تأريخ المستبصر

ابن المجاور

تأريخ المستبصر

المؤلف:

ابن المجاور


المحقق: ممدوح حسن محمّد
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٤٠

١
٢

٣
٤

مقدمة الناشر

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله رب العالمين ، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله ، شهادة نلقى بها ربنا يوم العرض عليه ...

وبعد ، ، ،

فيسر «مكتبة الثقافة الدينية» أن تقدم للمكتبة الإسلامية هذا السفر الجليل من كنوز تراثنا الإسلامى ، وهو كتاب : «تأريخ المستبصر» لمؤلفه : «ابن المجاور» وهو كتاب فى تاريخ مكة والحجاز وبلاد اليمن ، لم تعرف وفاة مؤلفه.

ولنا هنا وقفة ، حيث اختلفت المراجع فى نسبة ابن المجاور ، ولم تتفق له على اسم واحد ، فغالبية المراجع تذكره على أنه : «أبو الفتح ، يوسف بن يعقوب بن محمد بن المجاور الشيبانى» وهكذا أورده الزركلى فى «الأعلام» وأيضا ورد بنفس الصورة فى «موسوعة العلوم الإسلامية والعلماء المسلمين» وهكذا ورد على غلافة الكتاب ـ ط. ليدن سنة ١٩٥١ ـ ١٩٥٤ وهى نسبة خاطئة.

فقد أورد المؤلف فى ص : ٢٨١ من هذه الطبعة الجديدة ، التى بين أيدينا ما نصه :

٥

«وكتب والدى محمد بن مسعود بن على بن أحمد بن المجاور البغدادى النيسابورى ...».

وهكذا نجد أن المؤلف قد ذكر اسم والده بالكامل ، إلا أنه لم يذكر اسمه هو أو كنيته.

وقد ذكرت صاحبة «الموسوعة الذهبية للعلوم الإسلامية» تحت عنوان : «تاريخ المستبصر» ما يلى :

لمحمد بن مسعود بن ... الذى كان حيا سنة ٦٢٦ ه‍ / ١٢٢٨ م.

مخطوط رقم ٤٦٣ مكتبة المتحف العراقى.

وهو كتاب فى تاريخ مكة والحجاز وبلاد اليمن ، لم تعرف وفاة مؤلفه ، وقد ذكر المؤلف اسمه فى الورقة ١٥٨ من هذه النسخة وهو : ...

ويلاحظ أن المؤلفة هنا اعتبرت أن النسبة الواردة فى المخطوط فى الورقة ١٥٨ أو فى ص ٢٨١ من الطبعة التى بين أيدينا هى للمؤلف نفسه ، بينما نجد عبارة المؤلف صريحة فى قوله : «وكتب والدى ...».

من هنا كان حرصنا على عرض كل هذه الاختلافات ووضعها بين يدى القراء الأعزاء والباحثين المتخصصين سائلين الله تعالى أن يهدينا إلى سواء السبيل ...

إنه سبحانه نعم المولى ونعم النصير

الناشر

٦

القسم الأول

٧
٨

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مقدمة

الحمد لله الذى رفع السماء عبرة للناظرين وبسط الأرض وجعل فيها آيات للموقنين وأودع فى اختلاف الألسن والألوان باختلاف الأقاليم والبلدان بصائر المستبصرين وشواهد عموم رحمته وسبوغ نعمته للعالمين ، وصلى الله على سيدنا محمد المصطفى من خلقه فى السموات والأرضين وعلى آله الطيبين وأصحابه أجمعين ، وبعد.

فإن فن التاريخ ولا سيما ما يتعلق بمعمورة الأرض وعروض بلادها وأطوالها وأوضاع مبانيها ومسافات مغانيها وتصوير أقطارها وتبيين أحوال أمصارها من أبدع الفنون وأغربها وأبعدها غورا وأعجبها ، تجدد لك أوراقه البالية المدائن الدارسة يرصاصها وقصورها ويحيى موات فصولها وأبوابها القرون الطامسة فى طى حروفها وسطورها.

هذا ولا مرية لذوى العقول والأديان فى أن مكة ـ زادها الله شرفّا ـ أم القرى وسرة الأرض المعمورة ، وأحب بلاد الله إلى الله ورسوله فى السنن المشهورة (١) ، ثم

__________________

(١) ثبت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال عند خروجه من مكة مهاجرا إلى المدينة المنورة : «والله

٩

إن أيمن ما حولها من البلدان وأبركها مملكة اليمن المخصوص بالبركات الثلاث النبوية فى جواهر السنن منبع الحكمة ومعدن الفقه والإيمان من سالف الزمن ، فخصصت هذين القطرين فى هذا الكتاب بذكر ما يتعلق بهما فى هذا الفن من بيان البقاع والبلاد والمدن والجبال والبحار وشرح المنازل والمغانى ومقادير المسافات فى المفاوز والمقار ثم تصوير كل بقعة منه حتى كأنك تراها رأى العين وتوقف بها على أرجائها فيغنيك ذلك عن الأين فى البين ، ولا يعدم كل بقعة من نادرة جرت فيها من الأخبار وشعر نظم فى سلكها قديما من الأشعار.

وهذا أوان الشروع فى مقصود الكتاب ، وتسهيل الحجاب ، وفتح الباب ، والله ميسر الأسباب ، إنه كريم وهاب.

__________________

إنك لأحب أرض الله إلى الله ، وأحب أرض الله إلىّ ، ولو لا أن قومك أخرجونى منك ما خرجت».

١٠

ذكر أسماء مكة وصفاتها

سماها الله تعالى بأربعة أسماء : مكة والبلد والقرية وأم القرى.

قال الله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ)(١) فإذا الكلام على هذا الاسم.

قال الزجاج : مكة لا تنصرف لأنها مؤنثة ، وهى معرفة ، ويصلح أن يكون اشتقاقها بكة لأن الميم تبدل من الباء ، كما يقال : ضربة لازب ولازم ، ويصلح أن يكون اشتقاقها من قولهم مككت العظم إذا مصصته مصا شديدا حتى لا يبقى فيه شىء ، شبهت بذلك لشدة ازدحام الناس فيها.

وقال ابن فارس : مككت العظم إذا أخرجت مخه ، والمك الاستقصاء ، وفى الحديث : «لا تمككوا على غرمائكم».

وفى تسمية مكة بهذا الاسم أربعة أقوال :

أحدها : أنها مسافة يأتيها الناس من كل فج عميق ، فكأنها هى التى تجذبهم إليها ، من قول العرب امتك الفصيل ما فى ضرع أمه.

الثانى : من قولهم : مككت الرجل إذا أردت تخوّفه ، فكأنها تمكك من ظلم فيها ، أى تهلكه ، كما قال :

يا مكة الفاجر مكّى مكا

ولا تمكى مذحجّا وعكّا

__________________

(١) الآية : ٢٤ من سورة الفتح.

١١

والثالث : أنها سميت بذلك لجهد أهلها.

والرابع : لقلة الماء بها.

وقد اتفق العلماء أن مكة اسم لجميع البلدة ، واختلفوا فى بكة على أربعة أقوال :

أحدها : أنه اسم للبقعة التى فيها الكعبة ، قاله ابن عباس رضى الله عنهما.

والثانى : أنها ما حول البيت ، ومكة ما وراء ذلك ، قاله عكرمة.

والثالث : انها اسم للمسجد والبيت ، ومكة اسم للحرم ، كما قاله الهروى.

والرابع : أن بكة هى مكة قاله الضحاك واحتج لتصحيحه ابن قتيبة وقال بأن الباء تبدل من الميم ويقال ضربة لازم ولازب.

وأما اشتقاق بكة فمن البك ، يقال : بكّ الناس بعضهم بعضا أى دفعه.

وفى تسميتها بكة ثلاثة أقوال (١) :

أحدها : لازدحام الناس بها ، قاله ابن عباس.

والثانى : تبك أعناق الجبابرة ، أى تدقها ، فما قصدها جبار إلا أهلكه الله ، قاله ابن الزبير.

وأما تسميتها بالبلد فقد قال الله عزوجل (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ)(٢) يعنى مكة والبلد فى اللغة صدر القرى.

__________________

(١) المذكور هنا قولان فقط.

(٢) الآية الأولى من سورة البلد.

١٢

وأما تسميتها بالقرية فقال الله عزوجل : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً) أى ساكنة بأهلها لا يحتاجون إلى انتقال عنها لخوف أو ضيق (يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ) الرزق الواسع الكثير ، يقال : أرغد فلان إذا أصاب خصبا وسعة (فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ) أى كذبت محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ)(١) وأصل الرزق بالنعم وأكثر اشتقاقه منه وذلك أن الله تعالى عذب كفار مكة بالجوع سبع سنين حتى أكلوا الجيف والعظام المحرقة وكانوا يخافون من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن سراياه.

والقرية اسم لما يجمع فيها جماعة كثيرة من الناس ، وهذا اسم مأخوذ من الجمع يقال : فريت الماء فى الحوض إذا جمعته فيه ، ويسمى ذلك الحوض مقراة.

وأما تسميتها بأم القرى فقد قال الله عزوجل : (وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها)(٢) يعنى مكة.

وفى تسميتها بذلك أربعة أقوال :

أحدها : أن الأرض دحيت من تحتها ، قاله ابن عباس ، وقال ابن قتيبة : لأنها أقدمها.

والثانى : لأنها قبلة يزوها الناس.

والثالث : لأنها أعظم القرى شأنا.

والرابع : لأن فيها بيت الله عزوجل.

__________________

(١) الآية : ١١٢ من سورة النحل.

(٢) الآية الأولى من سورة الأنعام.

١٣

قال ابن المجاور (١) : ومما قرأت فى كتاب الفاكهى قال : قال لى رجل من أهل مكة قال أعطاه كتابا بعض أشياخه فإذا فيه أسماء مكة فإذا فيه مكتوب : مكة وبرة وبسّاسة وأم القرى والحرم والمسجد الحرام والبلد الأمين.

وقالوا : ومن أسمائها صلاح ، وقال القائل فى ذلك : ... صلاح وقال كانت تسمى فى الجاهلية النشاشة لأنها تنش من فيها ، أى تخرجه منها.

قال ابن المجاور : وحدثنى هندى بالهند أنها تسمى عند الهنود مكى مسير.

وقال بعض الفضلاء : اسمها كوسا ، واحتج بقول الشاعر :

سألت عمرا عن فتى اسمه

يحيى وثان اسمه عيسى

فقال : يحيى أبصرته جالسا

بالفجّ يحلق رأسه موسى

وأبصرت عيسى داخلا قرية

هى التى قد سميت كوسا

ويسمونها التجار عروق الذهب ، ويسمونها البغاددة مربية الأيتام.

وقد ذكر المسعودى فى كتاب مروج الذهب أن مكة من الإقليم الثانى تنسب إلى المريخ ، وبناها إبراهيم الخليل عليه‌السلام ، وهواها صحيح وجوها طيب وليلها أطيب من نهارها لأنها تنزل فى لياليها الرحمة على من بها ، وماؤها من الآبار وأطيبها ماء الشّبيكة والوردية والواسعة ، وهى بئر وراء جبل أبى قبيس ، فيها يربح الفقير ، وجميع ذلك بنته أم العزيز زبيدة بنت جعفر بن أبى جعفر المنصور.

__________________

(١) هو مؤلف الكتاب ، وسبق التعريف به فى المقدمة ، وسيتكرر كثيرا فى الكتاب.

١٤

وأهلها عرب وأشراف من نسل الحسن بن على بن أبى طالب ، وما بقى من أهلها قرشيين على مذهب الإمام زيد بن على بن الحسين بن على بن أبى طالب ، وهم رجال سمر ، لأن جلة مناكحهم الجوارى السود من الحبش والنوية ، طوال الجثث صحيحين اللغة قليلين المال كثيرين العشائر والقبائل ذوو قناعة ، وقد قال النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم «القناعة غنى» وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «القناعة كنز لا ينفد».

وكان أحدهم يبقى على قرص وقليل سمن ثلاثة أيام بلياليها ، وفى ذلك أنشد الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعى يقول :

أمتّ مطامعى وأرحت نفسى

فإن النفس ما طمعت تهون

وأحييت القنوع وكان ميتا

وفى إحيانه عرضى مصون

إذا طمع أحلّ بقلب عبد

علته مذلة وعلاه هون

وملبسهم النصافى النيسابورى الرفيع ويتحزم بنصفه الثانى ويرمى بما فضل منها ، ولبس نسائهم القنوع (وسيأتى (١) ذكر القنوع فى أعمال صنعاء) والبراقع ، ومأكولهم اللحم والسمن والخبز ، وأساميهم سالم ومسلم وغانم وغنام وفراح وفارح وقاسم وهياب ونهاب ووثاب ومطاعم ومطاعن ومفرج وفارج وقاسم وقائم وضاحك وضحكان وسلال وفلال وسيار وهبار وراشد ورشاد ورشد وشاكر ومشكر وفاضل وفضائل وطالب وظالب وواصل وحاصل وراجى ومرتجى وراجح وناجح وفاتك ومالك ومهيوب وهياب ووهّاس ورعاش وحواس وكناس وقادم ومقدم ومشمر وهانى

__________________

(١) فى الأصل : «وقد تقدم» والصواب ما أثبتناه ، وانظر ص : ٢١٤ وما بعدها.

١٥

ومهنا وزاكى وطائب وظافر وناجى ومنجى وجابر ولاحق وسيار وصابر وجابر وعارس.

ذكر زواج اهل مكة

فى العاشر من ذى الحجة يخطب زيد بنت عمرو وفى العاشر من المحرم يدخل كل واحد منهم على عرسه بالنظرة والتظهير ، قلنا : ولم ذاك؟ قالوا : لأن كلا منا يعيش مع الحاج فى كل فن من الفنون من حرام وحلال ، فإذا رحل الحاج دار الخطب والنكاح والأفراح والأعراس بين الناس.

فإذا تزوج رجل من أهل مكة وقطع المهر وأراد الدخول على المرأة يخضب الرجال أيديهم وأرجلهم تزينا ، وكذلك جميع أهل اليمن وحضر موت ، ويحضر كل أصدقائه من الأهل والأقارب وبيده قرطاس مشرور مكتوب عليه اسم الآتى مع وزن المبلغ وعدده يقدمه قدام العروس كلّ على قدر حاله وسعة ماله ، وكذلك تفعل النساء ، ويخرج العريس إلى الحرم ويطوف سبعا ويصلى فى مقام إبراهيم ركعتين ويقبّل الحجر الأسود ، ويخرج بالشمع إلى بيت العروس فتجلى عليه ويدخل عليها ويبقى عندها سبعة أيام ، ففى اليوم السابع يخرج يضم الطرح الذى طرح له ويدبره رأس مال فى يده ، وعند ذلك يفتح له دكانا يعيش به ، ويكون ذلك الطرح دينا عليه.

وكل من تزوج من القوم الذين حضروا العرس يرجع يرد إليهم الذى أخذ إلى كل واحد من القوم مثل الذى جاء به إليه أو أزيد منه ، وكذلك يفعلون فى سائر أقاليم اليمن.

١٦

وكانت أهل مكة فى سالف الدهر يشترون العبيد ويقطعون عليهم قطعة تعطى لسيده كل يوم بيومه ، وكذلك النساء تقطع المرأة قطعة على جواريها فى تحصيل الذهب فترجع الجارية ترجو الفرج أو تبذل الفرج للرجل والحرج فى هرج ومرج ، وإلى الآن هذا موجود فى عدن من الغريب وأهلها ، وليس هذا الفن عندهم عار بل تفتخر النساء بذلك ، وكذلك كان فى أيام الجاهلية كل جارية لا تبذل فرجها ينكر عليها إلى أن نزلت هذه الآية : (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً)(١) فهى من ذلك العهد وهم على ذلك العهد باقون.

وإذا خرج السيد والعبد والجارية إلى أشغالهم خليت المرأة فى الدار وحدها حتى إنها تبرك على أربع إذ ليس لها شغل تشتغل به فيرجع بروكها على وركها عادة وألفوه إلفا.

ويقال : إذا تخاصم رجل وامرأته واغتاظت المرأة منه غاية الغيظ تقول المرأة لزوجها : لا شك أنك على أنى أكسره ، والمعنى أنك تريد أن أقعد على عجزى ، فيقول لها زوجها : بالله عليك لا تفعلى ذلك.

فصل : دخل سيف الدولة بن عبد الله بن حمدان على بنت عمه ، ويقال : بنت خاله وهى باركة على أربع ، وهى تنظم لها حب عقد لؤلؤ فقال لها سيف الدولة : بكم هكذا؟ قالت له : بالموصل ، قال لها : اشتريت ، فقالت له : وأنا بعتك ،

__________________

(١) الآية : ٣٣ من سورة النور ، وانظر فى ذلك باب : «الإكراه على البغاء» فى كتاب : «سورة النور ومشكلاتنا الاجتماعية» إعداد / ممدوح حسن محمد ، ص : ١٢٥ وما بعدها ، من إصدارات دار الأمين بالقاهرة.

١٧

وقضى منها شغله ... فلما أصبح من الغد جاء الخادم يتقاضى ثمن ما اشتراه فقال سيف الدولة للوزير : اكتب لها منشورا بتسليم الموصل ، فما أعجب الوزير هذا القول وأمسك عن الكتب ، فقال له سيف الدولة : اكتب لها ، فوالله لقد أخذت منها فردا يسوى جملا أحمر ، أو يقال : جمل عراقى ، كما قال :

نعم أقول لو ان القول مقبول

ظل الهوى وتمادى القال والقيل

ليس السلام بشافى القلب من دنف

ما لم يكن فيه تخميش وتقبيل

وليس يرضى محب عن أحبته

حتى يفوز بما ضم السراويل

ولأجل ذلك تكبر أعجاز نساء الحجاز لأنهم يربونه قصدا.

ويطلع بها من جميع الخضر مثل البطيخ والخيار والقثاء والباذنجان والكراث ويأكلونه بالتمر والفجل وما أشبه ذلك وبها الرطب الطيب من البرنى والمكتوم.

ويقال : إنه كان فى قديم الأيام يجتمع بها من جميع الأزهار والفواكه والثمار والرياحين ، ومن جملة ذلك أنه كان يزرع فى زهران الزعفران ، وكان يرفع إلى بغداد كل عام بعد الخرج والمؤن ثمانون ألف دينار ، وقيل : ثمانية عشر ألف دينار ، وهو الأصح ، وجميع ذلك كان من الزرع والضرع ودخل الأشجار وجنى الثمار وسقى الأنهار ومراعى الإبل ودخل النخيل.

فلما دار الدهر نقص جميع ما ذكرناه لاختلاف النيات مع قلة الأمانات ، وكل من بها يستعمل الطيب من الرجل والمرأة ، وفى يد كل واحد من القوم سيف ولم يرموا العدة من أيديهم إلا فى شهر الله الأصم رجب ، عظّم الله حرمته.

١٨

وبناء البلد بالحجر والجص وبناء الطبقة الثانية بالشكل ، وهذا فى زمان معاوية بن أبى سفيان ، وصارت بعده فى أيام أبى عبد الله محمد المهدى بالله أمير المؤمنين لما بنى الحرم الشريف كل دار تشابه حصنا من الحصون لأجل إحكامها ، وبنى الأمير هاشم مدينة ظاهر مكة ما بين درب الثنية والمسفل تسمى مربعة الأمير ، فكان يسكن بها جنده وخدمه وحشمه وبقى البلد عامرا ، وخربت فى دولة الأمير عيسى ابن فليتة وبقيت خرابا إلى دولة الأمير قتادة بن إدريس بن مطاعم بن عبد الكريم وجدّد فيها آثارا ومواضع شتى وأراد أن يسكن فيه الغرباء وقريش ويسكن هو وجميع أهل الشرف مكة فمات على غفلة وبطل جميع العمل من طول الأمل.

وأدار الأمير قتادة بن إدريس على مكة سورا من الحجر والطين ، وذلك على رءوس الجبال وبطون الأودية ، وركب عليه أربعة أبواب : باب درب المعلى ينفذ إلى عرفات ، وباب درب الثنية ينفذ إلى مدينة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويسمى باب جدة ، وباب العمرة ، وباب المسفلة ينفذ إلى اليمن ، وباب الصغير ينفذ إلى الصفا المصافى والصحيفة وهو واد ليس عليه طريق ـ على هذا الوضع والترتيب ـ والله تعالى أعلم بالصواب.

١٩

وصورة مكة شرفها الله تعالى على هذا الوضع والترتيب :

٢٠