تأريخ المستبصر

ابن المجاور

تأريخ المستبصر

المؤلف:

ابن المجاور


المحقق: ممدوح حسن محمّد
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٤٠

ومن صعدة إلى صنعاء راجعا على طريق الجديد

قال ابن المجاور : حدثنى الحسن بن على بن محمد التولى الصعدى قال : لما فتح الله عزوجل بالإسلام سلكوا هذه الطريق ، من صعدة إلى الخيام ثلاث فراسخ وتسمى الدروب ، وإلى العين فرسخ ، وإلى العمشية أربع فراسخ ، وفى هذه الحدود مدينة تسمى خيوان ويقال وادى خيران ، وهى مدينة وضعت فى لحف جبل ، ومن علمها أنه كان بها ستمائة شارع ، وكان يخرج من كل شارع ستمائة فارس ، وكان قد بنى لهذه المدينة سد شبه المأزمين بمأرب ، وقد تقدم ذكره ، فلما خرب السد خربت المدينة ، والآن هى ملك أحمد ومحمد ابنى عبد الله بن حمزة واشتروا أراضيها بذهب كثير ، وهى ذات زرع وضرع.

ويقال : إن من طيبة أهلها كانت تسمى خيران فى أيام الجاهلية.

وإلى حوث خمس فراسخ ، وإلى جحضم أربع فراسخ ، وإلى صنعاء فرسخان.

ذكر الرؤيا

قال ابن المجاور : رأيت فى المنام كأنى فى مدينة عامرة ، وكان عمارتها بالحجر المنقوش ، طول كل حجر منها مقدار خمسة أذرع ولكل حجر لون ، وهى ذات جامع ومساجد وخانقات وربط ومدارس وأسواق ودكاكين وحوانيت ، نزهة بين جبلين عاليين ، كثيرة المياه والأنهار والأشجار والبساتين ، وكان قد طبق إحدى

٢٦١

جبلى الوادى الآخر القائم على حرفه ، وقد كحل السوق بالجص من لحفة إلى ذروته ، فلو سار على وجه أى سد الجبل نملة لناظره من على بعد المسافة ، وكأنى قلت لأحدهم : ما تسمى هذه البلد؟ قال : حجب ، قلت : وما المعنى فى هذا الاسم؟ قال : إنها احتجبت عن الناظرين ، قلت : فمن أى الأعمال تحسب؟ قال : من أعمال صنعاء اليمن ، وذلك ليلة الجمعة سادس رمضان سنة أربع وعشرين وستمائة.

من تعز إلى زبيد راجعا

من تعز إلى عدينة ربع فرسخ ، قرية فى لحف الحصن ، وفيها قال الشاعر :

قد كنت إن لألأ برق من عدينة

ناديت : ما بال أحباب لنا بعدوا؟

وإلى الدمينة ربع فرسخ وبها يعمل الخزف ، وإلى وادى حذرا ربع فرسخ ، وإلى بئر ماهوت ربع فرسخ ، ويسمى الأجناش ، وبنى بها نور الدين عمر بن على بن رسول مسجدا على ثلاث قباب سنة ثلاث وعشرين وستمائة ، وإلى بئر الصدع فرسخ ، وإلى وادى النخل فرسخ ، وإلى وادى الحناء فرسخ ، وجميع غرسه وزرعه الحناء ، وهو كثير القردة ، وإلى السالبين فرسخ ، وإلى عقدة مجعر فرسخ ، وإلى الكدحة فرسخ ، وإلى حديلة فرسخ ، وتسمى سراديب النيل ، وإلى الدريعاء نصف فرسخ ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

٢٦٢

صفة طير الدلنقوق

طير أبلق يشبه الأفر غير أن الذى فى أرض العراق بمنقار طويل يأوى هذه الجبال ، وصفته إذا غرد رقص.

حدثنى الجمال قال : ما يكثر تغريده وترقيصه إلا فى فصل الغيوث والمطارات والشتاء ، وهذا أعجب شىء رآه المصنف.

وفى اليمن أيضا طير يسمى جولب أكبر من القسم وأجنحته حمر وله منقاران يقول أحدهم فى تغريده : سيدى أجب ستى! ويقول الآخر فى تغريده : دقوا قفا السودان.

ويوجد فى هذه الجبال طير يهدر شبه هدير الجمل الهائج ، ويأتى إلى زبيد عند طلوع كل شمس طيور تشبه الطيطويّة وذلك فى فصل الشتاء تسمى الحوّامات حمل فى جمل ، تدور حول البلد أربع دورات وترجع لم يعلم أحد من أين يأتون ولا اين يمسون ولا أين يكورون ، وهم من جملة العجائب.

ويطلع فى هذه الجبال ريحان برى يسمى فى أرض تهامة حبق ، ويسمونه فى زبيد النحالة الدرافساير ، وكان هذا الموضع رأس حد أعمال الحبشة لما كانوا ولاة زبيد.

وإلى الساسة فرسخ ، وإلى المخيشيب فرسخ ، آخر أعمال الجبال ، وإلى الفوترين (١) فرسخ ، وإلى حصب الدين نصف فرسخ ، وكانا قريتين عظيمتين

__________________

(١) الكلمة غير منقوطة فى الأصل.

٢٦٣

عامرتين ، ومن جملة عظمهما أنه كان يركب منهما أربعمائة فارس ، فسلط الله عليهم دابة يسمونها أهل اليمن : الحرباء ، لدغتهم فمات الجميع ، ويسميه أهل خراسان آفتاب پرست ، ويسمى فى زاولستان سكند ، كما قال ابن المجاور فيه :

چه كردى ايا روزكار نزند

كه پيوسته كردى برنك شلند

كهى زرد روى وكهى سبز كشت

كهى دست يار وكهى باى بند

ويسميها أهل نهاوند ركثرله؟؟؟ ، ويسميه أهل الحجاز أم حبين لأنه يكون لأحدهم لسان طوله أكثر من مائة ذراع ، ويسميه أهل أبين الفخاخ ، وتسميه العرب العرباء :

الحرباء ، كما قال كعب بن زهير :

ويوما يظل به الحرباء مصطخما

كأن ضاجيه بالنار مسملول

وإلى السلامة نصف فرسخ ، فإذا كان فى هذه البلاد خوف غزوهم أهل شمير لأن القرية فى لحفه.

وإلى حيس نصف فرسخ ، بناها الأمير جياش بن نجاح ، وهو جد ملوك زبيد الذين تولوا ملك زبيد والتهائم ، فلما تولى الملك بنى حيس وأنفذ إلى أهله وقرابته : انتقلوا من أعمال الحبشة واسكنوا حيس ، ويقال : إنه ليس فيها بيت من العرب بل كان من بها من نسل السودان ، وبها يضرب أهل اليمن المثل ، يقول زيد لعمرو : والله ما تضير إلا تيس فيقول له عمرو : ولم؟ فيقول : كما أعطى حب وأخذ حيس.

وكان الموجب على ما ذكره يحيى بن على بن عبد الرحمن الزراد أن عصاه فى حب حصن حب ، فحينئذ أعطى سيف الدين سنقر له حيس وأخذ منه حبا فبقى مثلا بين عوام زبيد ، وكذلك أعطى بعض ملوك الموصل قلعة وأخذ سنجار.

٢٦٤

وإلى الدوامل فرسخ وإلى السرداب فرسخ ، وإلى القرتب نصف فرسخ ، وإلى زبيد نصف فرسخ.

من زبيد إلى حجة

من زبيد إلى القحمة ثلاث فراسخ ، وإلى الكدراء فرسخان ، وإلى طرف العنمية ثلاث فراسخ ، وإلى العمد ثلاثة فراسخ على لسان وادى لعسان ، وإلى أسحر ثلاثة فراسخ ، وإلى حراز المستحرز ثلاثة فراسخ.

بناء حصن مسار

ولما كان فى سنة تسع وعشرين وأربعمائة بنى الصليحى فى رأس مسار وهو أعلى ذروة فى جبال حراز ، وكان معه سبعون قد بايعهم بمكة فى الموسم سنة ست وعشرين وأربعمائة على الموت والقيام بالدعوة ، وما منهم إلا من هو مع قومه وعشائره فى منعة وعدد كثير ، ولم يكن برأس الجبل بناء بل كان قلة قاسية منيعة ، فلما ملكها لم ينتصف النهار الذى تملكها فى ليلته إلا وقد أحاط به عشرون ألف ضارب سيف فحاصروه وشتموه وقالوا له : إما نزلت وإما قاتلناك أنت ومن معك بالجوع ، فقال لهم : ما فعلت ذلك إلا خوفا عليكم أن يملك هذا الجبل علينا وعليكم ، فإن تركتمونى أحرسه لكم وإلا نزلت إليكم ، فانصرفوا عنه ، ولم تمض له ستة أشهر حتى بناه وحصنه وأتقنه.

٢٦٥

وبقى الصليحى فى مسار وأمره يستعلى من سنة تسع وعشرين وأربعمائة ، وكان يخاف نجاحا ، صاحب تهامة ، ويلاطفه ويستكين لأمره ، ولم يزل الصليحى يعمل على نجاح حتى قتله بالسم مع جارية جميلة أهداها إليه ، وكانت وفاة نجاح بالكدراء فى عام اثنين وخمسين وأربعمائة.

وفى عام ثلاث وخمسين كتب الصليحى إلى الإمام المستنصر بالله يشاوره فى إظهار الدعوة فعاد الجواب إليه بالإذن ، ففى ذلك طوى البلاد طيّا وفتح الحصون والتهائم ، ولم تخرج سنة خمس وخمسين ولم يبق عليه من اليمن سهلا ولا عرا ولا برا ولا بحرا إلا فتحه ، وذلك أمر لم يعهد مثله فى الجاهلية والإسلام.

قال : ويبان من زبيد حصن مسار يمين القبلة ويسار المشرق ، على أعلى ذروة الجبل ، شبه أكمة عالية مشرفة على التهائم.

وفى سنة خمس وعشرين وستمائة ملكه الشريف عماد الدين يحيى بن حمزة ، وهو الآن فى قبضته وتصرفه.

وإلى الجبلين ثلاث فراسخ ، وإلى سوق القباب ثلاث فراسخ ، فى أوسط وادى سارع.

حدثنى سليمان بن منصور قال : إن أهلها كتبوا على باب مسجدهم : من أمسى فى مسجدنا هذا فلا يراعى منا عشاء.

فصل : حدث يوسف بن يحيى عن أبيه عن غسان عن أبى عبيدة بن جهيم ابن خلف قال : أتينا اليمامة ونزلنا على مروان بن أبى حفصة فأطعمنا تمرا وأرسل

٢٦٦

غلامه بفلس وسكرجة يشترى له زيتا ، فلما جاءه بالزيت قال : خنتنى من فلس واحد ، قال : كيف أخونك؟ قال : أخذت الفلس لنفسك واستوهبت زيتا ، فأنت أبخل الناس ، وقال فيه :

وليس لمروان على العرش غيرة

ولكن مروانا يغار على الفلس

وإلى طرف نظار ثلاثة فراسخ ، وإلى ربض أربع فراسخ ، وإلى لاعة أربع فراسخ ، وإلى المخلافة فرسخان ، وإلى حجة أربع فراسخ.

حدثنى يحيى بن على بن عبد الرحمن الزراد قال : إن فى الجبال جبال لا يزال البرق يضرب أطرافها إلى أن رجع ضرس قائم بنى على حصن مانع مثل الدملوة وحب والتعكر وبكور ، وما يضرب البرق على حصن عامر إلا هدمه وأخرب حصنه ودحضه إلى أن خلاه مع الأرض مستويا ، فإذا جاز على جبل من هذه الجبال قوم من أعراب الأعمال يقول زيد لعمرو : هذا حصن نصر بن جعفر وهذا منزل خالد ابن الوليد ، خرب من كذا وكذا سنة ، ولم يكسر جبال اليمن ويدحضها إلا دوام البرق ، وهذا أعجب شىء يكون.

من زبيد إلى غلافقة

من زبيد إلى القرشية فرسخ ، ومنها ظهر أبو موسى الأشعرى ، رضى الله عنه ، وهو من جلة الصحابة ، وأحد الحكمين الذين حكّمهم أمير المؤمنين على بن أبى طالب ومعاوية بن أبى سفيان ، رضى الله عنهما.

٢٦٧

فصل : أهل الزريبة والعنبرة والهرمة والقرشية ، لم تظهر بهذه القرى بنت إلا إذا عقد نكاحها وقطع مهرها وسلم دفعها ، وبعد ذلك تظهر البنت بطبل وزمر على رءوس الأشهاد بالمهامين والضيافات والطرح والتسليم ، فسأل عن فعلهم ، قالوا : نخاف نظهر طفلة فإذا كبرت رأت نبتها وخدها وقدمها ونهدها مع أعكانها مليحا يعجبها حسنها فتحتاج إلى أن تخرج عن الطريق إلى غير الطريق ، بل نخليها على حالها ، فإذا رأت قلفتها طويلة وهى مع وسخها رهكة كريهة الرائحة وحشة المنظر تخمد نارها ويقل طلابها لأجل ما معها من طول الغفلة ، فإذا مهرها طهرت فأدخلت على بعلها هين لين.

ويقال : إن جميع بلاد الشأمية عند زبيد على هذا السنن والغرض بطول وبعرض.

وإلى خبت نفحان فرسخان ، من حدود المحالب ، وليس فى تلك الأراضى أكثر توهجا منه ، وإلى غلافقة فرسخان.

بناء غلافقة

كان ما بين غلافقة والمكينة بلد تسمى الزبر ، وما اشتق اسم الزبر إلا من الزبور ، أى زبور داود ، عليه‌السلام ، ويقال : من زبرة الحديد ، طمها السافى فرجعت تلول رمل.

قال ابن المجاور : ووجدت فى المكان قبرا على ساحل البحر وقد جعل الرمل حجرا وقد غاص عظام الميت فى الحجر الأصم ، والله عزوجل أعلم.

٢٦٨

فصل : إذا دار على التراب ألف عام رجع التراب رملا ، فإذا دار على الرمل ألف عام رجع الرمل حجرا وإذا دار على الحجر الف عام رجع الحجر ترابا ، فعلى هذا الوجه لا شك أن للقبر ثلاثة آلاف عام ، لأنه تقلّب ثلاث قلبات : قلب بالتراب وقلب بالرمل وقلب بالحجر ، فلما خربت الزبر بنت امرأة تسمى بنت إسرائيل ولا شك أنها بنت يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ، عليهم‌السلام ، غلافقة فخربت لمرور الزمان عليها ودور الأفلاك عليها فبقيت رسوم وأطلال إلى أن جدد العمارة أخوان من الفرس ، والأصح من سيراف ، يقال لهم : أولاد ابن القشيرى ، ويقال : إن القوم من الذين خرجوا من جدة ، لأنه كان قد جرى بينهم وبين الأمير القشيرى شكر بن أبى الفتوح سنة خمس وتسعين وأربعمائة ، وقد تقدم ذكره بأعمال جدة على التمام والكمال ، فلما توطن القوم بها بنوا منارة حسنة ، فلما طال الدهر تشعث ونقل أساطينه الساج إلى مسجد الأشاعر بزبيد بنى به ، ويقال : إن هذا الجامع بناء القائد حسين بن سلامة ، وبنوا الدور الملاح والمساجد الساح من حجر الكاشور ، وهو حجر يستخرج من قعر البحر.

فصل : حدثنى يوسف بن أحمد بن يعيش قال : لما صام أهل غلافقة شهر رمضان قال زيد الكبير ، من أولاد القشيرى : شاهد الله على أحد من الرعية باع أو يبيع على أخى عمرو حطبا ، وأنفذ إلى أشياع أخيه عمرو وإلى أتباعه وقال لهم : والله ما يأتى أحد منكم بحطب إلى بيت عمرو إلا أفعل به كيت وكيت ، وحرم أن يدخل بالحطب إلى بيت عمرو ، فلما كان ليلة العيد أمر عمرو أهله أن يطبخوا ويشووا ، قالوا : بماذا نطبخ وأخوك زيد قد حرم علينا دخول الحطب؟ فأخرج خيوشا

٢٦٩

بللها بالسمن وأشعلها تحت القدور ، فلما كان يوم العيد وصلت الناس صلاة العيد قام عمرو وسبق أخاه زيدا وقال : باسم الله يا أصحابى إلى دارى بارك الله فيكم ، فدخلت الناس داره إلى أطعمة وأشربة وأشوية خلاف العادة ، فقام زيد وقال لعمرو : يا أخى من أين لك الحطب؟ قال عمرو : لما منعت الحطب من قلة خيرك أوقدت الخيوش المنقوعة بالسمن الكثير ، فعند ذلك تعب أخوه زيد من علو همته وآكل جميع من فى غلافقة من داره ولم تقبل إلا على طعام عمرو ، فتعجب زيد من فعله وعلو همته وقال : يا أبا محمد ، قدمك فى الموضع الماحل ، أورق العود فى كفك وهو فاضل ، والبخل إذا ما سمعك انتزح راحل ، وأنت كالبحر ، وكفك للعطا ساحل.

وأنشدنى زكرى بن سكيلا بن عبد الله البحترى يمدح جياش بن نجاح :

المشترى حلل الثناء بما حوت

كفّاه والحامى لها أن تشترى

والموقد النارين : نارا للوغى

لا تنطفى أبدا ، ونارا للقرى

فصل : سئل إبليس : من أحب الناس إليك؟ قال : عابد بخيل ، قيل : فمن أبغض الناس إليك؟ قال : فاسق سخى ، قيل : وكيف ذاك؟ قال : لأنى أرجو أن لا يقبل الله عبادة البخيل ، وأعلم أنه لا يتم له شىء من خير مع البخل ، ولا آمن من أن يطلع الله على العبد الفاسق فيرى بعض سخائه فينجيه ويرحمه به.

فصل : وكان لأبى دلف القاسم بن عيسى العجلى جار وكان لله عليه نعمة فسلبها فآل أمره إلى بيع داره فساوموه فيها ، فقال : بألف وخمسمائة دينار! فقيل : يا هذا إنما تساوى دارك ألف دينار ، فقال : وجوارى من أبى دلف بخمسائة دينار!

٢٧٠

فبلغ أبا دلف ذلك فأحضره وأمر له بألف دينار فقال : تعذرنا فى ذلك ولا تتحول عن جوارنا ، فهو الذى يقول فيه على بن جبلة الضرير فى هذا المعنى :

إنما الدنيا أبو دلف

بين باديه ومحتضره

فإذا ولى أبو دلف

ولّت الدنيا على أثره

وسكنا المكان جميعا إلى أن انقرضوا ، رحمهم‌الله تعالى ، قال :

أف للدنيا الدنيه

خبثت فعلا ونيه

والعيش كله همّ

وعقباه منيه

ذكر بئر الرباحية

حدثنى ريحان مولى على بن مسعود بن على قال : أول من ابتدأ فى حفر البئر ربّاح ، أى قرد ، وحفر بيده الأرض إلى أن نبع ماء عذب حول عقل الساب (١) يصح غمقها نحو أربعة أذرع لا غير ، فلما رأت الفرس صورته بالحجر والجص ، وهو عن البلد نحو شوط خفيف بين نخل باسقات شامخات فبقى مستقى أهل غلافقة ، ومن يصل من المراكب الصادرة والواردة على مائها فلم يقل منه شىء ، فعرفت البئر بالرباحية ، يعنى القرد الذى ابتدأ فى حفره ، ويقال : بل كان الرباح اسم الرجل ولم يكن قردا.

وهذه البلدة فرضة الكارم إذا وصلوا من ديار مصر ، ويجلب منها الحشيش

__________________

(١) هذه الكلمة غير منقوطة فى الأصل.

٢٧١

الأخضر للخضر والزنابيل والسمك العربى وغيره وضيراك ورعيد والمراوح والفار والقرش والبياض والعربى والمخنف والفرا والسفية والطويلة ، ويكون لها فرج على هيئة فروج النساء ، ولم تشتر من الصياد حتى يحلف أنه لم يطأها ، ويباع لحمها بالميزان لأجل الدواء ، والسفية ذات صدف ، والصبايا والمرح ، وجميع هذه الأسماك ترفع إلى زبيد ويسمونه الملتح ، وضمان سوق السمك بزبيد كل يوم ثلاثة عشر دينارا ملكية ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

جزيرة فرسان

ما بين دهلك وحلى ابن يعقوب ، وبها مدينتان عامرتان ، إحداهما سور ، والثانية جدة ، بناء الفرس والأصح بناء مالك بن زهير ، أهلها صلاح أتقياء ، ويجرى بين الفريقين نهر كبير عريض صاف عذب خفيف صحيح ، أوله عين ، ويقال : ماء تراب ، وقد نبت على شاطئ النهر شجر وخضر وحشائش ألوان مختلفة ، ويزرع فيها من جميع الحبوب والخضروات ، وعندهم من سائر الدواب الأهلية مثل البقر والمعز والضأن والإبل والدواب ، ويوجد عندهم من سائر الأسماك ودواب البحر.

وقد خص الله سبحانه وتعالى أهل هذه الجزيرة : إذا طلعت الشمس مقدار قامة يدوّى الجو ، وحينئذ يخرج كل من فى القرية إلى ظاهر القرية يصطفون على شاطئ البحر ، وينزل على القوم بعد ساعة طير شبه الخرّق ، ويقال : شبه السمان ، مائة ألف طير ، فإذا حصل فى شاطئ البحر لم يقدر أحدهم على الطيران فيأكل كل كفابته وعلى قدر حاله تذبيحّا وتطبيخّا ، ولم يوجد فيه سوى اللحم والشحم شىء آخر ،

٢٧٢

ويكون عيش القوم طول الدهر منه ، ولم يملّ أحد من أكله مع مداومته لأنه لحم خفيف طيب مرىء ، قلت : وما يسمى؟ قال : السلوى ، وهو الذى قال الله عزوجل : (وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى)(١) فقلت للراوى : كم يكون دور الجزيرة؟ قال : مسيرة يوم كامل لرجل طرّاد ، حدثنى بدر مولى بشر الصوفى بذلك.

ذكر جزيرة الغنم

وذلك فى بر السودان ، ما بين عيذاب إلى بحره جزيرة تسمى جزيرة الغنم ، مائة الف رأس غنم بها وأكثر من ذلك وجميعها وحشية ، وكان الموجب لذلك ما ذكره ريحان مولى على بن مسعود بن على المجاور قال : إنه قدم مركب من بعض مدن الودان شحنته غنم وكباش أرسوا بهذه الجزيرة فزخر الريح عليهم ، فلما طال الشوط فى المقام عليهم أخرجوا الغنم فى الجزيرة لترعى ، مع طول المقام فطاب للقوم الريح على غفلة فركبوا الكباش المراكب ، ونسوا تسع ثمان رءوس منها فى الجزيرة فلم يمكن القوم أن يدوروا عليهم لضيق أخلاق الربان ، فشال القوم شراعهم وساروا بالسلامة ، وبقيت الغنيمات فى الجزيرة فتناكحوا وتناسلوا مع طول الأيام فكثروا واستقطعوا الجزيرة فعرفت الجزيرة بهم وصاروا الآن إذا أرسى بهم مركب لم يقدروا أن يصطادوا من تلك الأغنام شىء إلا بعد جهد عظيم مع القوس والنشاب ، وقد لا يحصل لهم شىء لأنهم قد صاروا وحشيين يسقون الغزال وهم ملء تلك الجزيرة إلى الآن ، والله أعلم بالصواب.

__________________

(١) الآية : ١٦٠ من سورة الأعراف.

٢٧٣

ذكر جزيرة الناموس

وكذلك جزيرة الناموس ، حدثنى ريحان ، مولى على بن مسعود بن على ، قال : إنما بين جزيرة دهلك وعقيق جزيرة ملؤها ناموس ، لم يسلكها ولم يسكنها أحد من خلق الله من كثرة الناموس الذى بها ، والله أعلم.

من زبيد إلى الأهواب

من زبيد إلى المسلب فرسخ ، ويقال : إنما سميت المسلب المسلب لأن نساءها يسلبون العقول من حسنهم وجمالهم وظرافتهم (١) ، كما قال :

سقى الله ربات الحصيب وربعها

فما الحسن إلا ما حوته ربوعها

قال ابن المجاور : والله الرحمن الرحيم ما رأيت فى جميع اليمن ، سهلها وجبلها ، وجها حسنا يعتمد عليه النظر ، ولا فيهم ظرافة ولا لطافة ولا ملاحة ولا حلاوة إلا اسم بلا جسم ، ما ترى إلا عجائز سوء خبيثات الأبدان قليلات الأدب ذوات آراب وسخين اللسان قذرين الأكل ، كما قال الظهيرى :

بباده دست ميالاى كان همه خونيست

كه قطره قطره جكيدست از دل انكور

بوقت صبح شود همچو روز معلومت

كه با كه باخته اى عشق ذر شب ديجور

__________________

(١) هكذا فى الأصول الضمير لجمع الذكور ، والصواب أن يكون لجمع الإناث.

٢٧٤

فلما أوقف صلاح الدين يوسف بن أيوب فى أعمال مصر ما أوقف ، وقد تقدم ذكره فى أعمال جدة ، أوقف توران شاه يوسف بن أيوب ، والأصح طغتكين بن أيوب المعز ، وادى الجريب ، والحرب والمسلب ، وبقى يرفع دخلها إلى مكة إلى أن خبل وقفها الملك المسعود بن محمد بن أبى بكر سنة خمس عشرة وستمائة وبقى يرفع دخل هذه القرى إلى الديوان.

وأيضا كان أوقف طغتكين بن أيوب على المدينة أم الدجاج مع جمل من الأراضى كلها القاضى على بن الحسين بن وهيب ، لما تغلب الأمير قاسم بن المهنا بن جمّاز ، صاحب المدينة على مكة سنة اثنتين وعشرين وستمائة ، وبقى يرفع دخلها إلى الديوان ، ورد الملك المسعود يوسف لأم الدجاج على الأمير شيحة سنة خمس وعشرين وستمائة ، وصار يصل دخلها إلى المدينة كما كانت.

وإلى الأهواب فرسخان بين نخل شامخات.

بناء الأهواب

بنى الأهواب أبو القاسم الرامشت بن شيرويه بن الحسين بن جعفر الفارسى سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة ، مدينة حسنة ، لما تقدم من الهند يريد الحج ، ذات أسواق وجامع ودكاكين ونقل الأخشاب الساج إليها من الهند ، فلما انقضت دولة الحبشة وتولى على بن المهدى خرب جامع الأهواب ونقل أخشابه إلى المشهد الذى بناه فى زبيد سنة خمس وخمسين وخمسمائة ، وهى فرضة المراكب الواصلة من عدن.

٢٧٥

وما اشتق بطن الأهواب إلا من الأهوال ، لأنه على آخر بطن السحارى ، موضع هول لكونه كشفا.

وقال بعض الزيالع الذين أتوا الأمانات لجبريل بن زيد بن فارس : حط عنى عشور عشر سنين حتى أعمر لك مرسى الأهواب! فقال له : كيف تفعل فيه؟ قال : أشحن مراكب حجرا وترابا أرميه معارض المرسى بالطول ليرد قوة الموج والماء والريح ، فلما هان على جبريل ذلك ، وقال : إن أربع مدن فى بر السودان مقابل أربع مدن فى بر العرب : عيذاب مقابل جدة ، والأصح أن عيذاب مقابل الجار ، وهو مرسى ينبع ودهلك مقابل السرين ، وزيلع مقابل العارة وعوان مقابل الأهواب.

من عدن إلى شبام

من عدن إلى الرعارع أربع فراسخ ، وعلى رأس البئر غرابان لا يزالان من مكانهما أبد الدهور ، من أعمال لحج ، وفيه يقول على بن زياد المازنى :

خلت الرعارع من بنى مسعود

فعهودهم فيها كغير عهود

حلّت بها آل الزريع وإنما

حلت أسودّ من مكان أسود

وإلى أبين أربع فراسخ ، قرّى جماعة بناء أهل الحجاز ، ويقال : بناء بنى عامر من أرض الحجاز ، سكنوا الديار وبنوا القرى وحرثوا وزرعوا وتأهلوا فيها وبقيت فى أيدى القوم إلى آخر دولة الحبشة.

ومن جملة الأعمال خنفر والطرية وجبنون والمحل والسلامة ومسجد الرباط ،

٢٧٦

وبهذه النواحى قبر صالح النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورجل ولى صالح ، وجميع نساء أهل هذه الأعمال سحرة.

صفة العغو

إذا أرادت المرأة ان تتعلم السحر التام الذى لا قبله ولا بعده تأخذ ابن آدم تصليه إلى أن يذوب ويصير ودكا ويبرد فإذا برد شربته جميعه ، تحبل منه وتضع بعد سبعة أشهر بشرا وحشيّا يشبه القط ، سوى فى الطول والعرض يسمى العفو ، ويقال : إنه يكون عليه آلة فى قدر آلة العفو الكبير ، فلا تزال الساحرة تدور به وتربيه إلى أن يكبر ويشتد ويقوى ، فإذا بلغ الإدراك جامع العفو أمه ، فإذا جامعها فلو ركبت المرأة جرة نكست بها الجرة عنها ، ولم يشاهد العفو إلا أمه ، وهى زوجته ، ولم ينظره أحد غيرها.

قال ابن المجاور : وما سمى العفو إلا أنه يحمّلها أيرا ، لا تطيقه.

ويقال : لم يتعلم سحرا لم تعلم له ، ويقال : بل العفو مثل هذا الشىء ، كما قال

[العفو ان هب معرب

وحملا سمال على يدى

وأصبح البرد بالمسا

وصاح انى سلاح](١)

وأصل نساء هذه الأعمال من هذا الفن : تمشى إحداهن إلى المعبر وترجع فى ليلة واحدة.

__________________

(١) هكذا ورد الشعر بين المعقوفتين فى الأصل.

٢٧٧

حدثنى محمد بن زنكل بن الحسن بن عميد كرمان الكرمانى الساكن فى مسجد الرباط : وهم الذين يصيرون الإنسان حمارا وثورا كيفما أرادوا واشتهوا.

وإلى دار زينة تسع فراسخ ، جبل مشرف على البحر يسكنه الجحافل ، فخذ من فخوذ العرب ، وما عرف الجبل بهذا الاسم إلا أنه إذ وصل إليه المراكب من سائر الأقاليم تزين بها لأنها أقرب المسافة إلى عدن.

سرير ملك هذه الأعمال مدينة تسمى دثينة.

وإلى بيحان سبع فراسخ ، واد طويل عريض فيه قرى ونخل ، وقد تقدم ذكرهم ونسبهم فى معاملة بلقيس فى الجزء الأول ، وإلى وادى جريب أربع فراسخ ، وإلى عازب ستة فراسخ ، خربت على ماء واحد.

قال ابن المجاور : وقد خرب الفأر ثلاثة أعمال ، من جملتهم قرية محاسن ، بناء أبى بكر بن منصور بن العطار الحرانى فى أعمال صرصر فى دولة الإمام أبى محمد الحسن المستضىء بنور الله ، أمير المؤمنين ، وتسلط الفأر على دبالى ، وهو أربعون قرية ، والأصح أربعمائة قرية من أعمال بغداد ، حفر الفأر أراضيها ، وزادت الدجلة ودخل الماء فى الأسراب ، فلما زاد الماء أخذ القرى والأراضى معه بمرة واحدة ، وسد مأرب ، قد تقدم ذكره.

وإلى عيبر اثنا عشر فرسخا ، مسكن عيبر بن سام بن نوح ، عليه‌السلام ، ويقال : إن السرج كانت تشتعل من سبأ إلى عيبر ، قيل : وكانت عامرة آمنة ساكنة ، فالآن صارت برارىّ وخبوت ومهالك ، وإلى شبام تسع فراسخ.

٢٧٨

بناء شبام

لما تزوج سليمان بن داود ، عليهما‌السلام ، بلقيس اشترت اختها نعم نوقّا وإبلا وأسكنت المال والنعم فى مكان الأرض ، فكانت الإبل إذا رمت الخلة تندت الأراضى من أبوالها ، وكانت تأمر الرعاة أن يفرشوا على النداوة التراب ليرد الضرر عن النعم ، وما زالوا على حالهم إلى أن صار تلا عاليّا شامخا فى الهوى فأدارت عليه سور وسكنته وركبت على السور ثلاثة أبواب :

باب زبيد ، كانت النعم تدخل منه وتخرج منه ، والآن عمرها علىّ بن المهدى حصنا مكينا سكنها ، ويقال : لما بنى على بن المهدى هذا الحصن سماه زبيد ، على مدينة الحصيب من اليمن ، وباب الإبل الإبل تخرج منه إلى المرعى ، وباب مسلة الأعوام الحلق ، ويسمى باب ردفين.

فلما أتمت بناءه سمته ذا مناخ وعذبة وشبام ، ويقال : إن اسم المرأة شبام فعرف البناء بها والله أعلم.

ذكر شبام

وكم هى مدينة ، إحداها مدينة شبام ضمرمر خراب ، وضعت وبنيت فى أصل حصن ضمرمر ، ولم يبق من جميع الربع سوى الجامع عامرا ، وشبام كوكبان عامر فى الجبال ، وشبام حضرموت وهى هذه.

٢٧٩

صفة الدور

فلما سكنت نعم المدينة بنت فى أوسطها قصرا يسمى الدوار ذات طول وسعة وارتفاع ، قالت الفلاسفة الأول : لا بد أن يتغلب البدو على الثلاثة فى آخر العهد بدوار ، ولا ينام السيف ، ويكون قد يحلو من الفريقين أخذ قصر الدوار عامرا على حاله.

ويقال : إنما بنت نعم لشبام إلا على الظلم لأنها اغتصبت الأراضى من الخلق ، فلما تمت بناءها تغلبت عليها عثمن ، ويقال : عثمان ، أخذها منها ، وما زال ملوكها يتغلبون على إلى آخر من تغلب عمرو بن مهدى ، أخذها بالسيف وجدد عمارة الحصن وأحكمها غاية الإحكام وجعلها سرير ملكه بعد أن بنى لها أسوارا وخنادق وأبوابا ، فلما جاء أمر الله لم ينفع عمله شيئا ، كما أنشد عبد النبى بن على بن مهدى يقول حين تولى أرض الحصيب :

أنخنا بخيل عند باب سهامها

ولم تأل أن جالت بباب الشبارق

أدرنا على درب الحصيب بخندق

ولن يدفع أمر الله حفر الخنادق

وقيل : وملكت العرب جميع حضرموت سنة إحدى وعشرين وستمائة ، وكانت ولايته أربع سنين ، وخلّف فى جملة ما خلف مائة بهار فضة نقدا غير الآلة والعدد والخيل والبضائع ، ودوّخ ابنه ناصر الدين محمد بن مالك بعض حضرموت سنة أربع وعشرين وستمائة ، وهو إلى الآن مالكها ، والله أعلم.

٢٨٠