تأريخ المستبصر

ابن المجاور

تأريخ المستبصر

المؤلف:

ابن المجاور


المحقق: ممدوح حسن محمّد
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٤٠

ذكر ولاة مكة من آل الحسن بن على بن أبى طالب

كرم الله وجهه

الأمير منصور بن مكثر بن عيس بن مكثر بن قاسم بن محمد بن جعفر بن محمد بن عبد الله بن أبى هاشم بن محمد بن الحسين بن محمد بن موسى بن عبد الله بن موسى الجون بن عبد الله ديباجة بنى هاشم بن الحسن بن الحسن بن على بن أبى طالب ، والأمير حسن بن قتادة بن إدريس بن مطاعم بن عبد الكريم ابن عيسى بن الحسين بن سليمان بن على بن عبد الله بن موسى الجون ، وهاهنا يرجع النسبين [كذا] إلى فرد نسب.

فهؤلاء الذين نزلوا مكة من أيام دولة الإمام عبد الله الخليفة أبى جعفر بن هارون الرشيد إلى سنة تسع عشرة وستمائة.

وفى هذا التاريخ ملكها السلطان الملك المسعود صلاح الدين أبو المظفر يوسف بن محمد ابن أبى بكر بن أيوب بن شاذى بن مروان بن محمد.

٢١

ذكر المعاملات

ونقد البلد ذهب مصرى وبها يضرب على عيار المصرى يسوى الدينار أربعة وعشرين علويا ، ويحسب كل علوى أربعة دراهم كل درهم ستة فلوس ، فلما رجعت الدولة لآل أيوب ضربوا الدراهم الكبار ، ويقال : أول من ضرب هذا الدرهم الكبير بها المعز إسماعيل بن طغتكين فى اليمن ، وأول من ضرب الدراهم الكبار بمكة الملك المسعود يوسف بن محمد على قوانين اليمن ، يسوى الدينار المصرى أربعة دنانير ونصف ملكى يصح ثمانية عشر درهمّا يحسب كل أربعة [دراهم] دنانير دينار مكى وكل درهم ثلاث جوز كل جوزة ثمانية فلوس وكل فلس أربع درّس.

قال ابن المجاور : وكل ما كان يصح فى أول العهد بعلوى رجع ذلك الشىء بدرهم كبير.

والرطل مائة وثلاثون درهما وهو ست أواق يحسب كل أوقية أحد وعشرون درهمّا وثلث وبه يباع جميع الحوائج والعطر ، ومن اليمن ثلاثمائة وعشرين درهمّا ، وبه يباع الثياب والسكر والعسل وجميع الحوائج الحلوة ، ومن اللحم أربعمائة درهم ، وبه يباع اللحم والشحم والهريسة والمجبنة والألية ، ومن السمن ثمانمائة درهم ، وبه يباع السمن والزيت والخل والشيرج ، والذراع اليد فى أيام الموسم وأيام الصدقة وإذا كان بعد الموسم بمدة شهر كامل زيد فى الذراع ، وفى سنة اثنتين وعشرين وستمائة زيد فى الذراع ورجع الذراع على ذراع مصر ، وكانت صنجة مكة فى بغداد تصح المائة خمسة وتسعين دينارا.

٢٢

فلما تولى ملك الحجاز طغتكين الكاملى نقص المائة الدينار فصار الآن تصح المائة المكية ببغداد أربعة وتسعين دينارا ، وجميع ما يباع بمكة مقايضة كج بكج ، ويباع الحنطة وسائر الحبوب بالصاع ويحسب الصاع أربعة أمداد وكل مد أربعة أرباع رطل ، ويباع الأدم بالبيعة كل بيعة مائة من يصح الحمل ببيعتين ونصف ، ويحسب العوار ثلاثة أصناف : عوار الذى يكون فى أوسط الطاق خدش بسكين فى رقبة الطاق ، والثانى الشعرانى ، وهو الذى يكون فى الشعر ، والمقفع يكون قد تقفع الكيمخت من على الجلد ، وكذلك اليابس من الدهن والخفيف والأسود ، والأديم الجيد وهو الثقيل النقى الطاهر عنابى الوجه مشتبك بعضه ببعض مبرأ من العيوب التى ذكرناها.

قال ابن المجاور : هذا فى اليمن ونواحيها يكون يسوى كل مائة من بخوارزم على الصفة التى ذكرنا سبعين دينارا.

ويدبغ الأديم فى جميع إقليم اليمن والحجاز ونواحيها ويبيعونه طاقات بالعدد ، وكذلك الحبشة وأعمالها ، ويسميه العجم أديم خوش وفى كشك من أعمال الهند كذلك ، وما تدبغ الأدم إلا بالقرظ ، ويدبغ فى مكة جلود الجمال والبقر والغزلان ، وكان مسافرو خراسان يشترون جلود البغال الفحولة من رستاق الموصل وسواد إربل وتدبغ فى مكة ، وقد بطل جميع ذلك من سنة عشر وستمائة لظهور الكافر بخراسان والرى.

والأديم الخفيف يصلح للعراق والشام لأنهم ينشرون الطاق حتى يجعلوه على الكيمخت ، وما يريدون فى خوارزم وخراسان إلا الأديم الثقيل لأنهم يبطنون به الخف ، ويقال فى الأثمان : يسوى الخوارزمى والفنا أربعة دوانيق ربكية وخفة عشرة دنانير وكذلك الروم.

٢٣

ويقال : إن الصديق بمنزلة الرأس والعدو بمنزلة الرجل ، ولأجل ذلك لبست أهل هذه النواحى أرجلهم أجود ما يكون من الملابس.

حدثنى محمد بن رزق الله قال لى : هل ترون فى خراسان كوكب سهيل؟ قلت : لا والله ، قال : لهذا لم يصح لهم دباغة الأدم ، قلت : وكيف ذاك؟ قال : كل إقليم يطلع عليه وفيه سهيل يصح فيه دباغة الأديم لأنه يحمره ويصيره إلى ما ترى من الليونة والنعومة.

من مكة إلى المدينة

على طريق بنى عصبة وهم السرو ، من مكة إلى بطن مر أربعة فراسخ وهو واد طيب ، وبنى فيه بعض أمراء مكة من الشرق قصرا ، وهو الآن خراب ، وإلى الهدى أربع فراسخ ، وإلى برزة أربع فراسخ ، وإلى شابة أربع فراسخ ، وإلى المدينة قدر أربع فراسخ ، وإلى هجر قدر سبع فراسخ ، أرض عزة ، وهى أرض بنى سليم التى فتحها أمير المؤمنين على بن أبى طالب ، كرم الله وجهه.

ذكر فتح أمير المؤمنين على بن أبى طالب هذه الجبال

حدثنى عيسى بن أبى البركات بن مظفر البغدادى بمكة قال : إنى قرأت فى بعض الكتب أنه كان لبنى سليم فى الجاهلية نحل عظيم فكان إذا جاءهم عدو دخّنوا فى الأكوارات ـ يعنى النحل ـ فكان يطير ويعلو الجو فيبان لناظره شبه غمامة

٢٤

من كثرته ، فإذا تعلّى انحدر ونزل على خيل العدو ونكد عليهم فعند ذلك تنهزم خيل العدو من بين أيديهم ، وكان بنو سليم قد قهروا جميع أعدائهم بهذا الفن وبقوا على حالهم إلى أن أظهر الله عزوجل الإسلام وخرج النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن معه من الصحابة إلى هذه الأعمال ، ففعلت بنو سليم ما تقدم ذكره ، فلما صعد النحل الجو وانحدر على عساكر الإسلام نادى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أين يعسوب الدين؟ فلم يجبه أحد ، فقال : أين أمير النحل؟ فلم يجبه أحد ، فقال : أين على بن أبى طالب؟ فلما سمع على بن أبى طالب ـ رضوان الله عليه ـ ذلك من لفظ النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم جذب ذا الفقار (١) وحمل على النحل ، فأدبرت النحل على أثرها راجعين على بنى سليم ولدغتهم ، فهربت بنو سليم بين أيدى النحل إلى رءوس الجبال وبطون الأودية وفتح الله جبال بنى سليم على يد أمير المؤمنين على بن أبى طالب.

فلما استتم الفتح واستقام النصر قال بعض الصحابة للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا رسول الله شبهت على بن أبى طالب باليعسوب وهو النحلة؟ فقال النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «المؤمن كالنحلة لا تأكل إلا طيبّا ولا يخرج منها إلا طيب» فمن ذلك الحين و [تلك] الواقعة لقب أمير المؤمنين على بن أبى طالب بيعسوب الدين أمير النحل.

وإلى الآن يجلب من هذه الجبال نحل ، أى عسل يشترى منه الحاج والحجاز وبعض أهل اليمن.

__________________

(١) اسم سيف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٢٥

ذكر وادى انظر

قال ابن المجاور : رأيت فى المنام ليلة السبت سادس شعبان سنة أربع وعشرين وستمائة كأن إنسانّا يقول لى : إن فى أعمال المدينة يثرب واد مسروق وجبال وشعاب لم يفهم أحد كيف دخوله ، قلت له : ما يسمى؟ قال : وادى انظر ، قلت : وما المعنى فيه؟ قال : إنه سأل إنسان شيخّا من أهل هذا الوادى فقال له : من أين الشيخ؟ فقال : من وادى انظر ، قلت : وما المعنى فى هذا الاسم؟ قال : لأنه واد للإسلام به عز ، قلت : ومن أين سكانه؟ قال : هم قوم من أولاد حام بن نوح ، عليه‌السلام ، وهم مع ذلك قوم لا عرب ولا عجم ولا هند ولا حبش ولا ترك ولا نبط بل لهم لغة منهم وفيهم ، قلت : فكم يصح دوره؟ قال : فرسخين أو مسيرة يومين ، ولا يزال الأمير قاسم بن المهنا بن جماز الحسينى يرعى إبله ونعمه فيه ، وأرضه ذات مزارع وعيون وأمن وسكون ، وقد خلت من الناس ، فسألت عن زمان فقلت : ما السبب فى خلوها؟ قال : إن الله عزوجل قلب عاليها سافلها.

قال ابن المجاور : وفى هذه الأيام قتل الأمير قاسم بن المهنا بن جماز ابن عمه شيحة وتولى بعد قتله الأمير هاشم بن قاسم على ملك مكة ، ومع ذلك يمكن أن يكون هذا الوادى فى هذه الأودية والجبال والشعاب مسروق لم يعلمه أحد من الأعراب سوى سكانه ، والعلم عند الله.

وإلى الخضراء من يثرب أربع فراسخ وبه أعين ونخيل ويسكن أهلها فى أخدار الشعر إلى الآن وإلى عين النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أربع فراسخ وهى عين جارية وعليها نخيل وهى

٢٦

أواخر الجبال والأودية وأول الفلاة والرمال ، وإلى عمق أربع فراسخ وبه أعين ونخيل ، وأحرق نخلها الأمير عز الدين أبو عزيز قتادة بن إدريس سنة خمس عشرة وستمائة.

وإلى نجد أربع فراسخ وتسمى مبرك وهى أرض قفر وبها بركة عظيمة خلقها الرحمن ، ويقال : اغتسل بها ومن مائها النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا يزال بها الماء طول الدهر من بركات النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وتمر على ثلاثة جبال تسمى البرانين فإذا كنت طالبّا المدينة فاترك جبلين منها على يسارك ، وإن كنت طالبّا مكة فاتركهما عن يمينك وامش بالقرب من الجبال لكى لا تضل ، لأنه واد فيه رمل أبيض يشابه دقيق السويق ، ولا شك أنه لا ممر إليه إلا فى هذا المكان.

وإلى بئر على بن أبى طالب رضى الله عنه أربع فراسخ ، وهى بئر عظيمة البناء يروى الحاج منها ومن حولها من الأعراب ما عندهم من المواشى وغيرهم.

وإلى قباء أربع فراسخ ، وكانت مدينة قبل المدينة ، وقيل : بنيت فى زمن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفى مسجدها قبلتان : إحداهما إلى المشرق والثانية إلى الكعبة ، لما أمر الله سبحانه النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يوجه وجهه نحو الكعبة [حيث] قال : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ)(١) ثم إلى المدينة فرسخ بين نخل باسقات شامخات.

__________________

(١) الآية : ١٤٤ من سورة البقرة.

٢٧

ومن مكة إلى الطائف

من مكة إلى منى فرسخ ، وإلى المشعر الحرام فرسخ ، وإلى جبل عرفات فرسخ ، مبتدى وادى نعمان ، وفيه أراك ونخل.

ألا هل لأيام المحصب أوبة

وهل لى بهاتيك القباب حلول

وهل لليالى الخيف بالخيف مرجع

وهل لمبيت بالجمار سبيل

وهل لى بأعلام المعرّف وقفة

وبالسرح من وادى الأراك مقيل

وإلى برقة ثلاثة فراسخ ، وبه قبر الأمير شكر بن أبى الفتوح الذى استفتح جدة ، وإلى المرزة أربع فراسخ ، والأصح ستة فراسخ ، وإلى الحجر فرسخين [كذا] ويكون جوازك على جبل عال يسمى عفر.

قال ابن المجاور : ولا شك أنه يسمى غزوان ، وبه قال الشاعر :

إذا خفت يوما من أمير عقوبة

فلى باللوى من راس غزوان منزل

بناء الطائف

قرأت فى كتاب الفاكهى قال : حدثنى الحسين قال : حدثنى على بن الصباح قال : حدثنى ابن الكلبى ، عن إياد بن نزار ، ويقال : عن أبيه ، عن أبى صالح ، عن ابن عباس قال : كان بالنخع وثقيف رجلان من إياد بن نزار يقال لأحدهما : ثقيف ، وهو قسى بن منبه ابن بنت أفصى بن دعمى بن إياد بن نزار ، والآخر : النخع بن

٢٨

عمرو بن طهمان بن عبد مناة بن يقدم بن أفصى بن دعمىّ بن إياد بن نزار ، فخرجا ومعهما غنيمات لهما فيها عنز لبون وهما يشربان من لبنها ، فعرض لهما مصدّق ملك من ملوك اليمن فأراد أن يأخذ من غنمهما الصدقة ، فقالا : خذ منه أيتهن شئت ، فقال : آخذ صاحبة اللبن ، فقالوا : إنما معيشتنا ومعيشة هذا الجدى من لبنها ، فأبى إلا أخذها فقتله أحدهما ، فقال له صاحبه : لا يجمعنى وإياك بلد ولا تحوينا أرض ، فإما أن تصعد وأنحدر ، وإما أن تنحدر وأصعد ، فقال النخع : أنا أصعد.

فأتى النخع بيشة فنزلها ، ومضى ثقيف إلى وادى القرى فكان يأوى إلى عجوز يهودية يكمن عندها بالليل ويعمل بالنهار ، فعند ذلك اتخذته ولدا واتخذها أما ، فلما حضرها الموت قالت : يا بنى ، إذا أنا مت فخذ هذه الدنانير وهذه القضبان من الكرم فإذا نزلت بلدا فاغرس هذه القضبان فإنك لا تعدم منها رزقا.

ففعل ثقيف ذلك ثم أقبل حتى نزل موضعا قريبا من الطائف ، فإذا هو بجارية حبشية على ظهر ترعى مائة شاة لمولاها ، فأسرّ طمعا فيها وقال : أقتلها وآخذ الغنم ، فألقى فى نفسها ما أراد بها ، فقالت له : يا هذا ، كأنك طمعت نفسك أن تقتلنى وتأخذ غنمى؟ قال : نعم ، قالت له : لقد عدلت (١) ولو قتلتنى وأخذت الغنم ما نجوت ، فأنا جارية عامر بن الظرب بن عمرو بن عباد بن يشكر بن عدوان بن عمرو بن قيس بن عيلان بن مضر ، وهو سيد أهل الوادى وأنا أظنك غريبا خائفا ، قال : نعم ، قالت : أفلا أدلك على خير مما أردت؟ قال : بلى.

__________________

(١) أى : ابتعدت عن الصواب.

٢٩

قالت : إن مولاى إذا طلعت الشمس يأتى إلى هذه الصخرة فيضع ثيابه وقوسه وجفيرته عندها وينحدر فى هذا الوادى يقضى حاجته ويتوضأ من العين التى فى الوادى ثم يرجع ويأخذ ما ترك وينصرف إلى رحله ويأمر مناديا ينادى : ألا من أراد العيش والتجمع فليأت دار عامر بن الظرب ، فيقبل جميع من أراد ذلك ، فاكمن له تحت الصخرة وخذ ثوبه وقوسه وجفيرته فإذا رآك وقال : من أنت؟ فقل : غريب فأنزلنى ، وخائف فأجرنى ، وعزب فزوجنى ، إن كنت برا شريفا.

فقال : أنا أفعل جميع ما ذكرت ، قال : فخرج عامر بن الظرب كعادته فاستخفى له ثقيف ، فلما دخل الوادى فعل ثقيف ما أمرته به الجارية ، فقال عامر بن الظرب : انطلق ، فانطلق معه فانحدر إلى قومه ، ونادى مناديه فأقبلت الناس يهرعون إليه ، فأكلوا وتجمعوا ، فقال لهم عامر : ألست سيدكم؟ قالوا : بلى! قال : وقد أجرتم من أجرت وآمنتم من آمنت وزوجتم من زوجت؟ قالوا : بلى! فقال عامر : هذا قسى بن منبه ، فزوجه فى الحال ابنته ، فولدت لثقيف عوف ودارس وسلامه ، ثم تزوج بأختها بعدها فولدت له قاسم ، وأقام بالطائف وغرس تلك القضبان من الكروم فنبتت وأطعمت ، وبنى المكان فسمى الطائف لأنه طاف البلاد وسكن بها.

وقيل : ما سمى ثقيفا [إلا] لأن أباه ما ثقف حتى ثقف عامرا حين أمنه وزوجه ، وثقف الكرم حين غرسه فسمى ثقيفا.

حدثنا محمد بن أبى عمرو قال : حدثنا شعبان بن جريج عن مجاهد فى قوله عزوجل : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ)(١) قيل :

__________________

(١) الآية : ٣١ من سورة الزخرف.

٣٠

القريتان مكة والطائف ، وأما الرجل فقيل : هو عتبة بن ربيعة ، وكان ريحانة قريش يومئذ ، وقالوا : بل هو مسعود بن معتب.

ذكر حصن الهجوم

حدثنى أبو على أحمد بن على بن آدم اليزنى قال : كان حصن الهجوم جبلا مدورا فى وسط قاع صفصف فجاء الأنباط ، وهم من نسل اليونانيين النصارى ، ويقال : الروم ، وقد بقى من تذاكيرهم طى القنوات ومجارى الأعين وحجر الطواحين التى يطحن عليها القرظ لأجل دباغة الأدم.

قال الراوى : ودور كل حجر منها ثمانية أذرع فى الارتفاع إلى سبعة أذرع ، وليس هذا من عمل العرب لأنه لا يتدبر لهم فيه عمل ولا يستدير لهم فى أيديهم ولا يتصور فى خواطرهم بل هذا وما أشبهه من عمل الجبابرة وحكمة الأوائل.

وما ذكرت تلك الأحكام إلا لما نذكره من بناء الحصن وذلك أن الأنباط جاءوا وبنوا حول الجبل الحجر المنقوش المربع طول كل حجر منه سبعة أذرع فى عرض ثلاثة أذرع وما زال القوم فى بنائه إلى أن حاذى البناء ذروة الجبل ، فلما استتم البناء به على حسب المراد بما أراد الفكر بنوا بعده الأسوار والأبراج ، وهو على وضع ما تقدم ذكره ، وركب عليه باب واحد وحفر فى داخل القلعة بئر عظيم عميق فظهر فى البئر مع تمام الحصن الوافر ماء يحاكى الشهد فى حلاوته والماورد فى رائحته وعين الحياة فى صفائه.

٣١

فلما دار الدهر بالسنين والشهور ارتدم ما بين الأمة من التقارب والاتصال وتقاربت بهم الآجال وتباعدت عنهم الأحوال إلى أن أظهر الله عزوجل الإسلام ففتحها النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالسيف ، وبقى الحصن على حاله إلى أن وصل ملك الحجاز إلى الأمير عز الدين أبى عزيز قتادة بن إدريس فأمر بهدم الحصن فهدم خوف أن لا يعصيه فيه أحد من الأعراب ، وبقى الحصن خرابا إلى الآن ، ويسمى عند أهله حصن الغراب.

ذكر الوهط

حدثنا معبد بن عبد الرحمن المخزومى قال : حدثنا شعيب عن عمرو بن دينار قال : كتب عمرو بن العاص فى وصيته وذلك فى الوهط وجعلها صدقة لا تباع ولا توهب ولا تورث : وهى للأكبر من أولادى والمتبع فيها عهدى وأمرى ، فإن لم يقم بعهدى ولا أمرى فليس له ولاء ، يعنى بذلك الوهط ، حتى يرثه الله تعالى قائما على أصوله.

حدثنا محمد بن منصور قال : حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار قال : عرش عمرو بن العاص فى الوهط مائة ألف عود كل عود بدرهم.

والوهط قرية من أعمال الطائف بينهما ثلاثة أميال فكان كل فاكهة الطائف ومكة من ذلك الوهط.

حدثنا محمد بن موسى القطان قال : حدثنا محمد بن الحجاج الثقفى قال :

٣٢

حدثنا عبد العزيز بن أبى رواد عن عطاء عن ابن عباس قال : كان الطائف من أرض فلسطين ، فلما قال إبراهيم [كما حكى القرآن الكريم] : (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ)(١) قال : فرفع الله تعالى له موضعها إلى الطائف فى موضعها.

قال حدثنى محمد بن فارس القرشى قال لى : ما بقى فى الوهط من الشجر سوى شجرة توت وهى إلى الآن وقف عليهم.

ذكر سليمان بن عبد الملك

ابن مروان وخروجه إلى الطائف

حدثنى محمد بن صالح البلخى قال : حدثنا محمد بن إبراهيم قال : كنا مع عبد العزيز بن أبى رواد فى المسجد الجرام فأصابنا مطر شديد وريح شديدة فقال عبد العزيز : خرج سليمان بن عبد الملك إلى الطائف فأصابهم نحو من هذا ببعض الطريق فهالهم ذلك وخافوا فأرسل إلى عمر بن عبد العزيز ، وكانوا إذا خافوا شيئا أرسلوا إلى عمر ، فقال له سليمان بن عبد الملك : ألا ترى ما نحن فيه؟ فقال : يا أمير المؤمنين ، هذا صوت رحمته ، فكيف بصوت عذابه!.

وخرج سليمان إلى الطائف ، قال : فلما قدم إليها لقيه أبو زهير ، أحد بنى ثقيف ، فقال : يا أمير المؤمنين اجعل منزلك عندى ، فقال : إنى أخاف من الصداع ،

__________________

(١) الآية : ٣٧ من سورة إبراهيم.

٣٣

فقال : كلا ، إن الله قد رزقنى خيرا كثيرا ، قال : فنزل ورمى بنفسه على البطحاء فقيل له : الوطاء ، فقال : لا ، البطحاء أحب إلىّ ، فلزمه بطنه فأتى بخمس رمانات فأكلهن ، وأتوه بخمس أخر فأكلهن ، ثم قال : أعندكم غيرها؟ قالوا : نعم ، فجعلوا يأتون بخمسة خمسة حتى أكل سبعين رمانة ، ثم أتى بخروف وست دجاجات فأكلهن ، وآتوه نصيبا من الزبيب يكون فيه قدر مكوك على نطع فأكله جميعا ثم نام ، وانتبه فدعا بالغداء فأكل مع أصحابه.

فلما فرغ دعا بالمناديل فكان فيها قلة من كثرة الناس فلم يكن عندهم من المناديل ما يسعهم ، فقال : كيف الحيلة يا أبا زهير؟ فقال أبو زهير : أنا أحتال ، فأمر بالصرح والخزامى وما أشبههما من الشجر فأتى له بما يمسح به سليمان يده ، ثم شمه فقال : يا أبا زهير دعنا وهذا الشجر وخذ هذه المناديل فأعطها العامة ، ثم قال سليمان : يا أبا زهير هذا الشجر الذى ينبت عندكم أشجر الكافور هو؟ قال : لا ، فأخبره بخبره فأعجب سليمان ، وقد قال امرؤ القيس الكندى :

كان المدام وصوب الغمام

وريح الخزامى ونشر القطر

يعلّ به برد أنيابها

إذا طرّب الطائر المستحر

فلما فرغ قال أبو زهير : افتحوا الأبواب ، ففتحت ودخل سليمان مع الناس فأصابوا بستانا ذات أكمام وأتمام من الخير والفواكه فأصابوا الفاكهة ، فأقام سليمان يومه ومن الغد ثم قال لعمر : ألا ترى أنا قد أضرينا بهذا الرجل؟ فرحل ونظر إلى الوادى وخضرته مع طيب رائحته فقال : لله در قيس ، أى واد نزل! ونظر إلى عناقيد عنب يظنها الحرار فقال له عمر : يا أمير المؤمنين ، هذه عناقيد العنب ، فأقام سبعا ثم رجع إلى مكة.

٣٤

ووصف بعضهم النارنج فأنشأ يقول :

وروضة يتركنى زهرها

بالحسن والنضرة مبهوتا

أنعت منه حسن نارنجها

ولم يكن من قبل منعوتا

وصحت فى الناس : ألا من يرى

زبرجدا يحمل ياقوتا

وقال فى السوسن :

سقيا لأرض إذا ما نمت ينبهنى

قبل الهجوع بها صوت النواقيس

كأن سوسنها فى كل ساقية

على الميادين أذناب الطواويس

وقال فى المنثور :

ومنثور حططت إليه رحلى

وقد طلعت لنا شمس النهار

كشبه دراهم من كل فن

يخالطه كبار مع صغار

وقال فى الياسمين :

وياسمين آتاك فى طبقه

قد أسكر الناس (..) من عبقه

قد نفض العاشقون ما صنع ال

بين بألوانهم على ورقه

وقال فى اللينوفر :

ولا زوردية تاهت بزرقتها

بين الرياض على زرق اليواقيت

كأنها فوق طاقات لها صبغت

ذبائل النار فى أطراف كبريت

وقال فى النرجس :

وأحداق مسهدة عوانى

سرقن السحر من حدق الغوانى

على قضب الزبرجد شاخصات

حوين صفات نور الأقحوان

بأحداق من الكافور صيغت

مكحلة الجفون بزعفران

٣٥

صفة الطائف

الطائف سامية باردة الماء صحيحة الهوى كثيرة الفواكه ، زراعتهم الحنطة اللقمية التى تشابه اللؤلؤ ، وأهلها من ثقيف وقريش على زى أهل مكة فى الأكل واللبس ، وأهلها يرثون البنت عند الموت ولم تورث بنت أحدهم الدراهم ، وكذلك بنو هذيل ومضر وبجيلة وجميع أهل السراة وجميع العرب الذين هم سكان بأرض الحجاز وما حول مكة.

وللقوم عصبية عظيمة ، إذا مات بها أحد لم يحمل جنازته إلا الشبان ومع ذلك يقولون : سلم سلمك الله ، هذا ما وعد الله نعم القاضى ، وهم يتداولون النعش إلى الجبانة ، وهم الذين يحفرون القبر.

حدثنا الزبير بن أبى بكر قال : حدثنا عمر بن أبى بكر الرملى قال : أخبرنى بعض أهل العلم من قريش قال : ما استنّ للنوائح واحرباه إلا من بعد موت حرب بن أمية فناحت نوائحه واحرباه ، فجعلن النوائح للناس كلهم يقلن : واحرباه من ذلك العهد.

وبه قبر عبد الله بن العباس رضى الله عنهما.

وجميع عملهم دباغ الأدم ويدبغ بها الأديم المليح الثقيل المعروف بها وهو الذى يصلح لخوارزم ، وكل نبق يغرس فى هذه البلاد يطلع مكتسبى [كذا] وبه يطحن السدر وهو سويق النبق من نبق العراق ليس له شوك وكذلك شجرة فى زبيد مما يلى القرتب.

٣٦

من الطائف إلى جبل بدر

من الطائف إلى المعدى ستة فراسخ وبه تنحت قدور البرم التى يفخر حجرها على سائر الأحجار.

حدثنى شيخ قدورى بهذا قال : إن الحجر الأملس لا يعمل فيه الحديد إلا الفولاذ.

وإلى خبت عنتر خمس فراسخ وهو عنتر بن زبيبة العبسى ، وهى أرض ذات شعاب ومكسرات وبها بئر عذب فرات ، وإلى حدان ستة فراسخ ، وإلى بحرى خمس فراسخ ، وبه تزرع الحنطة فى العام مرتين ، بعد كل ستة أشهر مرة ، وهذا خلاف كل العالم فى الزروع.

وإلى الدرب فرسخين [كذا] وإلى أرض ليلى العامرية وقيس بن الملوح ، ويقال : إن ليلى العامرية وقيس بن الملوح كانوا فى هذه الأرض وماتوا بها ، وفى قبيلتها يقول الشاعر :

ألا لسيت أمى بالمنا عامرية

إذا صابها ضيم دعت يالعامر

وإلى نوا فرسخ ، أول معاملة بجيلة ، وهم الذين يسمون السرو.

٣٧

ذكر السرو

فأما السرو فإنهم قبائل وفخوذ من العرب ليس يحكم عليهم سلطان بل مشائخ منهم وفيهم ، وهم بطون متفرقون ، فإذا خرج أحدهم إلى سفر أتت المرأة الى عند المخلف ، أى عشيق تلك المرأة ، يحاضنها إلى أن يرجع زوجها ، فإذا قرب المسافر من منزله نادى بأعلى صوته : أيها المخلف اللجوج ، قد حان وقت الخروج ، ويدخل المسكن غفلة فإن وجده فى المسكن قتله ، وإن كان قد خرج فقد عفا الله عما سلف.

وسألت رجلا منهم فى مكة فقلت له : أيها الرجل والنزيل ماذا يصنع المخلف؟

فردّ أسوأ الجواب فقال : يسحق الخبز ويمحق المرأة.

وغاية حج القوم عمرة أول رجب وقد ضمن لهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ تلك العمرة بحجة كاملة مقبولة (١) فإذا دخلوا مكة ملأوها خزا من الحنطة والشعير والسويق والسمن والعسل والذرة والدخن واللوز والزبيب وما يشابه ذلك ، ولذلك يقول أهل مكة : حاج العراق أبونا نكسب منه الذهب ، والسرو أمنا نكسب منهم القوت.

يقال : إن معامله يوازى مائتى قرية أو أكثر ، ومن جملة القرى المائتين المسلم

__________________

(١) لم نجد ما يؤكد صحة ذلك فيما بين أيدينا من مراجع ، والثابت فى ذلك فى عمرة رمضان لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «... ومن أدى فيه نافلة كان كمن أدى فريضة فيما سواه» وذلك من ناحية الأجر والثواب فقط ، لأن عمرة رمضان لا تسقط فريضة الحج عن صاحبها أصلا ، والله أعلم.

٣٨

وعقدة والفرع وحدا والراهن وسعموم ونزيف ، وبها وقعة أمير المؤمنين على بن أبى طالب مع الأفعى فقتله.

وبه جبل إبراهيم الخليل ، عليه‌السلام ، ومنهور والفروات والشعبين واللقاع وحرف والرجعين وهى قرى جماعة ، وبهذه الأعمال كانت وقعة بنى تميم وبكر ابن وائل وفى حرب منها هلك لقيط بن زرارة أخو حاجب بن زرارة وحسن.

وإلى الفرداء ستة فراسخ ، والى الملحاء ستة فراسخ ، وهو جبل عظيم والله أعلم.

ذكر جبل الملحاء

حدثنى أبو على أحمد بن محمد بن آدم اليزنى قال : لما ملك تبع جزيرة اليمن وأرض حضرموت وبلاد الأحقاف والحجاز وأراد أن يخرج إلى ناحية العراق فجاء إلى هذا الجبل وأراد أن يحفر فيه سربا عظيما فجهز تحت الأرض مسيرة ثلاثة فراسخ أو أكثر من ذلك مستفلا منحدرا ، فلما حفر هذا القدر أمر أن يحفر فى أواخر السرب بلدا عظيما ، والأصح سوقا عظيما ، بدكاكين متقابلة مصطفة على خيط واحد ما مقداره ألف دكان ونقر من وراء الدكاكين الدور والأملاك.

فلما تم عمله ملأ كل دكان من الدكاكين صنفا من الأمتعة والأطعمة ومن الحوائج والعقاقير وما يحتاج إليه من ثقيل وخفيف ذخيرة له ، وحفر فى وسط السوق بئرا واسعا عميقا (١) فى الطول والعرض ، وجمع جميع الأموال التى كانت معه

__________________

(١) هكذا فى الأصول ، وقد ورد لفظ البئر فى القرآن الكريم بصيغة التأنيث فى قوله تعالى : (وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ) [الحج : ٤٥] والله تعالى أعلم.

٣٩

وكنزها فى البئر وجعل الذهب بيان لأنه قد نصب على خرزة البئر عودا معرضا وفيه طلسم إذا أنزل إنسان رجله على العود المعارض دار العود ، وفى العود سيف مصنوع قاطع يضرب الإنسان نصفين يرميه فى البئر.

قال ابن المجاور : وما أظن السيف أصله إلا من الصاعقة التى ضربها يافث بن نوح ، عليه‌السلام.

ذكر سيوف الصواعق

حدثنى عيسى بن أبى البركات بن مظفر البغدادى قال : أما سيوف الصواعق فثلاثة ، وقيل : سبعة ، وقال آخرون : بل أربعة عشر سيفا ، ضربت فى أيام يافث بن نوح ، عليه‌السلام ، وذلك أنه لما مات نوح ، عليه‌السلام ، وقع الخلف بين أولاده فى طلب الرئاسة فتفرقوا ، فطلب يافث المغرب وبنى بها مدينة جابلقاه ، وطلب أخوه حام المشرق وبنى بها مدينة جابرسا ، وأما ما كان من أمر يافث فإنه جمع الأموال أموال الربع المسكون وعباها خزين وعمل عليها طلسما وركب السيوف على الطلسمات ، وبقيت الكنوز على حالها إلى أيام ذى القرنين ، فحينئذ أبطل الخضر عمل الطلسمات وأخذ ذو القرنين تلك الكنوز.

قال ابن المجاور : وإحدى تلك السيوف فى جبل الملحاء فى البئر التى فيها الكنز الذى أودعه تبّع.

ويقال : إنه يسبك من الصاعقة وزن حبة خردل على الفولاذ ويضرب منه سيف

٤٠