تاريخ اليمن الإسلامي

أحمد بن أحمد بن محمّد المطاع

تاريخ اليمن الإسلامي

المؤلف:

أحمد بن أحمد بن محمّد المطاع


المحقق: عبد الله محمّد الحبشي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: شركة دار التنوير للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٨

ونظم الأحوال ، وكان قد لفت نظره كثرة ما يملك أهل الذمة (١) من الأراضي والمزارع ، وسعة ثروتهم ، فخشي أن يستفحل أمرهم ، وينتقل ما بأيدي (٢) المسلمين من المزارع والنخيل إليهم ، لثروتهم ، فرأى أن يضع حدّا لهذا ، ولاحظ في ذلك مراعاة حقوق الفقراء والمساكين من أهل البلد ، الذين حرموا بسبب انتقال الأموال من المسلمين إلى الذّميين ، جانبا كبيرا ، من واجبات هذه الأموال كما صرّح به الإمام في كتاب صلحه المشهور (٣) ، مع أهل الذمة بنجران فيما يجب عليهم من الخراج والجزية ، وهو كتاب طويل مشهور صالحهم فيه على التسع فيما يسقى سيحا (٤) ، أو بماء السماء ونصف التسع فيما يسقى بالدّوالي (٥) والخطارات (٦) إلى آخره.

عزم الإمام إلى وشحة ثم إلى برط

مكث الإمام بنجران إلى شهر رمضان من تلك السنة ثم رجع إلى صعدة واستخلف على نجران أحمد بن محمد بن عبيد الله العلوي من ولد العباس بن علي بن أبي طالب عليه السلام ، فلم يلبث بصعدة إلّا قليلا ، وعزم إلى وشحة (٧) فأصلحها ، وضبط أمورها ، وخلف بها محمد بن عبيد الله العلوي ، وعاد إلى صعدة ، ومنها عزم لإصلاح أحوال أهل برط (٨) ، وكان قد أرسل

__________________

(١) لم يبين كاتب سيرة الإمام الهادي ديانة من بنجران من أهل الذمة الذين صالحهم الإمام وكذلك صاحب انباء الزمن وغيره من المؤرخين وقد وجدنا في سيرة الامام القاسم العباني انهم نصارى وسيأتي ايضاح ذلك (ص).

(٢) في الأصل مأبدى.

(٣) انظر نص الصلح في سيرة الهادي ص ٧٣.

(٤) سيحا : من ساح الماء اذا جرى على وجه الأرض.

(٥) جمع دلو وهو معروف.

(٦) انظر سيرة الهادي ص ٧٦.

(٧) وشحه : بلده في اعلى جبل حجور وهي مركز ناحية مربوطة بلواء حجة.

(٨) جبل مشهور في الشرق الشمالي من صنعاء لمسافة ٢٣٢ ك. م (المقحفي : معجم المدن اليمنية ص ٤٨).

٨١

عامله جبل برط قبل مسيره إلى نجران ، فلما وصل عامله إلى برط ، تمنع عليه بعض أهل برط ومنعوه من صلاة الجمعة ، فكتب بذلك إلى الإمام ، فما كان بأسرع من خروجه إليهم ، ولما وصل أسفل الجبل أرادوا منعه عن توغل الجبل ، فنصحهم ، وحذّرهم فلم يلتفتوا إلى نصحه ، فلم يتمهل أن طلع واستولى عليه ، فبقي به مدّة ، حتى أصلح الفاسد وقوّم المائل ، وأرشد الجاهل فسمعوا له وأطاعوا ، واستعمل عليهم رجلا يقال له عبد العزيز بن مروان ، وذلك لآخر يوم من صفر سنة ٢٨٥ ، وعاد إلى صعدة فأقام بها شهر ربيع الأول وبعض أيام من ربيع الثاني

خلاف أبو دغيش الشهابي

في شهر ربيع الثاني من السنة المذكورة ، ورد على الإمام من عامله بوشحة ، محمد بن عبيد الله كتاب فيه : أن أبا دغيش الشهابي جمع جموعا كثيرة من الرّجال ومنع الصدقة ، وأنه قد اشتبك معه في حرب على ذلك ، فبادر الإمام الهادي بالخروج من صعدة وعسكر بقرية يقال لها البقعة بالقرب من صعدة ، ثم وجّه إلى أبي دغيش رجالا يدعونه إلى الله ، ويسألونه الدخول في الحق والرّجوع إليه ، فأبى ، وتمنع وكان الإمام الهادي عليه السلام ، لا يحارب قوما حتى ينذرهم ويحذرهم ، ويدعوهم إلى الحق فإن رجعوا ، وإلّا قاتلهم متحرّيا العدل في كل أحواله ، مقتفيا سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ، وله في ذلك كلمات مأثورة منها قوله : (إن هي إلّا سيرة علي وإلّا فالنار) ولما عرف من أبي دغيش الإصرار ، وعدم الإنقياد وجه أخاه عبد الله بن الحسين في عسكر جرار لتأديب ذلك الثائر (١) :

نادى إلى الحسنى فلما أعرضوا

واستكبروا شرع الرماح فأسمعا

__________________

(١) انظر هذا في سيرة الهادي ص ٨٦.

٨٢

والحق أعزل لا يروع فإن بدا

مستلئما لاقى الطغاة فروّعا

فسار الجيش مع أميرهم ، حتى نزلوا وشحة وبعد الانذار منهم ثانيا والدّعوة لأولئك العصاة خرج عبد الله بن الحسين مع عامل وشحة إلى عفادة قرية أبي دغيش المذكور ، فنشب القتال بينهم وكانت الدائرة على أبي دغيش وأصحابه ، وانهزموا هزيمة منكرة ، فدخل الجيش قرية عفاده وملكوها وأحرقوا منازل المقاتلين ومكثوا بها مدة لإصلاح أمورها ، وأعطى عبد الله بن الحسين ، أهل القرية ، وبعض المستأمنين من المحاربين ربع أموال الصدقة ، ونصف سدسها ، عوضا عما أخذ عليهم ، واستحلهم من معرة الجيش.

ثم عاد أبو جعفر محمد بن عبيد الله إلى وشحة وأخو الإمام إلى صعدة.

وفي هذه السنة أيضا خرج الإمام إلى نجران مرة ثانية ، وذلك انه خرج بعض عمال الصّدقة بمال الصّدقة ، حتى بلغوا موضع الرّكب في طريق نجران ، فتلقّاهم رجل يقال له خبيش (١) بن وادعة ، في جماعة من أصحابه ، فأخذوا المال ، وقتلوا رجلا كان مع العمال ، فلما بلغ الإمام هذا الحادث ، خفّ لتأديب المتمردين ، ونزل بقرية شوكان من قرى نجران ، وفي قرية المفسد خبيش المذكور ، وكان قد فرّ منها وله فيها أموال وأعناب ونخيل ، فأمر الإمام بقطع نخيله وأعنابه ، وهدم منزله وراسله ليردّ المال المنهوب ، ويرجع إلى الحق فعاند واستكبر ، وجمع لصوص البادية وعزم على الفساد ، وقطع الطريق ، ولما بلغ الإمام ما اعتزم عليه من العبث والفساد دعا عليه فأهلكه الله وأراح من شره.

__________________

(١) انظر خبره في سيرة الهادي ص ٨٩ وفيه حنيش بالحاء والنون.

٨٣

الدعام وكتبه إلى الامام ، انتقال الإمام إلى خيوان وأثافت خبر الصلح وغدر أرحب بن الدعام وفي هذه السنة وصلت كتب الدّعام بن إبراهيم إلى الامام الهادي ، يستمد منه الولاية على ما تحت يده من البلاد ، فأجابه الإمام إلى ما طلب وشرط عليه الطاعة والعمل بالكتاب والسنة ، وكان الدّعام من الولاة المتغلبين الذين لا يتقيدون بنظام سوى نظام الاستغلال والاستئثار ولا يخضعون لغير قانون الارادة المطلقة ، وقد ذكرنا بعض أحداثه وأخباره في أيام يعفر بن عبد الرحيم الحوالي ، وما بعده ، فلم يوافقه ما شرط الإمام ، وتعبت الرسل بينهما على غير طائل ، وكان الإمام أثناء هذه المراسلة بنجران ، فخرج منه في خلق كثير ، وقصد خيوان فدخلها واصلح أمورها وفرح به الناس واطمأنوا إليه فمكث بخيوان (١) زهاء ثلاثة أشهر ، ثم انتقل إلى بطنة حجور ، ولما قرب من البلد استقبله السّكان بالسمع والطاعة ، وجاؤوا إليه يهرعون بالعلف وما يحتاجه الجيش ، فأبى عليهم ذلك ، ولم يقبل لأحد منهم علفا ولا غيره ، وبعد ثلاثة أيام انتقل إلى قرية يقال لها الحضن (٢) لقوم من همدان فأصلح أمورها وانتقل منها إلى أثافت (٣) ، فصلى بها الجمعة ودعا الناس إلى البيعة ، فبايعه بشر كثير ، وبالقرب من اثافت محل يقال له بيت زود (٤) في يد الدعام فوصل أهل هذا المحل ، فيمن وصل إلى الإمام واستغاثوا به من الدعام وجنوده ، فبعث معهم الإمام رجلا من بني عمه واليا عليهم من قبله ، فلما وصل عامله إلى بيت زود ، خرج من كان فيه من ولاة الدعام ، فأمر بالمعروف ونهى عن المنكر ونفى الفواحش.

__________________

(١) خيوان : بلد مشهور في حوث شمال صنعاء بمسافة ١٢٢ ك. م.

(٢) في سيرة الهادي الحصن بالصاد المهملة.

(٣) اثافت : بلدة خربة في بلاد حاشد على مقربة من دماج شرقي خمر

(٤) بيت زود : قرية من ناحية خارف وهي بالغرب من ريدة.

٨٤

ثم كتب الإمام إلى صعصعة بن جعفر صاحب ريدة فأجاب بالسمع والطاعة ، فوجه إليه الإمام نفرا من همدان لضبط البلد ، وإخراج من فيه من ولاة الدّعام ، ثم ان الدعام جمع جموعه ونهض يريد البون (١) فبلغ الإمام ، وكان قد انتقل من أثافت إلى خيوان ، فخرج من خيوان إلى بيت زود ، ونزل الدعام بحمدة من قرى البون ، فصار الإمام بعسكره إلى موضع يعرف بنجد الطين (٢) ، وهنالك أمر بتعبية أصحابه ، ولما رآه الدعام كذلك عبأ عسكره ، وقبل أن يلتحم القتال ، بين الفريقين أرسل الإمام رسولا إلى الدعام ، وقال له : يقول لك الهادي لا تقتل العرب فيما بيننا وابرز إليّ ، ويتوقف الناس حتى أقاتلك ، فإن قتلتني استرحت مني وإن قتلتك استراح منك أهل الإسلام ، فلما وصل الرّجل الدّعام واخبره بمقالة الإمام رد ردّا جميلا وقال انه لا يريد الحرب ، فأعاد إليه الإمام رسولا يعظه ويوقفه على ما هو فيه من الضلال ، ودامت الرسل بينهما تختلف إلى ان انتهت بالصّلح ، ودخول الدّعام في عداد الخاضعين لراية الإمام ، وحلف له على السمع والطاعة ، واختلط العسكران (٣) ، وعاد الإمام إلى بيت زود وسار الدّعام إلى حمدة فأقاما ثلاثة أيام ، والرسل بينهما تختلف لتقرير مواد الصلح ، وفي اليوم الرّابع أغار أرحب بن الدّعام على أثافت بقوم من همدان يقال لهم بنو سليمان (٤) كانوا بطانة أرحب المذكور ، وقد ساءهم الصلح فزيّنوا له الغدر ونكث العهود وجرّءوه على قتل عامل الإمام واظهار الفساد :

ومن يكن الغراب له دليلا

يمر به على جيف الكلاب

ولما بلغ الدّعام الخبر اغتم ، وانتقل إلى ورور ، ثم لحق باثافت ، وما

__________________

(١) البون : يقع شمال صنعاء بمسافة ٤٨ ك. م من قراه عمران وريدة.

(٢) في سيرة الهادي ص ٩٦ نجد الضير بالراء المهملة.

(٣) انظر خبر الهادي مع الدعام في السيرة ص ٩٦.

(٤) سيرة الهادي ص ٩٨ سلمان.

٨٥

كاد نبأ الحادث يتّصل بالإمام حتى خرج من موضعه إلى موضع يقال له مشوط لبني ربيعة ، وذلك آخر يوم من رمضان ، وأرسل الصوارخ في الناس ، فاجتمعوا إليه لثلاث خلون من شوال ، وأجمع أمرهم على منازلة الدعام ومحاربته ليذوق وبال أمره (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) فصار الإمام الهادي بجموعه إلى اثافت وجرت بينه وبين أصحاب الدّعام معركة حامية الوطيس ، ثبت فيها الإمام ثبات الأطواد الشوامخ ، وأظهر من شجاعته واقدامه ما حير الكماة ، وقهر الأبطال قال مصنف سيرته (١) حدثني سعيد بن ابي سورة وهو مع الدّعام وكان من فرسان اليمن المعدودة ، قال انتخبت من عسكر الدعام ثلاثين فارسا من الرّجال أهل البأس وقد مارست الشجعان فما رأيت مثل وقوف الهادي إلى الحق وقلة مبالاته بنا : ودامت المعركة سحابة ذلك اليوم ، إلى أن حجز اللّيل بين الفريقين فانصرف كل فريق إلى معسكره ، وظل جيش الإمام يراوح من باثافت القتال ويغاديهم حتى سئموا وملّوا واضناهم الحصار ، والبرد وانقطاع المدد فخرج الدّعام متسلّلا منها إلى خيوان لأربع بقين من ذي القعدة وهو يدعو بالويل والثبور على من الجأه لحرب الإمام (على نفسه يجني الجهول ويجرم) ولله القائل :

لا تنبش الشر فتبلى به

فقلما تسلم من نبشه

إذا طغى الكبش بلحم الكلى

ادرج لحم الكبش في كرشه

وقد كان بعض أهل خيوان يكاتبه ويسأله المصير إليهم رغبة في إثارة الفتنة ، وإضرام نيران الخلاف ، ولما خرج الدّعام من أثافت ، بادر بعض جند الإمام ، ودخل القرية ونهب ما بقي فيها والإمام لم يزل بعسكره ، ولما بلغه خبر النهب والاحتلال اغتم غمّا شديدا وقال : (لو لا اني اخاف ضيعة الإسلام لما أقمت باليمن ولمضيت إلى بلدي فما احسب أن هؤلاء يحل

__________________

(١) سيرة الهادي ص ١٠٣.

٨٦

المقام بينهم ولا أستحل أقاتل بهم) وامر برد جميع ما نهب ، وارسل إلى أهل اثافت ، من كان له شيء فليحضر يأخذه ، فجعل أهل اثافت يحضرون فيتعرفون على امتعتهم فمن كان له شيء اخذه حتى استكملوا جميع ما أخد عليهم (١).

ولأن الإسلام في نظره عليه السلام كما قال بعض الصّحابة رضوان الله عليهم ، حائط منيع ، وباب وثيق ، فحائط الإسلام العدل وبابه الحق فإذا انقض الحائط وحطم الباب استفتح الاسلام ، فلا يزال الإسلام منيعا ما أشتد السلطان ، وليس شدّة السلطان قتلا بالسيف ولا ضربا بالسوط ، ولكن قضاء بالحق واخذا بالعدل) انتهى.

وما الدين إلا أن تقام شرائح

وتؤمن سبل بيننا وهضاب

وهكذا فهم أسلافنا روح الدين ولبابه وبذلك اخترقوا صفوف الأمم واختطوا ديارها ، فاستولوا على المالك أحقابا وأخذوا إمرة الأرض اغتصابا ، وعنت لهم الوجوه إكبارا وإعجابا ولله القائل :

نصر الله أمة اذ تولى

أمرها العادلون بين الخلائق

وكماة في المكرمات تباروا

وهم الأسد في صدور الفيالق

دوّخوا الأرض وطّدوا الملك

قاموا بفروض الكتاب تحت البيارق

ثم عزوا والملك صار عضوضا

فاستكنوا كأنهم في حدائق

وإذا الظلم والفساد اقاما

نضب الحوض من حماة الحقائق

__________________

(١) كان الإمام الهادي من أحرص الناس على نصرة الحق ونشر العدل ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا تأخذه في الله لومة لائم ، مهما كلفه الأمر وما ذاك إلّا لعظم شعوره بتبعة ما تحمله من أعباء الخلافة والإمامة عملا بقوله تعالى : (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ).

٨٧

(أبو العتاهية ونسبه مكاتبته للإمام وامداده)

هو عبد الله بن بشر بن طريف بن ثابت ، مولى يعفر بن عبد الرحيم الحوالي ، ويكنى بأبي العتاهية ، والي صنعاء ومخاليفها لآل يعفر ، كاتب الإمام الهادي وراسله ، ووعده النصرة والمؤازرة ، ولما كانت وقعة أثافت ، وفرار الدّعام إلى خيوان كما سبق عزم الإمام إلى التحول من بني ربيعة إلى موضع من بني صريم (١) يقال له الدرب أيضا ، وذلك لأيام باقية من ذي الحجة سنة ٢٨٥ ، وكان قد أرسل إلى صنعاء إسماعيل بن مسلم يستنجز من أبي العتاهية الوعد بالمدد فأمدّه ببعض الجنود وخرج اسماعيل بن مسلم إلى ريدة (٢) بمن معه ، واقام بها ينتظر باقي العسكر ، ولما تأخر عززه الإمام بمحمد بن سليمان ، ولما وصل إلى أبي العتاهية ، وجّه معه أخاه جراحا ، وبعد جماعة من الفرسان فلحقوا بالإمام إلى درب بني حريم آخر المحرم سنة ٢٨٦ فانتقل الإمام وجراح بن بشر ومن معه إلى خرفان والسبيع من أرحب ، وهم جند الدعام ، وقوته وأبناء عمومته ، ولما بلغهم إنتقال الإمام إليهم ، فرّوا من قراهم ، واعتصموا برؤوس الجبال وتركوا بيوتهم وما فيها ، فكف الإمام جنوده ومنعهم عن التعرض لشيء من زروع القوم وأشيائهم (٣) ولم يزل بهم ، حتى أمنوا ونزلوا إليه فأمنهم واستحلفهم على السمع والطاعة ، فحلفوا ، وكان الدعام عند ان بلغه وصول المدد من أبي العتاهية جمع أهل خيوان وقال لهم : (اليس من العجب أني أصبحت مسودا وأصبح ابو العتاهية

__________________

(١) بنو صريم من حاشد وهم صريم بن مالك بن حرب بن وادعة بن عمرو بن عامر بن كاشح بن دافع بن مالك بن جشم بن حاشد.

(٢) ريدة : بلدة اثرية في الشمال الغربي من صنعاء بمساحة ٤٩ ك. م.

(٣) انظر سيرة الهادي ص ١١١.

٨٨

مبيضا) (١) فأمّا انا فقد عزمت على أن لا أقاتل ابن رسول الله فما تقولون ، فقال بعض أصحابه : بل تقاتل ونقاتل معك ، ولا يأخذ ملكا قد قاتلت عليه آل يعفر وغيرهم ، ثم يدفعه إلى هذا العلوي ، وكانت كتب الدّعام تترادف إلى الامام ايام إقامته بدرب بني ربيعة ، وكان يشترط فيها لنفسه شروطا ، مثل جباية بعض البلد ، وولايته على بعض فكان الهادي ، يقول : لو سألني ان أوّليه شبرا من الأرض ما وليته على المسلمين ، ولا جاز لي ذلك عند رب العالمين ، وبعد صلاح خرفان والسبيع ، انتقل الإمام ، إلى حوث لمناجزة الدّعام فازداد قلق الدعام ، واغتم لذلك وغادر خيوان إلى غرق (الجوف الأعلى) وقبل تنفيذ ما اعتزم عليه من الخروج ومبارحة البلاد جمع أصحابه واستشارهم في أمر الإمام فاختلفت آراؤهم ، فقال لهم : أما أنا فأوّل من أجلب (٢) هذا الرّجل وأخرجه من بلده ، وراسله حتى قدم هذا البلد ، وقد كانت أمور الله المستعان عليها ، وقد عزمت على أن لا أقاتله أبدا وان اسمع له واطيع ، فاعلموا لأنفسكم ، وأنا خارج من خيوان إلى بلدي وأرسل جماعة من مشائخ خيوان وأعيانها بهذا الكلام إلى الإمام ، ولما وصلوا إليه طلبوا لأهل خيوان الأمان فأمنهم الإمام ، ثم انتقل إلى بلدهم ولبس الناس العافية واطمأنوا :

بعض الأنام إذا رآى نور الهدى

عرف الطريق ولم يضل المهيعا

ومن البرية معشر لا ينتهي

عن غيّه حتى يخاف ويفزعا

__________________

(١) هكذا في سيرة الإمام الهادي (ص) فلك يغني بالمسودّة اتباع بني العباس والمبيضة العلوية لأن السواد شعار بني العباس.

(٢) وكان الدعام قد استقدم الهادي من الحجاز ثم من طبرستان وحلف للهادي عليه السلام مرارا ذكر ذلك الهادي عليه السلام في رسالته المشهورة الى الدعام.

٨٩

قال السيد العباس مؤلف السيرة (١) (ووصل خبر الدعام انه لما صار إلى بلده أمر بالأذان بحي على خير العمل ، وأضرب (٢) عن الخمر وأظهر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأرسل إلى الهادي إلى الحق يطلب منه لقاءه ، حتى يحلف له ويتوب إلى الله فما كان منه ، فأجابه الهادي إلى ذلك ولقيه بالقرب من خيوان ، فحلف له هو وبنو عمه وولده ثم انصرف إلى بلده) ووجّه الإمام معه أبا جعفر محمد بن سليمان واليا من قبله ليأمر بالمعروف وينهي عن المنكر ، ويجبي الصدقات ، ومكث الإمام يتردد إلى أثافت وبني حريم ، ويصلح ما بين القائل في تلك الجهات ، حتى استقامت الأمور وصلح الجمهور وعاد إلى صعدة في النصف من جمادي الآخرة من السنة المذكورة ، ومنها عزم إلى نجران لتأديب المفسدين ، وأقام بها أياما ، ثم رجع إلى صعدة ، ولم يلبث ان خرج إلى خيوان لإصلاح بعض قبائل تمرّدت من حاشد وهم العمريون ، وفي أثناء قيامه باصلاح هذه القبائل تآمر أهل نجران بعماله ، وهجموا عليهم إلى منازلهم فاشتبكوا معهم في قتال وكتبوا بذلك إلى الامام.

عزم الإمام إلى نجران وثورة ابن عباد

لم يتريث الإمام وقد بلغه ما كان من أهل نجران بل بادر بالعزم لتقليم أظفار تلك القبيلة العاتية ، فتحوّل من خيوان بمن معه من الجنود في ذي القعدة وقصد صعدة وكانت مؤامرة قد إمتدت ، واشترك بعض رؤساء خولان

__________________

(١) السيرة ص ١١٥.

(٢) في السيرة وضرب.

٩٠

منهم ابن عباد رئيس الاكيليين (١) ، فلما علم بوصول الإمام وما ينويه من العزم لتأديب الثائرين بنجران أراد تثبيطه ، وبذل كل مجهود في صدّه عن المسير ، وصمّم الإمام على المضي إلى ما أتجه إليه فأيس ابن عباد ، وعرف انه اخفق مسعاه في التّثبيط والمخادعة ، ولم يبق أمامه غير الظهور بالخلافة ، فاعلن بذلك وثار بمن معه داخل بلد صعدة ، فقابله بعض أصحاب الإمام ، وقضوا على ثورته سريعا ، ثم تجهز الإمام وخرج أوّل ذي الحجة سنة ٢٨٦ ، ولم يلبث ان دخل نجران في عسكر عظيم ، فكانت له هناك وقعات هائلة ، منها وقعة الحضن وميناس (٢) والهجر وغيرها ، دارت رحى معظم هذه المعارك على سيف الإمام وبسالته ، فإنه اقتحم ثيج الحروب فيها بنفسه ، واعتمد بعد الله على سيفه قال السيد العباسي عند الكلام على وقعة الهجر ما لفظه (٣) :

كسر الهادي ثلاثة أرماح في القوم ، ثم ضرب بسيفه حتى امتلأ قائم سيفه علقا ولصقت أنامله على قائم السيف ، وفي ذلك يقول الإمام من قصيدة أولها :

طرقت لعمرك زاهر مولاها

والحرب مسعرة يشب لظاها

ومنها :

نحن الفواطم لهونا طعن القنا

ومدامنا حرب تدور (٤) رحاها

هلا سألت فتخبري اذ لم تري

اذ سار يطلب مهجتي أعداها

__________________

(١) من خولان.

(٢) ميناس من حصون نجران المشهورة (ص).

(٣) سيرة الهادي ص ١٧٠.

(٤) السيرة تدور.

٩١

لاح الضياء (١) وابرقوا بكتيبة

شهباء تدفق خيلها وقناها

والجيش في ايديه كل عقيقة (٢)

الفين احكم سنّها وجلاها

والمشرفية في اكف حماتها

تحكي البوارق لمعها وسناها

إلى آخرها ، وكان النّصر حليف الإمام ، وقتل من أهل نجران خلق كثير قال في سيرته (٣) : ثم إنه أمر بجمع القتلى ، وتعليقهم بعراقيبهم في الشجر منكسين على كل شجرة جماعة موزّرين بالخرق والشمال (٤) ، وأقام بالقرية (الهجر) ثلاثة أيام أو أربعة إلى أن قال ثم أتت بنو الحرث واستوهبوا الإمام جثث اخوانهم ودفنوها في الحفر والآبار.

أبو جعفر محمد بن عبد الله العلوي وولايته على نجران

لما فرغ الإمام من حرب الثائرين ، أقام فيهم مدة شهرين لإصلاح البلاد ، ثم أرسل إلى أبي جعفر محمد بن عبيد الله العلوي ، وكان عامله على صعدة يستقدمه إليه ، فلما وصل استخلفه على نجران ، وقفل راجعا إلى

صعدة في جمادي الأولى سنة ٢٨٧ ، وما كاد يصلها ، حتى بلغه خبر إنتقاض قبائل خولان ، وتمردها ، وهم الأكيليون وبنو كليب والمهاذر ، والغويرات ، والبحريون ، وطرف من بني جماعة ، فأمر الإمام بهدم منازل الأكيليين ، وقطع أعنابهم وجرت بينه وبين المخالفين عدّة وقعات ، انتهت بهزيمتهم وانظامهم في سلك الخاضعين لسطوة الإمام ، وبعد أن قضى على

__________________

(١) السبرة الصّباح.

(٢) العقيقة : السهم الدي يرمى به نحو السماء.

(٣) مسيرة الهادي ص ١٧٣.

(٤) جمع شمله معروف.

٩٢

جميع حركات المشاغبين في الجهة الشمالية ، كما مرّ ، جمع جموعه وقصد صنعاء.

دخول الإمام صنعاء قتال الجفاتم (١) وآل طريف تسليم أبي العتاهية ، وتنقل الإمام في البلاد

ودخلت سنة ٢٨٨ في المحرم منها دخل الإمام الهادي صنعاء وذلك ليلة الجمعة لسبع بقين من المحرّم ، ومعه أبو العتاهية يسير بن يديه ، حتى أدخله إلى الدار التي كان فيها ، وكان قد دبّر حيلة وأخرج الجفاتم ، وآل طريف إلى السّر (٢) ، ليكونوا قوة في وجه الإمام تمنعه عن قصده ، وأظهر لهم انه يتجهز لمحاربته وصدّه عن صنعاء ، وكانت جميع المخابرات ، والمراسلات ، تجري بصورة سرّية لم يطلع عليها سوى وزيره ابن عباد المقتول مع الإمام في حرب شبام ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

وبلغ عبد الله بن جراح والجفاتم صبيحة ذلك اليوم خبر دخول الإمام صنعاء فأقبلوا من السر يركضون وانضم إليهم آل طريف ، وآخرون من أصحاب أبي العتاهية ، وأميرهم ابراهيم بن خلف واجمع رأيهم على الوقيعة بالإمام وأصحابه وجعلوا موعد تنفيذ هذه الفكرة وقت صلاة الجمعة ، ولما خرج الإمام للصلاة بادروا بنهب أثقاله ، وبعض أصحابه ، فبلغه ذلك ، وهو على المنبر فأتم خطبته ، وصلّى بالناس ، ثم خرج في أصحابه حتى بلغ منزله ، وكان أبو العتاهية ، قد خرج إلى ابن عمّه ، ومن معه من رواد الفتنة ، وهم بالجبانة ، وعساكرهم على الدرب يحثّهم على السّكينة ، والهدوء ، والرجوع عما اعتزموه من المخامرة على الإمام ، وشقّ عصا المسلمين فسبّوه وشتموه ورموه بالنبل والحجارة ، وانضم إليهم من أهل صنعاء زهاء عشرة آلاف رجل من صغار الأحلام الهمج ، فزاد غرورهم ، وداخلهم العجب :

__________________

(١) الجفاتم هم جنود عامل بغداد الحسين بن أحمد جفتم (ص).

(٢) السر : واد مشهور بالشمال الشرقي من صنعاء بمسافة ٣٣ ك. م.

٩٣

ولو علموا عقبى الأمور لقابلوا

أوائلها بالحزم واطّرحوا العجبا

ولكنه المقدور يلوي بذي الحجى

فيسلبه ان حم آراؤه سلبا

وبدأ القتال بينهم وبين الطّبريين أصحاب الإمام ، فانهزم الطبريّون ، وخرج الإمام في أصحابه ، وحمل عليهم حملة ، فانهزموا وقتل خيارهم ، وتبعهم إلى الجبانة (١) ، فسأله أبو العتاهية الرجوع فرجع ، ثم ان الجفاتم ، أرسلوا إلى أبي العتاهية يسألونه طلب الأمان لهم من الإمام ، فأمنهم الإمام ، ورجعوا إلى دورهم ، وفي اليوم الثاني أمر مناديا ينادي بالعطاء للعسكر ، فركب بعض الجند إليه ، وتخلف آخرون ، وبلغ الإمام عنهم كلام قبيح واجمعوا على حربه ، فلما كان من الغد ، وجّه الإمام إلى كبارهم وأهل البأس منهم والعناد ، قال السيد العباسي (٢) : (فلما أتوه وصاروا في داره أمر بهم في الحبوس والحديد ، وأخذ سلاحهم ودوابهم وفرّقها على الطبرّيين ، وهدأ البلد ، وانقطعت الفتنة ولبس الناس العافية : ولما استقرت الأحوال بالإمام سلّم أبو العتاهية جميع ما في يده من الأموال والدّواب والخيل والأسلحة وهجر الولاية وتزهّد).

من أخمل النفس أحياها وروّحها

ولم يبت طاويا منها على كدر

ان الرياح إذا اشتدت عواصفها

فليس ترمي سوى العالي من الشجر

ولعل القارىء يستغرب ما هنا ولا يقتنع بالبرهان الشعري على مدح الخمول وتحسينه ، ويستبعد أن يكون الحافز لأبي العتاهية الى التنازل عن الملك ومأثرة الضنك والبؤس ، حب الخمول ، وتغلب النزعة الصوفية على روحه ، ولا سيما إذا عرف انه لم يلبس المسوح ، ويطيل السّبحة ويأخذ زاوية المسجد ، ينتظر الموت فحسب ، بل نزل عن منصّة الإمارة إلى ميدان الكفاح ، فخاض المعامع ، وقارع الأبطال وزجّ بنفسه في غمرات الموت

__________________

(١) يعني جبانة صنعاء

(٢) سيرة الهادي ص ٢١٠.

٩٤

طائعا مختارا ومات موت الجندي في ساحة القتال ، قصفا بالسيوف وطعنا بالرماح :

ويلوح لنا أن زمن أبي العتاهية كان ملآنا بالاضطراب ، فيّاضا بالفتن لخلو البلاد عن السلطة الوازعة ، لضعف خلافة بغداد وسوء طالعها على هذه البلاد ، وضيق دائرة نفوذها في ربوع جنوب الجزيرة فنتج من ذلك طبعا ، اختلال النظام ، واضطراب الحبل وانتشار الأمور ، واشتباه المخارج والموالج (١) ، ورفع كل مواثب عقيرته بما يريد ، بحيث أصبح كل طامع ، أو متغلب يناهض الآخر ، ويصاوله ، ويحاول بكل قواه القضاء عليه ، وسلبه كالوحوش الضارية ، والذئاب العاوية والأمة بين الغالب والمغلوب كالحبّة تحت الرحا والخيط بين شقي المقراض

والناس في فتنة عمياء قد تركت

أشرافهم بين مقتول ومحروب

وكان خليفة بغداد يقنع من المتغلب على القطر بالخطبة وضرب السكة ومن أولئك آل يعر (٢) وبني زياد ، وهؤلاء وأولئك وجد فيهم الصالح والطالح ، ومن خانه البخت ، ومن ساعده الحظ ، والبلاء كالمرصد المهيأ لتدوين حركات الزّلازل غرض النابل وفريسة الصائل.

ومن ملك البلاد بغير حرب

يهون عليه تسليم البلاد

فهي دائما ترتقب راجفة ، خسف وزلزال محنة لا تهدأ إلّا لتثور ، ولا تسكن إلا لتثب ، فلم ترق هذه الحياة المضطربة أبا العتاهية ورأى أنه لا ندحة له عن الإنغماس في ذلك التيّار المخيف : إلّا بالقضاء على كل مشاغب ، وتقويم عناد كل معاند (وهم كثر) (٣) والفوضاء ضاربة أطنابها في

__________________

(١) كذا كتبها المؤلف رحمه الله ولعلها (الموائج).

(٢) كذا في الأصل ولعله سبف قلم من المؤلف رحمه الله ويعني آل يعفر.

(٣) جز من بيت ابي فراس الحمداني (أراك عصي الدمع).

٩٥

جميع الأنحاء اليمنية ، كما أشار إلى ذلك كثير من مؤرخي اليمن ، وأسلفنا الإشارة إليه أيضا.

فلما عرف حراجة الموقف وكثرة المثّبطات ومفتّرات السعي اختصر لنفسه طريق العمل بالا (١) إلى رجل عظيم فيه الأمل المنشود :

فيه ما تشتهي العزائم ان هسّم

ذويها ويشتهي الأذكياء

فلمن حاول النعيم نعيم

ولمن آثر الشقاء شقاء

وكانت الآمال مشرئبة والنفوس متطلعة ، والأعناق متطاولة من أبي العتاهية ، ومن غيره إلى الإمام الهادي إلى الحق يحي بن الحسين بن القاسم عليه السلام ، فكانوا يراسلونه ، ويفدون إليه كما فعل الدّعام ، وأهل نجران ، وغيرهم ، بيد أن أطماع الكثير منهم كانت تحدوهم إلى الإنحراف عن جادّة السلوك وتنبو بهم إلى هوة الحضيض ، وتقطع أعناق الرّجال المطامع ، فبادر أبو العتاهية ، إلى التخلي من متاعب الزعامة ، وانصاع الى التقشف والعزلة ، وآثر حياة الفرد وعيش الجندية على الملك والرفاهية ولسان الحال منه عند ذلك تنشد :

إذا ما لم تكن ملكا مطاعا

فكن عبد المالك مطيعا

وان لم تملك الدنيا جميعا

كما تهوى فاتركها جميعا

هما سببان من ملك وترك

ينيلان الفتى الشرف الرفيعا

فمن يقنع من الدنيا بشيء

سوى هذين عاش بها وضيعا

وأقام الإمام بصنعاء وضرب السكة باسمه ، ودعا النّاس إلى البيعة له قال الشرفي في اللآلى ، نقلا عن المنصور بالله عليه (٢) السلام : أنه لما

__________________

(١) كذا وكتبها ولعله كتبها بالالتجا فمسح الأحرف الأخيرة ، من الكلمة لأن الالتجاء لا يكون إلّا إلى الله وقد ظهر أثر الكشط واضحا.

(٢) المتوفى سنة ٦١٤ سيأتي.

٩٦

فتح صنعاء وأهلها جبرية (١) ، وكان فيها سبعة آلاف فقيه ، وكانوا يصلّون خلف الهادي عليه السلام ، فاختاروا منهم سبعمائة فقيه ، ثم سبعين عالما ، وشيخهم جميعا القاضي يحيى بن عبد الله بن كليب جدّ بني النقوى ، وتقدّموا إلى بين يدي الهادي لمناظرته ، فتقدم يحيي النقوى ، وقال : ما تقول يا سيدنا في المعاصي ، فقال عليه السلام : ومن العاصي ، فسكت يحيي النقوى ، ولم يجبه بشيء ، وقام وقام معه أصحابه إلى مؤخّر المسجد فوبّخه أصحابه ، وقالوا فضحتنا عند هذا الشريف ، فقال : يا قوم ان قلت ان الخالق العاصي كفرت ، وان قلت المخلوق العاصي ، خرجت عن مذهبي إلى مذهبه ، فقاموا بأجمعهم فبايعوا الهادي عليه السلام وصاروا على مذهبه :

وبعد أن أصلح شؤون صنعاء وبعث العمال على المخاليف انتقل إلى شبام كوكبان ، وبث عماله على البلاد ، ووعظ النّاس ، وذكرهم ورفع عنهم المظالم ، ونظم جميع الشؤون وعاد إلى صنعاء ، واستخلف ابنه أبا القاسم محمد المرتضى على شبام ، وجهاتها ، ولم يلبث بصنعاء إلّا يسيرا ، وسار فيها إلى ذمار ويحصب (٢) ورعين (٣) وجيشان (٤) ينتقد أمور رعيته هنالك ، وكان خروجه من صنعاء آخر شهر صفر من السنة المذكورة ، وخرج معه ابو العتاهية ، واستخلف على صنعاء أخاه عبد الله بن الحسين ، ولم يلبث أن عاد إليها ، ثم خرج إلى شبام مرة أخرى ، واستخلف على صنعاء ابن عمه سليمان بن علي ، وكان الإمام قد ألقى القبض على كثير من آل يعفر وآل طريف ، وسجنهم في صنعاء

__________________

(١) قال في التعريفات ص ١٠١ الجبرية من الجبر وهو إسناد فعل العبد الى الله والجبرية اثنان متوسطة تثبت للعبد كسبا في الفعل كالا شعرية وخالصة لا تثبت كالجهمية.

(٢) يحصب : قبيلة من حمير ومناطقهم ذمار وجهران ومن سمارة إلى ذي الكلاع.

(٣) مخلاف من لواء إب.

(٤) مدينة خربة في عزله الأعشور بالعود شمال قعطبة لمسافة ١٥ ك. م.

٩٧

وشبام ، وقدم (١) ثم وجه ابنه ابا القاسم في جماعة من الجند إلى بلد همدان ، وبقي في عدد قليل ، فطمع آل يعفر ، وآل طريف في البلاد لقلة الجند بها ، وأجمع أمرهم على إثارة القبائل فخرج نفران من آل يعفر من شبام سرّا إلى أهل قدم ، واستثاروا حماستهم ، وطلبوا منهم النجدة ، فلبوهم وبلغ أمرهم صعصعة بن جعفر صاحب ريدة البون فانضم إليهم ووثب على البون ، وفرق أموال الصّدقة ، وخيلا كانت للإمام هنالك ، وزحف الثّوار إلى بيت ذخار ، لمناجزة الإمام فطلب الإمام من عامله بصنعاء إرسال كل حامل سلاح من أهل صنعاء ، فخرج منهم بشر كثير ، ولما وصلوا إلى شبام ، طلع الإمام ، ومعه ابو العتاهية ، ومن معه من الجنود لطرد الثّوار من جبل ذخار (٢) ، وخلف على شبام محمد بن عباد ، وأهل صنعاء ولما علم الثوار بخروج الإمام عن شبام ، باغتوها ، فدخلوها وأخرجوا من بالسجن من الجفاتم وغيرهم ، وما كادت تقع أعين الجند الصنعاني على الثائرين ، حتى فروا وانهزموا لا يلوون على شيء ، فقتل محمد بن عباد ، وطارت الأنباء إلى الإمام ، فأرسل أبا العتاهية ، ومحمد بن الدّعام ، لطرد الثّوار ، واسترداد شبام ، فانقضوا عليهم إنقضاض البواشق من جبل ذخار ، وطردوهم عن شبام وفرقوهم شذر مذر ، وبات الامام ليلته بالجبل المذكور ، وهرع صبيحة اليوم الثاني إلى شبام ، وحضر دفن ابن عباد وجنازته.

إنتقاض أهل صنعاء وضهر على الإمام وتداعي سائر البلاد

لما انهزم أهل صنعاء وغيرهم من شبام ، فروا نحو صنعاء وضهر (٣)

__________________

(١) قدم : بلاد جنوبي حجة وهم بطن من همدان.

(٢) ذخار : جبل مشهور يعرف اليوم بضلاع كوكبان.

(٣) هكذا في السيرة ولعل المراد به وادي ضهر المعروف (ص).

٩٨

والبون ، ولقيهم في الطريق عدد كان أرسله عبيد الله بن محمد الحسيني ، عامل الإمام على ضهر لمن بشبام ، فقال بعضهم لبعض : قد قتل ابن عباد وخالفت العساكر والأولى أن نعود على من يظهر من جند الإمام لتكون لنا يد عن آل يعفر :

وكانوا كذئب السوء لما رأى دما

بصاحبه يوما احال على الدم

ورجعوا على اعقابهم القهقرى ، ووثبوا على حبس ضهر فكسروه وأخرجوا أبا الغشام بن طريف ، ومن معه من آل يعفر وخرج عامل الإمام لا يلوي على شيء (من نجا برأسه فقد ربح) وقصد صنعاء فما تلعثم أهل صنعاء ان (جاؤوا بمطفية الرّضف) (١) وصنعوا صنيع أهل ضهر واعلنوا الخلاف لأيام بقيت من جمادي الآخرة بقيادة رجل منهم يقال له احمد بن محفوظ فكسروا السجن ووثبوا على عامل الإمام علي بن سليمان مفاقصة ، فانفلت من بينهم في ستة فوارس من بني عمه ومن الطبريين ، وكان في سجن صنعاء جماعة من آل طريف والجفاتم ، وتداعت سائر البلاد فكأنما كانوا على ميعاد ، واخرجوا عمال الإمام من بين أظهرهم ودب دبيب الشر والفساد في عراصهم :

ومن يتعود عادة ينجذب لها

على الرغم منه والعوائد أملك

وكان الإمام يومئذ في شبام ، فلما وافته الأنباء ، وعرف الحقيقة وجاهره الناس بالخلاف بعد أن ساعفته الأيام وانقادت له الأمور ، جمع حرمه وأثقاله وقبل أن يغادر البلاد ، اطلق من كان بسجن شبام من آل يعفر وآل طريف ، وقد سيق ان الثّوار أخرجوا من كان في السجن ، ولعل هؤلاء غير من أخرج الثوار قال السيد العباسي (٢) : (أطلق الهادي عليه السلام أسعد بن ابي يعفر وابراهيم بن خلف من حبس شبام وأعلمهم بما كان من سوء نيتهم إليه ، وقال

__________________

(١) اب بداعية اشد من الأولى وهو قتل عربي (ص).

(٢) سيرة الهادي ص ٢٢٢.

٩٩

قد وهبت لكم أموركم فاتقوا الله في سركم وعلانيتكم).

وكأنه أراد أن يعلّمهم درسا بليغا في التسامح والعفو والإغضاء فأتى بأعجب ما عرف في تاريخ الفاتحين ، وأجل ما سطر في باب العدل والتسامح والعفو عند المقدرة ، وكظم الغيظ ، وعدم اللّجاج في الإنتقام ، وقديما قيل «من انتقم فقد شفى غيظ نفسه وأخذ أقصى حقه ، ومن أخذ حقه وشفى غيظه لم يجب شكره ، ولم يذكر في العالمين فضله» ، ولم نر أهل النّهي والمنسوبين إلى الحجى والتّقى مدحوا الحكام بشدّة العقاب ، وقد ذكروهم بحسن الصّفح وبكثرة الاغتفار وشدة التغافل :

أخذ التاريخ مما تركوا

عملا أحسن أو قولا أصابا

ومن الإحسان أو من هذه

نجح الراغب في الذكر وخابا

ثم فيه أكبر برهان على حبّ الإمام للوئام والسلام مع قوة نفس ، وشدّة بأس وشجاعة ، وكرم أخلاق نادرة المثال تحلّت بها شخصيته الفذة حيث عامل أعداءه ، بهذه المعاملة ، في أشد الأوقات حرجا وضيقا ، ولو كانوا مع غيره لما كان حظهم منه غير السّيف ، وقد أشار بذلك محمد بن الدعام ، وأبو العتاهية كما نقله صاحب السيرة ، فلم يقبل الإمام ذلك منهم :

يفر جبان القوم عن أم رأسه

ويحمي شجاع القوم من لا يناسبه

ويرزق معروف الجواد عدوه

ويحرم معروف البخيل أقاربه

وهكذا كان السلف الصالح رضوان الله عليهم ، وقّافون عند الشّبهات ، ولو لا صرامته في الحق ورغبته الشديدة في اتباع أثر السّلف لكان له مندوحة في معاقبتهم والتّشديد عليهم.

ثم إن أهل شبام تجمعوا ، وهمّوا بالإمام قبل أن يقوم من مقامه ، ولما عرف ذلك منهم ، رجع عليهم ومعه ابو العتاهية ، فكانت معركة قتل فيها جماعة منهم ، وقتل الإمام أكثرهم ، وانقطع من الجمال ، التي كان عليها

١٠٠