تأريخ المستبصر

ابن المجاور

تأريخ المستبصر

المؤلف:

ابن المجاور


المحقق: ممدوح حسن محمّد
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٤٠

بناء حصن الدملوة

حدثنى يحيى بن على بن أحمد الرداد قال : إن النواب ظلموا امرأة بدوية صاحبة نعم ومواش ، فلما شاهدت المرأة اجتراء القوم فى أخذ نعمها ساقت ما بقى معها من المواشى وصعدت الدملوة وسكنت المكان ، فلما جاء وقت أخذ الراعى من المواشى أبت على أداء ما عليها من حق وباطل ولزمت مكانها ، فلما رأوا قوة بأسها مع شدة ناموسها صعد لها قوم فلم تمكنهم من الصعود ونزلوا حولها فحاصروها فلم يعمل فيها شىء ، فلما سمع والى العهد خبر المرأة وتمنعها عن أداء ما عليها من الضرائب المعهودة والقوانين القديمة ورأوا قوة الموضع أنفذ لها ذمة لها ولمن معها وأن يزال عنها وعن مواشيها الخراج ويطيب قلبها ، فنزلت المرأة فبنى الوالى على الموضع حصنا منيعا وهو بذاته قوى مكين سمى الدملوة لدوام مكث طالبيه تحته على أخذه.

وأنشد محمد بن زياد المازنى يمدح أبا السعود بن زريع يقول :

يا ناظرى قل لى تراه كما هوه

إنى لأحسبه تقمّص لؤلؤه

ما إن نظرت بزاخر فى شامخ

حتى رأيتك جالسّا فى الدملوه

ولم يقدر أحد من العرب على أخذه إلا سيف الإسلام طغتكين بن أيوب بعد أن حاصرها ست سنين ، وآخر الأمر اشتراها من القائد كافور مولى الداعى بمائة ألف دينار على شرط أن يأخذ جميع ما فيه ويسلم له الحصن شبه جوف حمار ، وهو من الحبشة.

١٨١

فلما استوفى المبلغ نزل بحرم الداعى وبجميع ما كان إلى العارة وولّى فيه المعلم أحمد الصلوى وجارية ، ويقال : خادم حبشى ، فركب فى المركب وتعدى إلى أرض الحبشة وأنفذ خاتمه إلى سيف الإسلام وأنفذه إلى المعلم أحمد الصلوى بتسليم الحصن ، فقال أحمد الصلوى المعلم : لا سمع ولا طاعة ، لا لسيف الإسلام ، ولا للقائد كافور ، أما اليوم فأنا ملك لتملكى هذا الحصن ، فرد سيف الإسلام [بأن] نزل على الحصن وحاصره ستة أشهر أخرى فلم يقدر على غرر المعلم ، فلما انحصر اشترى الحصن من المعلم ثانى مرة بستين ألف دينار وملك الحصن فهدمه وأعاد بناءه ثانية ، وركّب عليه ستة أبواب ، ومن جملتها باب الذراع وباب نيهان وباب الأسد وباب الغزال ، وحفر فيها ثلاث برك ، إحداها فى الشمس على قلة الجبل والاثنتين الأخريين فى الفىء ، وغرس فيها بستانا حسنا ، وبنى ميدان وحصنها غاية التحصين ، وآخر من اشتراها فارس من جوزا زوجة أتابك سيف الدين سنقر بمبلغ عشرين ألف دينار بعد أن حاصرها عامّا تامّا فى دولة الملك المسعود يوسف بن محمد بن أبى بكر ، فلما صار فى حوزه وقبضته وأدار حول جميع الحصن سورا ثانيا لإحكام الحصن سنة أربع عشرة وستمائة.

وقد غرس سيف الإسلام تحت الحصن بستانا يسمى الجنان ويقال الجنات فيه من جميع الفواكه ويطلع فيها وزن كل أترنجة عشرة أمنان.

١٨٢

من الجوة إلى عدن

راجعا على طريق حرز

من الجوة إلى العايرين فرسخان ، وإلى نقيل حرز فرسخ ، وما عرف بهذا الاسم إلا أنه إذا جاز عليه أحد يحرز أن يؤخذ ، وهو تسهيل الملك.

وإلى الماء الحار نصف فرسخ ، وهو عين يخرج من معينه حار ، عرف الموضع به ، وقد نبت على الموضع جمل من شجر الكاذى لله وفى الله.

وإلى الدعيس أربع فراسخ ، وهو من معاملة لحج ، وأما أعمال لحج فإنها معاملة طويلة عريضة تصح مقدار عشرين فرسخا ، وقرى كبار ومن جملتها الرعارع ، وفيه يقول على بن الحسين الأعرج :

خلت الرعارع من بنى مسعود

وتبدلت بعد القرود أسود

فقال له الداعى سبأ بن أبى السعود : بل تبدلت بعد الأسود أسود ، وهو ابن منيع ابن مسعود بن المكرم ، وكان صاحب لحج ، فتغلب عليها سبأ بن أبى السعود بن زريع بن العباس بن المكرم ، وقور الدعيس لم يدخلها ناموس ، ويرفع منه فى كل سنة ألف دينار ملكى إلى بيت المال.

واستولى عليها ناصر الدين محمد بن عمر بن المهدى الرازى فأخربها ونهب أهلها وأحرقها فى غرة شوال سنة أربع وعشرين وستمائة ، وانتقل جميع أهلها إلى عدن وتفرقت بدوها فى تهائم اليمن.

وإلى عدن أربع فراسخ.

١٨٣

من الجوة إلى تعز

إلى وادى ورزان فرسخ ، وهو نهر يفرق بين ثلاثة أعمال : أعمال الجوة وأعمال الجندية وأعمال تعز.

وإلى أكمة همدان فرسخ ، وإلى الحمراء نصف فرسخ ، وإلى الحوبان نصف فرسخ ، وقد بنى بها أتابك سنقر بركة مربعة.

وإلى تعز ربع فرسخ ، وتسمى هذه الأعمال حيز الأخضر لكثرة عشبها ومياهها وخضرتها.

صفة حصن تعز

حصن بنى على طريق جبا يسمى الجبل الأخضر ذو مكنة بالجص والحجر بأبواب وأسوار وثيقة عامرة ، وليس فى جميع اليمن أسعد منه حصنا ، لأنه سرير الملك وحصن الملك.

قال ابن المجاور : ورأيت فى المنام أن قائلا يقول لى : إن حصن تعز يسمى تل الذهب ، أو قال : جبل الذهب ، فتأملت قوله فوجدته حقّا ، لأن أموال جميع اليمن مكنوزة به.

وقال حكيم : إنه قلعة وضع بين مدينتين إحداهما المغربة والثانية فى لحف جبل صبر على هذا الوضع ، وصورته على هذا الوضع والترتيب.

١٨٤

صفة جبل صبر

جبل مدور يصح دوره ثلاثة أيام رفعته ذات طول وعرض ، وفيه من القرى والحصون ما شاء الله وبساتين وكروم وزورع ، ولها أربع مسالك : إحداها الخشبة وبرداد وعتدان وجبأ ، وما عدا هذه الطرق لم تسلك لوعرها وخشنها ، لا لراجل ولا لفارس ، وهو جبل طيب ، وفيه أنشدت شمس النهار بنت أحمد بن سبأ بن أبى السعود ، ويقال : سبأ بن سليمان تقول :

١٨٥

عاتبتنى فقالت كيف طاب لك النأى وخليت الوطن

يترك الحبيب الحبيبة ويطلب الإقامة فى عدن

واعتضت من صيد الظباء صيود أرباب السفن

واعتضت صيرة من صبر سلطان أجبال اليمن

وفى بعض كهوفها أصحاب الكهف والرقيم ، وهم الذين قال الله عزوجل فيهم : (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً)(١).

وأسماؤهم : مكسلمينا ويمليخا وتمرطموس وكسرطويوس وفرورس وححمسميثا ، واسم الكلب : دير ، ويقال : قطمير ، ويقال : حمران وانطبيس والحاين.

وقال آخرون : واويس ولماطونس ومكسلمينا وساو الحابر وكمططوس ويمليخا ، (وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ) وعلى باب الغار مسجد ، وعلى باب المسجد عين تسمى : عين الكوثر ، وهو موضع فاضل مزار فى العاشر من رجب.

فإن قال قائل : ليس القوم فى هذا الإقليم ، قلنا : بلى ، لأن دقيانوس هو الملك الذى أسس مدينة الكدراء وسكن الجند ، وكان القوم من أهل الأفسوس ، فلما تم لهم ما تم وخرجوا من مدينتهم صعدوا جبل صبر فأووا إلى كهف وجرى عليهم ما جرى ، وكلبهم معهم ، كما قال الله تعالى : (وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً)(٢) ، كما قال :

__________________

(١) الآية : ٢٥ من سورة الكهف.

(٢) الآية : ١٨ من سورة الكهف ، ونقول : إن هذا الأمر ليس توقيفيّا ، فليس هناك ما يؤكد أسماء أهل الكهف أو عددهم أو مكانهم على وجه التحديد ، إنما هى أمور اجتهادية ، ولا طائل من وراء معرفتها ، لكن العبرة فى التمثل بهم فى قوة تمسكهم بدينهم.

١٨٦

كثر الشك والخلاف وكلّ

يطلب الفوز بالصراط السوىّ

واعتقادى أن لا إله سواه

ثم حبى لأحمد وعلىّ

فاز كلبّ بحب أصحاب كهف

كيف أشقى بحب آل النبىّ

وقال دعبل بن على الخزاعى :

ملوك بنى العباس فى الكتب سبعة

ولم تأتنا عن ثامن لهم الكتب

كذلك أهل الكهف فى الكهف سبعة

كرام إذا عدوا وثامنهم كلب

وينزل ماء تعز من جبل صبر حين اشتراه سيف الإسلام طغتكين لهذا الماء من أصحابه بعشرة آلاف دينار وسبّله ، ويسمى ماء الخشبة ، وهو ماء خفيف هنىء مرىء ، ويقال : إنه عين كسر كثير الماء نصفه يقلب إلى تعز ونصفه ينزل إلى مدينة جبأ ، وهو أصح من ماء الخشبة الذى يقلب إلى تعز وأجود منه ، وليس يمنّ أهل جبأ على الغرباء إلا بشرب هذا الماء لا غير من طيبه ، وينزل جميع فواكهها وأحطابها وأخشابها التى للعمارة لأن الغصن ميال والغيم هطال ، ومن يوم يدخل الإنسان الدريعاء إلى أن ينحدر إلى نقيل الحمراء يهب عند كل عصر هواء بارد يحيى الفؤاد وبعده تكلل الأفق بالغمام وينزل الغيث ساعة زمانية ثم يصحو ، ويبقى العالم على هذه الصفة مدة ستة أشهر الصيف.

فصل : إذا رأيت الهلال فى الماء يضرب إلى الحمرة فإنه يدل على هبوب الريح ، فإذا رأيت فى وسطه سوادا دل على الغيث ، وإذا رأيت عين الشمس حين طلوعها فى وسطها شىء من الغيم دل على مطر وصحو جميعا ، وإذا رأيت الشمس تغرب وعليها وحولها قطع قطع من السحاب يدل على المطر ، وإذا رأيت سحابا متفرقا دل على الغيث ، وإذا كان الهلال ابن ليلتين أو ثلاث ، فإن رأيت فى قرنى الهلال أو كأنه مظلم ملطخ بدم دل على الشتاء وكثرة المطر.

١٨٧

ذكر بلاد ينزل فيها الغيث كثيرا

ينزل الغيث فى أعمال ماردان دائم ، وفى أعمال كلاب مدة عشرة شهور ، وفى أرض بنى سيف مدة أربعين يوما فى إقليم اليمن ويدبس شهرين ، فلذلك سمى البوالة ، وإقليم المينا ومدة أربعة أشهر ، وإقليم الجاوة ينزل الغيث من الغيم شبه أفواه القرب ولا يستدل سفّارة البحر على إقليم الجاوة إلا بكثرة لمع البرق ، وفى إقليم خور فوفل أربعة شهور ، وفى العينين ينزل دبس رفيع شبه الصماق دائم ، وينزل فى جزيرة الخضراء وجزيرة منفية دائم ، وفى بلاد السند مدة أربعين يوما ، ويكون فى جميع الهند تارة صحوا وتارة غيثا ، فى نهار واحد مقدار عشر مرات ، وتمطر على دار ولا تمطر على أخرى ، ويقال : إنها قد تمطر على أحد قرنى الثور ولم تمطر على الآخر ، وينزل الغيث فى جبال اليمن ستة شهور ما بين الظهر والعصر.

ذكر المياه والرياح

وما يتعلق بكل كوكب وبرج

فصل الحمل والميزان النيران المشعلة ، الجوزاء رياح طيبة ورياح الجنوب ، والسرطان المياه العذبة والأمطار الكثيرة الحركة وما ينزل من السماء ، الأسد ، النيران التى تدخن فى الكوانين وعلم الهوى والنيران التى فى الأحجار ، السنبلة كل ما جارى الميزان الرياح التى تلقح الأشجار بهبوبها وتسمن الثمار وتدل على طيبة الجو ، والعقرب المياه الجارية التى ينزل إليها بالمراقى مثل الصهاريج والسيول والقرب وما يعجن من الطين ، والقوس الأنهار والنيران الغريزية فى أبدان الحيوانات ، الدلو

١٨٨

المياه الجارية والبحار والرياح العواصف المؤثرة قلع الأشجار مفسدة للنبات ، الحوت المياه الراكدة والبحريات ويدل على الأشجار المعتدلة الطول.

ويسمى أعمال معاشر تعز الشعبانيات وحدوده إلى وادى ورزان وبركة الحوبان ، وبه أنشد سليمان شاه بن شاهنشاه بن شاذى يقول :

بليت بها دون الحسان فمهجتى

تذوب وبى من جرة البين بلبال

أقمت بأكناف الحصيب وأصبحت

بحصن تعز ذا التفرق قتال

من تعز إلى الجند

من تعز إلى بركة الحوبان ربع فرسخ ، وإلى وادى السمكر ربع فرسخ ، والسمكر كان رجلا يهوديا قتله على بن أبى طالب ، رضى الله عنه ، وفى هذا الموضع أراض تغلب عليها المياه إحداها ..... (١) وإلى الجند نصف فرسخ ، والله أعلم وأحكم.

بناء الجند

غرست الأوائل فى فضاة الجند نخلا وحمل فلما دار الدهر رجع عقدة ، وبقى النخل على حاله إلى أن ظهر دقيانوس الملك وقطع النخل وبنى فى فضاة الجند بلدا عظيما سماه الأفيوس ، وبه كانت وقعة أهل الكهف مع دقيانوس الملك والله أعلم ، وصورته على هذا الوضع والترتيب :

__________________

(١) بياض بالأصل.

١٨٩

١٩٠

ويقال : إن القوم فى كهف من كهوف جبل صبر نيام إلى الآن ، وهم الذين قال الله عزوجل عنهم : (سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ)(١) ، وقد تقدم ذكرهم فى الأفسوس ... (٢) عامر إلى أن ملك اليمن أخو المعز بن معن بن زائدة الشيبانى ، فقام المتولى ومد يده إلى أخذ المال واستباحة النساء بالفحش من العمل وقبح الأمل ، فلما رأوا العرب منه ما رأوا قتلوه وعصوا فى البلاد ، فعلم أخوه معن بن زائدة الشيبانى فعلم الخبر فركب وجاء فى خيل ورجل فملك اليمن بعد أن ركّب السيف على أهلها وأخرب الجند ، وسد فى الجبال ثلاثمائة غيل ، أى عين عذبة ، ويقال : إن غيلا منه سده بالملح فملح ماؤه وصار يحمل منه ملحا إلى هذه الغاية.

فلما تولى معاذ بن جبل ولاية اليمن من قبل النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بناها مدينة (سميت باسمه جبل غير أن البانون أبدلوا اللام دال ، فسميت الجند) (٣) لأنها مسكن الجند.

حدثنى عبد الله بن محمد بن يحيى قال : إن فى الأصل يسمى قارع الأجناد لأن أهلها كانوا جند اليمن لم يسمع أحد منهم كلام صاحبه ولم يرضوا بحكومة بعضهم بعضا ، فلما كثر القال والقيل بين زيد وعمرو وخرج نصر وجعفر إلى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم برضى خالد وزبير وطلبوا منه رجلا يؤدون له الزكاة ويعلمهم الشرائع

__________________

(١) الآية : ٢٢ من سورة الكهف.

(٢) بياض بالأصل.

(٣) هكذا وردت الجملة بين القوسين فى الأصل ، والأقرب للصواب أن تكون : «سميّت باسمه جبل فغيروا الباء إلى نون ، وأبدلوا اللام دالا ، فسميت الجند» والله أعلم.

١٩١

والدين ويتحاكمون إليه أنفذ النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم معاذ بن جبل ، فقلت له : أريد على هذا برهانا ، قال : يقول الشاعر :

يا بنى مسعود شدوا ال

خيل من قارع الأجناد

ما عليكم يا موالى

من نباح الكلب فى الواد

حدثنى رجل من أهلها أن كل ما كان يحفر فى الغيل حبط ... (١) زبدى تراب ، أى من تراب ، كان يعطيه رغيف خبز وعظم ، أى قطعة لحم ، ودراهم ، وقيل : دينار ، ولا يزال على حاله إلى أن جرى الماء من الغيل وعمر ، وبقى البناية على حالها إلى أن تولى سيف الإسلام طغتكين بن أيوب فأدار عليها سورا من الحجر والجص وأعلاه طين ولبن سنة سبع وتسعين ، والأصح ثلاث وتسعين وخمسمائة ، وركب على السور خمسة أبواب : باب المنصورة ، وباب الحديد ، بناية الملك المسعود يوسف بن محمد بن أبى بكر ، وباب الأقطع ، وباب السر ، ينفذ إلى بستان السلطان.

صفة جبل البقر

وهما جبلان وراء الجند لمسافة ربع فرسخ بنى بها العرب حصنين وسائر القوم يصبح به الجند صباحا ومساء ليلا ونهارا ، وبقيت أهل الجند معهم فى عناء وتعب إلى أن ملكت من ملوك العرب هدمت وأردمت آبارها ، وبقيت الآن جبلين قائمين خرابين لا بهما داع ولا مجيب.

__________________

(١) بياض بالأصل.

١٩٢

صفة أكمة سليمان

وبئر النخر ، وكان فى قرب الجبل حصن مانع يسمى أكمة سليمان ، من بناية سليمان بن داود ، عليهما‌السلام ، فلما عصت العرب على معن بن زائدة الشيبانى تحصنوا بالحصن مما يلى البحر بئر ماء ذات عمق وسعة وطول ، وقد بنى على دورانة القلعة إلى قرار هذه البئر درج ينزل إليه الخيل والرجل ، والبئر مشترك ما بين الفريقين إلى أهل البلد فشربوا منه باطن وعسكر معن بن زائدة ظاهر ، فنزل فى بعض الأيام فارس بحصانه إلى قرار البئر يرويه فلما شرب الحصان حوض الماء نخر الحصان من غمق الماء فسميت بئر النخر لأجل ذلك ، فلما علم معن بن زائدة شركية البئر فيما بينهم أفلت فى الماء نفطا فصار كل من شرب منه مات ، فسلم له الحصن ، فلما ملك الحصن هدمه والبئر معا وجمعا.

صفة الجامع

وأول من بنى الجامع معاذ بن جبل مع أهل الجند وما حوله من القرى ، وأعاد بناءه القائد الحسين بن سلامة ، وجدده الأمير المفضل بن أبى البركات بن الوليد سنة ثمانين وأربعمائة بالحجر المنقوش واللبن المربع ، وأحرقه على ابن المهدى سنة أربع وخمسين وخمسمائة ، ويقال : إن الخلق سعت وشفعت فى إبقائه فقال : قد استوجب النار ، قيل : ولم؟ قال : لأنه قد خطب على منبره الإسماعيلية ، يعنى ملوك بنى زريع أى ولاة عدن ، فهم أنجاس ينجس الجامع بذكرهم وكل من هو

١٩٣

نجس طهّر وقد طهرناه بالنار ، فأعاد بناءه سيف الإسلام ، ومع ذلك رفع سقوفه بالآجر والجص بعد أن ذهّبه ، وأجراه بالذهب واللازورد سنة ثلاث وستمائة فى دولته الملك الناصر بن طغتكين بن أيوب.

وقال حكيم : خذ من جامع تعز المنبر ومن جامع الجند السقف.

ويجتمع فى أول جمعة رجب فى جامع الجند من كل الأعمال ناس يصلون فيه ويبلغ ذلك اليوم فى الجامع مقدار ما يسع رجل واحد درهم فيقال : دينار ليصلى ركعتى الجمعة ، ويكون فيه ذلك اليوم نور مشهود.

وأهل الجند وما حوله من القرى يروون فى فضل هذا المسجد أخبارا من جهة زيارته فى أول جمعة فى رجب تعدل عمرة ، بل قالوا : حجة ، ولم يزل الناس يزورونه فى كل سنة فى أول رجب حتى أثر ذلك ... (١) وصار صفى الدين حاتم ابن على بن محمد بن المعلم حتى أسقاه فى بطيخة ، ويقال : إنه أخذ إبرة مسمومة وغرز فيها خيطا مسموما وصار يغرز الإبرة فى جوانب البطيخة ويجرها والخيط معا ، وجاءها إلى سيف الإسلام وهو قائم على بناية المنصورة فجلا سكينا فوق البطيخة ليأكل منها ، فتناول منه سيف الإسلام البطيخة فقطع وأكل وأحس بالشر به فقال لعلى بن حاتم : الله المستعان على ما تصفون ، فقال له : كل يا مولاى ، ما هو إلا خير ، وغاب الشيخ حاتم بن على بن محمد بن المعلم من ساعته ، فأوجعه فؤاده ومات ، رحمه‌الله تعالى.

وحدثنى عبد الله بن محمد قال : إنه كان يقرأ فى النزع : (ما أَغْنى عَنِّي

__________________

(١) بياض بالأصل.

١٩٤

مالِيَهْ* هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ* خُذُوهُ فَغُلُّوهُ* ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ* ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ)(١) إلى تمام الآيات.

وحدثنى إنسان جبلى من آل الصليحى قال : إنه قرأ : (الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ* يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ* كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ* وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ* نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ* الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ* إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ* فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ)(٢) وصار يكررها إلى أن مات رحمه‌الله تعالى.

بقيت النياية على حالها إلى أن توفى الملك المعز إسماعيل بن طغتكين بن أيوب فردّ الأراضى على أربابها ، ويقال : إنما ردها إلا بعد أن أسقى الشيخ على بن حاتم بن على بن محمد بن المعلم فى زبيد ، ويقال : إنما سقى ابن المعلم إلا لإدراك سيف الدين سنقر بعد قتله الملك المعز فى زيد.

فصل : كان يقال : فى زمان سيف الإسلام طغتكين بن أيوب : إنه لا يموت حتى يملك قسطنطينية ويعمرها ، فلأجل ذلك طال أمله فى الدنيا وزينتها ، وأسس المنصورة فبينما الفعلة يحفرون الأساس إذ خرج عليهم صخرة حجر عليه مكتوب : إن فلان بن فلان الشقى بنى مدينة قسطنطينية ، قال : ومات ودفن بتأريخ الشهر والسنة ، فسأل عن اسمها الأصل ، قالوا : إنها تسمى قسطنطينية ، قال : متنا ورب الكعبة! وسقى عليها ومات ودفن بمغربة تعز ، وما أراد ببناء هذه البلدة إلا أنه يخزن فيها جميع غلال الجبال ، على ما تقدم ذكره.

__________________

(١) الآيات : ٢٨ ـ ٣٢ من سورة الحاقة.

(٢) الآيات : ٢ ـ ٩ من سورة الهمزة.

١٩٥

فصل : نزل الأمير الأغر على بن محمد الصليحى بقرية من أعمال المهجم يقال لها : أم الدهيم وبئر أم معبد.

قال سعيد بن نجاح : فلما دخلنا المهجم لم يشعر بنا إلا عبد الله بن محمد ابن على فركب وقال لأخيه : يا مولانا اركب فهذا والله الأحول بن نجاح ، فقال على لأخيه عبد الله : إنى لا أموت إلا بالدهيم وأم معبد ، يعتقد أنها أم معبد التى نزل بها النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين هاجر ومعه أبو بكر ، فقال له فلان بن فلان : قاتل عن نفسك فهذه والله بئر الدهيم بن عبس وهذا المسجد خيمة أم معبد بنت الحارث العبسى (١) فحينئذ قتل بها ، وكان فى طالع الملك المعز أنه لا يقتل إلا فى العراق بعد أن يملكها أموى مزيل دولة بنى العباس ، فلما تيقن عنده ذلك قتل بوادى العرق من زبيد ، وفيه أنشد المحننى يقول :

الموت فى كل حين ينشر الكفنا

ونحن فى غفلة مما يراد بنا

لا تطمئن إلى الدنيا وزينتها

وإن توشّحت من أثوابها الحسنا

أين الأحبة والجيران ما فعلوا

أين الذين بها كانوا لنا سكنا

سقاهم الموت كأسّا غير صافية

فصيّرتهم لأطباق الثرى رهنا

وإلى قلعة ضراس نصف فرسخ ، وإلى وادى ورزان نصف فرسخ ، وإلى ذى جبلة نصف فرسخ ، ويصعد نقيل ذى جبلة ويسمى النقيلين وهما جبلان يسمى أحدهما نقيل ندران والثانى نقيل العكائف ، وما اشتهر بهذا الاسم إلا أنه كان به عجائز معتكفات ، والله أعلم.

__________________

(١) سبق ذكر هذه القصة فى ص ٩١ برواية قريبة منها.

١٩٦

بناء ذى جبلة

ذى جبلة من مخلاف جعفر ، وجبلة كان رجلا يهوديا يبيع الفخار فى الموضع الذى بنيت فيه دار العز ، وبه سميت المدينة ، وأول من اختط ذى جبلة عبد الله بن محمد الصليحى المقتول على يد سعيد الأحول بن نجاح مع أخيه على الداعى ابن محمد بن على يوم المهجم ، وكان أخوه قد ولاه حصن التعكر ، وهذا الحصن مطل على ذى جبلة وهى سفحه ، وهى مدينة بين نهرين جاريين فى الصيف والشتاء ، واختطها عبد الله بن محمد سنة ثمان وخمسين وأربعمائة ، وبها كانت تسكن الحرة الملكة السيدة بنت أحمد بن جعفر بن موسى الصليحى.

فصل : وما كان فى سنة سبع وأربعين وخمسمائة ابتاع الداعى محمد بن سبأ من الأمير منصور بن مفضل جميع المعاقل التى كانت لبنى الصليحى وهى ثمانية وعشرون حصنا ومدائن ومن جملتها مدينة ذى جبلة ، واشتراها منه بمائة ألف دينار ، ونزل الأمير منصور بن مفضل حصنيه صبر وتعز ، وطلق زوجته الصليحية وهى بنت عبد الله بن عبد الله بن محمد الصليحى وصعد الداعى المخلاف وسكن فى ذى جبلة وتزوج امرأة الأمير منصور بن مفضل ، وأكثر الشعراء تهنيته ومدحوه بالمعاقل والعقيلة المذكورين ، وطاش فرحا بما صار إليه ، وبسط يده فى العطايا ، والله أعلم.

١٩٧

بناء المخلاف ونجا

كما يقال : أعمال اليمن ، ويقال : مخلاف تعكر ومخلاف جعفر ، أى من أعمال تعكر ، وأعمال كل حصن بذاته يكون صعودا ، أدخلت تلك الأعمال إلى ذلك الحصن ، فما كان حول كل حصن من القرى والزراعات فهو مخلافة ، والمخلاف عند أهل اليمن عبارة عن قطر واسع ، وليس تعرف المخاليف إلا بجبال اليمن وأما فى التهائم فليس يعرف ، والله أعلم.

ذكر تغلب الفقهاء فى حصن التعكر

ولما خرج المنصور بن ... (١) بن نجاح من زبيد بأخيه عبد العزيز بن جياش هاجر هو وعبيده إلى الملك المفضل بن أبى البركات والتزموا له على النصرة ربع البلاد ، فسار المفضل معهم فأخرج عبد الواحد وملّكهم ، ثم همّ أن يغدر بهم ويملك زبيد.

فحين خلا التعكر وطالت إقامتهم بتهامة وفى التعكر نائب له يسمى الجمل ، وكان هذا الجمل متمسكا بالدين ، فصعد إليه إلى التعكر سبعة من إخوانه الفقهاء ، منهم : محمد بن قيس الزجاجى ، ومنهم : عبد الله بن يحيى ، ومنهم : إبراهيم بن زيدان ، وكانت له البيعة ، فأخذوا الحصن من الجمل ، وكانت الرعايا قد قالت

__________________

(١) كلمة مطموسة فى الأصل.

١٩٨

للفقهاء : إذا حصلتم فى رأس الحصن فأوقدوا النار ، ففعل ذلك ليلا فأصبح عندهم على رأس الحصن عشرون ألفا ، واستولت الفقهاء على ذلك ولم يعهدوه.

ووصل الخبر إلى المفضل بتهامة فسار مسير ظبى لا يلوى على أحد إلى التعكر ، فقامت خولان فى نصرة الفقهاء ، وأقام الحصار عليهم ، فلما طال ذلك قال إبراهيم بن زيدان : لن أموت حتى أقتل المفضل ثم أهلا بالموت ، فعمد إلى حظاياه من السرارى فأخرجهن فى أكمل زى وأحسنه وجعل بأيديهن الطارات وأطلعهن على سقوف القصر بحيث يشاهدهن المفضل ويسمع هو وجميع من معه من تلك الأمم أصواتهن.

وكان المفضل أكثر الناس غيرة وأنفة ، فقيل : إنه مات فى تلك الليلة ، وقال آخرون : امتص خاتما كان معدا عنده فأصبح ميتا والخاتم فى فيه ، وكان موته فى رمضان سنة أربع وخمسمائة.

ولما مات المفضل طلعت الحرة من ذى جبلة وخيمت على باب التعكر ، وكاتبت الفقهاء ولا طفتهم إلى أن كتبت لهم خطها بما اقترحوه من أمان وأموال ، واشترطوا عليها أن ترحل هى وجميع الحشود وتوصل إليهم من ترضاه واليّا ، وولى لها التعكر مولانا القائد فتح ابن القائد فتح.

حدثنى السلطان ناصر بن منصور قال : حدثنى إبراهيم بن زيدان أنه وصل نصيبه من العين خمسة وخمسين ألفا ، يعنى دينارا لمّا تركوه من حصن التعكر.

١٩٩

صفة بناء ذى جبلة

بنى بذاك الصليحى فى مخلاف جعفر وحدودها بالطبول من نقيل صيد إلى مصايح (١) وبالعرض من سوق وصفات إلى حصن الطريمة (٢) إلى ذى الأسود من حدود مخلاف حب ، وتسمى قلعة النهرين لأن جبل التعكر ما بين أيمن البلد وشماله ومجمع النهرين فى آخر البلد عند موضع يقال له وادى ميتم ، كما قال المازنى فى بعض قصائده ، حيث يقول :

ما مصر ما بغداد ما الطبرية

كمدينة قد حازها النهران

حدود لها شأم وحبّ مشرق

وكذاك تعكرها المنيف يمانى

وله يقول :

ليس الخورنق والسدير وبارق كطرمحى

كلا ولا النعمان مثل الدنا هطل اليدين

وقال مضطبع الدولة مواهب بن جديد المقرئ يمدح الملك المفضل بن أبى البركات بن علاء الحميرى :

فرفضتها شوقا إلى ذى جبلة

وتركتها لملوك أهل المشرق

__________________

(١ ، ٢) غير منقوطة فى الأصل.

٢٠٠