تاريخ أهل عمان

المؤلف:


المحقق: دكتور سعيد عبد الفتاح عاشور
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الطبعة: ٢
الصفحات: ١٨٩

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تقديم

الحمد لله الذي جعل العلم أفضل ميراث ، وهيّأ لكل وطن من يحفظ لها التراث ، وأفضل الصلاة وأتم السلام على خاتم المرسلين وإمام المتقين ، صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر ، سيدنا محمد وعلى صحبه الأبرار وآله الأخيار.

وبعد. فتسر وزارة التراث والثقافة أن تتحف الساحة الثقافية بإعادة طباعة هذا الإصدار التاريخي المفيد (تاريخ أهل عمان) في ثوبه الجديد (الطبعة الثانية).

علما بأن هذا الكتاب يعد جزءا متضمنا من الكتاب التاريخي الموسوم ب (كشف الغمة) ، ومن الواضح أن مؤلفه اتبع منهجية علمية سليمة في كتابه ؛ حيث أنه رتب الوقائع والأحداث حسب تسلسلها التاريخي ولا أدل على صدق ذلك من استعماله حروف العطف (الواو ، الفاء ، ثم) التي تدل على الترتيب والتوالي ظن وذلك في كل فقرة من الكتاب.

ومما يزيد الكتاب أهمية أن مؤلفه كثيرا ما يستعمل ألفاظا تدل على أمانته وتثبته في نقل الروايات ، كقوله (سمعت ، بلغنا ، عرفنا ، وجدت ، ولا نعلم).

أضف إلى ذلك وضوح اللغة وبلاغة التعبير عن الأحداث مما يسهل تناول الكتاب لكافة طبقات القراء من باحثين متعمقين إلى طلبة المدارس المبتدئين.

وختاما فإن هذا الإصدار مع غيره من إصدارات وزارة التراث والثقافة يجسد وبواقع ملموس الجهود التي توليها هذا الوزارة لإحياء الفكر العماني العريق ، وتنفثه في روع الأجيال القادمة ، لتكون لهم شعلة تأخذ من تالدهم وتضيىء لطارفهم ؛ فيعملوا لإنماء وإعمار هذا الوطن العزيز.

فالشكر لله على ما أنعم به وتفضل ، وأسبغ علينا وأجزل ، وله الحمد في الآخرة والأول.

١
٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

مقدمة

عمان بلد عربي أصيل ، له تاريخ عريق وتراث ضخم ، يعبر في مجموعه عن صفحة مشرّفة في تاريخ الأمة العربية ، قبل الإسلام وفي ظله. وإذا كان تاريخ هذا البلد العريق قد تعرض عبر القرون للإهمال والنكران ، الأمر الذى جاء مصحوبا بتشتت مصادره ، وضياع الكثير منها ، وعدم عناية جانب كبير من المؤرخين والباحثين بهذا التراث ، فإن هذا كله من شأنه أن يجعل مهمتنا اليوم في استكمال الحلقات المفقودة أو المهملة في تاريخ عمان مهمة صعبة غير يسيرة ، بسبب افتقارنا إلى كثير من المعلومات والحقائق والتفاصيل التي تشكل المادة الأولية اللازمة لإقامة بناء تاريخي متكامل الأجزاء متداخل الحلقات.

ومن حسن الحظ أن هذه الخواطر لم تغب عن حكومة سلطنة عمان في نهضتها الحالية ، فأظهرت في السنوات الأخيرة اهتماما ملحوظا بجمع شتات التراث العماني وإحيائه ونشره. وبذلك تكون قد بدأت البداية السليمة من حيث ينبغي فعلا أن تبدأ ، لاستيفاء الحلقات المفقودة في تاريخ عمان ، وإلقاء أضواء على الجوانب غير الواضحة فيه. ذلك أن جمع شتات التراث ، واستكماله ، ووضعه في صورة متكاملة بين أيدي الباحثين ، من شأنه أن يوفر لهم المادة العلمية اللازمة لكتابة هذا التاريخ كتابة علمية أمينة ، بعيدة عن التحريف.

وثمة حقيقة نميل إلى تأكيدها ، هي عدم صحة الدعوى القائلة بأن تاريخ عمان في ظل العروبة والإسلام لم يدوّن في القدم ، وأن العناية بتسجيله في العصور

٣

الأولى لا تعدو تلك الإشارات السريعة العابرة التي جاءت ضمن كتابات بعض المؤرخين المعروفين كالطبري واليعقوبي والمسعودي وابن الأثير وابن خلدون وغيرهم. ويبدو لنا أنه إذا كان تاريخ عمان قد تعرض للنكران فإنه تعرض لذلك على أيدي المؤرخين من غير أبناء البلاد ، وهم الذين سلطوا الأضواء على قلب الدولة الإسلامية ، وأفاضوا في وصف ما كان يجري فيها من تيارات سياسية وحضارية ، دون أن تحظى أطراف الدولة ـ في المشرق والمغرب جميعا ـ إلا بنسب ضئيلة متفاوتة من عنايتهم.

وفيما عدا ذلك ، فإن كافة الشواهد تشير إلى أن عمان لم يفتقر إلى العلماء الغيورين من أبنائه الذين عنوا بتسجيل تاريخ البلاد وأهلها ، بقدر ما سمحت به ظروفهم. كل ما هنالك هو أن هذا التراث تعرض ـ نتيجة لأحداث الزمان ـ لما تعرضت له بقية جوانب التراث العربي الإسلامي في شتى البلاد ، من الضياع والبعثرة والتشتت. هذا فضلا عما كان يصحب الحروب المحلية والفتن الداخلية من تخريب وإفساد وإحراق ، مما عصف بكثير من آثار التراث العماني. يضاف إلى هذا كله أنه إذا كانت الدعوة لإحياء التراث قد ظهرت في وقت مبكر في بعض البلدان العربية ، فإنها لم تظهر في كافة أقطار شبه الجزيرة العربية ـ ومن جملتها عمان ـ الا في وقت متأخر نسبيا.

وبالإضافة إلى هذه الثروة المعروفة من الكتب والمخطوطات المتعلقة بتاريخ عمان ، والتي تحرص حكومة سلطنة عمان في الآونة الأخيرة على جمعها والحفاظ عليها ، فإنه مازالت هناك عشرات المخطوطات المجهولة مبعثرة في دور الكتب العالمية والعربية ، تحتاج إلى قدر من السعي والتقصي للوقوف عليها. ومعرفة هويتها ، وتحديد نوعية ما فيها من معلومات وحقائق ، تمهيدا لتحقيقها ونشرها.

٤

ويبدو أن تنفيذ ذلك ليس بالأمر السهل. نظرا لعاملين : أولهما هو ما نلاحظه من أن كثيرا من الكتابات والمؤلفات التي تناولت جوانب من التراث العماني توجد ، الآن مخطوطة في صورة غير قائمة بذاتها ، وغالبا ما تكون مجلدة في غلاف واحد مع رسائل ومصنفات متباينة الموضوعات ، مما يتطلب التدقيق في محتويات كل مجلد للوقوف على ما يحتويه من موضوعات ورسائل ، وتصيد ما يرتبط منها بالتراث العماني ، من قريب أو بعيد.

أما العامل الثاني ، فيبدو في أن كثيرا من هذه المخطوطات غير معروف مؤلفه ، بسبب تآكل وضياع بعض صفحاتها الأولى والأخيرة ، وقلة عدد النسخ الموجودة منها. وقد يقتصر الأمر في كثير من الحالات على معرفة نسخة واحدة من الكتاب ، عليها اسم الناسخ دون المؤلف ، وأحيانا اسم الحاكم أو الإمام أو السلطان الذى نسخ الكتاب من أجله. وربما وردت كل هذه المعلومات في عبارة غامضة في نهاية الكتاب ، لا يفهم منها بالضبط إن كان الناسخ هو المؤلف ، بمعنى أن تكون المخطوطة مكتوبة بيد مؤلفها.

ولا شك في أن تحديد اسم المؤلف يساعد في حالات كثيرة في معرفة هويته ومذهبه وميوله واتجاهاته الفكرية ، وهذه كلها عوامل تساعدنا في الحكم على كتاباته وفي تقييم إنتاجه ، وخاصة إذا كانت هذه الكتابات وذلك الإنتاج يرتبط بحقل التاريخ ، ذلك أن المؤرخ ـ مهما يطالب به من الناحية المثالية ـ من أن يكون أمينا فيما يكتب ، صادقا فيما يروى ، دقيقا فيما يحكي ، موضوعيا فيما يعبر عنه ... فإنه قبل كل اعتبار ـ وبعد أي اعتبار ـ ليس إلا بشرا ، يحب ويكره مثلما يحب البشر ويكرهون ، ويرضى ويغضب مثلما يرضى البشر ويغضبون. وفي كثير من الحالات يستغفله قلمه ليعبر في إشارة ـ قد تكون عابرة ، أو لفتة قد تكون سريعة ـ عما يحس به من أحاسيس شخصية تفصح عن ميوله الخاصة والقومية ، وتكشف النقاب عن مشاعره الدينية والمذهبية ، وتلقي بعض الضوء على نزعاته الفردية واتجاهاته السياسية.

٥

ومن هنا فإن معرفة اسم المؤرخ أو الكاتب أو المؤلف ، ضرورية في كثير من الحالات ، لأنها بمثابة طرف الخيط الذي يؤدي بنا إلى تتبع ما يمكن الوقوف عليه من معلومات تحدد مذهبه وثقافته وميوله واتجاهاته الفكرية ، وحياته الخاصة والعامة ، مما يمكننا من الحكم على إنتاجه حكما سليما متكاملا.

وثمة ملاحظة على المخطوطات التي تعالج التراث العماني. هي أن معظم ما نشر منها حتى الآن يرجع تاريخ تأليفه إلى وقت متأخر ، يعود إلى ما بعد بداية القرن الحادي عشر للهجرة ، السابع عشر للميلاد.

ولكن المتمعن في هذا التراث يجد المؤلفين المتأخرين زمنيا أخذوا واستقوا عمن تقدم عليهم وسبقهم. وهناك إشارات في المؤلفات التي بين أيدينا إلى أعلام سابقين ومؤلفين في القرون السالفة لم نعثر على آثارهم حتى الآن ، ومن هنا تنبع أهمية هذه المؤلفات التي نعتبرها حديثة نسبيا في التراث العماني لأنها حفظت لنا بدورها جزءا هاما من تراث السابقين. وربما تكشفت الأيام عن أن كثيرا من المؤلفات القديمة ، قد فقد تماما ، وصار من المتعذر الوقوف على ما جاء فيه إلا من خلال هذه الكتب التي نظنها حديثة لأنها ألفت في عصور تالية ، وأخذت عمن سبقها.

وهنا نشير إلى أنه لم تكن هناك أية غضاضة في أن ينقل الؤرخ عمن سبقه من المؤرخين ، لأنه يعتبرهم المصدر الذي يستقى منه ، والذي عايش الفترة الزمنية التي يكتب عنها ، وعاصر الناس والأحداث الذين يؤرخ لهم. فابن الأثير مثلا لا يقلل من شأنه أنه اعتمد على الطبري وأشباهه في كتابته عن القرون الأولى للهجرة الشريفة. وبالمثل فإنه لا يقلل من شأن السالمي وابن رزيق أنهما أخذا عمن سبقهم من مؤرخي عمان ، وأشارا إلى بعضهم.

٦

على أن هناك ظاهرة واضحة في كتابة التاريخ ، تترتب على اعتماد اللاحقين من المؤرخين على السابقين ، ونقلهم عنهم ، هي ما نلاحظه من تشابه ـ قد يصل أحيانا إلى درجة التطابق ـ في مختلف الكتب التي تعالج حلقة واحدة من حلقات تاريخ هذا البلد أو ذلك العصر.

ولكن علينا هنا أن نضع أمامنا حقيقتين : الأولى هي أن التاريخ يعبر عن الماضي ، يعبر عن أشياء حدثت فعلا ، يعبر عن سياسات وأوضاع وعلاقات وحروب ووقائع وأحداث جرت ، ولا مجال كبير للخلاف حولها ... يصوّر أناسا ـ حكاما ومحكومين ـ قاموا بدورهم على مسرح الحياة البشرية ، منهم العظيم ومنهم الوضيع ، فيهم الأمين القوي صاحب الهمم ، والخائف الضعيف المتقاعس ... ولا بد أن تتشابه صور التاريخ في كافة كتبه وكتاباته ، طالما يلتزم المؤلف بالحقيقة كاملة ، ويتحرى الأحداث غير ناقصة ، وينأى عن الأهواء وتعتمد المسخ وافتعال التشويه.

أما الحقيقة الثانية فهي أننا ـ رغم ما سبق ـ نلاحظ فوارق بين الكتابات التاريخية عند ما تتعرض لسرد رواية واحدة ، حتى لو كان مؤلفو هذه الكتب استقوا روايتهم عن مصدر واحد. ذلك أن المؤرخين اللاحقين عند ما يأخذون عن السابقين فإنهم أحيانا لا ينقلون نقلا حرفيا ، وإنما يعبر كل واحد منهم عن شخصيته وعقليته واتجاهاته الفكرية وأحاسيسه وكثيرا ما نقرأ رواية في كتابين من كتب اللاحقين أخذاها عن مصدر واحد سابق عليهما ، ولكننا نجد بعض الاختلافات في العرض والتفاصيل ، أحدهما أطنب والآخر تعمد الإيجاز ، أحدهما حرص على أن يذكر كافة الأسماء المرتبطة بالحادث من قريب أو بعيد ، والآخر اكتفى بذكر اسم أو إسمين. وربما علّق بعضهم على ما حدث برأي جديد يعبر عن وجهة نظره ، أو استقاه من مصدر آخر لم يطلع عليه غيره ، مما يجعل لكل كتاب طابعه ومزاياه.

٧

وتبرز هذه الجوانب بوضوح في المخطوطة التي نقدمها اليوم محققة للباحثين في التراث العربي الإسلامي بوجه عام ، وفي التراث العماني بوجه خاص. وتوجد من هذه المخطوطة نسخة في المكتبة الظاهرية بدمشق تحت رقم ٣٨٥ ، ضمن مجلد يحوي عدة مخطوطات أخرى متنوعة. وهي تبدأ في هذا المجلد بصفحة ٢٢٧ ، وتنهى فيه بصفحة ٤١٨ ، أي أنها تقع في نحو ١٨٦ صفحة.

والكتاب لمؤلف مجهول ، والنسخة التي بين أيدينا نسخها أحد النساخ ـ واسمه أبو سالم عبيد فرحان ـ نسخها بيده لسيده ومولاه ناصر بن محمد بن سيف بن أحمد المعولى ، وذلك سنة ١٣١٣ ه‍. أما تاريخ تأليف الكتاب فغير معروف ، وربما كان قريبا من الفترة التي توقف عندها المؤلف ، وهي نهاية عهد سلطان بن مرشد اليعربي ، وانتقال ملك اليعاربة إلى أحمد بن سعيد سنة ١١٥٤ ه‍ (١٧٤١ م).

ويبدو من صفحات هذا الكتاب مدى اعتزاز أهل عمان بجذورهم الحضارية القديمة ، وتاريخهم العريق ، وأصالتهم الراسخة ، إذ يحرص المؤلف على الإشارة إلى أن سليمان بن داود ـ عليه السلام أقام بعمان عشرة أيام ، وأنه حفر فيها عشرة آلاف نهر أو فلج. وأنه إذا كان الكثير من تلك الأنهار قد ردم وطمس ، فإن الفرس هم الذين فعلوا ذلك عند ما احتلوا هذه الأرض قبل الإسلام وعاثوا فيها فسادا.

كذلك يبدو من صفحات الكتاب مدى اعتراز أهل عمان بعروبتهم. فالمؤلف يتخذ من مالك بن فهم الأزدي بطلا قوميا ، أشبه بالأبطال الذين يعتز بهم كثير من الأمم والشعوب ، ويعتبرونهم المؤسسين الأوائل لهذه الأمة أو تلك. فمالك بن فهم هو البطل العربي الذي طرد الفرس من عمان ، وبالتالي فإنه المؤسس الأول لأمة عمان العربية. وسيرته في الكتاب تتصف بكل ما تتصف به سير الأبطال في الملاحم الشعبية من مثالية وسمو.

٨

فهو القائد الشجاع الذي لا يلين أمام العدو ، والمحارب الذي يتقدم الصفوف دفاعا عن الأرض والعرض ، والفارس الذي يتحلى بشمائل الفروسية العربية من كرم ومروءة وشهامة ونجدة ... وغيرها حتى في وفاته تحرص الرواية التاريخية على أن تبرز مالك بن فهم وقد مات موتة البطل الشهيد الذي سقط ضحية سهم طائش أطلقة أعز أبنائه وأقربهم إلى قلبه ، دون أن يدري أن السهم الذي أطلقة إنما يتجه إلى صدر أبيه ، فسقط مالك بن فهم شهيدا ، وهو يردد بيت الشعر الذي صار مضرب الأمثال :

أعلمه الرماية كل يوم

فلما اشتد ساعده رماني

وفي مواجهة العجم ، تحرص الرواية التاريخية في هذا الكتاب على أن تؤكد فضائل العرب ومكارم أخلاقهم ، وتمسكهم بما اشتهر به أهل البادية من غيرة على الشرف ، واحترام لأعراض الناس ، وإسراع إلى نجدة الملهوف ويبدو هذا بوضوح في الرواية التي جاءت في المخطوطة عن خروج سليمة بن مالك بن فهم إلى بلاد العجم ، وكيف ساعدهم على الخلاص من ملكهم الذى دأب على انتهاك أعراضهم والعبث بشرفهم.

ويبدو أن المواجهة بين العرب والعجم على جانبي الخليج جعلت عرب عمان أكثر اعتدادا بعروبتهم وأصالتهم. وقد ظهر هذا الاتجاه بوضوح في صفحات هذا الكتاب ، عند ما نجد المؤلف يحرص على إبراز مزايا العرب في مواجهة العجم ، وأن العرب كانوا أكثر تمسكا بفضائل العروبة وروح الشهامة والمروءة والذب عن العرض والشرف ... وهي الصورة التي تبدو على طرف نقيض مع ما كان عليه المجتمع الفارسي على الجانب المقابل للخليج ، والذي فشت فيه المثالب والأمراض الاجتماعية.

فإذا ما ظهر الإسلام ، حرص مؤلف الكتاب على إبراز سرعة الاستجابة التي لبى بها أهل عمان الدعوة إلى الاسلام ، فدخلوا في دين الله في سهولة ويسر ، ونهضوا بدورهم كاملا كعضو عامل فعال في المجتمع الإسلامي الجديد.

٩

ومن خلال ذلك ، أفاض المؤلف في سير الأئمة المبرزين والحكام الصالحين ، فأطنب في وصف حياتهم الخاصة ، وسرد القصص التي تعبر عن كريم أخلاقهم وحميد صفاتهم ، وأبرز دورهم ودور أهل عمان في الدفاع عن العروبة ضد العناصر غير العربية ـ وخاصة العجم ـ حينا ، وفي الدفاع عن الإسلام ضد الطامعين المشركين ـ وخاصة من الأحباش والهنود ثم البرتغاليين ـ أحيانا.

وتمشيا مع هذا التيار ، نلاحظ أن المؤلف يتحاشى الدخول في تفاصيل بعض ما لا يحب أن ينسب لتاريخ عمان وأهل عمان ، مثل حركة الردة. فمن المعروف أن غالبية أهل عمان تمسكوا بالإسلام ؛ وتحولوا بسرعة من مسلمين إلى مؤمنين ، بحيث أن حركة الردة ـ بعد وفاة الرسول (صلّى الله عليه وسلم) ـ لم تجد استجابة في عمان إلا من فئة قليلة تزعمها ذو التاج لقيط بن مالك الأزدي ، حتى أخضعهم أبو بكر فعدوا إلى الإسلام. ولكن المؤلف اختار ألا يدخل في تفاصيل مثل هذا الحادث العارض ، وكأنه حرص على ألا يشوه الصورة النقية الصافية التي يمثلها غالبية أهل عمان ، وأسقط ذلك التصرف العابر الذي أتته أقلية ، والذي لم ينفرد به عمان وحده ، وإنما كان له شبيه في أكثر من جزء من أجزاء شبه الجزيرة العربية.

ومن ناحية أخرى فإن المؤلف كثيرا ما أطلق العنان لقلمه ، ليعبر عن أحاسيسه ومشاعره ، فنراه بين حين وآخر يسطر عبارة أو يسجل كلمات تعكس ما يحس به من ألم وأسى إزاء ما كان يحدث أحيانا من اشتداد الفتن واستحكام المنازعات بين القبائل بعضها وبعض أو بين الحكام المتنافسين ، مما ترك أثرا عميقا في تاريخ البلاد والعباد.

ومن المعروف أن عصور الفتن والمنازعات الداخلية تمثل دائما حلقات معتمة في التاريخ ، تتشابك فيها الأحداث وتتداخل الصور والانعكاسات ،

١٠

بحيث يجد المؤرخ نفسه أمام غابة كثيفة مظلمة لا يجرؤ على اقتحامها ، وإذا أو غل فيها قليلا فإنه قد لا يستطيع الخروج منها ، فإذ خرج فإنه لن يخرج بشيء ذى قيمة. ولا تقتصر هذه الظاهرة التاريخية على تاريخ بلد دون آخر ، أو على حلقة معينة من عصور الانحلال دون أخرى ، وإنما هي ظاهرة عامة مشتركة ، لأنها ترتبط أولا وأخيرا بطبيعة البشر وغرائزه ، والظروف التي تحيط به ويتعرض لها.

وهكذا نجد مؤلف هذا الكتاب ، بقدر ما يطنب في حلقات الازدهار ، وعهود المبرزين من الأئمة وحكام عمان ، بقدر ما يوجز أحيانا في عصور التفكك والانحلال. وربما أضرب ـ مجبرا لا مختارا ـ عن علاج فترات طويلة من تاريخ البلاد ، قد تمتد بضعة قرون ، معتذرا بقوله «... فهذه مائتا سنة وبضع ، لم أجد فيهن تاريخ أحد من الأئمة والله أعلم. إنها كانت سنين فترة عن عقد الإمامة ، أو غاب عني معرفة أسمائهم».

ومع هذا ، ومع تشابه المعلومات التي جاءت في هذا الكتاب مع ما جاء في غيره من الكتب التي وقفنا عليها في تاريخ عمان ، فإننا نكرر ما سبق أن أشرنا إليه من أن الخطوط العريضة في التاريخ ـ تاريخ أية أمة أو أية دولة أو أي فرد ـ ثابتة لا تتغير ، بحيث لا يكون الخلاف بين مصدر وآخر إلا في التفصيلات والفروع ، والتعليقات والتحليلات. فالعظيم عظيم ، والحقير حقير. والصالح صالح ، والطالح طالح والحق أبلج ، والباطل لجلج. وهذه حقائق ثابتة في التاريخ لا تتغير من مصدر لآخر. ومع ذلك فطننا نلمس في هذا الكتاب الذي بين أيدينا بعض الإشارات والتفصيلات واللمسات التي لم نجدها في غيره من الكتب التي وقفنا عليها في تاريخ عمان. ومن هنا تبدو أهمية إحياء التراث ونشره ؛ لأنه يمكن بالمقارنة بين ما جاء في مختلف المؤلفات التي دونها السابقون أن نخرج بصورة سليمة البنيان ، متكاملة التفاصيل ، دقيقة الملامح ، لحلقة معينة من حلقات التاريخ.

١١

وليس من الإنصاف في دراستنا للتاريخ وإحيائنا للتراث أن ننظر إلى الماضي بعين الحاضر ، أو أن نطلب من السابقين أن يعالجوا أحداث الماضي بنفس المنهج والأسلوب اللذين ننشدهما في واقعنا الحاضر ، فلكل عصر مستواه الفكري والحضارى ؛ ولكل جيل نظرته التي يقيم بها الحياة ومشاكلها.

لذلك لا أريد أن أظلم صاحب الكتاب بالإسهاب فيما يعتبره البعض مآخذ من وجهة نظرنا المثالية. حقيقة إن منهج المؤلف تغلب عليه صفة السرد والإطناب والاستطراد حينا ، والإيجاز والاقتضاب والاختصار أحيانا. هذا فضلا عن عدم عنايته بتقسيم الكتاب إلى وحدات موضوعية ، تساعد القارىء في الانتقال من حلقة إلى أخرى ، وكأن الكتاب من أوله لآخره فقرة واحدة طويلة متداخلة العبارات ، وحقيقة أننا نلمس أحيانا في الكتاب عدم انتظام بعض العبارات والمعاني ، بسبب سقوط أو ضياع جملة ، وعدم التمسك بأصول النحو وقواعد الإملاء ... ولكن هذه المآخذ لا ينبغى في نظرنا أن تجعلنا نسرف في توجيه اللوم والنقد إلى مؤلف الكتاب أو ناسخه ، دون أن نقدر الظروف التي أحاطت بهما ، والإمكانات التي أتيحت لهما. وربما كان أقرب إلى العدالة والصواب أن نشيد بالجهد الذي بذله هؤلاء وأمثالهم في تسجيل تراث السلف ، وهو تراث غني دسم ، من حقنا أن نفخر به ويفخر به من بعدنا الأبناء والأحفاد على مر الأيام والعصور.

ولا يفوتنى في ختام هذه المقدمة الموجزة أن أتقدم بالشكر لدولة عمان ، سلطانا وحكومة وشعبا ، على المعونة التي قدمها لي معالي

١٢

وزير التراث القومي والثقافة ، بأن أمدنى بمجموعة من الكتب التي تعالج تراث عمان ، والتي تم نشرها أخيرا ، لأستعين بها في تحقيق هذه المخطوطة.

والله أسأل أن يحقق لسلطنة عمان وأهلها كل أسباب النهضة والقوة والعزة ، لتبقى ـ كما كانت دائما ـ درعا قويا للعروبة والإسلام في هذه المنطقة الحساسة من جسم الأمة العربية الإسلامية.

القاهرة في شهر رمضان المبارك سنة ١٤٠٠ ه‍ يوليو سنة ١٩٨٠ م.

سعيد عبد الفتاح عاشور

١٣
١٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الأزد وتعريب عمان

[م ٢٢٨] ذكر ـ والله أعلم ، وأعز وأحكم ، وأرأف وأرحم ـ فيما مضى وتقدم من أحاديث الأمم ـ فيما قيل ـ أن سبب إخراج الفرس من عمان ، وانتقال مالك بن فهم إليها ، وكانت يومئذ أهلها الفرس ، وكان مالك وقومه من أهل سبأ ـ وهى مأرب من اليمن (١).

قيل سبب ذلك أن لجار له كلبة ، تقتحم وتفّرق أغنامهم. فرماها رام منهم بسهم فقتلها. فشكى إليه جاره. فغضب مالك ، وقال «لا أقيم ببلد ينال فيه هذا من جاري». قال : فخرج مراغما لأخيه.

وقيل إن راعيا (لمالك بن فهم خرج بغنم ، وكان) (٢) في طريق بيته كلب عقور لغلام من دويس ، فشد الكلب على الراعي ، فرماه بسهم فقتله ، فعرض صاحب الكلب على الراعي (٣). فخرج مالك من السراة (٤) بمن أطاعه من قومه ، فسمى ذلك النجد نجد الكلبة.

__________________

(١) من المرجح في التاريخ أن سد مأرب تصدع عدة مرات ، أشهرها كان سنة ٥٤٢ م على أيام أبرهة. وقد ترتب على ذلك أن هاجر كثير من القبائل التي اعتمدت في حياتها على السد إلى أراض جديدة. ومن هذه القبائل أزد عمان ، وهم القحطانيين ـ من نسل أزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن كهلان بن سبأ ؛ وقد نزلوا عمان بعد سيل العرم. انظر : جواد علي (المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام ؛ ج ٢ ص ٢٨٥ ، ج ٣ ص ١٦٦ ـ ١٦٨ ، ج ٤ ص ٢٠١)

(٢) ما بين حاصرتين إضافة من تحفة الأعيان السالمي (ج ١ ص ٢١).

(٣) أي تعرض صاحب الكلب للراعي.

(٤) السراة : إقليم باليمن ، منه يبدأ جبل السراة الذي يصل بين أقصى اليمن والشام ؛ فإنه ليس بجبل واحد ، وإنما هي جبال متصلة ، وهي أعظم جبال العرب.

(الهمداني : صفة جزيرة العرب ـ تحقيق محمد بن علي الأكوع ؛ ٥٨ ، ٩٩)

١٥

[م ٢٢٩] فلما توسط مالك الطريق ، حنّت إبله إلى مراعيها ، وجعلت تتلفت إلى السراة وتردد الحنين. وسار إلى عمان ، لعله من الحجاز لا يمر بحىّ من أحياء العرب ـ من معد وعدنان ـ إلا سالموه ووادعوه ، لمنعته وكثرة عساكره.

ثم سار حتى نزل برهوت (١) ـ وهو واد بحضرموت ـ فلبث فيه حتى راح واستراح. وبلغه أن بعمان الفرس ـ وهم ساكنوها ـ فعبأ عساكره وعرضها ، فيقال إنهم كانوا ستة آلاف فارس وراجل. فاستعد قاصدا عمان ؛ وجعل على مقدمته ابنه هناءة (٢) ـ ويقال فراهيد (٣) ـ في ألفي فارس من صناديد قومه. فلما وصل الشحر تخلف مهرة بن حيدان (ابن عمرو) (٤) بن الحاف بن قضاعة بن مالك بن حمير ؛ فنزل الشحر (٥).

فسار مالك حتى دخل عمان ، بعسكره في الخيل والعدة والعدد. فوجد بها الفرس من جهة الملك دارا بن دار بن بهمن ، وهم يومئذ أهلها وسكانها. والمتقدم عليهم المرزبان عامل الملك. (٦).

فعند ذاك اعتزل مالك بمن معه إلى جانب قلهات (٧) ـ من شط عمان ـ ليكون أمنع لهم. وترك العيال والأثقال ، وترك معهم من يمنعهم من العسكر وسار ببقية العسكر. وجعل على المقدمة ابنه هناءة في ألفي فارس

__________________

(١) برهوت : بئر بسفلى حضرموت قديمة.

(الهمداني : صفة جزيرة العرب ، ص ٢٧٠)

(٢) في الأصل (هناة) وهو تخفيف الاسم الأصلي (هناءة).

(٣) في الأصل (فراهيدا)

(٤) ما بين حاصرتين إضافة من (تحفة الأعيان بسيرة أهل عمان ـ للسالمي) ـ ج ١ ص ٢٣.

(٥) الشحر ـ بكسر الشين المعجمة وسكون الحاء ـ ساحل حضرموت (الهمداني : صفة جزيرة العرب ـ ص ٥٧).

(٦) أي ملك فارس ، والمرزبان الرئيس عند الفرس وجمعه مرازبة.

(٧) قلهات : فرضة عمان على البحر ، إليها ترفأ أكثر سفن الهند.

١٦

وسار حتى نزل بناحية الجوف ، فعسكر عسكره ، وضرب مضاربه بالصحراء.

وأرسل إلى الفرس يطلب منهم الترول في قطر (من) (١) عمان ، وأن يمكنوا له ويفسحوا له في الماء والكلأ ليقيم معهم. فلما وصلت رسله إلى المرزبان وأصحابه ، ائتمروا فيما بينهم. وساروا حتى طال ترديد الكلام والتشاور بينهم ، ثم أجمع رأيهم على صرفه ؛ وقالوا : «ما نحب هذا العربي ينزل معنا فيضيق علينا أرضنا وبلادنا. فلا حاجة لنا إلى قربه وجواره».

فلما وصل جوابهم إلى مالك أرسل إليهم : «إنه لا بد لي من النزول في قطر (من) (٢) عمان ، وأن تواسوني في الماء والكلأ والمرعى. فإن تركتموني طوعا نزلت في البلاد وحمدتكم. وإن أبيتم أقمت على كرهكم فإن قاتلتموني قاتلتكم. فإن [م ٢٣١] ظهرت عليكم قتلت المقاتلة ، وسبيت الذرية ، ولم أترك أحدا منكم ينزل عمان أبدا».

فأبوا أن يتركوه طوعا ، وجعلوا يستعدون (٣) لحربه وقتاله.

وأقام مالك بناحية الجوف حتى أراح واستراح ، وتأهب لحرب الفرس وقتالهم ، وكان هنالك حتى استعدت الفرس لحربه وقتاله.

ثم إن المرزبان أمر أن ينفخ في البوق ، وتضرب الطبول ، وركب من صحار في جنوده وعساكره في عسكر جم ، يقال إنه في زهاء أربعين ألفا ـ ويقال بثلاثين ألفا ـ ومعه الفيلة. وسار يريد لقاء مالك. ونزل بصحراء سلوت ، قريبا من نزوى ، فبلغ مالك بن فهم. فركب في ستة آلاف ، حتى أتى صحراء سلوت ، فعسكر فيها بإزاء عسكر المرزبان. فمكثوا يومهم ذلك لم يكن بينهم حرب.

__________________

(١ و ٢) ما بين حاصرتين إضافة من كتاب تحفة الأعيان للسالمى (ج ١ ص ٢٣).

(١ و ٢) ما بين حاصرتين إضافة من كتاب تحفة الأعيان للسالمى (ج ١ ص ٢٣).

(٣) في الأصل (يستعدوا) (م ٢ ـ تاريخ عمان)

١٧

ثم إن مالك بن فهم بات ليلته يعبىء عساكره يمنة ويسرة وقلبا ، ويكتب الكتائب (١) ، ويوقف فرسان الأزد (٢) مواقفهم. فولى الميمنة ابنه هناءة (٣) ، وولى الميسرة ابنه فراهيد (٤) ، ووقف هو في القلب في أهل النجدة والشدة.

وبات المرزبان يكتب [م ٢٣٢] كتائبه ، ويوقف آصحابه مواقفهم واستعد كل (من) (٥) الفريقين.

وركب مالك فرسا أبلقا ، ولبس درعين ، ولبس عليهما غلالة حمراء وتكمم على رأسه بكمة حديد ، وتعمم عليها بعمامة صفراء. وركب معه ولده وفرسان الأزد على تلك التعبئة (٦). وقد تقنعوا بالدروع والبيض (٧) والجواشن (٨) ، ولم يظهر منهم غير الحدق.

__________________

(١) في الأصل (ويكتب الكاتب) وهو تحريف في النسخ.

(٢) الأزد من أعظم قبائل العرب وأشهرها ، تنسب إلى الأزد بن الغوث بن نبت بن نابت بن كهلان ، من القحطانية. وتنقسم إلى أربعة أقسام : ١ ـ أزد شنوءة وهو مخلاف باليمن ب ـ أزد غسان وكانت منازلهم في شبه جزيرة العرب وبلاد الشام. ج ـ أزد السراة وكانت منازلهم في الجبال المعروفة بهذا الاسم. د ـ أزد عمان كانت منازلهم بعمان.

قيل أزد وأسد ، وهي بالسين أفصح. أنظر : (القلقشندي : نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب ـ تحقيق إبراهيم الأبيارى ص ٩١ ؛ ابن حزم : جمهرة أنساب العرب ـ تحقيق عبد السلام هارون ص ٤٨٧ ، وكذلك ابن منظور والزبيدي والفيروزبادي)

(٣) في الأصل (هناة).

(٤) في الأصل (فراهيدا).

(٥) ما بين حاصرتين إضافة.

(٦) في الأصل (على تلك البقية) وهو تحريف في النسخ.

(٧) البيضة : الخوذة من الحديد : وجمعها بيض وبيضات.

(٨) الجوشن : الدرع ، زرد يلبسه الصدر ، والجمع جواشن.

١٨

فلما تواقفوا للحرب ، جعل مالك يدور على أصحابه ـ راية راية وكتيبة كتيبة ـ ويقول : «يا معشر الأزد أهل النجدة والحفاظ (١)!! حاموا عن أحشامكم. وذبّوا عن أبنائكم (٢)! وقاتلوا! وناصحوا ملككم (٣) وسلطانكم. فإنكم إن انهزمتم تبعتكم العجم بجنودها ، فاختطفوكم واصطادوكم بين كل حجر ومدر (٤) ، وثاروا ملككم وسلطانكم ، فوطنوا أنفسكم على الحرب. وعليكم بالصبر والحفاظ ، فإن هذا اليوم له ما بعده». وجعل يحرضهم ويأمرهم بالصبر والحفاظ.

ثم إن المرزبان زحف بجميع عساكره وقواده ، وجعل الفيلة أمامه.

وأقبل مالك وأصحابه ، ونادى بالحملة عليهم ؛ وقال [م ٢٣٣] : «يا معشر الأزد! اعملوا معي!! ـ فداكم أبي وأمي ـ على هذه الفيلة ، واكتنفوها (٥) بأسيافكم واسنتكم». ثم حمل ـ وحملوا معه ـ على الفيلة بالرماح والسيوف ، ورشقوها بالسهام ، فولت الفيلة راجعة على المرزبان وأصحابه ، فانفضت صفوف العجم ، وجالوا جولة.

ثم تراجعت العجم بعضها إلى بعض ، وأقبلت في (٦) حدّها وحديدها. وصاح المرزبان بأصحابه ، وأمرهم بالحملة فحملوا ؛ فالتقى الجمعان. واختلف الطعن والضرب والطعان ، واشتد القتال ، وعظم النزال ، ولم يسمع إلا صليل الحديد ، ووقع السيوف ، فاقتتلوا يومهم ذلك إلى أن حال بينهم الليل. وانصرف بعضهم عن بعض ، وقد كثر القتل والجراح في الجميع.

__________________

(١) في الأصل (الحفاط).

(٢) في الأصل (أبناءكم).

(٣) في الأصل (ملككهم).

(٤) أهل الحجر والمدر ، سكان البادية.

(٥) في الأصل غير واضحة ودون تنقيط.

(٦) في الأصل (إلى).

١٩

ثم ابتكروا من الغد ، واقتتلوا قتالا شديدا ، وقتل من الفرس خلق كثير ، وثبتت لهم الأزد ، إلى أن حال بينهم الليل.

فلما أصبحوا في اليوم الثالث ، زحف الفريقان بعضهم إلى البعض ، فوقفوا موقفهم تحت راياتهم ، وأقبل أربعة نفر من المرازبة والأساورة (١) يعد الواحد [م ٢٣٤] منهم لألف رجل ، حتى دنوا من مالك ، فقالوا : «هلم إلينا لننصفك من أنفسنا ، ونبارزك منا واحدا واحدا».

تقدم مالك إليهم ، وخرج واحد منهم فجاول مالكا ساعة. فعطف مالك فطعنه برمحه في صلبه ، فخر عن فرسه على الأرض ، فضربه بالسيف فقتله. ثم حمل الفارس الثاني على مالك ، وضرب مالكا ، فلم تصنع ضربته شيئا. وضربه مالك على مفرق رأسه ، فقدّ البيضة والرأس ، وخرّ ميتا ، ثم حمل على الفارس الثالث ، فضربه مالك على عاتقه ، فقسمه ، ووصل السيف إلى الدابة ، فقطعهما نصفين ، فلما رأى الفارس الرابع ما صنع مالك بأصحابه ، كاعت (٢) نفسه ، وولى راجعا نحو أصحابه حتى دخل فيهم وانصرف مالك إلى موقفه ، وقد تفاءل بالظفر ، وفرحت بذلك الأزد فرحا شديدا ، ونشطوا للحرب.

فلما رأى المرزبان ما صنع مالك بقواده الثلاثة ، دخلته الحمية والغضب ، وخرج من بين أصحابه ، وقال : «لا خير في الحياة بعدهم» ونادى مالكا ، وقال : «أيها العربي! اخرج إليّ إن كنت تحاول ملكا [م ٢٣٥] فأينا ظفر بصاحبه كان له ما يحاول ، ولا نعرض (٣) أصحابنا للهلاك»

__________________

(١) الأسوار : قائد الفرس ، وقيل هو الجيد الرمي بالسهام ، وقيل هو الجيد الثابت على ظهر الفرس ، والجمع أساورة وأساور (ابن منظور : لسان العرب).

(٢) كعت عن الشيء أكيع وأكاع ؛ لغة في كععت عنه وأكع ، إذا هبته وجبنت عنه (ابن منظور : لسان العرب)

(٣) في الأصل (يعرض).

٢٠