تأريخ المستبصر

ابن المجاور

تأريخ المستبصر

المؤلف:

ابن المجاور


المحقق: ممدوح حسن محمّد
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٤٠

لم يحمل لغمد بل يوضع فى جراب خزف ، وقيل : إذا وقعت الصاعقة لم تسكن إلا إذا أفلت عليها الخل وإنها إذا وصلت الماء وقفت وإذا لم يفلت الخل عليه فإنه يخرق تخوم الأرض ، والأصل فيه أنه عمود من حديد جهنم ، نعوذ بالله منها.

فصل : قال الله عزوجل : (لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً)(١) قال بعضهم : الحقب أربعة آلاف سنة ، والسنة أربعة عشر ألف شهر ، والشهر أربعة آلاف يوم ، واليوم أربعة آلاف ساعة ، والساعة مقدار سبعين ألف سنة من سنى الدنيا.

قال ابن سلام : مساكين أهلها ، نسأل الله أن يعيذنا من شرها ، ويؤخذ قياس نارها وحديدها من قياس أيامها وساعاتها.

ويقال : إن السيوف المذكورة أربعة أصناف :

الصنعانى : يضرب فى صنعاء ، متقدم قصير ، لأنه سيف الرجالة ، يقطع اليابس سوى الرطب ، وعلامته أن يكون فى وسطه مرازب ، ويقال : مرازب واحد ، وكثير ما توجد هذه السيوف فى جبال اليمن عند العرب.

والكرمانى : قديم ضرب فى أيام دولة ملوك العجم بكرمان ، وهو قضيب مادّ ، ما بين القصير والطويل ، وأصل هذه السيوف من الفولاذ ، وبلد هراة مخصوص به.

وقيل : بل كان عندهم معدن يستخرج منه الحديد ، وغاية ما توجد هذه السيوف عند الأكراد الشارونية والبلوج والكوشان والأوغان والسرهدية من أعمال غزنة.

والإفرنجى : سيف طويل ماد بالمرة وما يطولونه إلا لأجل الفرسان ، وأصله من

__________________

(١) الآية : ٢٣ من سورة النبأ.

٤١

تكاسير نعال الخيل ويسقى من نداوة زرع بلادهم ، لين بالمرة ويقطع فى اللين دون اليابس ولربما قطع اللحم فى البدن وسلم العظم ، وغاية ما تجلب هذه السيوف المعروفة عندهم فى علب الخشب ، وعلامته أن يكون به كف إنسان فهو الجيد ، ويقال : إن الذى نقش على سيوفه ذلك ضرب أربعمائة سيف لم يضرب مثلها فى الربع المسكون.

فلما رأى ملك الروم هذه الصنعة الشريفة أمر بقطع يده اليمنى ، فلما فعل به ذلك ارتحل من المدينة التى كان يسكنها ونزل بمدينة أخرى فضرب بيده اليسرى أربعمائة سيف آخر ونقش عليها الكفوف ، فما جرب سيف من تلك السيوف إلا تراه وهو حديد أبيض وفى وسطه مرازب.

والهندى : أصناف شتى ، فمن جملتها الباخرى ، يضرب فى السند وأصله من حديد وفولاذ هراة وعلامته أخضر اللون كأنه السلق ، وشىء منه أحمر يشبه لون النار يرفع الدرهم ويبرى مرسغ الجمل ، وصنف يأتى من الروهينيا يضرب فى بعض الأقاليم يتلوى وهو قضيب ماد فيه جوهر شبه الغبار وهو ما بين ذلك قواما ، والصنف الثالث فيه أهلة يضرب فى خور فوفل ويقال : بحار يديها سيوف طوال عراض بالمرة ذات جوهر عال لا غليظ ولا دقيق إلا وسط وهو يقطع فى اللين لا غير ، ومنه فلالك الشاهى يضرب فى الكوز ، ويقال فى مرهب سيوف طوال عراض بالمرة ، الواحد خفيف مرهف وعلامته أن يكون جوهره أربع أصابع وهو غليظ خشن كخشونة خضرة الكراث اول ما ينبت قد اشتبك بعضه فى بعض شبه ثعابين ملتفين ، وأربع اصابع منه شبه جمع الذر (١) على الشىء حلو ، ويبان الجوهر فى

__________________

(١) صغار النمل.

٤٢

أرض السيف شبه فضة شبكت مع الحديد ، يبان جوهره أبيض صاف والأرض منه زرقاء سماوى.

ويقال : إنه أهدى إلى الملك قطب الدين أييك الأبثل من هذه السيوف سبعين بندا إلى سبعين سلسلة.

ويرى فيها مائية ونداوة شبه ماء الزلال ، إذا رفعته انحدر وإذا حططته صعد ، يابس يقطع فيما يرطب ، وبه يضرب أعناق الجواميس قدّام البيوت فى يوم عيد لهم ، وخاصيته إذا معص فؤاد إنسان يغسل سيفا من هذه السيوف ويشرب ماءه يزول عنه ما يشتكى من المعص.

وأما السيوف فى العالم فكثيرة الأصناف وتضرب فى كل بلد وإقليم إلا هذه الأربعة الأصناف الذين ارتفعوا دون غيرهم وعرفوا من بين جنسهم ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات (١).

ولنرجع إلى الحديث الأول

فصار أهل هذا الزمان يدخلون كبب غزل الوبر ويصطحبون معهم سراجا ومقدحة وخطافا وفتل وبر يشد خيط الوبر فى رأس باب الغار ، وكلما مشى أحدهم نشر الغزل والخطاف ، فإذا وصلوا الى الدكاكين رأوا فيها من جميع الأمتعة والأقمشة وقد تهرت من طول المدى والحديد قد علاه الصدأ ، والصفر قد تزنجر ، فيأخذ جميع ما يرى له فيه رمق ، ويجد بعض القوم ذهبا وفضة ودراهم.

__________________

(١) هكذا فى الأصل الخطاب للعاقل.

٤٣

وإذا رجع القوم لا يزالون يكببون غزل الوبر وهم راجعون إلى فم السرب ، فذلك العمل دأب القوم.

ويقال : إن بها ثلاث طرق إحداها تنفذ إلى سوق عكاظ ، والثانية إلى جبل الملحاء ، والثالثة تنفذ إلى برية فيد ، وهى أقربهن مسافة.

حدثنى أبو على بن آدم اليزنى قال : كثير من الرعاة ممن يحمل الذئب على غنمه فيقوم الراعى يطارد الذئب يريد يقتله فيقع على المطلب ، وهو طريق تنفذ إلى وسط البئر التى تقدم ذكرها ، وطريق وسطى وهى التى بجبل الملحاء ، والبعيدة التى تلى سوق عكاظ ، والمكان الى الآن باق ينزله من أراد على ما تقدم ذكره.

وإلى أبيدة فرسخ وهى قرية حصينة فى واد نزه ، وإلى العقيق ستة فراسخ ، وهو بلد يدبغ فيه الأدم ومنه يجلب القرض إلى مكة ، وبها الأمير أبو الحسن بن المعلم يقول :

قل يا رفيق .. المستها

م .. متى يفيق المستهام

هذى المنازل والعقي

ق فأين ليلى والخيام؟

وقال أيضا :

قف بالخيام المشرفات على الحما

وامزج دموعك فى مغانيها دما

وإذا مررت على العذيب فقل له

هل شربة تروى الصدى من الظما

إنى ندمت على الذين ترحلوا

يوم الغوير وحق لى أن أندما

فوددت لو سمحوا علىّ بعودة

يبرا بها الطرف القريح من العما

يا عين لا يذهب بناظرك العما

فلربما دنت الديار وربما

إن بات جسمى فى سهام فإن لى

قلبّا يتيمّا بالعقيق متيّما

٤٤

وإلى تبالة ثمان فراسخ ، وإلى الجبل ثمان فراسخ ، وهو جبل بنى بدر وجميع من بها يهود ، والحصن حصن مكين فى طرف جبل عال ، والله أعلم.

ذكر نهر السبت

قالت أهل الذمة : إنه فى أرض التيه ، وحدثنى يهودى صائغ بعدن قال : إن نهر السبت فى أرض يقال لها : صيون والأصح أنه فى الحجاز ظهر ، وهو نهر رمل سيال يجرى من ليلة الجمعة إلى غداة يوم السبت لم يقدر الإنسان يعبره من شدة جريانه فى ذلك اليوم ويسكن باقى الأسبوع ، ووراء هذا النهر من اليهود مائة ألف ألف رجل وامرأة وهم زائدون على العدّ خارجون عن الحد ، والقوم عرب يعقدون القاف الألف فى لغتهم ، وفى جملة القوم أولاد موسى بن عمران عليه‌السلام ، ويقال : إنما حصلوا هؤلاء اليهود فى هذه الأرض والأعمال إلا من غزوة بختنصر البابلى لليهود بأرض الشام وديار مصر والأصح لإظهار الله عزوجل محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فخرجوا هاربين من خيبر ووادى القرى وسكنوا هذه الأراضى ، وإلى الآن إذا تاه بعض الحجاج بطريق مكة ووصل إلى القوم فبعضهم يقتله وآخرون يقبلونه ويردونه على أحسن حال.

فصل : مما ذكره الإمام أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسن الرازى فى كتاب معرفة الأديان : مسألة شرعية ، قال :

إن لليهود يوما إذا عمل فيه إنسان شغلا حل دمه ، فإن لم يعمل فيه الشغل حل دمه ، قلنا : وما ذاك؟ قال : إذا ولد لليهودى طفل ففى سابع يوم الطفل يطهر ـ أى

٤٥

يختن ـ فإذا اتفق سابع الطفل يوم السبت وختن الطفل حل دمه لكسر سنته ، وإن لم يختن حل سفك دم والده لمخالفة والده الشرع ، وذلك شرعهم لأنه قال بترك الأوامر.

فصل : قال بعض النصارى : إن الإسلام عجيب! قلت : وما رأيت من العجب؟ قال : إن تنصر الإنسان حل قتله يعنى لامتناعه (١) فى دخول الدين الحنيفى وإن أسلم قطع ـ أى ختن ـ فجريان الدم فى الحالتين حاصل ، وكذلك اليهودى قتله فى الحالتين حاصل على الخبر الأول ، والله أعلم.

ذكر شهور اليهود

قمرية وأوسط المسير تشرى ومرحشون وكسليو وطيبث وشفط وآذار ونيسن وإير وسيون وتمّز وأوب وإيلل (٢) ، ويعمل على هذه الشهور جميع يهود الربع المسكون.

ما الفسح؟ فى أعياد اليهود خرج فيه بنو إسرائيل من مصر هاربين من بعد

__________________

(١) الصواب أن يقال : لارتداده عن الدين الحنيفى ، لأن المرتد هو الذى يحل دمه ، وقد كان مسلما ، فكيف يمتنع عن دخول شىء كان فيه أصلا.

أما النصارى واليهود الباقون على ديانتهم فهم أهل كتاب ، ولهم أحكامهم الخاصة بهم ، وليس منها سفك دمهم لامتناعهم عن الدخول فى الإسلام ، والله تعالى أعلم.

(٢) أسماء الشهور هنا قريبة من أسماء الشهور المعروفة لنا الآن ، مثل شباط لفبراير ، ونيسان لأبريل ، وتموز ليولية ، وآب لأغسطس ، وأيلول لسبتمبر ، وهكذا ...

٤٦

أن تخلصوا من العبودية وقربوا القرابين كما مثّل لهم ، وهى سبعة أيام تسمى الفطير لا يجوز لهم أكل اللحم ولا إمساكه فى الرحل ، وفى اليوم الآخر منها غرق فرعون فى بحر سوف ، وهو القلزم ويعرف هذا اليوم بالكبس (١).

ما العنصرة؟ هو السادس من سيون يسمى عشر مشتق من الاجتماع وهو حج من الخجوج لإدراك الغلال.

ما الكفور؟ هو اليوم العاشر من تشرى وهذا ربما يسمى العاشوراء ، وأما الكفور فهو من تكفير الذنوب ، وهذا اليوم فقط هو الذى فرض على اليهود صومه والقتل على من لا يصومه ، ومدة الصوم خمس وعشرون ساعة يبتدى بها قبل غروب الشمس فى اليوم التاسع ويختم بمضى ساعة بعد غروبها فى اليوم العاشر ، ولا يجوز أن يقع الكفور فى يوم الأحد ولا فى يوم الثلاثاء أو فى يوم الجمعة.

ما المظلة؟ هى بلغتهم مصلى وهى سبعة أيام ، أولها الخامس عشر من تشرى ، وكلها أعياد يجلسون فيها تحت الظلال من الأغصان والخلاف والعنب والزيتون ، وقد أمروا أن يسكنوا فيها تذكارا لإظلال الله إياهم فى أرض التيه بالغمام.

ما العربا؟ تفسيره ما الخلاف؟ وهو آخر عيد المصلى أعنى بذلك الحادى والعشرين من تشرى ، وهو أيضا حج لهم.

ما التبريك؟ هو عيد مشتق من البركة ، وهو بعد عرابا بيومين.

ما الحنكة؟ هو عيد مشتق الاسم من التنظيف ، وهو ثمانية أيام ، أولها الخامس والعشرين من كسليو ، يسرجون فيها على أبواب دورهم فى الليلة الأولى سراجا

__________________

(١) ويعرف الآن بالبحر الأحمر ، والقلزم هو الاسم القديم لمدينة السويس الحالية.

٤٧

واحدا ، وفى الثانية اثنين ، إلى أن تتم الثمانية الأيام ثمانية سرج ، وذلك تذكار لهم من أصغر ثمانية إخوة قتل بعض ملوك اليونان ، فإنه كان قد تغلب عليهم ، كان يفترع من عذاريهم ويطوف ببيت المقدس على بغلة.

ما البورى؟ هو اسم مشق من الاقتراع والفأل ، وهو الرابع والعشرين من آذار يتلوه نيسن ، ويعرف أيضا بعيد المجلة ، أى مغلا ، وسببه أن هيمون وزير احشويرش أى أبرويز بن أنوشروان كان يكايدهم أيام كانوا ببابل فدبر عليهم واستأذن فى صلبهم فانقلب الأمر عليه فى هذا اليوم فصلب ، ولهذا يعملون تماثيل مصلوبة ويحرقونها ويفرحون بذلك ، ولليهود فى شهره صيام ونوافل وأسبابها أمور حدثت فحرّمته وأوجبت الامتناع عن الطعام.

وكذلك إذا حاضت المرأة عندهم يسكنونها وحدها وتعزل لها آنية تأكل فيها وتشرب منها ولا يقربها أحد حتى تخرج من طمثها ، أى حيضها ، فإذا خرجت منه غدت إلى الحمام فغسلت وامتشطت وتجىء بعد ذلك إلى بيت بئر تسمى طومى.

قال ابن المجاور : ولهم ببغداد بئر تسمى بئر طومى فى محلة خرابة بين خرزة ، وهو بئر مدرج ، وقد عرض فى وسط البئر عود على خرزة البئر ، وقد ضرب فى الخشبة سلسلة طويلة إلى أن يصل إلى آخر السلسلة ثم إلى قرار الماء ، فتخلع المرأة ما عليها من الأثواب وتلزم السلسلة ، ولا تزال تسقط فى الماء ، أى تغوص ، وتنبع إلى أن تقول لها امرأة من أعلى البئر : نظفت ، أى تطهرت ، فإذا سمعت المرأة ذلك علمت أنها طهرت من نجس الحيض ، فحينئذ تلبس جميع ثيابها وجميع اليهوديات يلقينها حين تطهر المرأة.

٤٨

ويقال فى الأمثال : شاور المسلمين ، ونم عند النصارى ، وتعشّ عند اليهود ، ويقال : إن للمسلم فرجه ، وللنصرانى ماله ، وللمجوسى رئاسته ، ولليهودى بطنه.

من الطائف إلى صعدة

حدثنى محمد بن زنكل بن الحسين الكرمانى قال : إن من الطائف إلى المعدن أربع فراسخ ، وإلى الران ثمان فراسخ ، وإلى محرى ثمان فراسخ ، وإلى الدروب أربع فراسخ ، وإلى يافع ثمان فراسخ ، وإلى عدا ثمان فراسخ ، وإلى ران كيسه أربع فراسخ ، وهو جبل ذو طول وعرض وعليه مجاز الخلق ، وإلى صفى أربع فراسخ ، وهو سوق يقوم يوم الجمعة ، وإلى خفن أربع فراسخ ، وإلى مدر أربع فراسخ ، وإلى بلاد بنى قرن أربع فراسخ ، وإلى بلاد بنى عبد الدار عشرون فرسخّا ، وإلى ذهبان سبع فراسخ.

صفة هذه الأعمال

وحدثنى الراوى قال : جميع هذه الأعمال قرى متقاربة بعضها من بعض فى الكبر والصغر كل قرية منها مقيمة بأهلها ، كل فخذ من فخوذ العرب وبطن من بطون البدو فى قرية ، ومن جاورهم لا يشاركهم فى نزلها وسكنها أحد سواهم ، وقد بنى فى كل قرية قصر من حجر وجص وكل من هؤلاء ساكن فى القرية له مخزن فى القصر يخزن فى المخزن جميع ما يكون له من حوزه وملكه وما يؤخذ منه إلا قوت يوم بيوم ، ويكون أهل القرية محتاطين بالقصر من أربع ترابيعه.

٤٩

ويحكم على كل قرية شيخ من مشائخها كبير القدر والسن ، ذو عقل وفطنة ، فإذا حكم بأمر لم يشاركه ولا يخالفه أحد فيما يشيره عليهم ويحكمه فيهم.

وجميع من فى هذه الأعمال لم يحكم عليهم سلطان ولا يؤدون خراجا ولا يسلمون قطعة إلا كل واحد منهم مع هوى نفسه ، فلهذا لا يزال القتال دأبهم ، ويتغلب بعضهم على مال بعض ويضرب قرابة زيد على أموال عمرو وهم طول الدهر على هذا الفن ، وجميع زرعهم الحنطة والشعير وشجرهم الكروم والرمان واللوز ، ويوجد عندهم من جميع الفواكه والخيرات وأكلهم السمن والعسل ، وهم فى دعة الله وأمانه ، وهم فخوذ يرجعون إلى قحطان وغيرهم من الأنساب.

واما ذهبان

فهى أم القرى بلاد عز ، ويقال : إن دور أعمالها أربعون فرسخا ، وهى نجد اليمن ، والأصح أطراف أعمال نجد اليمن من شرقى تهامة ، وهى قليلة الجبال مستوية البقاع.

ونجد اليمن غير نجد الحجاز ، غير أن جنوب نجد الحجاز يتصل بشمال نجد اليمن.

وإلى بلاد قحطان أربع فراسخ ، وإلى راحة بنى شريف فرسخان واد فيه وضعت مدينة البصرة ويسمى درب العقيق ، وإلى صعدة عشرون فرسخا وهى مدينة ذات عمارة وأرض نزه ودرب أمن.

٥٠

قال ابن المجاور : وفى هذا الطريق من الأمم والبلاد والمدن والقرى ما لا يعد ولا يحصى ولا تحويه أقلام الدواوين ، أى فى صنعة الحساب.

وشرب أهل البلاد من أنهر سائحة ، وبعضهم يشرب من آبار ماؤها خفيف على الفؤاد ذات هضم ولذة.

من الطائف إلى مكة

راجعا من الطائف إلى حدب الرنج فرسخان ، وهو كهف جبل ، وإلى الطود الأعظم ثلاث فراسخ جبل طويل وهو الذى يسمى الحجاز.

ذكر الحجاز

قال الأصمعى : سميت بذلك الحجاز لأنها احتجزت بالحرار الخمس ، منها حرة بنى سليم وحرة واقم ، ويقال : احتجز الرجل بإزار أى شده على وسطه ، ومنه قيل : حجزة السراويل ، وقول العامة حزّة خطأ.

وقال الخليل : لأنه فصل ما بين الغور والشأم وبين البادية.

وقال الجوهرى : إنها حجزت بين نجد والغور.

وقال أهل اليمن : مكة يمانية ، والدليل على برهانه قول النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم [وقد] وقف على المتكأ وقال : «هذا شأم وهذا يمن».

٥١

وقال أهل الطائف : مكة تهامية لأن ما بين نجد وتهامة جبل يسمى الطود الأعظم ، فكل ما غرّب منه فهو تهامة ، وما شرّق منه فهو نجد.

وقال أهل العراق : مكة أرض الحجاز.

قال ابن المجاور : إن الطود الأعظم على هذا الوجه هو الحجاز بعينه لأنه حجز ما بين نجد وتهامة ، ويقال : إنه جبل متصل إلى اليمن ، وديار العرب هى الحجاز التى تشتمل على مكة والمدينة واليمامة ومخاليفها ونجد الحجاز المتصل بالبحرين ، وليس فى سائر الأقاليم أطيب منه لا أصح من جوه وهواه ، كما قال :

اسكندرية دارى

لو قر فيها قرارى

لكنّ ليلى بنجد

وبالحجاز نهارى

وبادية الشأم واليمن المشتملة على تهامة ونجد اليمن وعمان ومهرة وحضرموت وبلاد صنعاء وعدن وسائر مخاليف اليمن.

فما كان من حد السرين فهى تنتهى إلى ناحية يلملم حتى تنتهى إلى ظهر الطائف ممتدا إلى بحر اليمن إلى بحر فارس شرقّا من اليمن فيكون ذلك نحو من ثلثى بلاد العرب ، وما كان من السرين على بحر فارس إلى قرب مدين راجعا إلى حد الشرق على هجر إلى جبل طيئ ممتدا على ظهر اليمامة إلى بحر فارس من الحجاز ومدين.

وما كان من حد اليمامة إلى قرب المدينة راجعا على بادية البصرة حتى يمتد على البحرين إلى البحر فمن نجد.

٥٢

وما كان من عبادان إلى الأنبار ونواحيها لنجد والحجاز على طيئ وأسد وتميم وسائر قبائل مضر بادية العراق.

وما كان من حد الأنبار إلى بالس ونواحيها لبادية الشأم على أرض تسمى برية حسان إلى قرب وادى القرى والحجر من بادية الجزيرة.

وما كان من بالس إلى أيلة موجها للحجاز على بحر فارس إلى ناحية مدين معارضا لأرض تبوك حتى يتصل بديار طيئ من بادية الشأم.

وعلى أن من العلماء من يقسم هذه الديار وزعم أن المدينة من نجد لقربها منها وأن مكة من تهامة اليمن لقربها منها.

من مكة إلى جدة

من مكة إلى عين أبى سليمان فرسخ ، وهى عين جارية وقد غرس عليها نخل وشجر السدر ، وإلى مقتلة الكلاب فرسخ ، وكان السبب فيه أن لرجل من الأعراب كلبّا فحمل الكلب على رجل من أهل الحلة فنيبه وعوره فقتل المنيوب الكلب ، فجمع صاحب الكلب بنى عمه وجمع المنيوب أهله وقامت الحرب بين الفريقين ، وما زالوا على قتالهم إلى أن قتل الجميع فعرف المكان بمقتلة الكلاب.

وإلى الركابية فرسخ ، وهى بئر حول جبلين على يسار الدرب تسمى رشان ، وفيه بعض الأعراب يقول :

أيا جبلى رشان بالله خبّرا

متى جازكم بدر الحجاز معرّضا

٥٣

وإلى حدة فرسخ ، وكانت أرضا مودعة لبنى البدرية فباعوها فاشتراها منهم سليمان بن على بن عبد الله بن موسى واستخرج العين ، وقيل : كانت العين على حالها فبقيت فى أيدى القوم مدة زمان يستعملونها فى إدراك الغلال ، فاشتراها منهم الشريف الحسين بن ثابت السديدى وغرس فى جميع البلاد نخلا مقدار عشرين الف نخلة والقوم ملاكها إلى سنة اثنتين وعشرين وستمائة.

وفى هذا التأريخ ملك الأمير طنبغا الملك الكامل ولاية الحجاز وملك نخل الأشراف مستهلكا لها وأخذ هذا النخل فى جملة ما أخذه ، والنخل رجع الآن سلطانى.

ويقال : إنما عرف حدة بهذا الاسم لأنه آخر حدود وادى نخلة والأصح أنه من وادى الصفراء إلى القرين فرسخ ، بناية الأمير هاشم ، وكان يوقف فى الموضع رتبة خيل يجيرون القوافل فى الطرق وكان لهم على كل جمل دينار علوية ، وهو حصن صغير مربع مبنى على أكمة بالحجر والجص ، وقد بنى على دوره ثلاثة عشر برجا صغارا تحتها بئر طيبة الماء عذبة ، وإذا قل الماء فى حدة فمنها يستقى الماء أهل حدة.

ويقال : إنما سمى القرين قرينا إلا لأنه أقرن نصف الطريق ما بين مكة وجدة ، ويقال : أقرن ببنائه العدل والأمن.

وإلى كتانة فرسخ ، يقال : إن الله عزوجل أهلك الحبشة الواردين بالفيل من صنعاء بهذا المكان.

٥٤

وإلى الثديين ميل وهو بين جبال عوال آخر الوطأة وأول الأودية وقد كان قصرا بنى بالجص والحجر والآن خراب.

وإلى وادى السدرة فرسخ وهى شجرة سدر صغيرة على أيمن المحجة ومنها رجع النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكل من يجوز الوادى يأخذ من أوراقها لأجل البركة ولم تبرح السدرة على حالها لم ينقص منها شىء إلى الآن.

وإلى الغار نصف فرسخ ، وإلى الفج الأخضر نصف فرسخ ، وإلى الفرع نصف فرسخ ، وإلى مثوب نصف فرسخ ، وإلى أبو (١) الرحم ميل وهو جبل صغير على أيسر الدرب ، وإلى النهود ميل وهم اثنا عشر جبلا متفرقين شبه النهود ، وإلى المينة نصف فرسخ ، وتسمى الحديبية ، ويقال : إن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصل إلى هذا فصار كلما سار تبعد عليه الطريق فرجع منها وقال : ما أبعدك لا قربك الله ، والموضع سبخة طويلة فى أرض وطيئة مثل الكف ، وإلى جدة نصف فرسخ.

بناء جدة

حدثنى موسى بن مسعود النساج الشيرازى قال : لما أسلم سلمان الفارسى ، رضى الله عنه ، تسامعت أهلوه بالخبر فقصدوه وأسلموا على يد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسكنوا جدة لأنهم كانوا تجارا.

وقال بعضهم : بل هى بناء خسرو بن فيروز بن يزدجرد بن شهريار بن بهرام.

__________________

(١) اسم مقصود لذاته ، كما تقول : قرأت من سورة المؤمنون.

٥٥

ومما ذكره أبو عبد الله محمد بن إسحاق بن عباس فى كتاب الفاكهى قال : أول من اتخذ جدة ساحلا عثمان بن عفان وكان قبل ذلك بموضع يسمى الشعيبة.

قال ابن المجاور : والشعيبة هو خور عظيم ومرسى قديم مقابل وادى المحرم ، لا شك أنه كان قبل جدة لأن ما فى تلك النواحى مرسى أدنى منه ولا آمن عاقبة.

قالت العجم : فلما خربت سيراف انتقلت أهل سيراف إلى سائر سواحل البحر [كما تقدم ذكره] فوصل قوم منهم وفيهم اثنان : أحدهما يسمى سيار والثانى مياس فسكنوا جدة وأداروا على البلد سورا من الحجر الصم بالجص ، فلما ابتدأوا فى المقام بها بنوا هذا السور وجعلوا عرض الحائط عشرة أشبار فبقى السور على حاله حتى تمكنوا من المقام فبنوا على وجه السور سورا ثانيا من الحجر الكاشور منقوش ، أى منحوت مربع ، بالجص وجعلوا عرض الحائط خمسة أشبار فصار عرض الحائطين الملتزقين بعضهما إلى بعض خمسة عشر شبرا.

وركب عليه أربعة أبواب : باب الرومة وباب المدبغة ، وكان عليه حجر حفر فيه طلسم إذا سرق فى البلد سارق وجد بالغداة اسم السارق مكتوبا فى الحجر ، وباب مكة ، وباب الفرضة مما يلى البحر ، وحفر حوله خندق عظيم فى الوسع والعمق ، فكان يدور ماء البحر حول البلد ويرجع ما فضل منه إلى البحر ، والبلد يصير شبه جزيرة (١) فى وسط لجج البحر.

__________________

(١) الصواب أن يقال : جزيرة ، لأنها المكان الذى تحيطه المياه من جميع النواحى ، كما هو الحال هنا ، أما شبه الجزيرة فيحيط بها الماء من ثلاث نواح فقط.

٥٦

فلما حصن الفرس البلد غاية التحصين خاف القوم من ضيعة الماء فبنوا ثمانية وستين صهريجّا داخل البلد وبنوا ظاهر البلد مثلها ، والأصح أنه بنى بباطن البلد خمسمائة صهريج وبظاهر البلد مثلها ، والله أعلم.

وصورتها على هذا الوضع والترتيب :

٥٧

ذكر بعض الصهاريج

ابو الطين عامر والمريابنى والحفيرة والنخيلات وصهريج أبى بكر والحجرى والصرحى وصهريج السدرة والحوار والفرحى وصهريج يحيى الشريف والودية والمبادر وصهريج البيضة والبركة وصهريج أم ضرار وصهريج بركات وصهريج سليمان العطار والطولانى والعرضانى ، فكان إذا وقع الغيث وامتلأت منه الصهاريج التى بظاهر البلد كانت العبيد تنقل ماء الصهاريج على الدواب فتقلبه فى الصهاريج التى عندهم فى الدور ، وكذلك صهريج الأخميمى وصهريج مسجد الأبنوس وصهريج الجامع وصهريج ردرية وصهريج محمد بن القاسم ، وكان يبقى الماء عندهم من العام إلى العام وهم فى أكل وشرب وغسل وهزل وجد وهرج ومرج.

ذكر خراب جدة

أنفذ صاحب مكة إلى شيخ التجار بجدة وطلب منه حملا حديدا ، فقال الشيخ للغلام وهو واقف عنده : أعطه حملا حديدا ، فجاء الغلام فأعطى الرسول حملا حديدا ، فلما فتح الحمل الحديد قدام الأمير بمكة وجده قضبان ذهب ، فرد الرسول راجعا وقال : قل للشيخ يتفضل وينعم وينفذ إلىّ بحمل ثان من حديد هذا العين.

فلما علم التاجر بقصة الحال نادى الغلام وقال له : ما أعطيت الرجل؟ قال : حمل حديد أصفر من طول الخبا وقد علاه الصدى من طول المدى ، فتحقق

٥٨

الشيخ عند ذلك أن الحمل كان قضبان ذهب وعرف أنه قد طمع فيهم ، فقصد الشيخ إلى شيخ كبير كان عندهم فى السن فشاوره فى أمره وما يصنع ، فقال له الشيخ : الذى عندى أنكم قوم موسرون فخذوا جميع ما تحتاجون إليه ويركب كلّ مركبه وينطلق فى هذا البحر الواسع ، وأى موضع أعجب الرجل منكم نزله وسكنه بعد أن تخلوا البلد كجوف حمار أو كرأس ليس فيه خمار ، فعند ذلك عبوا أمتعتهم فى المراكب ورفع كلّ قلعه ودخلوا البحر وذلك فى سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة.

ويقال فى رواية أخرى : إن العرب جاءوا وحاصروا القوم فلما قل عليهم الماء ركبوا مراكبهم وعدوا فى البحر فسكن قوم منهم السرين والراحة وعثر والجرعة والدرعة ودهلك وبيلول وجدة من جزيرة فرسان والمخاء وغلافقة والأهواب والثميد وجزيرة ذهبان وكسران وبندر موسى وباب موسى.

فلما خلت الأرض من الأحباب ملكها الأعراب فى دولة الأمير داود بن هاشم.

قال ابن المجاور : ورأيت فى المنام كأن قائلا يقول لى : ما استفتح جدة من الفرس إلا مضر بن هاشم ، والأصح شكر بن أبى الفتوح ، ومن عهدهم خربت واندرست وبقيت الآثار خاوية على عروشها كما قال الشاعر :

لا بلّغ الله نفسى فيك منيتها

إن كان بعدك بعد الدار غيّرنى

جعلت دمعى على ذكراك محتسبّا

والدمع عنوان ما يخفى من الحزن

وأقسمت مقلتى ما لا تظن به

فالذكر يجرى ويجرى الدمع فى سننى

وقائل لى قد بانوا فقلت له

قد فرّق الله بين الجفن والوسن

٥٩

ولأبى بكر أحمد العبدى :

يا راقد الليل بالإسكندرية لى

من يسهر الليل وجدا ثم أسهره

ألاحظ النجم تذكارا لرؤيته

وإن جرى دمع أجفانى تذكّره

وأنظر البدر مرتاحا لرؤيته

لعل عين الذى أهواه تنظره

وقال ابن الدمينة :

ألا يا صبا نجد متى هجت من نجد

لقد زادنى مسراك وجدا على وجدى

لئن هتفت ورقاء فى رونق الضحى

على فننى غصن من البان والرند

بكيت كما يبكى الوليد ولم يكن

جليدا وأبديت الذى لم يكن يبدى

وقد زعموا أن المحب إذا دنا

يمل وأن النأى يشفى من البعد

بكلّ تداوينا فلم يشف ما بنا

على أن قرب الدار خير من البعد

وقال آخر :

ليالينا بذى الأثلاث عودى

لتورق فى ربا الأثلاث عودى

فإن حديثكم فى القلب أحلى

وأطيب نغمة من صوت عود

ذكر فضيلة جدة

مما ذكره أبو عبد الله بن محمد بن إسحاق بن عباس فى كتاب الفاكهى قال : حدثنا محمد بن على الصائغ ، قال : حدثنا خليل بن رجاء قال : حدثنا مسلم ابن يونس ، قال : حدثنا محمد بن عمرو ، عن ضوء بن فخر قال :

كنت جالسّا مع عباد بن كثير فى المسجد الحرام فقلت له : الحمد لله الذى

٦٠