفى تصرف أربابها.

ويقال : إنما سميت جدة جدة لأنها دفن بها أم البشر حوّى ، عليها‌السلام ، فهى جدة جميع العالم ، فلما بنى هذا البلد عرف باسم جدة ، أى حوى زوج أبى البشر عليه‌السلام.

ويقال : إنما سميت بلاد العرب جزيرة لإحاطة البحار والأنهار من أقطارها وأرجائها فصارت بلاد العرب جزيرة من جزائر العرب.

ومن مكة إلى المحالب

من مكة إلى القرين فرسخ ، بناه الأمير هاشم ، وإلى البيضاء فرسخين [كذا] وإلى ايدام ثلاثة فراسخ ، بئر حفره أمير المؤمنين على بن طالب وجدده القائد الحسين بن سلامة.

وإلى وادى المحرم ثلاثة فراسخ ومنه يحرم حاج اليمن ، وإلى فرع خمس فراسخ ، أرض بنى شعبة ، ليس يلبس نساؤهم إلا الأدم ، وذلك أن المرأة تأخذ طاقين من الأدم تخيط بعضه إلى بعض وتقور فيه قوارة وتكتسيه ، فإذا مشت بان جميع

٦٥

بدنها من فوق ومن تحت ، وإذا رأى غريب المرأة على ذلك الزى يقول لها : استترى فيقول له زوجها : اكسها ، وإن كانت امرأة عريانة وهى لابسة فيقول له زوجها : اكسها ، فإن كساها وإلا قتله لأنهم يقولون : من ستر غيّر.

ولم يكن فى جميع العالم أضل من هؤلاء القوم ولا أسرف ولا أجرم ولا أخسر منهم فى أخذ مال الحاج لأنهم يسمون الحاج جفنة الله ، فإذا قيل لهم فى ذلك يقولون : إذا حضر جفنة الله لخلقه أكل منه الصادر والوارد.

وإذا قلت لأحدهم : قطع الله رزقك من الحرام! يقول : لا ، بل قطع الله رزقك من الحلال ، ما ترى عندنا من الخير سوى هذه الجبال السود لا لنا زرع ولا ضرع ولا أخذ ولا عطا ، وجميع ما تعملونه أنتم مع حاج آخر جاء مقابل الكعبة من الفضائح والغنائم فسلطنا الله عليكم حتى نستقضى للحاج منكم الحق وثلث الباطل ، ولذلك تقول العجم فى أشعارها :

از سيم قوافل انه بل آيدنه رباطى

زيرا كه همه توشه حجاج ربايند

وإلى السرين ثلاث فراسخ ، بناية الفرس على ساحل البحر ، وإلى وادى الأثلاث ثلاث فراسخ ، وإلى حصارة خمس فراسخ ، وإلى حلى سبع فراسخ ، بلد فيه جامع ومنارة ، وأول من أخربها غازى بن متكلان من بنى حارث الكردى فى أيام دولة سيف الإسلام طغتكين بن أيوب ، وبقى المكان على حال إلى أن أعاد بناءه موسى ابن على بن عطية ، وهو إلى الآن مالكها ، وجميع هذه الأعمال لبنى كنانة ، وإنما اشتق اسم حلى من الحلى الذى جمعه السامرى من بنى اسرائيل فى أيام هارون بن

٦٦

عمران عليهما‌السلام وجعل منه صورة عجل ، كما قال الله تعالى : (فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ)(١).

وفى مشارق هذه الأعمال قوم يقال لهم البهيمية وهم يرجعون فى الأصل إلى آل عامر ، ويرجع آل عامر إلى سنحان ، فإذا نزل بهم ضيف يقول له : بم تعشّى؟ يقول : بكذا ، وبم تغدّى؟ وما يقدم له إلا ما طلب واشتهى عليهم ، فإذا تعشى يقول الرجل لزوجته : روحى أكرمى الضيف! فتجىء المرأة فتنام فى حضن الضيف إلى الصباح ، بلا خوف ولا حذر ، ويقوم الصبح كلّ يغدو إلى شغله.

فإذا خطب زيد بنت عمر وأنعم له عمرو بإيجاب القول دخل زيد إلى بنت عمرو واستفضها وبات معها طول ليلته ، فإذا أصبح خرج وترك نعليه فى بيت بنت عمرو فيعلم عمرو أنه رضى بها ، فحينئذ يعقد له عقد النكاح ، وإن لبس حذاءه وغدا علم عمرو أن زيدا لم يرض ببنته ، وهذا فى أجاويد هؤلاء القوم.

ومصاغهم الصّفر والحديد والرصاص ، ولباسهم الجلود المدبوغة ، وجواهرهم الودع ، ومهرهم قطع الطريق ومنع السبل.

وإلى الدبساء خمس فراسخ ، وثغر وادى عمق وهو سخل ويعرف بشرم الجارية ، خور من البحر ، يخاض فيه مخاضة ، وما عرف بها إلا أنه خاضته الحجاج ، فلما توسطوه زلق جمل وعليه جارية فوقعت الجارية فى البحر فأخذها المد وراحت فعرف الشرم ، أى الخور ، بالجارية.

__________________

(١) الآية : ٨٨ من سورة طه.

٦٧

وإلى ذهبان أربع فراسخ ، وسكانه عرب مجمّعة من بنى أسد وبنى ريح وبنى عاصم وبنى رفدة ، إذا نزل بهم نزيل يقولون له : بوّس وساحق وعض وعانق ، يعنى صاحبة البيت ، ولا تدخل معها ، أى لا تطأها ، فإذا أدخلت معها أدخلنا معك هذا الخنجر.

ويسمى وادى الدّوم ، وما سمى بذلك إلا لكثرة نخل الدوم بها ، وهو شجر المقل ، وفى وادى الدوم يقول الشاعر :

وآخر عهدى منك يوم لقيتنى

بأسفل وادى الدّوم والثوب يغسل

ويرى جبل كدمّل مما يلى البحر.

ذكر جبل كدمل

وهو نصف الطريق ما بين الحجاز واليمن وأول بطن عثر ، ويقال : خبت عثر ويقال : كامل وامرأته وحماره ، وهم ثلاثة أجبال : جبل كدمل فى البحر وفى لحفه جبل صغير يسمى الحمار ، ويقابله فى البر جبل يسمى الكليتان ، والكليتان هى التى تسمى المرأة ، فيقال : كدمل وزوجته وحماره ، ولا شك أن هؤلاء كانوا جنّا أو بنى آدم مسخوا جبالا وأحجارا ، وجبل كدمل هو فى الأصل معدن الحديد.

قال ابن المجاور : وكم سألت على أن أقع لهم على علم تحقيق فلم يحصل ذلك.

وإلى بيض أربع فراسخ ، وهو واد ، وإلى الراحة أربع فراسخ ، وتسمى محل

٦٨

أبى تراب ، وتسمى راحة المؤيد ، وهو المؤيد أحمد بن غانم بن قاسم بن غانم ، وهى قديمة بنتها الأشراف.

فصل : قال ابن المجاور : رأيت فى المنام ليلة الخميس غرة رمضان سنة عشرين وستمائة كأنى أقرأ كتابة على حجر منقوش ، وكان الحجر بنى فى جملة أحجار محراب الجامع وإذا فيه مكتوب : إن الراحة والحوى بناه العجم.

حدثنى عبد الله بن محمد الراحى بزبيد سنة تسع عشرة وستمائة أنه وجد على باب الراحة مكتوب : (رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ)(١) فخرج من المدينة هذه عشية يوم الجمعة ألف جرير يتبعها ألف بعير عليها ألف عذراء وأصبح صباح يوم السبت لا يدرى أسماء رفعتهم أم أرض بلعتهم ولا علم لهم خبر ، فاعتبروا يا أولى الأبصار.

ووجدنا أيضا سطرا مكتوبا : بدّلنا حمل در بحمل بر وما مسنا ضر ، والله المستعان.

ووجد مكتوب أيضا فى مدينة أبى سيار من أعمال حران : طلبنا البر بالدر فما وجدناه.

وفى المدينة ثلاثمائة وستون بئرا على كل بئر صخرة عليها مكتوب : لا إله إلا الله موسى كليم الله ، مع التالى لها : كلهن ينبشن وتحفر بيدك تشرب الماء.

وإلى هجر أربع فراسخ ، ومن هنا إلى حران يعرف بالدرب ، ومن هذه الحدود

__________________

(١) الآية : ٨٩ من سورة الأنبياء.

٦٩

إلى زبيد يسمون أهلها الشمة لأن هذه الأعمال تسمى فى زبيد الشام وتسمى الساعد ، وليل هذه الأعمال طيب ونهارها كرب فيقال : حرض ليلها طابة ونهارها مصلابة ، والله أعلم.

صفة زواج أهل هذه الأعمال

من يوم تدرك البنت إلى يوم تعرس لم يمكنوها من النتف بل تطول الشعرة مع طول الأيام ، وتربيها إلى أن تضفرها دبوقة ، ويقال : إنه يدهن ويسرح ويغسل بالدر والطين ، أى الشعرة ، فإذا كان ليلة عرسها ضفرت شعرتها دبوقتين ، وتشد كل دبوقة منهما فى إحدى فخذيها وتجلى على زوجها ، فإذا خلا بها وقعد منها مقعد الرجل من المرأة فحينئذ يمسك الرجل تلك الدبوقتين ولا يزال يمدهما إلى أن يقلعهما من الأصل ، فإذا قلعهما استفضها بعد ذلك ، فإذا أصبحت من الغد تزورها قرابتها ومع كل واحدة منهن صحن زبد فيقولون لها : كيف حالك مع الزبة؟ فتقول : بخير كبياع الدبة ، وتداوى الموضع بالزبد ليرد عنها الألم ، لأنه يقلع الشعر مع الجلد ، وهذا زى القوم.

وإلى الهدية ثمان فراسخ ، ومنها يجلب الزنجبيل الطرى ، وإلى المحالب فرسخان ، وهى أرض عنترة العبسى وقومه ولها واد يسمى مور.

٧٠

ذكر هبة الإمام أبى موسى

الأمين بالله هذه الأعمال

حدثنى عبد الله بن محمد بن يحيى المهجمى قال : لما كثرت الأشراف بأرض الحجاز خرج منهم قوم إلى العراق فى خلافة الإمام أبى موسى محمد الأمين بالله أمير المؤمنين ابن هارون الرشيد واستوهبوا منه أرضّا يقيمون فيها ويأكلونها ، فأقطعهم من مكة إلى الهلية طولا ومن صعدة إلى ساحل البحر عرضا ، فبقيت هذه الأعمال فى أيدى القوم وهم فى عيش هنىء يأتيهم رزقهم رغدا من كل جهة ، وبقى يحيى بأساميهم إلى سنة خمس عشرة وستمائة ، فضعفت القوم ودخلت عليهم يد الغز فخرجوا من البلاد وخرجت البلاد من أيديهم وصارت فى حوز الغز وفى قبضتهم ، وأحد من تولى بها من القوم الشريف المؤيد بن أحمد بن قاسم بن غانم ، وانقرضوا ولم يبق لهم فى البلاد خبر ، كما قيل :

عنا العقيق وأقوى منه معهده

وحال ما فيه عما كنت أعهده

فما الوقوف بربع لا محاسنه

تجلى ولا يومه يرجى ولا غده

من المحالب إلى صعدة

من المحالب إلى حردة ثلاث فراسخ ، وإلى المدارة ثلاث فراسخ ، وهو وادى الصما وبه الوحش الكثير ، وإلى شمر فرسخان ، وإلى قلحاح فرسخ ، وإلى الأفرور

٧١

ثلاث فراسخ ، وإلى الظّهيرة فرسخان ، ويعرف بوادى اليمانى ، وما سمى هذا الموضع بالظهيرة إلا أنه ظهر فى فم واديين فى وادى مور ، وله من وادى حوث ، ووادى حرف أوله وله من الجبال الشرقية ، فإذا سال الوادى وصل جريانهما إلى الظهر فى ساعة واحدة يحبس كلّ صاحبه ، فكل من قوى على الآخر سده ورد جريانه ويبقى الآخر فى السيل إلى أن تزول حدته ، فحينئذ يقوى العاجز على القوى لقطع حدته ويخرب ، ولا يزالان على حالهما إلى أن يفرغ الواديان من جرى السيول ، وهذا دائم إذا صادف حد الواديين فى ساعة واحدة.

وإلى شطب خمس فراسخ ، بناه آل برمك ، وقيل : أواخر البرامكة الذين كانوا سكنوا هذه المدينة ، ويقال : إن نسلهم باقون ولكن ضعفت بهم الحال وقل فيهم المال.

وإلى حوث عشرة فراسخ ، سرير ملك الشرف من آل الحسن بن على بن أبى طالب ، وإلى صعدة أربعة عشر فرسخا ، وهو سرير ملك عبد الله بن حمزة الحسينى.

من المحالب إلى زبيد

من المحالب إلى المهجم ثلاثة فراسخ ، ويقال : إنما سميت المهجم بالمهجم لأن الأشراف كانت تهجم عليهم كل حين فكان القوم إذا رجعوا إلى أوطانهم سألوهم : أين سريتم؟ يقولون : المهجم ، واسمها سردد ، وعليها سور ، وقد خرب واندثر ، ويشرف عليها جبل يحاكى عنان الأفق يسمى ملحان تغطى ذروته الغيم ،

٧٢

وقد بنى على أعلى ذروته مسجد يسمى الشاهر لأنه اشتهر برفعه على ما حوله من الأعمال ، ويقال : إنه مسكن الخضر ، عليه‌السلام ، وهو جبل عال عاص على الملوك باليمن.

وبها من الحصون ما شاء الله شبه قطع الشطرنج بيان لناظره علوها من أبعد مكان ، يعنى من تهامة ، وأهله قوم من آل حمير ومنهم الذى يقول :

ستذكر قومى نجدتى ومكارمى

وما فعلت قومى بقيس أفاعلا

بنيت لهم مجدا من النجم والعلى

وصاروا خيار الناس ثم الأقاولا

فحمير أرباب الملوك وخيرها

فهم من قديم الدهر كانوا الأفاضلا

وفى هذا الجبل تنبت الشمة.

وإلى الكدراء خمس فراسخ بناها الملك دقيانوس على جاحف الوادى ما بين أراك وشجر.

وحدثنى عمر بن على بن مصبح قال : حدثنى يوسف بن الهمدانى قال : إنى قفّزت حصانى جاحف الوادى فقفز قعره وكان عرضه يومئذ فى ذلك العهد ثلاثة أذرع وعمقه مثل عرضه فى أواخر دولة الحبشة وأوائل دولة بنى مهدى ، والآن صار واديا عظيما يكون عرضه أكثر من ثلاثة آلاف ذراع لأن السيل أكله ، ولم يكن فى قديم الأيام واديا بل كان الوادى وسط المدينة وكان على البلد سور وخندق وأبواب.

قال : وأهلها يشربون الماء من جاحف الوادى وللاستعمال يستقون من آبار عندهم ، لأن مياه آبارهم مالحة ، ولم يبنوا دورهم إلا من آجر يخرجونه من الأرض من الردوم ، وطول كل آجرة نصف ذراع فى عرض مثلها من بناء الأوائل.

٧٣

وحدثنى عمر بن على بن مصبح قال : جاء بعض الأيام سيل عظيم فى بعض السنين وجاء السيل مع جريانه برجل ميت قد مصته الأرض وقد صار شبه القد طوله سبعة أذرع ، وقيل : خمسة أذرع مقلدا بسيف ، فقصوا الأثر فوجدوا أنه كان دفن قائما فى أيام دقيانوس الملك.

واستدل على ذلك أنه ما كان القوم يدفنون موتاهم إلا قياما ، ويقال : كذلك دفن إبراهيم الخليل ، عليه‌السلام ، ودفن عبد المؤمن بن على الكوفى ومحمد بن الحسين بن تومرت البربرى فى حصن الغار ، ويسمى حصن المهدية ، وإنما يفعلون ذلك ليكون الملك قائما فيهم إلى يوم الدين ، وهذا هو الجنون بعينه.

ومما ذكره عمارة بن محمد بن عمارة فى كتاب المفيد فى أخبار زبيد أن القائد الحسين بن سلام اختط مدينة الكدراء على وادى سهام واختط مدينة المعقر على وادى ذؤال ، ويقال : معاملة الكدراء من الدومتين إلى قرب المزحف طول إلى المسجد الذى بناه ابن وهب قريبا من القحمة ، وفى الجبل إلى البحر طول ، ودخلها كل يوم ألف دينار ، وتسمى سهام كما قال :

أرى الشأم يدنو كل يوم وليلة

ويبعد منى سردد وسهام

ففروجى وقلبى فى دمشق ومهجتى

وجسمى منىء قد حواه سهام

وقال آخر :

ما لى وصحبة سكان العقيق وهم

إن عاهدوا غدروا أو ذكروا جحدوا

يا حبذا جاحف الوادى إذا لعبت

فيه الغصون وغنى طيره الغرد

٧٤

فصل : تولى أعمال الكدراء القائد بلال فى دولة الأمير فاتك بن محمد ونشأ فى عهده القائد فرج بن إسحاق فكان يأكل ويشرب إلى أن عبر أكله الحد فضجر منه خاله بلال ، فلما رأى ذلك خرج فرج بن إسحاق ومعه عبد أسود وكانوا يقطعون الطرق ما بين حرض والمحالب مدة عامين ونصف ، بينا هم فى حالهم عاملون إذ قال العبد الأسود لفرج : يا مولاى ، أخاف إذا وصلت مع بلال تنسانى ، فأنشد فرج قول الشاعر :

إن الكرام إذا ما أيسروا ذكروا

من كان يألفهم فى المنزل الخشن

فما زال (١) العبد يردد البيت إلى أن حفظه ، فمات القائد بلال وطلب فرج بن إسحاق ، فلما حضر ولوه أعمال الكدراء فرجع فى الأمر والنهى والأخذ والعطا ، فلما طال البعد على العبد طلب سيده ودخل الكدراء فكتب البيت المقدم ذكره فى رقعة وعرضها على فرج بن إسحاق ، فلما وقف على الرقعة طلب العبد وأدخله وأحسن إليه غاية الإحسان وولاه موضعا يعيش فيه باقى عمره ، وفيه يقول :

ظباء فى الفلا سنحوا

هم منحوا وما منحوا

وصادوا ثم ما صيدوا

هم أخذوا وما صفحوا

هم قتلوا فتّى وجدا

وقالوا : إنهم مزحوا

__________________

(١) فى الأصل : «فلا زال» والصواب هو المثبت ، لأن الفعل «زال» إذا نفى ب «ما» أفاد الاستمرار ، كما هو هنا ، وإذا نفى ب «لا» أفاد الدعاء ، تقول : لا زلت بخير ، أى : أرجو أن تكون بخير ، وقد قال ذو الرمة :

ألا يا اسلمى يا دارمى على البلا

ولا زال منهلا بجرعانك القطر

٧٥

ألا شلّت رماتهم

ألا يدرون من جرحوا

قتيلا من سهامهم

على دمه قد اصطلحوا

سقى الصهباء ممتزجا

فمغتبق ومصطبح

ألا يا أيها الركبا

ن والركب الذى انتزحوا

بكم قد ضاقت الدنيا

وضاق الأمر فانفسحوا

إلى الكدراء فارتحلوا

وقائد جيشها امتدحوا

عليكم بابن إسحاق

ففى فرج لكم فرح (١)

وفتح باب العطا على نفسه لكل قاصد ووافد ولكل دان وناء فلامه الناس على ما يفعل فى إتلاف الأموال والمحصول ، فأمر أن يكتب على باب داره :

من عز بز ولم تؤمن بوائقه

ومن تضعضع مأكول ومذموم

لا بارك الله فى مال أخلّفه

للوارثين وعرضى فيه مشتوم

وإلى الفحمة فرسخ ونصف وتسمى ذؤال ، وذؤال كل ما هو بين البحر والجبل من مقابلة ، ويوجد بها الموز الطيب والرمان المليح ، ويقال : إنه يجلب من جبال اللوى وإنه فيها غير مملوك ، ويقال : إن المفاليس والقحمة على طالع ، وذلك أنه إذا ظهر فى غرب البلاد فساد وبدا منهم خلاف نهب الأشعوب المفاليس ونهب المعازبة القحمة فى لمح الطرف ، لأن هذه القبائل مقاومة لهاتين المدينتين وهم عصاة طغاة.

__________________

(١) فى الأصل : «فرج» بالجيم ، وما أثبتناه لتوحيد حرف الرّوىّ.

٧٦

وقد بنى جمال الدين على بن الحسن بن وهب مقابل القحمة على جبل حصن الأضوح فى غرة شوال سنة اثنتين وعشرين وستمائة ، وكان قديما خربه ملك من ملوك العرب ، وجدد ابن وهب بناءه وأحكمه غاية الإحكام.

ومن القحمة إلى محل إبراهيم ثلاث فراسخ ، وإلى سفاكا ثلاث فراسخ ، وهو حصن بنى على أعلى قلة جبل عاص على ملوك اليمن ، ومنه يجلب الحمر ، وهو التمر الهندى إلى كل بلد.

وفى هذه البلاد عقد لم تسلك لكثرة شجرها ووعرها ، ويقطع من هذه العقد خشب يسمى الرقع يعمل منه النشاب ويسلف منه على النجارين من الديوان كل ألف فردة بدينارين ملكية ، ويكون بهذه العقد النارنج والأترج والليمون والموز ضائع لا مالك له ، وهذه الأشجار بين أنهار وعيون ، ويوجد فى مياهها الحيات العظام.

وإلى زهران ربع فرسخ ، حصن بناه العرب فى وطأة مثل الكف فاستفتحه الملك المسعود يوسف بن محمد سنة عشرين وستمائة.

ذكر الأودية التى يقطع منها الخشب

لأجل العمارات

من معاملة ذؤال وادى نبع ووادى ريمان ووادى عرم ووادى جابية والمداراة ، وفى وادى زبيد سخمل والفائشى ، وغاية شجره الإسحل والسيسان ، وبطحوات ، واليمن وادى نخلة خلاف وادى مكة وواسط ، وفى أودية الشأم وادى رماع ووادى

٧٧

الكدراء ووادى سردد ووادى مور ، وجميع هذه الأودية يقطع منها الخشب لأجل العمارة ، وإلى فشال أربع فراسخ ، ويعد سبعة تلول رمل وسبعة أودية.

وأما فشال ففيه نحو ثمانمائة قرية ما يزرع أهلها إلا على المطر الدخن والذرة ، وزرع الشيخ محمد بن معيبد بها الحنطة والشعير وطلع سنة ثلاث وعشرين وستمائة ، وزرع أولاد أخيه العجل ومعيبد الأرز ، فلما زرع بها وحصد قلعه القوم من الأصول سنة أربع وعشرين وستمائة ، وإلى وادى رمع نصف فرسخ ، وهو واد عظيم.

وقد ذكر فى الكتب : لا يزال السيل يأكل فى الوادى إلى أن يصل الأكل إلى الخيف جبل ببرع فإذا وصله ظهر على القوم كنز ذهبا يستغنى منه جميع أهل اليمن.

وإلى قونص نصف فرسخ ، ويسمى وادى العرق ، وبه قتل الملك المسعود إسماعيل بن طغتكين بن أيوب ، وإلى زبيد أربع فراسخ ، والله أعلم بالصواب.

ذكر زبيد وما كانت فى قديم الزمان

قيل : إن جميع أرض زبيد كانت حمى مهلهل وكليب ، وذلك من حد الحجف إلى أنف قونص وفيه قصره وبركته وإصطبله الذى كان يربط فيه خيله ، وذلك على ذروة جبل عال مشرف على تهامة ، فكان يقعد فى القصر وينظر الأرض تحته شبه زمردة خضراء مع جرى السواقى والأنهر ، لأنه كان يقال : بها ستمائة ألف عين ، وقيل : ستون ألف عين ، وقيل : ستة آلاف عين ، والأصح ستمائة عين ،

٧٨

ويقال : ستون عينا سائحة على وجه الأرض كلها عذب فرات ، فمن نداوة الأرض رجعت الأرض مخضرة دائما ذات رياض وأشجار ووحش ، فبقى الحمى على حاله إلى أن وقعت الحرب بين القوم أربعين خريفا ، والقصة مشهورة ولا حاجة إلى ذكرها ، فجاء ملك بعد القوم ردم الأعين وسد أعينها ، ولا شك أنه معن بن زائدة الشيبانى.

والدليل على صحة مقالتنا أن الحجرين الطاحونين الملقين على باب غلافقة من زبيد كانت تدور على تلك المياه والأعين ، وكان بها وخم من كثرة نداوة الأرض والمياه ، وكل أرض تكون على هذه الصفة تكون وخمة من كل بد.

حدثنى جعفر بن عبد الملك بن عبد الله بن يونس الخزرجى الجرجانى قال : قدمت اليمن فى دولة سيف الإسلام طغتكين بن أيوب وكنا نستقى الماء من الآبار بأيدينا ونشرب ، فغار الماء فى زماننا هذا سنة خمس وعشرين وستمائة إلى أن بلغ عمق البئر خمس عشرة قامة فزال الوخم واعتدل الماء والهوى ، والآبار التى فى سكة المدينة طولها ست عشرة قامة وما حول البلد اثنتا عشرة قامة تزيد لا تنقص.

وأما حدود حمى كليب ومهلهل فكان من الحجف إلى أنف قونص إلى رأس رمع ، وجميع جوار زبيد وأوديتها إلى حد النوبتين وقوارير طولا فى عرض مثله ، فلما سدد الأعين وقل الماء طلع فى الخبت شجر الأراك والطرفاء إلى أن رجعت عقدة عظيمة.

٧٩

بناء زبيد

حدثنى عبد الرحمن بن أحمد بن الراجى قال : كان فى أرض زبيد عقدة طرفاء وأراك وكان حول العقدة قصور وقرى جماعة إحداها المتامة والنفير من غربى البلد مدينتان عظيمتان ، ومن جملة عظمهما أنه كان يخرج منهما فى كل ليلة جمعة وخميس خمسمائة رقيص لزيارة الصالحين ، وجنيجر شرقى البلد بناء دقيانوس ، وواسط ما بين الغرب واليمن فكان يخرج من هذه البلد كل يوم ستمائة فارس يتلاقون فى أرض زبيد التى هى الآن عامرة فبقوا على حالهم زمانا طويلا إلى أن مل بعضهم بعضا.

وخرج مشائخ القوم إلى العراق فى دولة الإمام أمير المؤمنين الأمين ابن هارون الرشيد وعرّفوه حالهم وخبرهم وقالوا له : نحن قوم من الأعاشر وجميعنا بنو عم ويجرى بيننا قتال ، فقال الأمين : من منكم الكبير؟ فأشاروا إلى رجل ، قال : ومن من بعده؟ فأشاروا إلى آخر ، وما زال يسألهم ويخبرونه حتى عد القوم خمسة جماعة ، فولّى الشيخ الكبير عليهم ، وقال للحاضرين : إذا مات هذا فيتولى من بعده الثانى ، وإذا تولى الثانى ثم مات فليتولّ الثالث ، وإذا مات الثالث فليتولّ الرابع ، فإذا مات الرابع فليتولّ الخامس ، وعقد للشيخ على أصحابه وبنى عمه.

وخرج القوم من مدينة السلام بغداد راجعين فمات الشيخ الذى عقد له الأمين البيعة ، وتولى بعده الثانى فمات ، ثم تولى الثالث فمات ، فتولى الرابع ، فلما قرب من البلد مات الرابع فأبى الخامس أن يتولى فعزل نفسه ، خوفا من الموت ، فولاها رجلا

٨٠