تاريخ اليمن الإسلامي

أحمد بن أحمد بن محمّد المطاع

تاريخ اليمن الإسلامي

المؤلف:

أحمد بن أحمد بن محمّد المطاع


المحقق: عبد الله محمّد الحبشي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: شركة دار التنوير للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٨

وعاد إلى بلاده بجبل الرس ، ولكن اضطراب أحوال اليمن اضطر كثير من رجالها المفكرين وزعمائها النابهين إلى استدعائه واستقدامه مرّة أخرى ، وفي مقدمتهم والي صنعاء وحاكمها ابو العتاهية مولى آل يعفر وسيأتي تفصيل ذلك.

وممن امتنع على أبي الجيش وتنكر له من ولاة تهامة الأمير سليمان بن طرف صاحب عثر (١) ومبلغ ارتفاعه في السنة خمسمائة الف دينار عثرية ، وكان مع إمتناعه عن الوصول إلى ابن زياد يخطب له ويضرب السكة باسمه ، ولا يصل إليه ، وبعد امتناع من امتنع بقي لأبي الجيش من البلاد من عدن إلى شرجه حرض (٢) نحوا من عشرين مرحلة طولا ، ومن غلافقة (٣) إلى أعمال صنعاء عرضا نحو خمس مراحل قال عمارة في مفيده (٤) (رأيت مبلغ ارتفاع أعمال ابن زياد بعد تقاصرها وذلك سنة ٣٦٦ ألف ألف دينار عثرية خارجا عن ضرائبه على مراكب الهند من الأعواد المختلفة والمسك والكافور والنيل ، وما أشبه ذلك ، وخارجا عن ضرائبه على جزيرة دهلك (٥) وهي خمسمائة وصيف وخمسمائة وصيفة من النوبة والحبش. وخارجا عن ضرائب العنبر ، في السواحل من باب المندب إلى الشحر وخارجا عن ضرائبه على معادن اللؤلؤ) انتهى.

وفي أيام أبي الجيش ظهر الطاغية علي بن الفضل القرمطي ، وقيل انه هو الذي قتل الأمير المذكور (٦) وقيل بل هرب منه ومات سنة ٣٩١ وقيل انه

__________________

(١) عثر : مدينة تهامية خربة على شط البحر الأحمر.

(٢) بلدة خربة كانت خرضة مدينة حرض.

(٣) قرية على ساحل البحر الأحمر من بلاد الزرانيف واعمال بيت الفقيه.

(٤) المفيد ص ٣٩.

(٥) موقع جزيرة دهلك غربي مدينة حلى وبينها وبين بر اليمن نحو ثلاثين ميلا وملكها من الحبش المسلمين وهو يداوي صاحب اليمن قاله صاحب صبح الأعشى (ص).

(٦) راجع سيرة الإمام الهادي والخزرجي وانباء الزمن.

٦١

مات سنة ٣٧١ وليس بشيء لما سيأتي عند ذكر موت الحسين بن سلامة.

وبموت أبي الجيش طوى التاريخ صفحة آل زياد وتلونت صفحاته وتشعبت مناحيه ، وانتقل الملك إلى عبيد آل زياد (١) ثم إلى عبيد العبيد وقد دفنت القرون أخبار هذه الإمارة ، ولم يصل إلينا من أخبارهم إلّا نتفا يسيرة ، وذلك ما سطرناه ، ولعل القارىء يستنتج من أخبار الخراج وجمل الضرائب بعض ما يريد عن الحركة العمرانية وسير التجارة وسعة النفوذ ، ولكن بصورة إجمالية ، وبقدر ما فات المؤرخ من استيعاب المادة اللازمة يضعف الاستنتاج ويتعذر الحكم ، والذي يلوح لنا انه كان لكل جهة من جهات القطر دار ضرب للنقود وشبه استقلال للولاة كما ان سير الحوادث وأسلوبها ، تؤيد نظرية القائلين باستقلال آل زياد لولا ما سيأتي ، وكيف كان فإن أخبار هذه الحكومة أو الإمارة غامضة جدّا ، وعسى أن نجد في غير ما قد عثرنا عليه من المصادر ما يعين على البحث ، ويلقي النور على ما تكاثفت عليه ظلمات القرون والله أعلم.

ايام ابن أبي الجيش : هند بنت أبي الجيش : مولاهم رشيد الزمام مملوك رشيد الحسين بن سلامة

خلف أبو الجيش صبيّا اسمه عبد الله ، وقيل زياد ، وقيل ابراهيم فقام بكفالة الصبي المذكور هند بنت ابي الجيش (٢) ومملوك لأبي الجيش حبشي إسمه رشيد الزمام ، ولكنها لم تطل أيام رشيد المذكور ، وهلك من قريب ، وكان له عبد نوبي إسمه الحسين بن سلامة نسبة إلى أمه ، وكان حازما عفيفا مقداما حسن السيرة كبير النفس عالي الهمة قد علت منزلته وامتثلت أوامره ،

__________________

(١) قال في بغية المستفيد وخرج أيضا من ولاية ابي الجيش لحج وابين وما عداها من البلاد الشرقية (ص).

(٢) قال الديبع : هند أخت ابي الجيش عمة الطفل لا أخته وكذلك صاحب أنباء الزمن والأولى رواية الخزرجي (ص).

٦٢

واشفقت النفوس من هبيته في حياة سيده (١) ، لما عرف من نجابته وصرامته ، وسداد طريقته ، فكان هو المتولي لجميع شؤون سيده فلما مات سدّ مسده ، وذب عن ملك مواليه ووازى الصبي ، واخته ، وملك آل زياد يومئذ متضعضع الأركان ضعيف السلطان تنتاشه سباع الأطماع ، وتمزقه أيدي المتغلبين في جميع البقاع فقام الحسين بن سلامة ، وابدى من المهارة في علاج الدولة ، ما يعجز عنه كبار الرجال ، رغما على سواد لونه ويد النخاس التي عركت اذنه :

قد يدرك الشرف الفتى ولباسه

خلىّ وجيب قميصه مرقوع

غزا المتغلبين من ولاة الأطراف ، ونازل أرباب الحصون ، حتى أتوه طائعين ، وحملوا إليه الأتاوة مذعنين ، وأعاد دولة آل زياد سيرتها الأولى ، قال الخزرجي : ولم تبق دولة في اليمن ولا حصن إلّا استولى عليه واستناب فيه من يرضاه (٢).

وفي كلام الخزرجي تجوّز ، أو مجازفة على الأصح ، والأرجح ما ذكره الديبع في كتابه بغية المستفيد في أخبار مدينة زبيد عند ذكر الحسين بن سلامة قال : (وكانت دولتهم قد تضعضعت أطرافها وغلب ملوك الجبال على الحصون والمخاليف فحاربهم الحسين حتى رجع إليه غالب مملكة ابن زياد الأولى» (٣).

ولم يزل الحسين بن سلامة في الملك بالنيابة عن الطفل إلى أن توفى سنة ٤٠٢ وقيل ثلاث واربعمائة.

وكان رحمه الله عادلا كريما ، حسن السيرة طيب السريرة ، كثير

__________________

(١) راجع أنباء الزمن وقرة العيون واللآلىء المضيئة (ص).

(٢) العسجد المسبوك ص ٩٩.

(٣) بغية المستفيد ص ٤٠ ط المحقق.

٦٣

المبرّات كلفا بالعمران ، أختط مدينة الكدرا في وادي مهام ، ومدينة المعقر ، على وادي ذؤال ، وعمر الجوامع الكبار ، والمنائر الطوال في المدن ، وحفر الآبار والقلب العادية ، وعمل المصانع وبنى الأميال والفراسخ والبرد في الطرقات ، من حضرموت إلى مكة نحو ستين مرحلة في كل مرحلة جامع (١) ومأذن وبئر ، وجدّد عمارة جامع عدن وعمر مسجد الجند المشهور ، وقال الخزرجي نقلا عن عمارة ما لفظه : وللحسين بن سلامة في طريق مكة العليا عدّة مآثر ، فيها جامع الجوه ثم مسجد الجند المذكور ، ثم ذي اشرق ، ثم إب ، ثم النقيل ، ثم ذمار ، ثم ما بين ذمار وصنعاء مسافة خمسة أيام (٢) ، في كل مرحلة منها بناء ، ثم جامع صنعاء وهو جامع عظيم ، ثم من صنعاء إلى صعدة عشرة أيام ، في كل مرحلة من ذلك جامع (٣) ، ثم عقبة الطائف وهي مسيرة يوم للطالع من مكة ونصف يوم للهابط إلى مكة عمرها حسين بن سلامة عمارة متقنة يمشي في عرضها ثلاثة أجمال بأحمالها ، ثم أورد مآثره على طريقي تهامة الساحلية والوسطا ، وسور مدينة زبيد ، وهو أول من سوّرها ، وقد أطال المؤرخون فيه ، حتى قال الخزرجي : وأخبار الحسين بن سلامة في اليمن تستغرق مجلدا بل مجلدات : وكان ملكه نحوا من ثلاثين سنة

__________________

(١) هكذا روى الخزرجي وغيره ، ولم نجد ما يفيد ان نفوذ الحسين بن سلامة امتد هذه المسافة (ص).

(٢) المسافة ما بين ذمار وصنعاء ثلاثة ايام (ص).

(٣) فيما ذكره عمارة مجازفة ظاهرة فإن البلاد في عصر الحسين بن سلامة كانت في أعاصير هو جاء وزوابع غير مريحة وعلى الخصوص بلاد الزيدية ، ولم يكن له نفود ظاهر عليها ، وهذه المباني تتطلب الهدوء طبعا ، أضف إلى ذلك إنا لم نجد في كتب التاريخ التي بأيدينا ما يدل على حدوث ما ذكره عمارة فيما بين صنعاء وصعدة ، وبين زبيد وصنعاء ومن البعيد ان تزول آثار هذه المباني وتندرس من عرض البلاد وطولها ، ولا يذكرها احد بحرف اولا يعلمها إلّا عمارة ، وعنه نقل أكثر المؤرخين ، ولكن على اسلوبهم المعهود من مجانبة النقد والتمحيص. وتحكيم العقل ، واذا عرفت ان عمارة ارّخ لليمن فيما علق بفكرة والفكر يخون وهو بمصر زال الاشكال (ص).

٦٤

ولا شك أنه من العظماء الذين أثبتوا نبوغهم وتفوقهم بالواقع الملموس ، فإنه فتح المعاقل وارشد الضلال ، وأدى الأمانة لمواليه ، ووفاء بالعهد ، ونهض بمشروع الزعامة فظفر بغنيمة المسجد والثناء الصالح.

وآثار الرجال إذا تناهت

الى التاريخ خير الحاكمينا

واستأثر بغاية وأسما من كل غاية ، فكان يعمل الخير للخير ويتعب نفسه ليسعد المجموع ، وكان عصاميا ، ولو لم يكن كذلك ، لما قدر على إعادة ناموس الدولة الزيادية ، بعد ذهابها ولما استطاع أن يقف في وجوه كثير من المنازعين والمواثبين لتلك الدّولة التي شاخت وذوى غصن مجدها ، وانهار بنيان عظمتها ولم يبق لها من النفوذ والسطوة ما تحمي به حماها.

آخر طفل من بني زياد مرجان العبد واحداثه

قال الخزرجي (١) : ولما مات الحسين بن سلامة انتقل الملك إلى طفل آخر منهم قال عمارة أظن اسمه عبد الله فكفلته عمة له وعبد حبشي اسمه مرجان ، وهو من عبيد الحسين بن سلامة فاستقرت الوزارة لمرجان ، وكان لمرجان عبدان حبشيان ربّاهما صغارا ، وولاهما كبارا ، وهما نفيس ونجاح ، وكان نجاح يتولى أعمال الكدرا (٢) والمهجم (٣) وبيش وهذه الأعمال الأربعة جل الأعمال الشامية غير زبيد ، وكان نفيس يتولى تدبير الحضرة ، فوقع التنافس بين نفيس ونجاح عند مرجان على تدبير الحضرة وكان نفيس ظلوما غشوما فكانت القلوب تنفر عنه طبعا وتميل إلى نجاح لرفقه ورأفته وعدله غير أن مرجان مولا هما كان يميل إلى نفيس ويحبه ، وكان ابن زياد وعمته يفضلان نجاحا على نفيس ، فلما علم نفيس بميل ابن زياد وعمته إلى نجاح

__________________

(٢) الكدري : مدينة خاربة بني المراوعة والمنصورية واخرى في وادي سردد.

(١) العسجد المسبوك ص ١٠٣.

(٣) المهجم : بلدة خاربة في وادي سردد من أعمال الزيدية.

٦٥

ومكاتبتهما له شكاهما إلى سيده مرجان ، فقبض مرجان عليهما وسلمهما إلى نفيس فأخذهما وعمر عليهما جدارا وهما قائمان يناشدانه الله عز وجل حتى ختمه عليهما ، فكان آخر العهد بهما وذلك سنة ٤٠٧ سبع وأربعمائة (١) ، وهكذا ختمت الحكومة الزيادية بمأساة مريعة بعد أن حكمت زيادة عن قرنين فسبحان من يغيّر ولا يتغير :

وكان حصن وإن طالت اقامته

على دعائمه لا بد مهدوم

وكان نجاح يوم هذه المأساة غائبا بالأعمال الشامية ، وكان هذا الولد وعمته آخر من ولي من آل زياد ومدّة ولايتهم مئتا سنة وثلاث سنين من تأريخ اختطاط مدينة زبيد سنة ٢٠٤ ، وكان بنو زياد لما علموا باختلال الدولة العباسية من قتل المتوكل ، وخلع المسنعين تغلّبوا على ارتفاع اليمن ، وركبوا بالمظلة وساسوا قلوب الرعية بإبقاء الخطبة لبني العباس ، ولم يزالوا على ذلك إلى التاريخ المذكور والله أعلم.

قال الجندي : وذكر المعلق أن الحسين بن سلامة توفى سنة ٣٠٤ بزيادة سنة على ما ذكره عمارة.

(واعلم أن هذه الأخبار يدخلها الصّدق والكذب والزيادة والنقصان (٢)) وسبب ذلك اختلاف النقل ، ثم اختلاف كتب التاريخ ، قد يكون المصنف واحدا والتصيف واحدا ، ويختلف ما يوجد باحدى النسخ عن الأخرى ، ويعرف

__________________

(١) راجع الخزرجي والجندي وقرة العيون

(٢) بهذا الاعتبار وهذه الفكرة دون القدماء كتب التاريخ للتسلية وقتل الوقت ، وقد شبهوا المؤرخ بحاطب ليل ، فجاءت غالب مدوناتهم في هذا الفن كثيرة الأغلاط ، ركيكة الأساليب طافحة بالمبالغات مملوءة بالمزاعم والخرافات لا تسقط منها على حقيقة ، إلّا بعد إدماء الجفون وتقريح المحاجر وتقليب مئات الصفحات وعشرات المجلدات وقد تخرج بعد العناء الشديد مضطرب الفكر حيرانا وهنا يشكو الجندي تضارب اخبار المصادر واختلاف الرّوايات التاريخية ، ولكنه يعد ذلك من لوازم كتب هذا الفن كما ترى (ص)

٦٦

ذلك العارف ، فربما ينكر المنكر ، ما نقلت عن المفيد وغيره ولا ينسب ذلك لقصوره على الاطلاع إلى كتب التاريخ والنظر في عدة نسخها ، فقد تمحص لك ان ملك بني زياد أستقل عن مواليهم من سنة ٢٠٣ إلى سنة ٣٧١ مائة وثمانية وستون (١) سنة (١٦٨) وبالنيابة عنهم ثمانية وثلاثون سنة ٣٨ لقيام ابن سلامة ، ثم كانوا أعوانا لمواليهم متأدبين معهم ، حتى كان من انيس المذكور سابقا ما قدمنا ذكره قال الديبع في كتابه بغية المستفيد (٢) : وقد ضبط الجندي نفيسا هذا فجعله انيسا بفتح الهمزة وكسر النون وهو وهم فليتنبه له والله أعلم.

انتقام نجاح واستيلاؤه على زبيد

ولما بلغ الخبر إلى نجاح استنفر الأحمر والأسود لحرب نفيس وقتاله ، وقصده إلى زبيد في جموع عظيمة ، والتحم القتال بينهما في عدة وقائع ، منها يوم رمع (٣) ويوم فشال (٤) وهما على نجاح ومنها يوم القعدة (٥) وهو على نفيس ، ومنها يوم العرف (٦) ، وفيه قتل نفيس على باب زبيد بعد أن قتل من الفريقين زهاء خمسة آلاف رجل ، ودخل نجاح زبيد وملكها في ذي القعدة سنة ٤١٢ ، وقبض على مرجان مولاه وقال له ما فعلت مواليك (٧) وموالينا

__________________

(١) هذا يرجح ان موت آخر بني زياد واسحاق بن ابراهيم سنة ٣٧١ وقد ذكرنا ان ظهور الإمام الهادي كان في زمان أبي الجيش سنة ٢٨٤ فتأمل كم سيكون مدة عمره اللهم إلا أن يكون ملك من طفولته مع انه لا نص على ذلك غير قولهم انه لما بلغ في الملك ثمانين سنة ضعف وعجز عن تدبيره كما سبق.

(٢) بغية المستفيد ص ٤٣.

(٣) نسبة الى الوادي المشهور وهو بين وادي زبيد ووادي سهام وهو إلى زبيد أقرب.

(٤) بلدة قديمة كانت برمع شمالي زبيد.

(٥) في العسجد «العقدة».

(٦) في العسجد «العرق».

(٧) كذا في الأصل وفي العسجد ص ١٠٤. «وقال له ما فعلت بمواليك».

٦٧

قال : هما في هذا المكان ، فاخرجهما نجاح ، وجهزهما ، وصلّى عليهما وجعل مرجان وجثة نفيس المقتول موضعهما ، وعمر عليهما ذلك الجدار حتى ختمه جزاء وفاقا :

ونابش الموتى له ساعة

تأخذه انبش من نبشه

وتم لنجاح ملك البلاد من التاريخ المذكور ، وركب بالمظلّة وضرب الدراهم باسمه ، وكاتب خليفة بغداد ، وبذل له الطاعة ونعت بالمؤيد نصير الدين ، وضبط أمر التهائم ، وخوطب بالملك واستمر كذلك ، حتى سمّه علي بن محمد الصليحي ، على يد جارية أهداها إليه كما سيأتي ان شاء الله تعالى وفي أيام نجاح انتقضت معظم البلاد التي كانت خاضعة للحسين بن سلامة ، وتغلب كل رئيس على ما تحت يده.

ذكر عمال بني العباس على اليمن

لما كانت أخبار بني زياد غير مرتبة على السنين اضطررنا إلى سرد اخبارهم على ذلك الأسلوب ، وخالفنا المنهاج الذي رسمناه لأنفسنا في كتابة هذا التاريخ ، وها نحن نعود إلى خطتنا الأولى والله ولي التوفيق.

قال الخزرجي وغيره : ودخلت سنة ٢٠٦ فيها عزل الافريقي (١) عن اليمن بنعيم بن الوضاح الأزدي ، والمظفر بن يحيى الكندي اشتركا في العمل ، وقدما صنعاء في صفر من السنة المذكورة ، وسار المظفر إلى الجند ، وأقام بها مدة يجبي مخاليفها (٢) ثم رجع إلى صنعاء ومات بها بعد أيام من رجوعه وصار الأمر جميعه لنعيم بن الوضاح ، إلى أن عزل بمحمد بن عبد الله بن محرز مولى المأمون ، فقدم اليمن سنة ٢٠٨ وأمر ابنا له يقال له ابو

__________________

(١) هو من بني شهاب واسمه ابراهيم (ص).

(٢) نزول عامل خليفة بغداد لجباية الجند يدل على ان ابن زياد كان عاملا على زبيد وما والاها وهو الذي يقال انه ملك اليمن بأسره وزاد عمارة الحجاز بأسره (ص).

٦٨

الحميد يجبي الجند وكان في ولايته ضعف فخرج نحو الحجاز واستخلف عباد بن عمر الشهابي ، فقام بالأمر حتى قدم عليه عامل الخليفة اسحق بن العباس من ولد عبد الله بن عباس ، وكان قدومه آخر رجب سنة ٢٠٩ فأساء السيرة وعسف الرعية ، وظهرت منه اخلاق منكرة غليظة. ونال من أهل اليمن (١) كل منال ، وتعصب عليهم تعصّبا لم يفعله أحد قبله ، كان لا يسأل أحدا عن نسبه فينسب إلى حمير إلّا قتله ، ولم يترك لهم ذكرا حتى أمر بقلع الخوخ الحميري مما (٢) أسرف به في التحامل عليهم.

وفي أيامه في سنة ٢١٦ (٣) كانت الزلزلة الشّديدة بصنعاء وعدن انهدمت منها المنازل ، وخربت القرى وهلك عالم لا يحصى ، ولم يزل هذا العامل يمرح في طغيانه لا يخاف خليفة بغداد لبعده ولا غيره حتى هلك بهذا العام ، واستخلف عند موته ولده يعقوب فلم تصف له اليمن ، وكان بينه وبين أهل صنعاء خلاف أفضى إلى قتال ، قتل فيه جماعة من أهل صنعاء ، ثم انهزم إلى ذمار ، فعزله المأمون بعبد الله بن علي بن عبد الله بن العباس ، فقدم في المحرم سنة ٢١٧.

ولم يزل بها إلى أن مات المأمون سنة ٢١٨ فلحق بالعراق واستخلف عباد بن (٤) عمر الشهابي ، ولما ولي المعتصم أقر الشّهابي على عمله عدة سنين (٥) ، ثم عزله بعبد الرحيم بن جعفر بن سليمان الهاشمي ، ثم عزله المعتصم بمولاه جعفر بن دينار وذلك سنة ٢٢٥ ، فأرسل جعفر خليفة له يقال منصور بن عبد الرحيم التنوخي ، فقدم اليمن في صفر من السنة

__________________

(١) وليت شعري اين كان ملك اليمن بأسره والحجاز بأسره ليخلص اليمن من فضائح هذا الأحمق الغشوم.

(٢) في العسجد بما.

(٣) في العسجد سنة ٢١٢.

(٤) في العسجد عبادة.

(٥) في الأصل سنين لعله سبق قلم.

٦٩

المذكورة ، فضبط البلاد ووجّه العمال إلى المخاليف ، وقدم عليه عبد الرحمن بن علي بن عيسى (١) بن ماهان ، وقد أشرك معه في العمل ، فأقام مع منصور في اليمن برهة ، ثم عزل جعفر بن دينار بايتاخ التركي ، مولى المعتصم ، فأقر منصور ، وعبد الله على عملهما فلم يزالا إلى أن مات المعتصم سنة ٢٢٧.

أول دولة الحواليين (٢)

لما تولى الخلافة الواثق بن المعتصم ، أقر ايتاخ التركي على اليمن فوجه أبا العلاء العامري ، فلما وصل صعدة أرسل الأمير يعفر (٣) بن عبد الرحيم الحوالي غلامه طريف بن ثابت في عسكر نحو صنعاء فخرج إليهم منصور بن عبد الرحيم في أهل صنعاء فهزمهم وقتل من موالي آل يعفر بن عبد الرحيم نحوا من ألف رجل وأسروا آخرين ، فضرب أعناقهم ، وقدم أبو العلاء صنعاء بعد الوقعة فأقام بها حتى مات واستخلف أخاه عمر بن العلاء ، فأقام بها مدة ثم ان ايتاخ استعمل على اليمن هرثمة ، مولى المعتصم ، فوصل في آخر المحرم سنة ٢٣٠ ثلاثين وماءتين ، ومكث أياما ثم خرج لمحاربة الأمير يعفر بن عبد الرحيم ، وهو بشبام ، فحاربه أياما ، وعاد إلى صنعاء ثم إن الواثق عزل ايتاخ عن اليمن واستعمل عليها جعفر بن دينار ، فسار إلى اليمن وحاصر يعفر بن عبد الرحيم مدة بشبام ، ثم كان الصلح بينهما ، وعاد العامل إلى صنعاء فلبث فيها إلى أن توفى الواثق آخر ذي الحجة سنة ٢٣٠ (٤).

__________________

(١) في العسجد عبد الله بن محمد بن علي بن عيسى بن ماهان والمثبت هنا في غاية الاماني ص ١٥٤.

(٢) الخزرجي.

(٣) هذا أول من ظهر من بني الحوالي مناهضا للسلطة العباسية وتدل هذه الحادثة على تمكن وقوة لا بأس بها فقد بلغت القتلى من أصحابه نحو الألف فكتب الموفق فكم يكون مقدار الجيش (ص).

(٤) انظر هذا الكلام بنصّه في العسجد ص ٣١ ـ ٣٢.

٧٠

وفي أنباء الزّمن (١) ان الذي حارب يعفر بن عبد الرحيم هو هرثمة وانه بقي إلى أن مات الواثق سنة ٢٣٠ ، وقام بعده المتوكل فاستعمل على اليمن جعفر بن دينار ، فأقام فيها أياما واستخلف ولده محمد ، وخرج إلى العراق ، فلم يزل ولده محمد على اليمن حتى قتل المتوكل واستمر على اليمن مدة المنتصر والمستعين والمهتدي إلى أيام المعتمد ، فكتب الموفق وكان هو المتولي شؤون الخلافة إلى الأمير محمد بن يعفر الحوالي بولاية اليمن فوجّه عماله على المخاليف ، وفتح حضرموت ، وكانت قد تمنعت من قبل ، قال الخزرجي : هذه رواية الشريف ادريس (٢) في كتابه «كنز الأخبار» ، وقال الجندي : لما مات الواثق وقام بالأمر بعده المتوكل أقر جعفر بن دينار على اليمن مدة ، ثم عزله واستعمل حمير بن الحرث فلم يتم له الأمر مع الأمير يعفر بن عبد الرحيم وعاد حمير إلى العراق هاربا ، واستولى يعفر بن عبد الرحيم على صنعاء ومخاليفها ، وقتل المتوكل عقيب ذلك إلى أن قال ولما ولي الخلافة المعتمد على الله واستوثقت له البلاد ، وامتدت أيامه ، أخذ البيعة له في اليمن الأمير محمد بن يعفر بن عبد الرحيم الحوالي ، وتابع له الخطبة ، فلما وصل خبره إلى المعتمد كتب إليه بنيابته على صنعاء ومخاليفها ، فغلب على صنعاء والجند وحضرموت وكان مع ذلك يوالي ابن زياد ويحمل إليه الخراج ، ويظهر أنه نائب عنه لعجزه عن مقاومته ، وكان وصول كتاب المعتمد سنة ٢٥٧ سبع وخمسين ومائتين ، فأقام على عمله إلى سنة ٢٦٢ ، وعزم للحج واستخلف ابنه ابراهيم بن محمد.

وفي أيامه حصل في صنعاء سيل عظيم وهو السيل الثاني في الإسلام وأخرب دورا كثيرة.

قال الجندي (٣) : وفي سنة ٢٦٥ بنى الأمير محمد بن يعفر جامع صنعاء

__________________

(١) غاية الأماني ص ١٥٤.

(٢) من كبار المؤرخين توفى سنة ٦١٤ وسيأتي ذكره في الكتاب.

(٣) النقل هنا بواسطة الخزرجي في العسجد ص ٣٣.

٧١

على الحال الذي هو عليه الآن (١) (في القرن السابع) ، ولم يزل ابراهيم بن محمد بن يعفر على ولايته الى سنة ٢٧٠ ، ثم أمره جدّه يعفر بن عبد الرحيم بقتل محمد بن يعفر واحمد بن يعفر فقتلا بعد المغرب ، في صومعة شبام فانتشرت على يعفر بن عبد الرحيم الأمور ، وخالف عليه الفضل بن نفيس المرادي بالجوف وولد طريف غلامه بيحصب ورعين والمكر مال ببيحان ، ومالوا إلى جعفر بن احمد المناخي ، فجهز لمحاربتهم ابراهيم بن محمد بن يعفر ، فكانت الحرب بينهم سجالا واستعمل بن يعفر على الجوفين الدّعام بن ابراهيم ، فتغير له الدعام ، ونصب له الحرب فسار إليه عسكر ابراهيم بن محمد بن يعفر والتقوا بورود فهزمهم الدعام وقتل منهم كثيرا ، وفي كفران الدعام لما أولاه هذا الأمير الحوالي يقول الشاعر :

__________________

(١) هذا يؤيد ما ذهبنا إليه من ان الحسين بن سلامة لم يكن هو الباني لجامع صنعاء او لم يكن من بناته ، فان عصر الجندي قريب بالنسبة الى عصر ابن سلامة ، وايضا فان الجندي روى تلك العبارة. ومع قوله على الصفة التي هو عليها الآن عن القاضي السّري بن ابراهيم ، وهذا القاضي هو قاضي الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة ولّاه القضاء بصنعاء ومن البعيد أن يجهل من عمر جامع صنعاء وهو مؤرّخ أيضا فيقول انه بناه ابن يعفر على الصفة التي هو عليها الآن (أي في ايامه) ويهمل ذكر الحسين بن سلامة ، وأغرب من هذا ما ذكره صاحب أنباء الزمن مؤرخ اليمن في القرن الحادي عشر من ان الجناح الشرقي من جامع صنعاء الكبير عمارة السيدة بنت احمد الصليحية الموجودة أول القرن السادس وقد شاعت رواية صاحب أنباء الزمن لشهرة تاريخه في اليمن ، وأصبحت تلك القضية مسلمة ، وقد انفرد بهذه الرواية ، ورواية الجندي عن القاضي السري تخالف ذلك والجناح الشرقي يعدّ من عجائب الآثار الاسلامية وابدعها ، لكثرة ما على اخشاب سقفه من الحفر والنقش ، والأصباغ الملونة ، وقد رسمت بالحفر بعض سور القرآن الكبار ، على اطراف جدرانه فيما يلي السقف بالخط الكوفي ، وهو يقوى ما ذهبنا إليه من ان عمارته في ايام محمد بن يعفر ، وان كان لا يصح الاستدلال به وقد ذكرنا في خبر اسلام أهل اليمن انه عمر بأمر النبي صلى الله عليه وعلى آله في بستان باذان ثم توسيعه أيام الوليد بن عبد الملك الأموي على يد عالمه باليمن أيوب بن يحيى الثقفي ، ثم تبويبه على يد عمر بن عبد المجيد نائب عامل السفاح ، وفي أيام ابن يعفر حصل السيل العظيم في صنعاء وخرب الجامع فعمره ابن يعفر كما سبق (ص).

٧٢

ودعام جدّ أبناء يعفر

رفعوه في عظيم المنزله

كان في طوداتان ساكنا

صاحبا للفقر لا حيلة له

فحباه ملك ابنا يعفر

بهباة جمة متصله

ثم ولّاه بوادي غرق

فغدا يعمل فيه عمله

ثم جازاه بأن خالفه

من تجرّى جر وسوء اكله

وقدم (١) عهد يعفر بن ابراهيم بن محمد بن يعفر على صنعاء ومخاليفها من صاعد بن مخلد وزير المعتمد ، فاعتزل ابراهيم بن محمد عن الإمارة وولي ابراهيم بن عبد الرحيم فأقام بصنعاء مدة واستعمل على صنعاء ولاة كثرا ، وكان أكثر مقامه بشبام ، ثم اجتمع أهل صنعاء من الأبناء وغيرهم والشهابيين على عمال ابي يعفر فقاتلوهم واخرجوهم من صنعاء ونهبوا دار أبي يعفر واحرقوها ، ولم يلبث ابو يعفر ان قتل بشبام آخر المحرم سنة ٢٧٧ ، فقام بالأمر بعده ابن عمه عبد القاهر بن احمد بن يعفر اياما حتى قدم من العراق احمد بن الحسين جفتم عاملا على صنعاء ، وكان قدومه في صفر سنة ٢٧٩ ، فقاتله الدّعام في صنعاء فهزمه جفتم ، ودخل عليه صنعاء وطرده عنها ، ودامت صنعاء في يد جفتم الى ان توفى المعتمد في رجب سنة ٢٧٩ ، فقام بالخلافة المعتضد بن الموفق طلحة فأقر جفتم على ولايته بصنعاء فلم يزل بها إلى سنة ٢٨٢ ، وكان حازما شديد الحذر ولما عاد إلى العراق في السنة المذكورة ، وثب الدّعام على صنعاء ثم هرب منها ، ورجع الأمر الى بني يعفر ، ولم يزل إبراهيم بن يعفر على صنعاء ومخاليفها ، وهو يهادن ابن زياد ولم تطل مدّته ، وقام بعده إبنه أسعد بن ابي يعفر بن ابراهيم بن محمد يعفر بن عبد الرحيم ، وفي أيامه ظهرت القرامطة فخرج قوم من اليمن إلى

__________________

(١) اعتمدنا في هذه الأنباء على رواية الخزرجي وفيها من الإضطراب مالا يخفى وقد راجعنا أنباء الزمن وقرة العيون وبغية المستفيد وغيرها فوجدنا من الاختلاف ما تعذر معه الوفاق والملائمة (ص).

٧٣

جبل الرّس بالمدينة فقدم مولانا الإمام الهادي إلى الحق عليه السلام (١).

ظهور الدولة العلوية الإمام الهادي نسبه ومناقبه

آثاره العلمية فتوحه وحروبه

مؤسس الدولة العلوية الامام المجتهد المطلق الهادي الى الحق يحيى بن الحسين بن القاسم بن ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن ابي طالب عليهم السلام قال فيه الفقيه حميد الشهيد (٢) رحمه الله في كتابه الحدائق الوردية (٣) بعد ان ذكر صفاته ونعوته (فضله عليه السلام لا يخفى ونور مجده لا يطفى ، وظهور حاله يغني عن ذكر محاسن خلاله ، إلّا انا نذكر من أحواله طرفا ، رعاية لحقه الواجب ، وهو الذي فقأ عين الضّلال ، وأجرى معين العلم السّلسال ، وضارب عن الدين كافة الجاحدين ، حتى عرف الله من أنكره ، ومناقبه أكبر من أن تنظم في سلك المدائح ، وقد روينا عن بعض علمائنا رحمهم الله عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، أنه قال يخرج من هذا النّهج وأشار بيده إلى اليمن رجل من ولدي اسمه يحيى الهادي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، يحيي الله به الحق ويميت به الباطل : فكان عليه السلام هو الذي نشر الاسلام في أرض اليمن بعد أن كانت ظلمات الكفر فيه متراكمة ، وموجات الالحاد متلاطمة ، حتى انهل من نحورهم الأسل الناهلة ، وأنقع من هامهم السيوف الضامية فانتعش الحق بعد عثاره ، وعلا بحميد سعيه مناره فسلام الله على شخصه الكريم)

__________________

(١) الخزرجي وفي ابناء الزمن ان المقتول بشبام والذي نهل أهل صنعاء داره هو ابراهيم بن محمد.

(٢) هو العلامة شيخ الاسلام حسام الدين حميد بن احمد بن محمد بن محمد المحلي الهمداني الوادعي ولد سنة ٨٢ ، وتوفى شهيدا قتيلا سة ٦٥٢.

(٣) الحدائق الوردية ج ٢ ص ١٣ ط المؤيد.

٧٤

وقال فيه السيد صارم الدين الوزير (١) فى بسامته (٢)

وفى إمام الهدى الهادي المتوج

بالعليا اكرم داع من بني مضر

من خص بالجفر من أبناء فاطمة

وذي الفقار ومن اروى ظما الفقر

وصاحب المذهب المذكور في اليمن

المشهور من غير لا إفك ولا نكر

ومنها في ذكر وقائعه عليه السلام :

وفي ابن فضل ومن لبى لدعوته

وفي مسودة تدعو إلى سقر

قضت بتسع مع التسعين معركة

غر كبدر وأوطاس وكالنهر

قضى بها نحبه صيد غطارفه

مضوا وأشياع صدق من بني الطبر

سائل شباما وصنعاء وصعدة

مع نجران منه وسفح القاع من عصر

وسل بني يعفر عنه وكندتهم

وغلب همدان والأخلاف من مضر

تخبرك عن ضربات منه قاطعة

قدت دروعا وأودت كل ذي صعر

ذو الفقار سيف امير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام خرج بعد الإمام الهادي إلى اليمن وتقدم الكلام على ذي الفقار عند كلامنا على صمصامة عمرو بن معدي كرب الزّبيدي والجفر جلد ثور صغير مكتوب فيه علم ما سيقع لأهل البيت عليهم السلام مروى عن جعفر الصادق قال أبو العلاء المعري :

لقد عجبوا لأهل البيت لما

أتاهم علمهم في سك جفر

ومرآة المنجم وهي صغرى

أرته كل غامرة وقفر

كان خروج الإمام الهادي عليه السلام إلى اليمن المرة الأولى سنة

__________________

(١) هو العلامة ابراهيم بن محمد بن عبد الله بن ابراهيم بن علي الوزير ولد سنة ٨٣٤ وتوفى سنة ٩١٤ وقصيدته البسامة تسمى الجواهر المضيئة في سيرة الأئمة الأخبار المرضية جعلها على وزن قصيدة ابن عبدون الفهري في رثاء بني الأفطس وأول بسامة ابن الوزير :

الدهر ذو عبر عظمى وذو عبر

وصرفه شامل للبدو والحضر

(٢) البسامة قصيدة للسيد صارم الدين ذكر فيها ائمة أهل البيت عليهم السلام (ص).

٧٥

٢٨٠ (١) فوصل إلى الشرفة قرب صنعاء ومكث بها مدة ، اشتغل فيها بنشر مبادىء الإصلاح وتهذيب العقول ، ولكن الأمة كانت اذ ذاك في سبات عميق وجمود جاف ، وغفلة سادت على العقول واستولت على الأفكار ، فمنعتها عن التفكير في الوسائل المخلصة من آفات المقاصد الذّاتية والمطامع الشخصية ، فساءه ما عرف من خراب في الذّمم ، وفساد في الضمائر ، وتيقن ان الاصلاح لا يستسيغونه بحال وما لبث أن غادر إلى بلده بالحجاز وبقيت الأمة ترزح بأصارها (٢) وتنوء بأعبائها وشملها ما لا يطاق من البلاء والأرزاء والفتن العمياء ، والغارات الشعواء كف (٣) تقصيرهم ومعاندتهم للحق وأهله ، ولما اشتد بهم الحال وأضربهم البلاء كتبوا إلى الإمام الهادي يسألون النهوض اليهم ، ويعلمونه بتوبتهم ورجوعهم إلى الله من خطاياهم ، وعند ذلك رأى من الواجب عليه تلبية دعوة أهل اليمن وامتشاق الحسام لإصلاح الفاسد ، وتقويم مناد (٤) المعاند ، واحياء ما اندرس من معالم الدين ونصر شريعة سيد المرسلين واقتحام الغمرات في سبيل ذلك :

فالحق أخفى ما يكون مجرّدا

وتراه أوضح ما يكون مدرعا

ولم يحفل بما كان من تقصير اليمنيين وخذلانهم ، ولا بالى بما أمامه من العقبات ، بوجود الطامحين إلى السيادة من أهل اليمن والمتغلبين من غيرهم ، واثقا بنفسه معتمدا على ربّه ، لا يثنيه عن وثبته العلوية ، طول المدى ووعورة الطريق غايته احدى الحسنيين الفوز أو الشهادة ولسان الحال منه تنشد :

__________________

(١) باستدعاء من بني فطيمة من قبائل خولان صعدة بعد وصوله الى الرسّ من ارض الحجاز كما في أنباء الزمن.

(٢) جمع أصر وهو الذنب.

(٣) كذا في الأصل.

(٤) كذا.

٧٦

سأحمل اعباء الخطوب فطالما

تماشت على الاين الجمال القناعس

وانتظر العقبى وان بعد المدى

وارقب ضوء الفجر والليل دامس

واني لأقرى النائبات عزائما

تروض أبي الدهر والدهر شامس

واحقر دنيا تسترق لها الطلا

مطامح لحظي دونها متشاوس

تجافيت عنها وهي خود غريرة

فهل ابتغيها وهي شمطاء عابس

ولي مقلة وحشية لا يروقها

نفائس تحويها نفوس خسائس

قال مصنف سيرته السيد علي بن محمد بن عبيد الله العباسي رحمه الله : سمعت منه عليه السلام ما لا أحصيه إذا اجتمع عنده الناس يقول : (والله لإن أطعتموني لا فقدتم من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلّا شخصه إن شاء الله (١)). قال وسمعته ليلة وهو يقول : (والله لوددت ان الله أصلح الاسلام [بي](٢) وان يدي معلقة بالثريا ، ثم أهوي إلى الأرض فلا أصل إلا قطعا) قال وسمعته يوما يحلف بالله مجتهدا ويقول : (لوددت أن صلح أمر هذه الأمة واني جعت يومين وشبعت يوما) وكان أيضا يتمنّى لو أن معه خمسمائة رجل ليدوس بهم اليمن (٣) ، ومناقب هذا الإمام وآثاره وما خلّده في اليمن أجل من أن تحصر ، وقد أورد مصنف سيرته وغيره في فضله ومناقبه آثارا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم منها قوله : يخرج من هذا النهج ، وأشار بيده إلى اليمن الخبر المتقدم ، عن الفقيه حميد الشهيد ، وعن علي عليه السلام (٤) قال رسول الله (ص) يخرج رجل من عترتي اسمه اسم نبي يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا يميز بين الحق والباطل ، ، انتظروه في

__________________

(١) انظر سيرة الهادي ص ٤٩ ط سهيل زكار.

(٢) زيادة من سيرة الهادي ليستقيم المعنى.

(٣) انظر سيرة الهادي ص ٥٠.

(٤) في سيرة الهادي ص ٣١ والحدائق ص ١٤ ورد هذا الحديث عن علي كرم الله غير مرفوعا إلى صلى الله عليه وسلم.

٧٧

الأربع والثمانين ومائتين ، في أول سنة واردة ، وأخرى صادرة قال كاتب سيرته ، وكذلك كان فاسمه اسم يحيى بن زكريا ، وطار علمه صلوات الله عليه في الآفاق حتى صارت أقواله في أقصى بلاد العجم ، يأنسون بها أكثر من بلاد اليمن ، وعليها يعتمدون وبها يفتون ويقضون ، وفي الحدائق الوردية (١) روى السيد ابو طالب باسناده عن المرتضى محمد بن الهادي عليهما السلام قال : ان يحيى بن الحسين بلغ من العلم مبلغا يختار (٢) عنده ويصنف ، وله سبع عشرة سنة وهذه من عجائب الرّوايات التي تضمنت خرق العادات ، ولا عجب ممن كانت أعراقه تنتهي إلى الذروة العالية النبوية ، أن يبلغ هذا الكمال ، ويفوز بمحاسن الخلال ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : اللهم اجعل العلم والفقه في عقبي وعقب عقبي وزرعي ، وزرع زرعي فتناوله هذا الدعاء الشريف الموثوق باجابته فارتوى من سلسال العلم المعين ، وتفيأ ظلال العرفان ، حتى تفجر العلم من جوانبه ، ونطق من الحكم بغرائبه وصنف التصانيف الفائقة ، والكتب البديعة الرائقة ، نحو كتاب الأحكام ، وهو مجلدان في الفقه ، متضمنا تفصيل الأدلّة من الآثار والسنن النبوية ، ، والأقيسة القوية (٣) ، ما يشهد له بالنظر الصائب والفكر الثاقب ومنها كتاب المنتخب (٤) في الفقه أيضا ، وهو من جلائل الكتب ، وفيه فقه واسع وعلم رائع ، ومنها كتاب الفنون في الفقه ، مهذب ملخص ، وكتاب المسائل ، ومسائل محمد بن سعيد ، وكتاب الرضاع ، وكتاب الزراعة ، وكتاب أمهات

__________________

(١) الحدائق ص ١٤.

(٢) في الحدائق ص يحتار عنه وصنف.

(٣) ويعرف ايضا بجامع الأحكام في الحلال والحرام بدأ تأليفه في المدينة ولم يتمه فقام بجمعه وتبويبه العلامة علي بن حسن بن ابي حريصة وعليه شرح ضخم للعلامة احمد بن ابراهيم الشرفي ومن الأصل عدة نسخ خطبه. انظر كتابنا مصادر الفكر الاسلامي في اليمن ص ٥٠٩.

(٤) اجاب فيه على اسئلة الفقيه محمد بن سليمان الكوفي منه نسخة بمكتبة المتحف البريطاني انظر المصدر السابق ص ٥١٥.

٧٨

الأولاد ، وكتاب الولاء ، وكتاب القياس ، ومنها في التوحيد كتب جليلة القدر ، نحو كتاب التوحيد ، وكتاب المسترشد ، وكتاب الرد على أهل الزيغ ، وكتاب الإرادة والمشبه ، ومنها كتاب الرد على ابن الحنفية في الكلام على الجبرية ، وفيه من الأدلة القاطعة ، والإلزامات النافعة ما يقضي بأنه السّابق في الميدان المبرز على الأقران ، وكتاب بوار القرامطة ، وكتاب أصول الدين ، وكتاب الامامة وإثبات النبوءة ، والوصية ، وكتاب الرد على الامامية وكتاب البالغ المدرك وهو قطعة لطيفة فيها كلام كأنّه الروض ملاحة ونظارة والسحر لطافة ، ودقة ، وكتاب المنزلة بين المنزلتين ، ومنها كتاب الديانة ، وكتاب الخشية ، وكتاب تفسير خطايا الأنبياء ، وكتاب الرّد على ابن جرير ، وكتاب تفسير ستة أجزاء ، ومعاني القرآن تسعة أجزاء وكتاب الفوائد جزءان (١) ، وكتب سوى ذلك كثيرة ما تقرب من عشرين كتابا تركناها ، وهي ظاهرة مشهورة قد شحنت من مسائل العلم ودور الفهم ما يشهد بأنه عليه السلام في العلم القمر الباهر ، والبحر الزاخر) انتهى

وفيما أوردناه من أسماء الكتب التي ألّفها هذا الإمام العظيم دلالة كافية على تفنّنه في العلوم واستبحاره في المعارف مع صفاء نفس وحس مرهف وقريحة خصبة مواتية أضف إلى ذلك ما كان عليه من لين الكف وكثرة الإحتمال والزهد والورع ولعلماء الزيدية اعتماد عظيم على مؤلفاته وآرائه ، وإليه تنسب الهدوية مذهبها.

خبر صلح الإمام بين قبائل صعدة وعزمه إلى نجران

كان خروج الإمام الهادي إلى صعدة في شهر صفر سنة ٢٨٤ وكانت بين أهل صعدة وقبائل سعد وربيعة من قبائل تلك الجهات حروب مستعرة

__________________

(١) انظر هذه الكتب ومظان وجودها في الكتاب السابق.

٧٩

وغارات مدمرة ، قد عظم أمرها ، واستحكمت أحقادها وطال أمدها ، فاضطرب حبل الأمن ، واجدبت البلاد ، وتقطعت السّبل وغلت الأسعار وهلكت المواشي :

رمى الدهر أهليها بحرب ولم يرد

بها الشر لكن الحروب هي الشر

فلما وصل الإمام الهادي إليهم ، لم يدخل البلد حتى قطع دابر الفتنة ، وأصلح بين الفئتين ، فأنزل الله عليهم السماء مدرارا ، واخصبت أرضهم وصلحت ثمارهم ، ورخصت أسعارهم ، وامنوا في طرقهم ، بعد الذي كانوا فيه من الجدب والقحط والخوف والعداء المستحكم ، قال كاتب سيرته : ولقد أخبرني بعضهم ، أن قائدا لآل يعفر كان معه ألوف من العسكر أتاهم ، فأراد الصّلح فيما بينهم ، وانهم يقتتلون ، وهو واقف ماله فيهم حيلة ، حتى وقع بينهم عشرون قتيلا ما استوى له صلح بينهم) (١).

ولما دخل الإمام صعدة ، كتب إلى عموم أهل اليمن يدعوهم إلى الجهاد ، وأرسل عماله على المخاليف ، وكتب لهم العهود ، وأوصاهم بتقوى الله والعدل والرفق ، وحسن السّيرة ، وأقام كذلك أربعة أشهر ، وكتب أهل اليمن تتوارد عليه ، ووصل إليه أهل نجران يطلبون خروجه إلى بلدهم ، وكان الوافد عليه منهم قبيلة شاكر (٢) وثقيف (٣) ووادعة (٤) والأحلاف وجماعة من بني الحارث (٥) ، فأجابهم الإمام وخرج من صعدة آخر يوم من جمادي الأولى من السنة المذكورة ، فدخل نجران وأقام فيها العدل وأصلح أمورها

__________________

(١) سيرة الهادي ص ٤٢.

(٢) بطل من بكيل من ولد شاكر بن نهم.

(٣) قبيلة معروفة.

(٤) من قبائل حاشد الهمدانية

(٥) قبيلة من ولد الحارث بن كعب بن نمله بن جلد بن مذحج.

٨٠