تأريخ المستبصر

ابن المجاور

تأريخ المستبصر

المؤلف:

ابن المجاور


المحقق: ممدوح حسن محمّد
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٤٠

صفة نجران تهامة

من حرض إلى قرار ثلاثة فراسخ ، وإلى نجران فرسخان ، وهى قرية مختصرة ويسكن أهلوها فى إغصاص بعكس بعض وهم فى التغصص يتجرعون الغصص ويقرأون القصص ، وإلى الحاوة ثلاثة فراسخ ، وإلى حدب أربع فراسخ.

فإن قال قائل : كيف يفرق بين الاسمين؟ قلنا : هذه قرية مختصرة تحت تهامة اليمن خربة ، والثانى إقليم طويل عريض عامر تحت من شمال نجد اليمن وسرير ملكها ، فهذا غلام وذاك سلطان ، وهذا كرة وذاك ميدان ، ويسمى إقليم نجران وادى سوحان.

قال ابن المجاور : دل على أن هذا الإقليم بناه العجم لأن دار بهمن بن اسفنديار فى أعمال المدائن قصبة تسمى دار ريحان ، ولا شك أنه هو الذى بنى هذا الوادى ويسمى على الاسم المقدم ذكره فى أعمال المدائن سوحان.

وفيه أنشد رميم بن جابر :

شبهتها قوس شريان مجزعة

مما يلذّ بها الرامى فيحييها

شبهتها مهرة عذرا محجلة

عند الملوك ليوم الروع ساريها

شبهتها جونة مال النسيم بها

الطل من فوقها والنهر يسقيها

ووادى العلائم كما قال بعضهم : وبنجران وادى الخسف ووادى العلائم.

٢٤١

قال ابن المجاور : وما اشتق اسم الخسف إلا من الخصب وأراد بذلك وادى الرفاء ، ويهب بها ريح الطرف مدة اثنتى عشرة ليلة فيهلك الزرع والكروم ، وفيه بعض الأعراب يقول :

وقد سلمت نجران فى الطرف لم يزل

ببحران منها قبة وعروش

وبعضهم ينشد لرميم بن جابر :

وليلة من ليالى الطرف مظلمة

سودا جمادية قد بت أسربها

فصل : قال أبو بكر : ما بحران مأخوذة إلا من قولهم بحرت الناقة إذا شققت أذنيها ، والبحيرة مشقوقة الأذنين ، قوله تعالى : (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ) وهى الناقة التى وهبت عشرة بطون سيبت فلم تركب ولا يجز لها وبر (وَلا وَصِيلَةٍ) والوصيلة الشاة إذا وهبت ستة بطون عناقين عناقين وولدت فى السابع عناقا وجديا ، فيقال : وصلت أخاها يحلبون لبنها للرجال دون النساء (وَلا حامٍ)(١) وهو الفحل من الإبل إذا لقح ولده ولده فلا يركب ولا يجز له وبر ولا يمنع من مرعى ، والله أعلم.

القول فى زوال ملك آل حمزة

وحصولها لبنى الهادى ... (٢).

__________________

(١) الآية : ١٠٣ من سورة المائدة.

(٢) بياض بالأصل.

٢٤٢

فصل : ويسمى الفحل عند الجرب العر ورهانه أنه إذا أوجعه موضع أو ثار عليه هواء او داء يحتاج الكى يؤخذ بعير غيره يكوى فوق الريح وتكون العر واقفة تحت الريح بحيث يصل روائح حرق الكى إلى العر فحينئذ يبرأ من دائه ويصح ، كما قال النابغة :

وحملتنى ذنب امرء وتركته

كذى العر يكوى غيره وهو راتع

ولم لا يكون لحليب الإبل زبد؟ حدثتنى فاطمة بنت على بن مسعود قالت : سألت امرأة مويلية من أهل اليمن عن هذه قالت : إن الأوائل كانوا يستخرجون الزبد من ألبان الإبل ثم قالوا : نتركه ، قال : لأن امرأة خاصمت ولدها فتعاطى الولد فى الخذف فخذف الصبى حجرا إلى صوب أمه وكان فى يد الأم كبة زبد من حليب النوق فرجمت بها ولدها فوقعت كبة الزبد وهى جامدة كالحجر على مقتل الصبى فمات ، فلما جرى هذا الأمر نادت مشائخ العرب فى قبائلها على ترك مخض لبن النوق بالمرة ، فقالوا : نتركه إلى الآن.

وقال حكيم : إذا دهن زيد رأسه من دهن الإبل لم يقلعه شىء ، ولم يتنظف الشعر إلا إذا حلق الشعر لأنه غليظ بالمرة.

ذكر طريق الرضراض

كان من نجران إلى البصرة طريق الرضراض وكانت المسافة فيما بين هاتين المدينتين سبعة أيام ، وقد بنى على حد كل فرسخ منه ميل بالآجر والجص ، من بناء عمرو بن معديكرب الزبيدى ، والأصح من بناء النعمان بن المنذر لما خرج من

٢٤٣

أرض اليمن طالبا العراق ، والأصح أنه بناء سيف بن ذى يزن لما خرج إلى ناحية العراق واستنجد بكسرى بن قباذ بن يزدجرد بن هرمز ملك من ملوك الفرس ، والأصح إنما بنته عرب جاهلية لما سكنوا أرض نجد لأنهم كانوا فى تلك الديار شبه السوس فى الأرض والناموس الحفر.

وأما المناهل التى كانت فى المنازل قديمة الحفر ، وبنى البناءون قصورا من باب صنعاء إلى العراق واحدا من حد الآخر ، فإذا كان خوف فى اليمن أو فرح حسن أشعل على أعلى ذروة كل قصر وكان يبصرونه فى ذروة قصر فى نواس تفل عجيب فكان يبصرونه فى حصن قرن الجند ومنه كان يدخل نجد.

وقد بنى فى نجد قصر قرب قصر ولعان ، وفى الصعيد من أعمال صعدة ، وكان يشعل فى ولعان وكان يبصره فى قصر فوق الخبت ، ومنه كان يدخل نجد.

وقد بنى قصر فى قرب آخر من أعمال العراق فكان إذا أصبح الصباح يصبح الخبر عند أهل البلاد ما نجز من خير وشر ونفع وضر ، كما قال :

يبلغ الصارخ العراق بيوم

وفى مدى ليلة تأتى المغير

ذكر انقطاع طريق الرضراض

حدثنى محمد بن سلامة بن محمد بن حجاج قال : ركبت امرأة لبعض البدوان ، ويقال : بنت عمرو بن معديكرب ، ركبت أتانا على نحيى سمن ، أى ظرفين ، فبينما هى غادية إلى الفلا صادفها عابر طريق وسالك سبيل فراودها عن

٢٤٤

نفسها فأبت أن تطيعه ، فقال لها : إن كان ولا بد فاسقنى سمنا ، فقالت له : أهلا وسهلا ، اشرب! ونزلت بالظرفين فحلّت رأس أحدهما فشرب الرجل منه شيئا وقال لها : ليس هذا سمنا طيبا ، ففتحت له الثانى فشرب حاجته وقال لها : أمسكى ، فأمسكت الظرفين ، فحينئذ قام وكشف وراءها وجامعها والمرأة خائفة أن تخلى السمن يتبدد ، وما زالا على حالهما إلى أن فرغ منها ، فشدت رأس النحيين ، أى الظرفين ، وأركبها أتانها ومضى ومضت وراء شغلها ، وتم الرحل على ذلك ، فعلم أبوها ، ويقال : أخوها ، عمرو بن معديكرب ، الخبر فجاء وسدد الآبار وهدم الأميال ونقض القصور ليقطع سلوك الطريق ، فلما طم الآبار سفى الرمل فظهر ما بقى منه وانقطعت الطريق ، وعرفت بذات النحيين ، يعنى المرأة والظرفين ، والله أعلم وأحكم.

ذكر الفيض

وهو رمل شبه دقيق السميذ دون أعمال التنعيم مما يلى ظهر اليمن ، لم يقدر أحد يسلكه لرفعه ، مسيرة هذا الرمل شهر كامل ويقال : أيام ، وهو الذى يسمى رمل عالج ، وهو الرمل الذى هو على شفا طريق الرضراض قطعه بعد أن منعه ، ويقال : إنما دخل سيف بن ذى يزن إلى العراق وورد إلى اليمن بعساكر الفرس إلا على حده ، وكانت المسافة فيما بين الإقليمين سبعة أيام ، ويقال : عشرة أيام ، على ما تقدم ذكره.

ويقال براوية أخرى : إن عمرو بن معديكرب كان وراء الفلاة مع الظعن لما سدد الآبار سفى السافى طم ما بقى من الباقى وجاء فى خلق عظيم ملك صعدة

٢٤٥

بعد أن أخربها ، وقد تقدم ذكر خرابها ، فلما خربت المدينة بنت العامة موضع الخراب بعينه ، ويقال : بل قريب منه ، والأصح أنه بنى فى أوسط الخراب وقالوا : نترك الأطراف! ويقال : إنما غزّى القوم إلا بدوى من ذات الأكيك وذات الحرمل ، وفيه يقول عنترة :

طال الثوى على رسوم المنزل

بين الأكيك وبين ذات الحرمل

فلما ضاق على البدوى الأرض أسفى الأرض فى ديارهم خرج إلى الحجاز وقتل على يد أمير المؤمنين على بن أبى طالب ، كرم الله وجهه.

ويقال : إنما ينتقل الإنسان من مكانه لأربع خصال : لرزق يستوفيه ، أو لموت يقتضيه ، أو لسعادة تأتيه ، أو لشقاوة تستوليه.

حدثنى هشام بن مسعود النجرانى فى دار الإمارة قال : إنه كان هذا الطريق ينفذ إلى الكوفة ، أو قال : إلى البصرة ، وكان أهل اليمن يسافرون إليه بالحمير وعليهم الأديم إلى إحدى هاتين المدينتين فى العام مرتين ، قلت : وعلى أى الأمكنة كان مسلكهم؟ قال : على اليمامة والحساء والبصرة ، قلت : ومتى كان عهدكم بعمرانه؟ قال : سنة عشرين وخمسمائة وقال :

لما رأيت سلوّى غير متجه

وأن غرب شفارى عاد مفلولا

دخلت بالرغم منى تحت طاعتكم

ليقضى الله أمرا كان مفعولا

وقال آخر :

سألت الناس عن خلّ وفىّ

فقالوا : ما إلى هذا سبيل

تمسّك إن ظفرت بودّ حرّ

فإن الحرّ فى الدنيا قليل

٢٤٦

صفة إقليم نجد

نجد أرض عالية ذات آكام لطاف ، حرة الأرض صافية ، الجو معتدل موافق لمن سكنها ودخلها ، وبنى فيها الأوائل أربعين قصرا مجتمعة ، والأصح متقاربة ، تسمى فى العراق قصور نجد ، وتسمى عند أهل البلاد السكيت ، ويقال : معاصم ، بنى بالحجر والجص ذات آكام ومكنة للربيع بن زهير وعمرو بن معديكرب وعنتر بن عمرو بن شداد.

قال الراوى : كنت أدور مع البدوان فى فلاة نجد فنجد بين شجر الأراك آبارا طويت بالحجر والجص ، وقد أدخل فى جملة البناء أخشاب الساج ، وكنا نجد الكرم حاملا بالعنب ألوانا مختلفة ونخلا حاملا بالخلال وشجر التين والخوخ والإجاص ومن جميع الفواكة.

ولا شك أن هذا الإقليم كان عامرا وفيه بساتين عمرت على تلك الآبار ، وجميع ذلك موجود فى أرض نجد على ما ذكرنا ، ما دنا منها وما قرب ، والله عزوجل أحكم.

صفة ماء الهباءة

والأصل فيه على ما ذكره الراوى أن الهباءة هو غدير طويل عريض عميق ليس فيه قرار لأحد من شدة جريان السيل ينزل من جبال عظيمة عالية شامخة ، وفيه يقول القائل :

٢٤٧

يا جبال الشأم يا شمخ الذرى

أقواطى بلاك الله بالمحل

ويجرى منه إلى وادى إلى الأرض ، فمن حدة جريانه مع طول المدى حفر الأرض إلى البيوت وكثرت عليه السيول وأملئ ماء فرجع بحيرة ما ينقص منه الماء ، ولو غرف منه أهل البادية وسقى واستقى منه الأموال والنعم لما نقص منه الماء ولا بان منه مقدار إصبع ، وفيه قتل قيس بن زهير بن جذيمة بن أبى سفيان أولاد عمه لأنه وصل إليهم فوجدهم يسبحون فركّب السيف عليهم وقال : إن ماء الهباءة أورثنى الذل ورحت ظالما أو مظلوما ، وقال :

شفيت النفس من حمل بن بدر

وسيفى من حذيفة قد شفانى

فإن أك قد شفيت بهم غليلى

فلم أقطع بهم إلا بنانى

وبها قتل عنتر بن زبيبة أربعين فارسا من وجوه العرب.

وهذا الماء مجتمع القبائل والفتن ، وبهذه الأماكن مسكن عنتر بن زبيبة وقيس ابن زهير وعمرو بن معديكرب وغيرهم من كبار العرب ومشائخها ورؤسائها.

قال الراوى : ونجد فى فلاة نجد ، حيث لا عمارة ولا سكن ، قبورا بنيت بالآجر والجص ألوف مؤلفة لم يعلم أهل زماننا لمن تلك القبور ، وعن محمد بن أبى حامد قال : حدثنى أبو بكر الشاعر أنه قرأ على قبر :

الموت أخرجنى من دار مملكتى

فالترب مضطجعى من بعد تتريفى

لله عبد رأى قبرى فأحزنه

وهاب من دهره ريب التصاريف

هذا مصير ذوى الدنيا وإن جمعوا

فيها وغرّهم ريب التساويف

أستغفر الله من عمدى ومن خطئى

وأسأل الله عفوا يوم توقيفى

٢٤٨

ومن جملة القصور حجر عبد الله ، قصر بنى على أكمة عالية بالحجر والجص وبالآجر والجص وبعده بالآجر والجص ، وبعده قصر عنتر بنى بالحجر والجص والآجر والجص بناء وثيقا محكما ، وبعده بئر العاصمية.

صفة بئر العاصمية

بنيت على أربعة وعشرين عمودا ، ستة أعمدة مقابل ستة ، وهى مربعة وطوى ما بعده الحجر الرخام طول كل حجر منه عشرون ذراعا بالجص مدرّج ينزل إليه بدرج ، ومن يوم بنيت إلى هذه الغاية ما نزفت ولا وجد لها قرار ، وهو بناء عجيب لب أعمال سلات ، وبعده مدينة الهجرة خرب البلد وبقى فى أوسطه القصر عامرا ساكنا بأهله ، وقد حفر فى أوسطه بئر يروى منه العرب إبلها وظعنها.

ومشرق العاصمية قصر الصبية ، والنخل مستدار حول القصور ليسكن بل ويدخر متاعهم من السمن والأقط كل ما يصل إليهم سيله ، وهو على هذا الوضع ، والله أعلم :

٢٤٩

ذكر أودية نجد

الحساء واليمامة وتحت منه الأكيك وذات الحرمل ، وهذه الأماكن أودية مشرفة ، والعواهل والعويهل سمن وسهل وجاش وعشرون الرمل ما بين نجران والهجيرة ووضع ما بين الهجيرة ومكة ، فإذا كان فصل الغيث سالت الأودية والسيل ، فإن كان أيام الجحر حفر الإنسان بيده نبع عليه الماء شرب وأروى ظعنه وكلّ يطلب أرضه وفلاته بروايا المحلة ، وفيه يقول :

٢٥٠

لو لا شفاها ذا طراز زمانها

وحمل الروايا كان من جاء يفرس

وقال آخر :

لو لا المشقة ساد الناس كلهم

الجود يفقر والإقدام قتّال

وهذه العشرة الأودية إذا مطرت جرت فى فلاة نجد ويصل أواخرهم إلى البحر المالح.

ذكر الكرم

قال حكيم : الكرم هو عشرون دينار ، قيراط منه للعرب وأربعة قراريط منه فى سائر الأمم والعالم ، والبخل هو دينار وعشرون قيراطا منه فى الروم ، ويقال : فى الهنود ، والأصح فى المغاربة ، وأربعة قراريط منه فى سائر العالم ، ويقال : أول من أطعم الكسرة إبراهيم الخليل ، عليه‌السلام ، فهى سنته ، ويقال : ثلاثة هم أصحاب الأعراف : أبو طالب لتربيته النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنوشروان لعدله ، وحاتم لكرمه ... ويقال : إن بعض العرب شرع فى طعم الكسرة وأراد أن يعادل حاتما فى زمانه فجاء إليه ضعيف يطلب منه فأعطاه ما سأل فرجع السائل إليه ثانية وثالثة ورابعة وخامسة ، فقال المدعى : يا أخى ، كف فما أنت إلا قليل الوفاء كثير الجفاء ، هذه لك خامس مرة أو سادس مرة ، فقال السائل : إن كان حاتم بنى قصرا وفتح به أربعمائة طاقة ، والله إنى كنت أدخل فى كل يوم من كل طاقة أربعمائة مرة بلا عاقة وكنت أكون فى الأول شبه الساقة ، كما قال :

٢٥١

أجاد جميل مرة بعد مرة

وما الجود إلا عادة لجميل

فلما سمع المدعى كلام السائل قال بترك ما كان قد أسس من بنائه المجصص ، وكان حاتم طيئ إذا قدّم الزاد قدام الضيوف وفضل منه شىء لم يرده إلى منزله ، بل يخليه على حاله ، كما قال :

رحلنا وخلقنا على الأرض زادنا

وللطير من زاد الكرام نصيب

وأما عرب الفلاة فلا يتغدى أحدهم إلا قرب الظهر ولا يتعشى إلا قرب نصف الليل وما يؤخرون الغداء والعشاء إلا لأجل الضيف الذى يقدم عليهم ، فإذا وصلت قافلة إلى حلة عرب يخرج أهل الحلة إلى القافلة يمسك كل واحد منهم ثلاثة أربعة أنفس من أهل القافلة ، وكذلك من يكون فى البيت من النساء والعجائز والأطفال ، وكل من يكون قليل النهضة ينادى بأعلى صوته : إلىّ يا وجوه العرب بارك الله فيكم ، ويشير بيده إلى الإنسان ، فإذا حضر عندهم رجل عزيز القدر ينحر عليه رأس إبل ، وإن كان عابر سبيل يذبح عليه شاة ، وإن كانوا جماعة والضيافة لرجل واحد من بين القوم يقدم صاحب الدار قدامه الزور والألية ، يعلم من حضر أن الدعوة لذلك الرجل الواحد والباقون طفيلية ، والمستورون يأخذ صاحب الدار رغيف يكسره ثلاث أربع كسر يرميه قدام إنسان ، تكون الدعوة لذلك الشخص ، ويسلق اللحم بالماء والملح ويثرد الخبز ويقلب عليه السمن الكثير فيشرب اللحم بالمرقة ويفرّق جميع اللحم على الثريد ، وهذا طبيخ العرب خاصة يسمونها الهريسة.

فصل : نزل جماعة شعراء على رجل من الأعراب فى برية قفر فقام الأعرابى يجزر على القوم بعيرا كان عنده فأضافهم تلك الليلة ، فلما انبسط القوم فى الحديث

٢٥٢

قال الشعراء للأعرابى : من أى البلاد أنت؟ وكم أنت فى رجل؟ وكم معك من المال؟ فقال لهم الأعرابى : أنا رجل غريب نازل هذه الأرض ، وما لى من العشيرة إلا امرأة عجوز ، وما لى من المال سوى الجمل الذى نحرته عليكم ، كما قال :

الجود طبعى ولكن ليس لى مال

وكيف يصنع من بالقوت يحتال

فهناك خطى إلى أيام ميسرتى

دينا علىّ ولى فى الغيب آمال

حكاية

عن أبى عمرو الدمشقى قال : خرجنا مع أبى عبد الله بن الجلال إلى مكة لم نجد ما نأكل فرفعنا إلى حى فى البرية وإذا فى الحى أعرابية عندها شاة فقلنا لها : بكم هذه الشاة؟ قالت : بخمسين درهمّا ، قلنا لها : أحسنى قالت : خمسة دراهم ، قلنا لها : تنهرين تنهرين ، قالت : لا والله ، ولكن سألتمونى الإحسان ، ولو أمكننى لما أخذت شيئا ، قال أبو عبد الله بن الجلال : أيش معكم؟ قالوا : ستمائة درهم ، قال : أعطوها واتركوا الشاة لها! فما سافرنا سفرة أطيب منها ، والله أعلم.

ذكر ذمام العرب

إذا أمسك عربى لصّا أو ربيطا أو من يكون له عليه دم فإن أكل الربيط فى بيت صاحبه تمرا أو لحمّا قتله بعد يومين وليلتين ، وقيل : بعد ثلاثة أيام ، ويقال : بعد سبعة أيام ، وإن أكل خبزا قتله بعد يومين وليلتين ، ويقال : بعد سبعة أيام ، وإن شرب

٢٥٣

ماء فى بيته فبعد يوم واحد ، ويقال : بعد ساعة واحدة ، وإن شرب حليبا حرم عليه دمه بعد ثلاثة أيام بلياليها ، ويقال : إن السلام يكون فى ذمامه إلى أن يغيب كلّ عن صاحبه ، فإن سلّم عليه صاحبه بطل حقه وأمن من جميع ما يكره ، قيل : ولم ذا؟ قال : لأن اللحم يبقى بمعدة الإنسان يومين وليلتين ، ويبقى الخبز يومين ، وليلة ، ويبقى الماء يوما واحدا ، والسلام ما يغيب عن النظر ، فما تقتضى المروّة أن تقتل إنسانا وخبزك فى أمعائه.

فصل : هجا دعبل بن على الخزاعى المطلب بن عبيد الله الخزاعى ، فلقيه المطلب فى طريق فقال له : سر معى إلى منزلى ، فذهب به ، فلما دخل قال : والله لأقتلنك شر قتلة ، فقال له دعبل : لا تقتلنى وأنا جائع ، أشبعنى وافعل ما شئت (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)(١) قال له : ما أحسن ما طلبت النجاة! إن أطعمتك وجبت الحرمة والأمان ، وإن لم أطعمك بخلت أى بخل ، فقال دعبل : والله لا ذكرتك بعدها بسوء أبدا ، فأطلقه وأحسن جائزته.

وإذا عض الذى عليه الدم ذيل امرأة أو طفل يحرم ذنب المذنب على صاحبه ، فإن هرب الذى عليه الدم إلى بيت إنسان استجار به ، فإن عفى عنه صاحب البيت الذى جرى بينهم .... (٢) وحكى أن قوما استجاروا بحجر بن مهلهل فأجارهم من الهواء وبنى لهم سورا من الحجر والجص ونصب على السور سرادقات من الأدم ولم يخلّ الهواء يهب عليهم.

__________________

(١) الآية : ١٠٢ من سورة الصافات.

(٢) بياض بالأصل.

٢٥٤

فصل : نزل سقّاء بئرا بطريق مكة ينزح منه الماء فى الدلاء لقلته فرحل الحاج على غفلة وبقى السقاء مكانه ثلاثة أيام بلياليها ، فبعد انقضاء هذه الأيام قدم رجل من وجوه العرب فأدلى دلوه فنظر الأعرابى السقاء فى قرار البئر فاستقى وسقى حصانه وشرب واستخرج السقاء من البئر وأردفه وراءه وسار به غير بعيد إلى أن وصل خبت قفر ليس به مما خلق الله عزوجل من المخلوقات سوى فرد حى ، أى بيت شعر له ، وفى الحى امرأة واحدة ، وهى زوجته ، فقامت المرأة وغسلت يد السقاء ورجله بماء حار وأدفأته ، ونام السقاء واستراح ، فلما استيقظ وجد طبيخا حارّا فتعشى وشبع ونام صاحب البيت وزوجته إلى الصباح ، فخرج صاحب البيت أسرج وألجم وركب حصانه وغدا للصيد ، وبقى السقاء عند المرأة تهتم بحاله وتدور فى أموره إلى أن تعافى وصح مما به ، فلما دار الدم فيه فتح عينيه ، وقدم صاحب الحى عند اصفرار الشمس وأحضر بين يديه الذى رزقه الله سبحانه من الصيد طبخا أو أكلا جميعا ، وبقى السقاء على حاله مدة ثلاثة أيام على الرسم والعادة ، وفى الرابع شبع وتعافى واستراح ، فمد عينيه إلى المرأة فوجدها صورة عجيبة فطالت يده مع قصر رجله فى مثال ذلك المكان وراودها عن نفسها مرارا فنهته فلم ينته ، فقام معها بالكلية وقامت معه بالمنية ، فلما أبصرت العفيفة عين الحقيقة قامت إليه فمسكته وأدارت كتافه وشدته فى جوار كلب كان عندها.

ففيهن من تسوى ثمانين بكرة

وفيهن من تسوى عقال بعير

وفيهن من لا بيّض الله وجهها

إذا قعدت بين النساء بزير

فلما رجع زوجها نظر الحال غير الحال فقام إليه وحله وقدم إليه ما حضر ، وبقى يراودها عن نفسها ثلاثة أيام متواليات وتفعل به الدست.

٢٥٥

قال ابن المجاور : ولا شك أن هذه المرأة كان طالعها بالسنبلة ، كما ذكره أبو الريحان محمد بن أحمد البيرونى فى كتاب التفهيم فى علم التنجيم : أما الحمل والثور والأسد والسنبلة والجدى والحوت فذوات شبق وحرص على النكاح ، وفى الميزان والقوس شىء من ذلك ، وأما فى أمور النساء فالثور والأسد والعقرب والدلو فدال على عفتهن وحصانتهن ، والحمل والسرطان والميزان دال على فسادهن ، والجوزاء والسنبلة والحوت على توسط ذلك فيهن والسنبلة أعف.

فلما عر [كذا] الحد عن الحد قال البدوى للسقاء : إلى أين تريد أوصلك؟ قال : إلى الكوفة ، فشد على حصانه ونفسه وركب وأردف السقاء وراءه وسار به يومين وليلة إلى أن أشرف به على نجد الكوفة ، فلما نزّل البدوى السقاء عن حصانه ودّع كلّ صاحبه ، فحينئذ قال البدوى : بالله عليك إلا ما كتمت بحالك معى ، أعد الله جزاك خيرا ، كما قال :

لا تضيع فعل الجميل تضيعه

إن اصطنعت لذى خطا وذنوب

والشوك لو تسقيه ماء الورد ما

 .... (١) ويحمل الخرنوب

وقال آخر :

ليس الكريم الذى إن زل صاحبه

بث الذى كان من أسراره علما

إن الكريم الذى تبقى مودته

ويحفظ السر إن صافى وإن جرما

وقال آخر :

لا تجلسن مع السفيه فإنه

بفساده لصلاح أمرك يذهب

__________________

(١) بياض بالأصل.

٢٥٦

ولقد ظفرت ببيت شعر قاله

بعض من الأعراب وهو مهذب

ما ينفع الجرباء قرب صحيحة

منها ولكن الصحيحة تجرب

ولماذا يقال : جراد نجدى لا يأكل الحشائش ويشم أطيب الأهوية ويشرب أطيب المياه ويتربى فى أطيب الأمكنة ويرجع دواء لكل داء؟ ويقال : إنه يظهر فى نجد من أعمال تسمى الدهناء ، والموضع هو مشرق البحر ، وقال آخر : بل هو يخرج من البحر بإذن الله عزوجل.

قال ابن المجاور : وهو قريب من المن والسلوى ينزل على شجر الزيتون بجبال الروم وغيرها ، والسلوى هو طير يجىء إلى دمياط على وجه الأرض ، وقد تقدم ذكره ، ولم يعلم من أين يأتى ، وكذلك الجراد يأتى من علم الله عزوجل ، فإذا غرس الجراد فى الأرض وأفقس يسمى العرجل ، فإذا بت ودب على وجه الأرض يسمى الدباء ، فإذا طار يسمى الجراد.

وقال رجل من المفسرين : إنه كتب على جناحه اسم الله الأعظم فلذلك يقدر على الطيران ويتسلط على أكل الزرع وغيره لأنه جند الله عزوجل سلطه على بلاده وعباده.

فصل : نزل الجراد فى قرب قبيلة زيد ونزل الجراد قريب قبيلة عمرو ، فقام أهل قبيلة زيد وقالوا لأهل قبيلة عمرو : ها نحن نصيد جرادا احتمى بكم ، فلما سمعت قبيلة عمرو ذلك قالت : لا سمع ولا طاعة ، ولا نمكنكم من صيد جوارنا ، فقام القتال بين الفريقين ، وما زالوا على قتال إلى أن قتل جميع هاتين القبيلتين ، وأنشد بعض أهل قبيلة عمرو يقول :

٢٥٧

ومنا من أجار جراد نجد

وحرّمه على المتصيّدينا

فصل : مرض زيد مرضا شديدا إلى أن تعيّت الأطباء من علاجه لقلة ملاقاة أدويته ، فلما أشرف على الهلاك قال الطبيب لقرابته : أطعموه ما اشتهى وأراد فإنه من الهالكين! وصار المريض يأكل ما اشتهى ، فاشتهى فى بعض الأيام الجراد فأكل وأمعن فى الأكل منه ، فلما أكثر منه تعافى من مرضه ، وشاهده الطبيب فقال : بالله عليك أخبرنى بما تناولت من المعاجين أو ما شربت من الأشربة وما غذاؤك من المآكل؟ فقال : الجراد ، فقال الطبيب : صدقت ، لأن الجراد يكون قد قعد على حشائش يأكل منها ، ولم تصل منفعتها إلى فهم مخلوق إلى الآن ، ووافق خاصية تلك الحشائش لدائك فبرئت ، وكان الجراد واسطة لعافيتك ، والله إنى نظرت فى جميع كتب الطب على أن أعرف لدائك دواء فما صح لى من ذلك فقلت بترك الحمية لك ، والله أعلم.

ذكر زواج أهل نجد

حدثنى سليمان بن منصور قال : إن جميع أعمال الجبال وجميع أهل البوادى والبدو وتهامة ونجد يزوجون بناتهم ولم يورثوا البنت شيئا ، بل إذا كانت البنت بكرا تجهز وتزوج من مال أبيها ، وإن كانت البنت ذات عيال فقد استراحت عواذلى من عتابى ، وكل امرأة يقل أهلها وعشيرتها يقل خطابها ، فإذا عجزت عن مقاساة نعمها وأموالها ومواليها تركب هودجا عاليا وتساق نعمها إلى سوق فى وعدة ويقوم لها مناد ينادى عليها : ألا من يطلب عروسا ودودا؟ فإن كانت راجعا ينادى عليها : ألا ومن

٢٥٨

يطلب نحيحا ودوبا ، والنحيح هى المرأة الثيب والدوب مالها ونعمها من ... (١) وأمانات ، فكل من رغب فيها وفى مالها تزوج بها ، فإذا أبوها أو أخوها أو ابن عمها أو بعض قرابتها يقول للرجل : تزوج بها يا وجه العرب ، وإذا قل رغبتك فيها فأنت وكيلها فى زواجها ، زوّجها من شئت!!

وأنشد بعضهم :

عليك بصعبات القياد ولا تقع

برجلك فى مدءوسة قد أذلت

إن أكرمتها قالت : قد اكرمت قبل ذا

وإن هنتها قالت : بل النعل زلت

وقال آخر :

يا مبشرى يايا (٢) ويا زوج راجع

أبشرتك الخسران من يوم راجع

وإذا دخلت المرأة على بعلها تجىء كل امرأتين من جيرانها يهنئانها بإتمام سرورها وتأتى معها بجراب ملآن دقيق سميد أو سويق أو زبيب ، وحينئذ يحصل للمرأة نحو مائة ظرف ملآن تنفقها مدة أيام وأشهر ، وإذا كان لإحدى النسوة اللائى حضرن العرس عرس ردت لهم المرأة الجرابب ملآن مثل ما كان ، وهذه عوائدهم.

وتغزل نساء هذه الديار القطن كما يغزل الوبر بالقانون غليظ مرة ، وينسج منه

__________________

(١) بياض بالأصل.

(٢) الكلمة غير منقوطة فى الأصل.

٢٥٩

شبه السياسات شبة الأكسية الصوف يسمونها ثياب الهجيرة لبس العبيد والإماء والضعيف ، ويقال : إنما يوجد فى هذه البلد ستون حائكا ودحاح ، وليس يعرف القوم أيمانا إلا أن زيد يخط خطا دائرا على وجه الأرض ، ويقول لعمرو المنكر عليه : ادخله! فإذا دخله يقول له : ارفع رأسك إلى الله ، فإذا رفع رأسه نحو السماء قال زيد : كفيت بالله ربّا ، اقصد يا إنسان طريقك بارك الله فيك ، وهذه أيمان القوم.

وتنقسم أموال هذه البلاد على فرقتين : الضأن وبعض الإبل والخيل ، فأما الإبل والضأن فيستقنونهم قوم يقال لهم الشاورية ، وبعض الإبل والخيل يستقنونهم الدواشر ، ولم يعرفوا غير هذا المال شيئا آخر ، يعنى مثل المعز والبقر والثيرة والحمير والبغال ، والآن ينزل البدوان حول القصور بالبيوت الشعر والخيل والإبل والغنم وهم أهل جود وعطا وكرم ، مأكولهم لحم الإبل ومشروبهم الحليب وركوبهم الخيل وبيعهم وشراؤهم الخيل والإبل ولبسهم الخام ، وهم أهل قوة وفصاحة ، ويدورون الفلاة وراء الأموال والنعم ، لا يؤدون قطعة ولا يعرفون خراجا.

قال ابن المجاور : وكل بدوى لا يأوى تحت سقف ولا يؤدى قطعة فهو من أولاد إسماعيل بن إبراهيم الخليل ، عليه‌السلام ، ليس فيه خلاف ولا شك ، والله أعلم.

وأما نجد وحدودها فما كان من حد اليمامة إلى قرب المدينة راجعا على بادية البصرة حتى يمتد على البحرين إلى البحر فهو حد نجد.

٢٦٠