تذكرة بالإخبار عن اتّفاقات الأسفار

محمّد بن أحمد بن جبير الأندلسي

تذكرة بالإخبار عن اتّفاقات الأسفار

المؤلف:

محمّد بن أحمد بن جبير الأندلسي


المحقق: علي كنعان
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 978-9953-36-220-3
الصفحات: ٣٠٣

١
٢

٣
٤

«وفي جزيرة صقلية هبط واحد من المسلمين ممن يحفظ اللسان الرومي مع جملة من الروم إلى أقرب المواضع المعمورة منها فأعلمنا أنه رأى جملة من أسرى المسلمين نحو الثمانين بين رجال ونساء يباعون في السوق. وكان ذلك عند وصول العدو ـ دمره الله ـ بهم من سواحل البحر ببلاد المسلمين ، والله يتداركهم برحمته».

نص الرحلة ص ٢٥

«.. ومن أعظم ما شاهدناه من عجائبها المنار الذي قد وضعه الله ، عز وجل ، على يدي من سخر لذلك آية للمتوسمين وهداية للمسافرين ، لولاه ما اهتدوا في البحر إلى بر الإسكندرية ، يظهر على أزيد من سبعين ميلا وفي أعلاه مسجد موصوف بالبركة».

نص الرحلة ص ٢٥

«... وبيت الله الآن بأيدي أقوام قد اتخذوه معيشة حرام وجعلوه سببا إلى استلاب الأموال واستحقاقها من غير حل ، ومصادرة الحجاج عليها وضرب الذلة والمسكنة الدنية عليهم ، تلافاها الله عن قريب بتطهير يرفع هذه البدع المجحفة عن المسلمين بسيوف الموحدين أنصار الدين».

نص الرحلة ص ٥٨

«... فلما قضينا العمرة وطفنا ، وجئنا للسعي بين الصفا والمروة ، وقد مضى هدء من الليل ، أبصرناه كله سرجا ونيرانا ، وقد غص بالساعين والساعيات على هوادجهن ، فكنا لا نتخلص إلا بين هوادجهن وبين قوائم الإبل ، لكثرة الزحام واصطكاك الهوادج بعضها على بعض».

نص الرحلة ص ١٠٠

٥
٦

استهلال

يصدر هذا الكتاب في إطار خطة متكاملة لتحقيق أبرز وأهم المخطوطات العربية والإسلامية المتوفرة في خزائن المخطوطات في العالم ، والمتعلقة بالحج والحجاج ورحلات العلماء والأدباء والمتصوفة إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة ، شرع «المركز العربي للأدب الجغرافي ـ ارتياد الآفاق» بتحقيقها ، وتكفلت «دار السويدي» بنشرها في سلسلة مهداة إلى روح الشيخ زايد باني نهضة الإمارات. من المنتظر في المرحلة الأولى أن تبلغ هذه الموسوعة من الكتب مائة كتاب ، موازية لمائة كتاب أخرى مختارة من أدب الرحلات الكلاسيكي العربي ، ومائة ثالثة من أدب الرحلة العربي المعاصر.

رحلات الحج تعتبر في الثقافة العربية أدبا قائما في ذاته ، وهي فرع من أدب الرحلة له قيمة كبيرة لما يذخر من معارف وعلوم مختلفة ، ولما يرسمه على طول خط السير والسفر من علامات وإشارات متتالية تصنع كلها عبر توالي المحطات الحضارية التي يمر بها سفرا حضاريا ضخما ومتكاملا من أسفار النشاط الإنساني المادي والروحي عبر العصور.

تهدف الموسوعة حماية هذا التراث العربي الإسلامي والكشف عن المجهول منه وتحقيقه ودراسته ونشره وفق أحدث طرق النشر الورقي (والإلكتروني لا حقا) تمهيدا لوضعه في متناول الأجيال العربية. وتغطي الموسوعة الرحلات التي قام بها الرحالة العرب والمسلمون من علماء وأدباء ، وشعراء ومتصوفة ، وسائر من أدى فريضة الحج

٧

وألف كتابا ينتمي إلى ما يعرف بأدب الرحلة ، إن باللغة العربية أو في لغات أخرى ، وتشمل الموسوعة النصوص التي وضعها الرحالة والحجاج إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة ، أكانوا من الشام أو مصر أو المغرب العربي أو شرق إفريقيا ، أو بلدان آسيا الوسطى ، وغيرها من دول العالم الإسلامي ، والعالم أجمع ، حيثما وجدت جاليات إسلامية وخرج من بينها حجاج زاروا بيت الله الحرام ودونوا أخبار زياراتهم.

تشمل الموسوعة النصوص التي كتبت عبر أكثر من ٨ قرون ، ومن ضمنها كتابات الرحالة المعروفين إلى جانب الأقل شهرة منهم ... وستزود الموسوعة في مجلدات منفصلة بالرسوم والخرائط الضرورية والصور النادرة ، وكذلك بالملاحق والفهارس التي ترصد (وتوثق) مجتمعة لطرق الحج ، والمحامل الأساسية ، كمحمل الحج الشامي ، ومحمل الحج المصري ، ومحمل الحج المغربي ، ومحمل دارفور إلخ ... إضافة إلى وضع رسوم وخرائط لطرق الحج ، وذلك وفق خطة أكاديمية شاملة يشارك فيها فريق عمل كبير من الأكاديميين والمحققين والمترجمين والدارسين المتضلعين بتحقيق المخطوطات من مختلف أنحاء العالم العربي.

ستتألف الموسوعة من ١٠٠ كتاب تضم النصوص العربية والنصوص المترجمة من اللغات الأخرى ، كالتركية والفارسية ولغة الأوردو ، أساسا ثم لغات أخرى كتب بها الحجاج رحلاتهم ، كالألبانية والبوسنية والروسية ، والصينية وغيرها من اللغات التي تنطق بها جاليات إسلامية ، فضلا عن اللغات الأوروبية التي ألف بها الحجاج المسلمون من الأوروبيين.

من شأن هذه الموسوعة ، التي توضع للمرة الأولى بالعربية ، أن ترفع من شأن الإسلام والمعرفة به ، وأن تشكل كنزا جغرافيا ، وأدبيا وعلميا ودينيا لكل باحث عن المعرفة. والهدف ، أخيرا ، هو نشر معرفة عميقة بثقافة العلماء والمفكرين والأدباء والدعاة العرب والمسلمين الذين ارتبطت أسماؤهم بالحج وثقافته ، وتركيز صورة أكثر وضوحا للإسلام والمسلمين في مسعاهم الحضاري عبر العصور.

والله من وراء القصد.

محمد أحمد السويدي

٨

المقدمة

هذه أول رحلة حج أندلسية ، ولعلها أهم الرحلات التي يمم أصحابها شطر الديار المقدسة في مكة المكرمة والمدينة المنورة. رحلة تمتاز بمكانتها في المكتبة العربية ، ومن النادر أن نجد ما يماثلها أو يدانيها قيمة تاريخية وجغرافية ودينية ، سواء بما اشتملت عليه من إيمان روحي عميق ودقة علمية بالغة ورصد تأملي واسع ، أو بالنظر إلى أهمية المرحلة التاريخية التي شهد صاحب الرحلة وقائع منها ، وهي عهد صلاح الدين الأيوبي ومقاومة الغزو الفرنجي. هذا ، فضلا عن أسلوبها البلاغي الجميل ونسيجها الأدبي الممتع.

إنها يوميات عالم ثاقب البصيرة ، واسع الأفق ، شديد الملاحظة ، تتجلى أهميتها في التفاصيل الدقيقة التي يتأمل ابن جبير ملامحها باهتمام ويتحدث عنها باستفاضة من مدن وأرياف وموانئ ومناسك وآثار مقدسة ومعالم عمرانية ، فضلا عن الدروس البليغة المؤثرة التي لا يستغني عنها أي مسلم ينوي التوجه إلى الحجاز لأداء فريضة الحج أو العمرة ، دون أن نهمل المزايا التاريخية التي حفلت بذكرها.

دقة علمية

الرحالة أديب مرموق في زمنه ، وهو يمعن النظر والفكر والمقارنة ، ويقدر المسافة

٩

ويجري القياس أحيانا ، في كل ما يتعلق بالأماكن الإسلامية المقدسة وما جاورها أو اقترن بها من مساجد وزوايا وأضرحة ومرافق خدمات ومواقع غزو وصلح ، ولا يغفل عن ذكر ما جرى في تلك المواقع من أحداث هامة أخرى كحفر الآبار وإنشاء سبل الماء وترميم معالمها العمرانية.

وتكشف لنا رحلته هذه مدى اهتمامه بالتفاصيل ، على اختلاف موضوعاتها ، كالتواريخ اليومية وظهور الأهلة ورصد وتسجيل كل ما يمر به أو يراه من ملامح الأرض وتشكيلاتها وطرقها والمسافات التي قطعها وأحوال الجو وأنواء البحر ، وجرأته في السؤال عما لا يعرف ، وملاحظاته الناقدة لسوء تصرفات العاملين الموكلين بإدارة شؤون الناس ، واستنكاره لانحرافهم عن الصراط المستقيم ، ولا ينسى أن يركز على ما أنجز صلاح الدين من مدارس ومستشفيات ومساجد وحمامات وغير ذلك من المرافق الحضارية العامة. ويشيد ابن جبير برعاية السلطان للمغاربة والغرباء ، فضلا عن حياته الجهادية المظفرة ضد الفرنجة وتحرير البلاد منهم.

إن ابن جبير يبين لنا ، بغير قصد ولا ادعاء ، مكانته الرائدة في كتابة المذكرات اليومية. ولا نملك إلا الإعجاب بهذا الرحالة الرائد وتقدير جهوده الميمونة حق قدرها ، ونحن نراه منكبا على تسجيل دقائق يومياته في الحل والترحال ، عبر البر والبحر ، في حالات السكينة والأمان وفي أوقات العواصف والأهوال ، غير عابئ بالمصاعب والأخطار التي تواجه الكاتب وتحول دون مواصلة عمله بطريقة ميسورة. إنه يؤكد بذلك أن الكاتب الصادق فارس قضية وحامل رسالة ، وهو لا يبتغي من وراء ذلك أجرا ولا منّة.

اهتمام بالتفاصيل

وسوف يرى القارئ شغف الرحالة بوصف الطرق والمدن وما تضم في حناياها من معالم ومساجد وآثار وأضرحة وأولياء ، دون أن يغفل متابعته الوصفية والنقدية لسلوك الناس وأولي الأمر منهم بوجه خاص. وهو لا ينسى أن يدعم مواقفه وآراءه

١٠

بشواهد مستفيضة بما يحفظ من القرآن الكريم والسيرة النبوية المشرفة. إنه رجل قوي الإيمان شديد التقوى ، يولي المواقع التاريخية والآثار المقدسة عناية خاصة ويتبرك بزيارتها ، معبرا بذلك عن نفس حرة كريمة عامرة بالصلاح والتواضع والسيرة العطرة.

يكفي هنا أن نشير إلى ما ذكر من تفاصيل في مناسك الحج والمسجد الحرام في مكة المكرمة وزيارته لمدينة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ومسجده المبارك هناك. ولا بد أن نتابعه خطوة خطوة ونعيش بصحبته كل دقيقة ، وهو يمضي بنا في أرجاء تلك العتبات والأماكن المقدسة. ولا ينسى أن يعرج بنا إلى أضرحة الشهداء والأولياء والصالحين الأوائل الذين احتضنتهم تلك التربة المطهرة لنتأمل أعمالهم الصالحة ، ونستعيد ذكرياتهم وموافقهم المجيدة وهم يحملون مشاعل الخير والحق والعدالة للبشرية جمعاء ، ويخرجون بأجيال الأمة من الظلمات إلى النور وراء الرسول الأعظم ، الرائد المطهر الذي لا يكذب أهله ، صلوات الله وسلامه عليه. إن صدق الحب والإيمان والتقوى لا بد أن ينتقل إلى نفس القارئ الكريم ، ليشارك هذا الرجل الورع الحليم في كل كلمة طيبة ومع كل التفاتة راضية.

والكاتب ينعى على المسلمين في المشرق العربي ما حل بهم من خلاف وانحراف عن الصراط المستقيم ، وربما بدا منحازا إلى مذهب دون غيره أو منددا بمذهب آخر لا ينسجم مع عقيدته ، إنما لا ينبغي أن ننسى أنه عاش في عصر الحملات الصليبية التي كانت تقتضي موقفا جماعيا موحدا من أجل التصدي لأعداء الأمة الطامعين. وكان صلاح الدين الأيوبي ممثلا لذلك الموقف الجهادي الموحد وقائدا له. ولعل هذا الإخلاص الوجداني العميق هو الذي جعل ابن جبير متشددا إلى حد التعصب الصارم الذي لا يقبل المداهنة أو المداراة. إن كلمة الحق التي تشغل بال المؤمن الصادق لا بد من إعلانها بلا تردد ولا مجاملة ، ولا سيما حين يتكاثر عدد المنافقين ويغدو المتمسك بعقيدته كالقابض على الجمر. وليس لنا أن ننسى أن ديار الإسلام كانت محط أطماع غربية ، وهي تواجه هجمات عدوانية ضارية لا يمكن السكوت عنها أو التعامل معها بتسامح بارد واستسلام ذليل.

١١

ومع ذلك ، فإننا نلمس لديه إحساسا مرهفا بالدعابة اللطيفة المغلفة بالظرف والطرافة. ويبدو هذا واضحا في رصده لتصرفات الخاتون بنت أمير الموصل ، على سبيل المثال. كما أنه حين مر في مدينة حمص ، المعروفة بظرف أهلها ، سأل أحد أبنائها : «أليس عندكم مارستان؟» واستنكر الرجل السؤال وأجاب : «حمص كلها مارستانات!»

وفي الطريق من بغداد إلى الموصل ، كانت الخاتونان : (بنت الأمير مسعود ملك الدروب والأرمن وأم عز الدين صاحب الموصل) هما قائدتي العسكر المرافق لموكب الحجيج ، فلم يتمالك نفسه من ترديد قول الشاعر :

ضاع الرعيل ومن يقوده!

زمن الرحلة

امتدت هذه الرحلة سنتين وشهرين وثلاثة أسابيع (١) ، بدأها يوم الخميس في ٨ شوال سنة ٥٧٨ ه‍ ، الموافق ٣ فبراير (شباط) ١١٨٣ م ، وختمها في ٢٢ محرم سنة ٥٨١ ه‍ ، الموافق ٢٥ أبريل (نيسان) ١١٨٥ ، ولم يدوّن غيرها. وحسبنا هنا أن نتأمل بعض مشاق الطرق البحرية والنهرية والبرية التي سار فيها الرحالة ، فضلا عن رحلته في النيل من المتوسط إلى مدينة قوص على الحدود بين مصر والسودان. ولا يمكن أن ننسى الأخطار المحدقة بالمسافرين المسلمين في مراكب الجنويين في تلك الحقبة التاريخية الرهيبة من حملات الغزو والعدوان. فقد كان طريق الحج الشامي عبر العقبة مقطوعا أو غير آمن ، وهذا ما دفع بالرحالة وصحبه أن يواصل ترحاله شرقا ، مع الحج العراقي من المدينة المنورة إلى بغداد فالموصل فحران ليرجع من هناك عبر سوريا وبعض مدن فلسطين ، ثم توجه أخيرا من ميناء عكا عائدا إلى غرناطة بحرا.

__________________

(١) يحددها ابن جبير بالتقويم الهجري في ختام رحلته بسنتين وثلاثة أشهر ونصف الشهر. ولا بد لي من الاعتذار عن خطأ وقعت فيه في مقدمة الطبعة الأولى من سلسلة «ارتياد الآفاق» (سنة ٢٠٠١) إذ قدرت مدة الرحلة بثلاث سنوات وبضعة أشهر.

١٢

وكانت رحلته الثانية إلى بيت المقدس ، بعد أن استردها صلاح الدين وحررها من الصليبيين. وفي هذه الرحلة ، خرج من غرناطة في التاسع من ربيع الأول سنة ٥٨٥ ه‍ / ١١٨٩ م وعاد إليها سنة ٥٨٧ ه‍ / ١١٩١ م. وبمناسبة فتح بيت المقدس ، مدح صلاح الدين بقصيدة يقول فيها :

أطلت على أفقك الزاهر

سعود من الفلك الدائر

ثم قام برحلة ثالثة إلى الحجاز ، ملتمسا العزاء إثر وفاة زوجته. وكانت هذه آخر رحلاته ، إذ جاور بمكة حينا من الزمن ثم في بيت المقدس ، وتجول في ربوع مصر حتى استقر أخيرا في الإسكندرية منصرفا للتدريس إلى أن وافته المنية هناك في التاسع والعشرين من شعبان سنة ٦١٤ ه‍ / ١٢١٧ م.

وسواء كان سفره في البر أو البحر ، فإن شغف الكاتب الأصيل في رصد أهوال الطريق ومباهجها وأحوال الجو وتقلباته لا يفارقه أبدا. ونراه طوال سنوات الرحلة مواظبا على صلاته في أوقاتها ، مستمسكا بالعروة الوثقى لا انفصام لها ، حريصا على دينه ، مقتديا بالسلف الصالح ومناقبهم ، مستنكرا كل زيغ أو انحراف طرأ على معتقدات الناس وعاداتهم وتصرفاتهم. فهو يقوم بمهمة المصلح الاجتماعي ، ولا يضن بحمل رسالته في التنديد بكل منكر أملا في إشاعة الفضيلة وحسن المعاملة بين الناس.

لكن القارئ لا بد أن يشعر بفيض من الأسى والعتب على أجدادنا الذين لم يحافظوا على كثير من تلك الآثار المقدسة التي دونها ابن جبير بحرص ومحبة واستفاضة ، وقد ضاعت مع الأيام ولم يبق منها غير ألق الذكرى ، بينما نرى أعداءنا يتخذون من أساطيرهم الخرافية صروحا لا يجرؤ أحد على المساس بها أو الإساءة إليها.

رافق ابن جبير في رحلة الحج هذه أحمد بن حسان ، ويكنى بأبي جعفر ، وكان مولده ومنشؤه في غرناطة. وقد اشتغل بصناعة الطب وأجاد في علمها وعملها وخدم المنصور بطبّه ، وتوفي بمدينة فاس. وله كتاب (تدبير الصحة) ألفه للمنصور.

١٣

لمحة عن الرحالة

هو أبو الحسن محمد بن أحمد بن جبير بن محمد بن جبير بن سعيد بن جبير بن محمد بن مروان بن عبد السلام بن مروان بن عبد السلام بن جبير الكناني ، الرحالة الأندلسي. وكان جده الأكبر عبد السلام من أوائل الداخلين إلى الأندلس مع بلج القشيري في سنة ١٢٣ ه‍ / ٧٤٠ م ، فهو أندلسي شاطبي بلنسي. ولد في العاشر من ربيع الأول سنة ٥٤٠ ه‍ / ١١٤٥ م في بلنسية شرقي الأندلس. وفي رواية أخرى أن مولده كان في سنة ٥٣٩ ه‍ / ١١٤٤ م. وهو ينسب إلى بلنسية بسبب مولده فيها على أرجح الأقوال. أما نسبته إلى شاطبة فهي من جراء إقامته فيها فترة من الزمن ، قبل أن ينتقل إلى غرناطة.

نشأ ابن جبير في رعاية والده وتلقى العلم عنه وعن علماء عصره في شاطبة. وكان اهتمامه الأول بالأدب فغدا علما بارعا فيه ، كما أتقن صنعة الكتابة. ثم تنقل في مستهل حياته بين عدد من المدن الأندلسية والإفريقية ، فأقام في بلنسية وشاطبة وغرناطة وسبتة وفاس ، وتقلّد مناصب كتابية عدّة. وهو يعد أحد كتاب الدولة الموحدية من حكام الأندلس والمغرب ، وقد تبوأ لديهم مكانة عالية ، تقديرا لعلمه الواسع وموهبته الشعرية وقدرته الجيدة على كتابة النثر.

وتجمع الروايات أنه كان أديبا معروفا وشاعرا مجيدا وعالما فاضلا مشغوفا بالأسفار ، نزيه النفس ، كريم الأخلاق ، أنيق الخط ، ذا أسلوب في الكتابة يمتاز بالسهولة ورقة العبارة. وتبدو هذه السمات الفنية واضحة في كل صفحة من صفحات هذا الكتاب. إن همه الأول أن ينقل إلى قارئه ما يراه وما يسمعه ، في صور طلية واضحة. وهذا يؤكد أنه أديب متمرس في صنعته ، متعمق في لغته وبيانه. ويمكن أن نضيف إلى ذلك اهتمامه بالسجع والمحسنات البديعية واللفظية أحيانا ، أسوة بأسلوب أبناء عصره في مشرق الوطن ومغربه ، لكننا نلاحظ أن موهبته الأدبية الأصيلة سرعان ما تبعده عن تلك الزخارف الشكلية ، فيعود إلى عبارته العفوية السلسة التي تستقر في قلوب قرائه حالما تدخل أسماعهم. وقد أهّلته مزاياه الأدبية والخلقية إلى تقلد أرفع

١٤

المناصب في الدولة. ويصفه المقري في (نفح الطيب) بالمروءة وحب الخير وحرصه على مساعدة الناس وقضاء حاجاتهم ورعاية الغرباء منهم. وهو يعبر بصدق وجداني عن تلك المزايا الإنسانية في شعره ، إذ يقول :

يحسب الناس بأني متعب

في الشفاعات وتكليف الورى

والذي يتبعهم من ذاك لي

راحة في غيرها لن أفكرا

وبودي لو أقضّي العمر في

خدمة الطلاب حتى في الكرى

ومن حق ابن جبير علينا أن نتركه يتحدث بأسلوبه الطلي البليغ. وسوف يلحظ القارئ كثرة الجمل الاعتراضية في الدعاء للمدن وللناس ، أحياء وأمواتا. إن بعض النسح المنشورة مالت إلى الاختصار فحذفت تلك العبارات ، لكني آثرت إثباتها احتراما لهذا الرحالة والتزاما بالأمانة التاريخية. كما أني وضعت بعض العناوين الفرعية تسهيلا للقارئ. ولقد آثرت شرح العديد من الكلمات التي قدرت أن الفتيان لا يعرفون معانيها المعجمية ، كما رجعت إلى القرآن الكريم ودوّنت أسماء السور والآيات المباركة التي استشهد بها المؤلف. ويمكن أن أضيف هنا أن كشاف الأسماء الحضارية والأعلام التاريخية والجغرافية في الختام قد اعتمدت فيه حالة الرفع كما في (أبو فلان) أو (عباسيون ويمنيون) ، وإن كانت واردة في النص في حالت النصب أو الجر. ولا بد لي من الإشارة إلى أني لم أتمكن من العثور على مرجع يبين لي بدقة معنى كلمة (مشرجب) ومشتقاتها ، وإن بدا من السياق أن المعنى التقريبي لها يدل على الباب المزخرف أو النافذة ذات الزجاج المعشق. إن كل كلمة دونها المؤلف تحمل أثرا من خلجات قلبه ووجدانه. وها أنذا أريح القارئ من عبء الاستفاضة في التقديم ، لأن متعة القراءة ومشاركة الرحالة في وقائع سفره ومعايشته في دقائق يومياته أمتع وأجدى من أي حديث آخر.

علي كنعان

أبو ظبي في ٢٨ / ٩ / ٢٠٠٦

١٥
١٦

نص الرحلة

١٧
١٨

بسم الله الرحمن الرحيم

تذكرة بالأخبار عن اتفاقات الأسفار

ابتدئ بتقييدها يوم الجمعة الموفي ثلاثين لشهر شوال سنة ثمان وسبعين وخمسمائة (١) على متن البحر بمقابلة جبل شلير (٢) عرفنا الله السلامة بمنه. وكان انفصال أحمد بن حسان (٣) ومحمد بن جبير من غرناطة ، حرسها الله للنية الحجازية المباركة ، قرنها الله بالتيسير والتسهيل وتعريف الصنع الجميل ، أول ساعة من يوم الخميس الثامن لشوال المذكور ، وبموافقة اليوم الثالث لشهر فبرير الأعجمي. وكان الاجتياز على جيّان لقضاء بعض الأسباب ، ثم كان الخروج منها أول ساعة من يوم الاثنين التاسع عشر لشهر شوال المذكور وبموافقة اليوم الرابع عشر لشهر فبرير المذكور أيضا.

وكانت مرحلتنا الأولى منها إلى حصن القبذاق ، ثم منه إلى حصن قبرة ، ثم منه إلى مدينة إستجة ، ثم منها إلى أشونة ، ثم منه إلى شلير ، ثم منه إلى حصن أركش ، ثم منه إلى قرية تعرف بقرية النشمة من قرى مدينة ابن السليم (٤) ، ثم منها إلى جزيرة طريف (٥) ،

__________________

(١) ٢٥ فبراير ١١٨٣.

(٢) شلير : جبل على بعد فرسخين جنوبي غرناطة ، تكسوه الثلوج صيفا شتاء ، ويذكر ابن الخطيب في (الإحاطة ...) أن ستة وثلاثين نهرا تنساب منه.

(٣) أحمد بن حسان ، أبو جعفر ، ولد ونشأ في غرناطة واشتغل بصناعة الطب وخدم المنصور بطبه.

(٤) مدينة ابن السليم : وردت في أطلس التاريخ الإسلامي باسم : مدينة سالم. أما الحصون والمدن المذكورة سابقا ، فيمكن الاطلاع على مواقعها في مصورات الأطلس المذكور.

(٥) جزيرة طريف : في مضيق جبل طارق ، قرب الساحل الأندلسي.

١٩

وذلك يوم الاثنين السادس والعشرين من الشهر المؤرخ. فلما كان ظهر يوم الثلاثاء من اليوم التالي ، يسر الله علينا في عبور البحر إلى قصر مصمودة (١) تيسيرا عجيبا ، والحمد لله. ونهضنا منه إلى سبتة (٢) غدوة يوم الأربعاء الثامن والعشرين منه ، وألفينا بها مركبا للروم الجنويّين (٣) مقلعا إلى الإسكندرية بحول الله ، عز وجل ، فسهل الله علينا في الركوب فيه.

وأقلعنا ظهر يوم الخميس التاسع والعشرين منه ، وبموافقة الرابع والعشرين من فبرير المذكور ، بحول الله تعالى وعونه ، لا ربّ غيره. وكان طريقنا في البحر محاذيا لبر الأندلس.

وفارقناه يوم الخميس السادس لذي القعدة بعده عندما حاذينا دانية. وفي صبيحة يوم الجمعة السابع من الشهر المذكور آنفا قابلنا بر جزيرة يابسة ثم يوم السبت بعده قابلنا جزيرة ميورقة ، ثم يوم الأحد بعده قابلنا جزيرة منورقة (٤). ومن سبتة إليها نحو ثمانية مجار ، والمجرى مائة ميل. وفارقنا بر هذه الجزيرة المذكورة ، وقام معنا بر جزيرة سردانية (٥) أول ليلة الثلاثاء الحادي عشر من الشهر المذكور ، وهو الثامن من مارس ، دفعة واحدة على نحو ميل أو أقل. وبين الجزيرتين ، سردانية ومنورقة ، نحو الأربعمائة ميل ، فكان قطعا مستغربا في السرعة.

أنواء عاصفة

وطرأ علينا من مقابلة البر في الليل هول عظيم ، عصم الله منه بريح أرسلها الله تعالى في الحين من تلقاء البر ، فأخرجنا عنه ، والحمد لله على ذلك. وقام علينا نوء هال

__________________

(١) قصر مصمودة : ميناء صغير على الساحل المغربي.

(٢) مدينة مغربية ، ما زالت تحت السيطرة الإسبانية.

(٣) الجنويون : أبناء مدينة جنوة الإيطالية ، وكان لمراكبهم دورها الخطير في الحروب الصليبية.

(٤) هذه الجزر الثلاث : يابسة وميورقة ومنورقة ، تقع إلى الشرق من دانية وبلنسية.

(٥) سردينية ، الجزيرة الإيطلية المعروفة.

٢٠