تاريخ عمان

سرحان بن سعيد الأزكوي العماني

تاريخ عمان

المؤلف:

سرحان بن سعيد الأزكوي العماني


المحقق: عبد المجيد الحسيب القيسي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: وزارة التراث والثقافة سلطنة عمان
الطبعة: ٤
الصفحات: ١٦٢

ويبارزك منا واحد بعد واحد. فتقدم مالك إليهم وخرج واحد منهم فطارد مالكا ساعة فعطف عليه مالك فطعنه برمحه في صلبه فخر على فرسه إلى الأرض فضربه بالسيف فقتله.

ثم حمل الفارس الثاني على مالك وضرب مالكا فلم تصنع ضربته شيئا وضربه مالك على مفرق رأسه فقد البيضة والرأس وخر الفارس ميتا. ثم حمل على الفارس الثالث فضربه مالك على عاتقه فقسمه قسمين ووصل السيف إلى الدابة فقطعها نصفين ، فلما رأى الفارس الرابع ما صنع مالك بأصحابه كاعت نفسه (١) وولى راجعا نحو أصحابه حتى دخل بينهم وانصرف مالك إلى موقفه وقد تفاءل بالظفر. وفرحت بذلك الأزد فرحا شديدا ونشطوا للحرب.

فلما رأى المرزبان ما صنع مالك بقواده الثلاثة دخلته الحمية والغضب فخرج من بين أصحابه وقال (لا خير لي في الحياة بعدهم) ونادى مالكا وقال له :

(.. أيها العربي أخرج إلي إن كنت تحاول ملكا فأينا ظفر بصاحبه كان له ما يحاول ولا نعرض أصحابنا للهلاك).

فخرج إليه مالك برباطة جأش وشدة قلب فتجاولا بين الصفين مليا وقد قبض الجمعان أعنة خيولهم ينظرون ما يكون منهما ، ثم أن المرزبان حمل على مالك بالسيف حملة الأسد فراغ عنه مالك وضربه بسيفه على مفرق رأسه فقد البيضة والدرع وأبان رأسه عن جسده فزحف الفريقان بعضهما إلى بعض واقتتلوا من نصف النهار إلى العصر وأكل أصحاب المرزبان السيف وصدقتهم الأزد الضرب والطعان فولوا منهزمين حتى انتهوا إلى معسكرهم وقد قتل منهم خلق كثير وكثر الجراح في عامتهم فعند ذلك أرسلوا إلى مالك يطلبون منه الصلح وأن يكف عنهم الحرب وأن يؤجلهم إلى سنة ليخرجوا من عمان وأعطوه

__________________

(١) كاعت بمعنى خافت وجزعت (المعجم الوسيط).

٢١

على ذلك عهدا وجزية فأجابهم مالك إلى ذلك وأعطاهم عهدا لا يعارضهم حتى يبدأوه بحرب وكف عنهم الحرب وعادوا إلى صحار وما حولها من الشطوط وكانوا هناك والأزد في عمان.

وانحاز مالك إلى جانب قلهات فقيل إن الفرس في تلك المهادنة طمسوا أنهارا كثيرة وأعموها وكان سليمان بن داود عليه السلام أقام بعمان عشرة أيام وقد حفر فيها عشرة الاف فلجا (١) وطمس الفرس أكثرها في مدة الصلح التي طلبوها من مالك بن فهم.

ثم إن الفرس كتبوا إلى الملك دارا بن دارا بقدوم مالك إلى عمان ممن معه وما جرى بينهم وبينه من الحرب وقتل قائدهم المرزبان وجل أصحابهم وأخبروه بما هم فيه من الضعف والعجز وأستاذنوه في التحمل إليه بأهليهم وذراريهم.

فلما وصل كتابهم إليه وقرأه غضب غضبا شديدا وداخله القلق وأخذته الحمية عن قتل من قتل من أصحابه وقواده فعند ذلك دعا بقائد من عظماء مرازبته وأساورته وعقد له على ثلاثة الاف من أجلاء أصحابه ومرازبته وبعثهم مددا لأصحابه الذين بعمان فتحملوا إلى البحرين ثم خلصوا إلى عمان وكل هذا لم يدر به مالك فلما وصلوا إلى أصحابهم أخذوا يتأهبون للحرب حتى انقضى أجل العهد فجعل مالك يستطلع أخبارهم وبلغه وصول المدد إليهم فكتب إليهم : ـ (إني قد وفيت بما كان بيني وبينكم من العهد وتأكيد الأجل وأنتم بعد حلول بعمان ، وبلغني أنه قد أتاكم من قبل الملك مدد عظيم وأنكم تستعدون لحربي وقتالي فإما أن تخرجوا من عمان طوعا وإلا رجعت عليكم بخيلي ورجلي ووطيت ساحتكم وقتلت مقاتلتكم وسبيت ذراريكم ، وغنمت أموالكم).

__________________

(١) الفلج وجمعها أفلاج ، قنوات لسحب مياه العيون للإفادة منها في السقاية والري.

٢٢

فلما وصل رسوله إليهم هالهم أمره وعظموا رسالته لهم مع قلة عسكره وكثرتهم وما هم فيه من القوة والمنعة وزادهم غيظا وحنقا وردوا عليه أقبح رد فعند ذلك زحف عليهم مالك في خيله ورجله وسار حتى وطئ أرضهم واستعدت الفرس لقتاله ومعهم الفيلة فلما قربوا من عسكره عبأ أصحابه راية راية وكتيبة كتيبة وجعل على الميمنة ابنه هناءة وعلى الميسرة ولده فراهيد ، وأقام هو وبقية أولاده في القلب.

وألتقوا هم والفرس واقتتلوا قتالا شديدا ودارت رحى الحرب بينهم مليا من النهار ثم انكشفت العجم وكان معهم فيل عظيم فتركوه فدنا منه هناءة فضربه على خرطومه فولى وله صياح وتبعه معن بن مالك فعرقبه (١) فسقط. ثم أن العجم ثابوا وتراجعوا وحملوا على الأزد حملة رجل واحد فجالت الأزد جولة ونادى مالك : يا معشر الأزد أقصدوا إلى لوائهم فاكشفوه من كل وجهة. وحمل بهم على العجم حملة رجل واحد حتى كشفوا اللواء واختلط الضرب والتحم القتال وارتفع الغبار وثار العجاج حتى حجب الشمس ، فلم يسمع إلا صليل الحديد ووقع السيوف. وتراموا بالسهام فتقصدت وتجالدوا بالسيوف فتكسرت وتطاعنوا بالرماح فانحطمت وصبروا صبرا جميلا ، وكثر الجراح والقتل في الفريقين. ثم لم يكن للفرس ثبات وولوا منهزمين على وجوههم فاتبعهم فرسان الأزد يقتلون ويأسرون من لحقوا منهم فقتلوا منهم خلقا كثيرا وجعلوا يطلبونهم حيث مالقوهم وأدركوهم ولم يفت عنهم إلا من ستره الليل.

وتحمل بقية الفرس في السفن وركبوا البحر إلى فارس فاستولى مالك على عمان وغنم جميع أموال الفرس وأسر منهم خلقا كثيرا مكثوا في السجن زمانا طويلا. ثم أطلقهم مالك ومن عليهم بأرواحهم وكساهم وزودهم ووصلهم في السفن إلى أرض فارس. وملك عمان وما يليها من الأطراف وساسها سياسة

__________________

(١) عرقب الدابة قطع عرقوبها ، والعرقوب عصب خلف الكعبين والمقصود هنا ضرب الفيل على قوائمه فأسقطه

٢٣

حسنة وسار فيها سيرة جميلة وله ولأولاده في مسيرهم إلى عمان وحربهم الفرس أشعار كثيرة وشواهد تركتها طلبا للاختصار.

٢ ـ انتقال العرب إلى عمان :

ثم جاءت إلى عمان قبائل كثيرة من الأزد ، فأول من لحق بمالك من الأزد عمران بن عمرو بن عامر ماء السماء وولداه الحجر والأسود. وتفرعت من الحجر والأسود بعمان قبائل كثيرة. ثم خرج ربيعة بن الحارث بن عبد الله بن عامر الغطريف وإخوته ، وخرجت ملارس (١) بن عمرو بن عدي بن حارثة ودخل في هداد ، ثم خرجت عمران (٢) بن عمرو بن الأزد ، ثم خرجت اليحمد ابن حمى ، ثم خرجت بنو غنم بن غالب ، ثم خرجت الحدان وأخوها زياد وهو الندب الأصغر ، ثم خرجت معولة وهم بنو شمس ثم جاء الندب الأكبر ، ثم خرجت الضيق ، وخرج أناس من بني يشكر وخرج أناس من بني غامد (٣) ، وخرجت أناس من خوالة وخرجت هذه القبائل كلها على رايتها لا يمرون على أحد إلا أكلوه حتى وصلوا عمان فملؤها وأقاموا في بلد ريف وخير واتساع.

وقد سميت الأزد عمان عمانا لأن منازلهم كانت على واد بمأرب يقال له عمان والعجم تسميها مزون.

إن كسرى سمى عمان مزونا

ومزون يا صاح خير بلاد

بلدة ذات مزرع ونخيل

ومراع ومشرب غير صاد

فلم تزل الأزد تنتقل إلى عمان حتى كثروا بها وقويت يدهم واشتدت شوكتهم وملؤها حتى انتشروا إلى البحرين وهجر.

__________________

(١) في الأصل (ملادس) ويبدو وجود تحريف في النسخ.

(٢) في الأصل (عرمان) وهو تحريف في النسخ.

(٣) في الأصل (عامد) فيحتمل وجود تحريف في النسخ ، كما يمكن أن تكون (عامر) فبنو عامر بطن من الأزد القحطانية.

٢٤

ثم نزل عمان من غير الأزد سامة بن لؤي بن غالب بتوام وهي الجو (١) في جوار الأزد وكان فيها أناس من بني سعد وأناس من بني عبد القيس وزوج ابنته بأسد بن عمران بن عمرو بن عامر.

ونزل بعمان ناس من بني تميم ومنهم ال جذيمة بن خازم ، ونزلها ناس من بني النبت ومنازلهم عبري والسليف وتنعم والسر ، ونزلها أناس من بني الحارث ابن كعب ومنازلهم بضنك أيضا ، ونزلها اناس من قضاعة نحو مائة رجل وهم بضنك أيضا ، ونزلها اناس من بني رواحة بن قطيعة بن عبس منهم أبو الهشم. (٢)

٣ ـ أخبار مالك بن فهم :

واستقوى ملك مالك بن فهم بعمان وكثر ماله حتى هابته جميع القبائل من يمن ونزار. وكانت له جراءة وإقدام لم تكن لغيره من الملوك ، وكان ينزل إلى شاطئ قلهات وينتقل إلى غيرها وينزل بناحية ملك من ملوك الأزد يقال له مالك ابن زهير وكان عظيم الشأن وكاد ان يكون مثل مالك في العز والقدرة فخشي مالك أن يقع بينهما تحاسد وأن تقع بينهما حرب فخطب منه ابنته فزوجه على أن تكون لأولادها منه التقدمة والكبر على ساير الأولاد من غيرها. فأجابه مالك ابن فهم إلى ذلك وتزوجها فولدت له سليمة بن مالك.

وملك مالك عمان سبعين سنة ولم ينازعة في ملكه عربي ولا عجمي مات وعمره مائة سنة وعشرون سنة وقيل هو الذي ذكره الله تعالى (يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً)(٣) ، وقيل أن الملك الذي ذكره الله هو مسدلة (٤) بن الجلندى

__________________

(١) هي البريمي الحالية ، وفي الأصل الجوف وهو تحريف في النسخ.

(٢) في الأصل أبو الهيثم.

(٣) سورة الكهف الاية ٧٩.

(٤) في الأصل مندلة.

٢٥

ابن المستكبر. وقيل إنه هو المستنير (١) بن مسعود بن حرار بن عبد عز بن معولة بن شمس بن غانم بن عثمان بن نصر بن زهران بن كعب بن الحارث بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأزد. وليس هو كذلك ، والقول الأول هو الأصح لأن الجلندى هذا والذي هو أب عباد وجيفر فقد كان قبل الإسلام بقليل.

وقيل إنه أدرك الإسلام كما أدركه ولداه وقصة السفينة في زمن موسى عليه السلام. وبين موسى عليه السلام ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم أعوام ودهور.

٤ ـ وفاة مالك بن فهم :

وقيل إن مالك بن فهم قتله ولده سليمة خطأ. وسبب ذلك قيل إن مالكا جعل على أولاده الحراسة بالنوبة كل ليلة على رجل منهم ومعه الجماعة من خواصه وأمنائه. وكان سليمة أحب أخوته إلى أبيه وأحظاهم لديه وأكرمهم عليه وأرفعهم منزلة عنده وكان يعلمه الرمى حتى أحذقه وصار حاذقا ماهرا فحسده أخوته لمكانه من أبيه وكانوا يطلبون له عثرة مع أبيه فلم يجدوا له عثرة. فأقبل ذات يوم نفر منهم إلى أبيهم فقالوا «يا أبانا إنك جعلت على كل رجل واحد منا نوبة من الحرس وكل منا قائم بنوبته ما خلا أخانا سليمة فإنه إذا كانت نوبته انفرد عن الحرس وتشاغل بالنوم عن الحرس. فلا تكن لك منه كفاية ولا غنى».

وجعلوا يوهنون أمره وينسبونه إلى العجز والتقصير فقال لهم أبوهم «إن كلا منكم قائم بما عليه وليس بأحد منكم تقصير وقد فهمت قولكم في ولدي سليمة ، فإنه لم تزل الأخوة يحسد بعضهم بعضا لإيثار الاباء بعضهم على بعض وإن ظني به كعلمي به» ثم انصرفوا عنه ولم يبلغوا ما أملوه.

__________________

(١) في الأصل المستر.

٢٦

ثم إن مالكا داخله الشك فيما تكلموا به من أمر سليمة فأراد أن يختبر دعواهم ، فلما كانت نوبة سليمة في الحرس وقد خرج سليمة في فرسان قومه وكان عادته إذا خرج للحرس انفرد عن أصحابه وكمن قريبا من دار أبيه فلما كانت تلك الليلة خرج مع أصحابه وتفرد عنهم كعادته وكمن في مكانه الأول وكان مالك قد خرج في تلك الليلة متنكرا مستخفيا لينظر هل يصح قول أولاده في سليمة ، وكان سليمة قد أخذته تلك الساعة سنة وهو على ظهر فرسه. فلما رأى الفرس شخص مالك من بعيد صهلت فانتبه سليمة من سنته مذعورا ورأى الفرس ناصبا أذنيه مقابلا لما يراه وكان معودا إذا رأى شيئا نصب أذنيه مقابلا لما يراه فيرمي الفارس السهم بين أذني الفرس فلا يخطأ ما يراه الفرس ففوق سليمة نحو أبيه مالك وهو لا يعلم أن ذلك الشخص أبوه فسمع مالك صوت السهم وقد خرج من كبد القوس فهتف به : «يا بني لا ترمي أنا أبوك». فقال : «يا أبت ملك السهم قصده». فأصاب مالكا في لبة قلبه فقال ملك حين أصابه السهم قصيدة طويلة انتخبت منها هذه الأبيات :

جزاه الله من ولد جزاء

سليمة أنه ساما جزاني

أعلمه الرماية كل يوم

فلما اشتد ساعده رماني

توخاني بقدح شك لبي

دقيق قد برته الراحتان

فأهوى سهمه كالبرق حتى

أصاب به الفؤاد وما عداني

فلما مات مالك أنشده ولده هناءة يقول :

لو كان يبقى على الأيام ذو شرف

لمجد لم يمت فهم وما ولدا

حلت على مالك الأملاك جانحة

هدت بنا للعلا والمجد فانقصدا

أبا جذيمة لا تبعد ولا غلبت

به المنايا وقد أودى وقد بعدا

لو كان يفدى لبيت العز ذو كرم

فداك من حل سهل الأرض والخلدا

يا راعي الملك أضحى بعدك لا

ندر الرعاة أجار الملك أم قصدا

٢٧

٥ ـ أخبار سليمة بن مالك :

ولما قتل سليمة أباه تخوف من إخوته واعتزلهم وأجمع على الخروج من بينهم فسار إليه أخوه هناءة في جماعة من وجوه قومه واجتمعوا إليه وكرّهوا إليه الخروج وكان أكثر تخوفه من أخيه معن فقال لهم إني لا أستطيع المقام معكم وقد قتلت أباكم وكان ذلك من سبب حسد إخوتي لي وقد يبلغني من معن ما أكره وإني لأخشى أن يغتالني في بعض سفهاء قومه ، فناشدوه الله والرحم أن يقعد معهم وضمن له هناءة بتسليم الدية عنه إلى إخوته من ماله وأعفوه عن القود فقبل ذلك سليمة وأقام معهم وسلم هناءة الدية من ماله إلى إخوته فقبل الأخوة وعفوا إلا معن فإنه قبلها ولم يعف ، وطمع هناءة أن يصلح ذات بينهم ، وكان حسن السيرة في إخوته وقومه.

ثم إن معنا خلا له زمن لا يتعرض لسليمة بسوء حتى أكل الدية ثم جعل يطلب غفلة سليمة ويغري به سفهاء قومه من حيث لا يعلم به أحد ، فبلغ ذلك سليمة فأقسم لا يقيم بأرض عمان وأجمع رأيه على ركوب البحر ، فخرج هاربا في نفر من قومه فقطع البحر حتى نزل بر فارس وأقام بحاسك وتزوج بإمرأة منهم من قوم يقال لهم «الأسفاهية» فولده منها يسمون «بنو الأسفاهية» ، فبينما سليمة ذات يوم قاعدا ذكر أرض عمان وانفراده عن إخوته وما كان فيه من العز والسلطان فقال في ذلك شعرا :

كفى حزنا إني مقيم ببلدة

أخلائي عنها نازحون بعيد

أقلب طرفي في البلاد فلا أرى

وجوه أخلائي الذين أريد

٦ ـ سليمة بن مالك يحكم بلاد كرمان :

ثم إنه رحل ونزل بأرض كرمان ، وأقام عند بعض ملوكها وعرّفه بحسبه ونسبه وكيف حسده إخوته وكيف قتل أباه وكيف كان خروجه عن إخوته ، فلما

٢٨

عرفوا مكانه وشرفه كتموا أمره مخافة أن يعرض له بسوء لأجل ما كان من أمر أبيه مالك وأخيه جذيمة الأبرش في ملوك فارس وأكرموا مثواه وأعجبهم ما رأوا من فصاحته وجماله وكمال أمره فرفعوا قدره وأرادوا أن يجزوه بكريمة من كرائم نسائهم ، وكان ملكهم في ذلك الزمان ولد (دارا بن دارا بن بهمن) وكان كثير العسف والظلم جبارا غشوما على رعيته وأهل مملكته ، وكان إذا تزوجت إمرأة من نسائهم ولم تزف إليه قبل زوجها قتلها وقتل أهلها وبعلها ولا يقدر أحد أن يبني بامرأة إلا بعد أن يغتصبها الملك ويجامعها بكرا كانت أم ثيّبا.

فأخبروا سليمة صنع الملك فيهم وشكوا إليه جوره وأنهم لا يقدرون عليه لكثرة حجابه وحرسه ، فقال سليمة ماذا لي عليكم إذا كفيتكموه وأرحتكم منه ، فقالوا أنى لك ذلك ولم يقدر عليه من كان قبلنا من أهل العز والسلطان ، فقال تدبير الأمر عليّ فماذا لي عليكم؟ قالوا ما شئت : قال إذا كان الغد ليحضر عندي أهل الوفاء والعهد والتقديم منكم.

فلما كان الغد اجتمع إليه عظماء كرمان وأشرافها وأهل الوفاء فجرى الكلام بينهم فقال سليمة إن مكنتموني فيما أشرط عليكم دبرت الأمر ، فقالوا كلهم لك ذلك ، فقال أريد أن تصيروا لي ملكه وسلطانه لي ولعقبي من بعدي على أن اخذ جميع غلات كرمان وخراجها إلى أن أتمكن ، وأنتخب من العرب من أردت وأجعلهم معي وعلى أن تزوجوني من نسائكم ، فأعطوه ذلك وضربوا على يده ، وقالوا لك الوفاء بجميع ما طلبت وشرطت وبايعوه على قتل الملك وأعطوه العهود والمواثيق على الوفاء وكتموا أمرهم.

وكان فيهم من بيت الملك وهم قوامه ونظام ملكه ولكن كثر عليهم ظلمه وكرهوه وأرادوا قتله راحة لهم ، فانظروا أيها السامعون في عاقبة الظلم والجور أدى به إلى أن يقتله أقرباؤه ولو عدل لأحبه البعداء والأدنياء وتمنوا له طول العمر والنصر على الأعداء.

٢٩

فلما فرغوا من البيعة زوجوه بامرأة من كرايم نسائهم وكل هذا والملك لم يعلم بشيء منه ، فلما فرغوا من أمر التزويج عاهدهم سليمة على ليلة معلومة ليزفوه إلى الملك وقال أشهروا أمر التزويج ليتهيأ له الملك وليتأهب إلى مباشرة العرس.

فلما كان تلك الليلة أشهروا الزفة وعمدوا إلى سليمة فألبسوه الحلل الفاخرة والحلي السني وضمخوه بالطيب وكان شابا حسنا جميلا ، وكان قد شحذ سكينا وجعلها في سراويله وزفوه في الخدم والحشم حتى انتهوا به إلى الحصن ففتحت لهم الأبواب ودخلوا به ونظر إليه الملك في ضوء المشاميع وهو في تلك الهيئة الحسنة الجميلة فهاله منظره وسلب لبه وعقله فأومأ إلى النساء والخدم لينصرفوا فانصرفوا فأغلق الأبواب وأرخى الستور وبقي هو وسليمة في غرفة واحدة ، وأهوى عليه يقبله ويضمه إلى صدره فاسترخى إليه سليمة وجعل يلاعبه ويداعبه ، كما تفعل الجارية حتى تمكن منه فأخرج السكين وضربه في خاصرته وقتله ، ولبس سليمة درع الملك وتقلد سيفه وجعل على رأسه البيضة وبات متأهبا ولم يعلم أحد بما صنع بالملك ، وبات الذين بايعوه في خوف عظيم لا يدرون ما يكون من أمر سليمة والملك.

فلما طلع الفجر وثب سليمة إلى الأبواب ففتحها وخرج على الحراس وخاصة الملك وحجابه فوقع فيهم بالسيف حتى أباد عامتهم والباب العامد مغلوق لم يفتحه ، ووقع الضجيج في الحصن وعلت الأصوات فأقبل أهل البيعة وغيرهم من أهل البلاد بالسلاح التام فأشرف عليهم سليمة من أعلى الحصن وعليه الدرع والبيضة ، وبيده سيف الملك يقطر دما ، ورمى إليهم برأس الملك وجثته فلما نظروا إليه هالهم ما رأوه من أمر سليمة وجرأته وسر ذلك كثيرا من أهل البلد وخاف من لم يسره ذلك ولم يقدر يظهر حربا ولا كلاما واستقام الأمر لسليمة بأرض كرمان وسلمت له جميع رعاياها طوعا ورغبة ورهبة.

٣٠

ثم جعلوا في رجل الملك حبلا وأمروا الصبيان أن يسحبوه ويطوفوا به شوارع البلد وسككها ، ولما استقر الأمر لسليمة أهدوا إليه عروسه فابتنى بها وتمهد له الأمر واستولى على كور كرمان وثغورها ونواحيها وأطاعوه ومكنوه في نفوسهم وأموالهم وأعانوه في جميع أموره.

فلم يزل كذلك حتى حسدوه ونقموا عليه وقالوا إلى متى يملكنا هذا العربي ونحن أهل القوة والمنعة وجعلوا يتعرضون له في أطراف ملكه فكتب سليمة إلى أخيه هناءة بن مالك بعمان يستنصره ويطلب منه المعونة والمدد من فرسان الأزد ورجالهم يشد بهم عضده ويقيم بهم أود ما اعوج عليه من أهل مملكته ، فأمده بثلاثة الاف من فرسان الأزد وشجعانهم وحملهم في المراكب حتى أوصلهم أرض كرمان فتحصلوا عند سليمة وأقاموا معه فشد بهم عضده وأقام بهم أود من تعاوج عليه من العجم ، ولم يزل أمره مستقيما بأرض كرمان فاشتد ملكه وقوى سلطانه وولد له عشرة أولاد كلهم ذكور وهم عبد وحماية وسعد ورواحة ومجاس وكلاب وأسد وزاهر وأسود وعثمان.

وتوفي سليمة بأرض كرمان واختلف رأي أولاده من بعده ودخل الناس بينهم فكان ذلك سبب زوال ملكهم ورجوع الملك إلى العجم فتغلبت الفرس عليهم واستولوا على ملك أبيهم واضمحل أمرهم فتقربوا بأرض كرمان. وفرقة منهم توجهت إلى عمان وجمهور بني سليمة بأرض كرمان لهم بأس وشدة وعدد كثير ، وبعمان الأقل منهم.

٧ ـ عودة الفرس إلى عمان :

ثم لم تكن للفرس رجعة إلى عمان بعد أن جلاهم مالك عنها إلى أن انقضى ملكه وملك أولاده من بعده وصار ملكها إلى الجلندى بن المستنير المعولي وصار ملك فارس إلى بني ساسان وهم رهط الأكاسرة وكان الصلح بينهم وبين

٣١

الجلندى بعمان ، وكانوا يجعلون لهم أربعة آلاف من الأساورة والمرازبة مع عامل لهم بها مع ملوك الأزد ، وكانت الفرس في السواحل وشطوط البحر والأزد ملوكا بالبادية والجبال وأطراف عمان. وكل الأمور منوطة بهم وكان كل من غضب عليه كسرى أو خافه على نفسه أو ملكه أرسله إلى عمان يحبسه بها ولم يزالوا كذلك إلى أن أظهر الله الإسلام بعمان والله أعلم.

(م ٣ ـ كشف الغمة)

٣٢

الفصل الثاني

في أخبار أهل عمان من ظهور الإسلام حتى اختلاف كلمتهم

(١) ٨ ـ إسلام أهل عمان :

قيل إن أول من أسلم من أهل عمان هو مازن بن غضوبة بن سبيعة بن شماسة بن حيان بن مر بن حيان بن أبي بشر بن خطامة (٢) بن سعد بن نبهان ابن عمرو بن الغوث بن طي ، وكان يسكن قرية سمايل ، وقيل أنه جد سعيد أمبو علي ، وكان يعبد صنما يقال له ناجر فذبح يوما له شاة وقرّبها إليه فسمع صوتا من الصنم يقول :

يا مازن اسمع تسر

ظهر خير وبطن شر

بعث نبي من مضر

بدين الله الأكبر

فدع نحيتا من حجر

تسلم من حر سقر

ففزع من ذلك وقال إن هذا لعجب ، ثم ذبح قربانا اخر وقرّبه إليه فسمع من الصنم صوتا يقول :

يا مازن أقبل تسمع ما لا تجهل

هذا نبي مرسل

جاء بحق منزل

فآمن به تعدل

عن حر نار تشعل

وقودها الناس والجندل

فبينما هو كذلك إذ ورد عليه رجل من أهل الحجاز يريد دبا فسأله ما الخبر وراءك ، قال إنه ظهر رجل يقال له محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن

__________________

(*) هو الباب الثالث والثلاثون من كتاب كشف الغمة.

(١) في الأصل حطامة.

٣٣

هاشم بن عبد مناف يقول لمن جاءه أجيبوا داعي الله فلست بمستكبر ولا جبار ولا محتال. أدعوكم إلى الله وترك عبادة الأوثان وأبشركم بجنة عرضها السموات والأرض وأستنقذكم من نار تلظى لا يطفأ لهيبها ولا ينعم من سكنها.

قال مازن : هذا والله نبأ ما سمعته من الصنم فوثبت عليه وكسرته جذاذا ثم ركبت راحلتي قاصدا نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما قدمت عليه سألته عن ما بعث إليه فشرح لي الرسول الإسلام فأسلمت ونوّر الله قلبي.

ثم قلت للنبي صلى الله عليه وسلم : ادع الله لأهل عمان ، فقال النبي «اللهم أهدهم وثبتهم» ، فقلت زدني يا رسول الله فقال : «اللهم ارزقهم العفاف والكفاف والرضا بما قدرت لهم» ، قال مازن : يا رسول الله البحر ينضح بجانبنا فادع الله في ميرتنا وخفنا وظلفنا فقال : «اللهم وسع عليهم في ميرتهم وأكثر خيرهم من بحرهم» ، فقلت زدني فقال : «اللهم لا تسلط عليهم عدوا من غيرهم» وقال لمازن : «قل يا مازن امين فإنه يستجيب عندها الدعاء» فقال مازن : امين.

ثم قال : يا رسول الله إني مولع بالطرب وبشرب الخمر لجوج بالنساء وليس لي ولد فادع الله أن يذهب عني ما أجد ويرزقني ولدا تقرّ به عيني ويأتينا بالحيا فقال عليه السلام : «اللهم أبدله بالطرب قراءة القران وبالحرام حلالا وبالعهر (١) عفة الفرج وبالخمر ريا لا إثم فيه وآتهم بالحيا وهب له ولدا تقرّ به عينه» قال مازن فأذهب الله عني ما كنت أجد من الطرب وحججت حججا (٢) وحفظت شطرا من القرآن وتزوجت أربع عقائل من العرب ورزقت ولدا وسميته حيان بن مازن.

__________________

(١) في الأصل وبالفهر.

(٢) في الأصل حجا.

٣٤

ولمازن شعر ، منه :

إليك رسول الله خبت مطيتي

تجوب الفيافي من عمان إلى العرج (١)

لتشفع يا خير من وطئ الثرى

فتغفر لي ذنبي فأرجع بالفلج (٢)

إلى معشر خالفت في الله دينهم

فلا رأيهم رأي ولا شرجهم شرجي (٣)

وكنت امرأ باللهو والخمر مولعا

شبابي إلى أن اذن الجسم بالنهج

فبدلني بالخمر أمنا وخشية

وبالعهر إحصانا فأحصن لي فرجي

فأصبحت همي في الجهاد ونيتي

فلله ما صومي ولله ما حجي

٩ ـ عمرو بن العاص في عمان وانتشار الإسلام فيها :

ثم إنه صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل عمان يدعوهم إلى الإسلام ، وعلى أهل الريف منهم عبد وجيفر أبنا الجلندى ، وكان أبوهما الجلندى قد مات في ذلك العصر ، وكان كتابه صلى الله عليه وسلم :

«من محمد رسول الله إلى أهل عمان. أما بعد ، أقروا بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأدوا الزكاة وأعمروا المساجد وإلا غزوتكم».

وكتب صلى الله عليه وسلم إلى عبد وجيفر :

بسم الله الرحمن الرحيم «من محمد رسول الله إلى جيفر وعبد ابني الجلندى ، أما بعد فإني أدعوكم بدعاية الإسلام أسلما تسلما فإني رسول الله إلى الناس كافة لأنذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين ، فإن أسلمتما ولّيتكما وإن أبيتما فإن ملككما زائل عنكما وخيلي تطأ ساحتكما وتظهر نبوتي على ملككما».

__________________

(١) العرج : موضع قرب المدينة المنورة.

(٢) الفلج : النصر.

(٣) يقال ليس هو من شرجه أي ليس هو من طبقته وشكله.

٣٥

وكان الكاتب لهذا أبي بن كعب وهو عليه السلام المملي عليه ، وقد طوى الصحيفة وختمها بخاتمه وبعث بها مع عمرو بن العاص فقدم بها عمرو إلى عبد وجيفر ، وأول موضع نزل به بعمان هو «دستجرد» وهي مدينة بصحار بنتها العجم فنزل بها وقت الظهر ، وبعث إلى ابني الجلندى وهما ببادية عمان ، فأول من لقيه عبد وهو أحلم الرجلين وأحسنهما خلقا فأوصل عمرو إلى أخيه جيفر ودفع إليه الكتاب مختوما ففض ختامه وقرأه ثم دفعه إلى عبد فقرأه ثم التفت إلى عمرو فقال إن هذا الذي تدعو إليه من جهة صاحبك أمر ليس بصغير وأنا أعيد فكري فيه وأعلمك.

ثم استحضر جماعة الأزد وبعثوا إلى كعب بن برشه العودي فسألوه عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم فقال إنه نبي وقد عرفت صفته وإنه سيظهر على العرب والعجم وأسلم كعب وعبد وجيفر وبعثوا إلى وجوه الناس فبايعوهم للنبي صلى الله عليه وسلم ودخلوا في دينه وألزمهم تسليم الصدقة وأمروا عمرو بقبضها فقبضها منهم على الجهة التي أمره بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

١٠ ـ إخراج الفرس من عمان :

ثم بعث جيفر إلى مهرة والشحر ونواحيها فدعاهم إلى الإسلام فأسلموا وبعث إلى دبا وما يليها إلى اخر عمان فما ورد رسوله على أحد إلا أسلم وأجاب دعوته إلا الفرس الذين كانوا بعمان فحين أبوا عن الإسلام اجتمعت الأزد إلى جيفر وقالوا لا تجاورنا العجم بعد هذا اليوم. وأجمعوا على إخراج عامل الفرس «مسكان» ومن معه من الفرس. فدعا جيفر بالأساوة والمرازبة فقال لهم إنه قد بعث نبي من العرب فاختاروا منا إحدى حالتين : إما أن تسلموا وتدخلوا فيما دخلنا فيه وإما أن تخرجوا عنا بأنفسكم ، فأبوا أن يسلموا وقالوا لسنا نخرج.

٣٦

فعند ذلك اجتمعت الأزد فقاتلوهم قتالا شديدا وقتل مسكان وكثير من أصحابه وقواده ثم تحصن بقيتهم في مدينة دستجرد فحاصروهم أشد الحصار ، فلما طال عليهم الحصار طلبوا الصلح فصالحوهم على أن يتركوا كل صفراء وبيضاء وحلقة ويراع فأجابوا إلى ذلك وخرجوا من عمان وبقيت أموالهم وهذه الصوافي (١).

١١ ـ عودة ابن العاص إلى المدينة :

ومكث معهم عمرو وهم له طائعون ولقوله سامعون إلى أن بلغته وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فأراد الرجوع إلى المدينة فصحبه عبد بن الجلندى وجيفر ابن جشم العتكي وأبو صفرة سارف بن ظالم في جماعة من الأزد فقدموا مع عمرو بن العاص إلى أبي بكر رضي الله عنه فلما دخلوا عليه قام سارف بن ظالم وقال يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويا معشر قريش هذه أمانة كانت في أيدينا وفي ذمتنا ووديعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقد برئنا إليكم منها ، فقال أبو بكر : جزاكم الله خيرا وقام الخطباء بالثناء عليهم والمدح فقالوا كفاكم معاشر الأزد قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وثناؤه عليكم وقام عمرو بن العاص فلم يدع شيئا من المدح والثناء إلا قاله في الأزد.

وجاءت وجوه الأنصار من الأزد وغيرهم مسلمين على عبد ومن معه فلما كان من الغداة أمر أبو بكر فجمع الناس من المهاجرين والأنصار وقام أبو بكر خطيبا فحمد الله وأثنى عليه وذكر النبي فصلى عليه وقال :

معاشر أهل عمان إنكم أسلمتم طوعا لم يطأ رسول الله ساحتكم بخف ولا حافر ولا عصيتموه كما عصيه غيركم من العرب ، ولم ترموا بفرقة ولا تشتت

__________________

(١) الصوافي ، هي الأملاك والأرض التي جلا عنها أهلها أو ماتوا ولا وارث لها ، واحدتها صافية ، وقيل الضياع التي يستخلصها السلطان لخاصته الصوافي. (لسان العرب).

٣٧

شمل فجمع الله على الخير شملكم ، ثم بعث إليكم عمرو بن العاص بلا جيش ولا سلاح فأجبتموه إذ دعاكم على بعد داركم ، وأطعتموه إذ أمركم على كثرة عددكم وعدتكم ، فأي فضل أبر من فضلكم وأي فعل أشرف من فعلكم ، كفاكم قوله عليه السلام شرفا إلى يوم المعاد ، ثم أقام فيكم عمرو ما أقام مكرما ورحل عنكم إذ رحل مسلما ، وقد منّ الله عليكم بإسلام عبد وجيفر إبني الجلندي وأعزكم الله به وأعزه بكم وكنتم على خير حال جميل حتى أتتكم وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأظهرتم ما يضاعف إلى فضلكم وقمتم مقاما حمدناكم فيه ، ومحضتم بالنصيحة وشاركتم بالنفس والمال فيثبت الله به ألسنتكم ويهدي به قلوبكم وللناس جولة فكونوا عند حسن ظني بكم ، ولست أخاف عليكم أن تغلبوا على بلادكم ولا أن ترجعوا عن دينكم جزاكم الله خيرا» ثم سكت.

وذكر بعض المحدثين أن عبدا لما قدم على أبي بكر رضي الله عنه استهضه في مقاتله آل جفنة فأجابه إلى ذلك فسير سرية وأمره عليها فخرج عبد على السرية حتى وافى ديار آل جفنة ولهذا حديث يطول شرحه وقد تركته.

وقد شهر مقام عبد وعرف مكانه ، وكان في السرية حسان بن ثابت الأنصاري فلما قدموا من ديار ال جفنة قام حسان وقال : قد شهر مقام عبد في الجاهلية والإسلام فلم أر رجلا أحزم ولا أحسن رأيا وتدبيرا من عبد وهو والله ممن وهب نفسه لله في يوم غارت صاحبه وأظلم صباحه ، فسر ذلك أبا بكر رضي الله عنه وقال هو يا أبا الوليد كما ذكرت والقول يقصر عن وصفه ، والوصف يقصر عن فضله ، فبلغ ذلك عبدا فبعث إليه بمال عظيم وأرسل إليه أن مالي يعجز عن مكافأتك فاعذر فيما قصر وأقبل ما تيسر.

ثم إن أبا بكر كتب كتابا إلى أهل عمان يشكرهم ويثني عليهم وأقر جيفر وأخاه عبدا على ملكهما وجعل لهما أخذ الصدقات من أهلها وحملها إليه ، وانصرف عنه ومن معه شاكرا لعبد وجيفر من المآثر والمناقب ما يضيق بها

٣٨

الكتاب وقد أوردنا لمحة من أخبارهم ، ولم يزالا في عمان متقدمين إلى أن ماتا وخلفا من بعدهما عباد بن عبد بن الجلندى في زمن عثمان وعلي.

١٢ ـ جيوش الحجاج في عمان :

فلما وقعت الفتنة وافترقت الأمة وصار الملك إلى معاوية لم يكن لمعاوية في عمان سلطان حتى صار الملك لعبد الملك بن مروان واستعمل الحجاج على أرض العراق وكان ذلك زمن سليمان وسعيد ابني عباد بن عبد بن الجلندى وهما القيمان في عمان فكان الحجاج يغزوهما بجيوش عظيمة وهما يفضان جموعه ويبددان عساكره في مواطن كثيرة.

وكان كلما أخرج إليهما جيشا هزماه واستوليا على سواده إلى أن أخرج عليهما القاسم بن شعوة المزني في جمع كثير وخميس جرار فخرج القاسم بجيشه حتى انتهى إلى عمان في سفن كثيرة فأرسى سفنه في ساحل قرية من قرى عمان يقال لها حطاط فسار إليه سليمان بن عباد بالأزد فاقتتلوا قتالا شديدا فكانت الهزيمة على أصحاب الحجاج وقتل القاسم وكثير من أصحابه وقواده واستولى سليمان على سوادهم فبلغ ذلك الحجاج فأصابه أمر هائل ثم استدعى بمجاعة بن شعوه أخ القاسم أن يندب الناس ويستصرخهم وينادي في قبائل نزار حيث كانوا ويستعينهم ويستنجدهم ، وأظهر الحجاج من نفسه غضبا وحمية وأنفة وكتب إلى عبد الملك بن مروان وأبعد وجوه الأزد الذين كانوا بالبصرة عن النصرة لسليمان بن عباد فوجدت أن العساكر التي جمعها الحجاج وأخرجها إلى عمان كانت أربعين ألفا ، فأخرج من جانب البحر عشرين ألفا ومن جانب البر عشرين ألفا ، فانتهى القوم الذين خرجوا من البر فسار إليهم سليمان بسائر فرسان الأزد وكانوا ثلاثة الاف فارس وأصحاب النجائب ثلاثة الاف وخمسمائة فالتقى بهم عند الماء الذي دون البلقعة بخمس مراحل وقيل بثلاث

٣٩

مراحل وهو الماء الذي بقرب قرية بوشر يقال له اليوم البلقعين فاقتتلوا قتالا شديدا ، فانهزم أصحاب الحجاج فأمعن سليمان في طلبهم وهو لا يعلم بشيء من عسكر البحر حتى انتهى عسكر البحر بالبونانة من جلفار (١) فلقيهم رجل فأعلمهم بخروج سليمان بسائر العسكر فواصل مجاعة سير الليل بالنهار حتى وصل بركا فنزل إليهم سعيد فقاتلهم قتالا شديدا حتى حجز بينهم الليل ، وتأمل سعيد عسكره فإذا هم في عسكر مجاعة كالشعرة البيضاء في الثور الأسود وقد قتل منهم من قتل فاعتزل من ليلته وعمد إلى ذرارى أخيه وذراريه فاعتزل بهم إلى الجبل الأكبر وهو جبل بني ريام ويقال له الجبل الأخضر ويقال له رضوان (بضم الراء) ولحقه القوم فلم يزالوا محصورين حتى وافى سليمان وكان مجاعة أرسى سفنه ببندر مسكد (٢) وكانت ثلاثمائة سفينة فمضى إليها سليمان فأحرق منها نيفا وخمسين سفينة وانفلت الباقون في لجج البحر ثم مضى يريد عسكر مجاعة فتصور مجاعة أن لا طاقة له بسليمان فخرج يريد البحر فالتقى هو وسليمان بقرية سمايل فوقعت بينهم صكة عظيمة فانهزم مجاعة ولحق بسفينة فركبها ومضى إلى جلفار.

وكاتب الحجاج فأخرج له من طريق البر عبد الرحمن بن سليمان في خمسة الاف عنان من بادية الشام وكان فيهم رجل من الأزد ولا يعلمون به أنه من الأزد فهرب في الليل حتى نزل على سليمان وسعيد فأعلمهما بذلك فاستشعرا العجز فحملا ذراريهما وسوادهما ومن خرج معهما من قومهما ولحقا ببلد من بلدان الزنج حتى ماتا هناك.

ودخل مجاعة وعبد الرحمن بالعسكر إلى عمان ففعلا فيها غير الجميل ونهباها نعوذ بالله من ذلك.

__________________

(١) جلفار هي بلدة رأس الخيمة الحالية. أما البونانة فموضع قربها إلا أنه غير معروف على وجه الضبط.

(٢) بندر مسكد هو ميناء مسقط.

٤٠