تاريخ اليمن الإسلامي

أحمد بن أحمد بن محمّد المطاع

تاريخ اليمن الإسلامي

المؤلف:

أحمد بن أحمد بن محمّد المطاع


المحقق: عبد الله محمّد الحبشي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: شركة دار التنوير للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٨

وقد توفى صاحب الترجمة شهيدا بحجة بعد ثورة سنة ١٣٦٧ بتهمة اشتراكه في إغتيال الإمام «يحيى».

هذا ملخص ترجمة حياة الشهيد المطاع من كتاب نزهة النظر يضاف إليها أنه سجن مع أخيه محمد المطاع ، وعلي الشماحي ، وصديقه عبد الله العزب ، ومحمد المحلوي ، وصالح السنيدار ، يقول شاهد الحادثة العلامة احمد بن محمد زبارة : «لما حبسوا اختلق الغوغا أسبابا لحبسهم بأنهم اختصروا القرآن ، وسموهم درارعة يهود منحرفين ، ولعلّة أول حبس للأحرار ، وكان كاتب الأحرف أحمد بن محمد زبارة يزورهم إلى القلعة بسهولة «وأعطيتهم الصّحف ، وفيها مقالات لمحمد علي الطاهر ولمحي الدين العنسي ، ولوالدي المؤرخ زبارة ، من بغداد (سنة ١٣٥٤) ، وأرسل إليهم هدايا كعنب وغيره ، ثم كتبوا إلى الإمام يحيى إستعطافا وتنويها يرجون إطلاقهم فأجاب بخطه : أصلح الله شأنكم ، صدرت «التصفية» للإمام يحيى بن حمزة في علم الباطن انسخوها وطالعوها ، لتصلح الباطن والظاهر ، ثم راجع لهم السيد قاسم العزي والقاضي راغب وغيرهما فأطلقوا».

المطاع مؤرخا

في فترة مبكرة من حياته كتب الشهيد المطاع العديد من البحوث التاريخية ، استطاع بهمته أن يوحّدها في قالب عصري متماسك شهد له فيه معاصروه فقال المؤرّخ زبارة :

«كتب نبذة تاريخية بعبارات شيقة».

وقد طالع كل ما وقعت عليه يده من كتابات تاريخية قديمة وحديثة ، واستفاد من كتابات المتأخرين على وجه الخصوص في معرفة المنهج التاريخي ، فكان مؤرخنا صاحب هذا الشأن في كتابة التاريخ اليمني ، إذ لم يعرف قبله سوى كتابات متأثرة بطرق القدامى من حيث سرد الحوادث ونقلها دون تمحيص أو تعليل ، وقد شكا مؤرّخنا من هذه الظاهرة في كتابات

٤١

الإسلاميين القدماء عموما ، فقال في سلسلة مقالاته في مجلة الحكمة : «وإنك لتجد كثيرا من المؤرخين وغيرهم يعتبرون المؤرخ كحاطب ليل ، ومنهم من جعل هذه الكلمة تكأة له في سيره المغلوط ، فاشبّهت عليه المخارج والموالج ، واختلط لديه الحابل بالنابل ، فجمع الغث والسّمين ، ومزج الممكن بالمستحيل».

وليس لنا من قول بعد ما كتبه مؤرخنا من شرح واضح لمنهجه العصري في كتابة التاريخ ، ولعله من تحصيل الحاصل أن نقول أن مؤرخنا أسّس قواعد المنهج الحديث في كتابة التاريخ عبر شتّى عصوره ، لم يكتف في ذلك بالنّظرية المجرّدة وحدها ، وقد نشرها في فصوله الممتعة على صفحات مجلة الحكمة. وأوردناها كمقدمة لتاريخه هذا ، بل طبّق منهجه عمليّا بالتجرّد لكتابة التاريخ والخوض في غماره ناقلا وناقدا أو محلّلا ومختبرا.

وعلى كثرة مطالعتي في التراث اليمني ، لم أجد من المؤرخين اليمنيين من سبقه في عمله هذا ، سوى ما نجده عند المؤرخ الحسين بن عبد الرحمن الأهدل المتوفى سنة ٨٥٥ ه‍ ، الذي نقد بعض روايات الجندي ومجازفاته في تلخيصه لكتاب السلوك ، ولكن هذا النّقد لا يعدو أن يكون ملاحظات عابرة حول التراجم التي ضمّنها الجندي تاريخه.

وكان مؤرّخنا الشهيد المطاع قد استعمل مشرط النقد والتمحيص ، في كل مجالات التاريخ اليمني ، ولعله أول من تنبّه لهفوات المؤرخ عمارة ومبالغاته التاريخية التي كان لها الأثر السيىء على من جاء بعده ، ونسمعه يقول ـ حينما يذكر عمارة في تاريخه «المفيد» أن حسين بن سلامة بنى من صعدة إلى صنعاء في كل مرحلة جامعا ، إلى غير ذلك يقول «فيما ذكره عمارة مجازفة ظاهرة ، فإن البلاد في عصر الحسين بن سلامة كانت في أعاصير هو جاء وزوابع غير مريحة ، وعلى الخصوص بلاد الزيدية ، ولم يكن له نفوذ ظاهر عليها ، وهذه المباني تتطلب الهدو طبعا ، أضف إلى ذلك انا لم نجد في

٤٢

كتب التاريخ التي بأيدينا ما يدل على حدوث ما ذكره عمارة فيما بين صنعاء وصعدة ، وبين زبيد وصنعاء ، ومن البعيد أن تزول آثار هذه المباني وتندرس من عرض البلاد وطولها ، ولا يذكرها أحد بحرف ، أو لا يعلمها إلّا عمارة ، وعنه ، نقل أكثر المؤرخين ، ولكن على اسلوبهم المعهود من مجانبة النّقد والتمحيص ، وتحكيم العقل».

بهذا المنهج الدّقيق سبر أغوار التاريخ ودسائس المؤرخين ومبالغاتهم ، وما أكثرها في التاريخ اليمني ، ولنا فيما أورده من الإنتقادات الكثير من النّصوص وقد توزّعت عبر تاريخه الكبير هذا في أكثر من موضع وحادثة ، وهو يرى أسباب تضارب الأقوال في الرّواية الواحدة إلى «اختلاف النقل ثم اختلاف كتب التاريخ ، وقد يكون المصنّف واحدا والتصنيف واحدا ويختلف ما يوجد بإحدى النسخ عن الأخرى».

ولعل من أسباب المبالغة والكذب في تتبع الأخبار ان بعض المؤرخين لم ينظروا إلى التاريخ النّظرة التي يستحقها من اهتمام وعناية ، وقد «دوّن القدماء كتب التاريخ للتّسلية وقتل الوقت ، وقد شبّهوا المؤرخ بحاطب ليل ، فجاءت غالب مدوّناتهم في هذا الفن كثيرة الأغلاط ، ركيكة الأسلوب ، طافحة بالمبالغة مملوءة بالمزاعم والخرافات لا تسقط منها على حقيقة إلّا بعد إدماء الجفون ، وتقريح المحاجر ، وتقليب مئات الصّفحات وعشرات المجلّدات ، وقد تخرج بعد العنا الشديد مضطرب الفكر حيرانا».

هذا ما أدركه مؤلفنا بعد معايشته التّامة لمصادر التاريخ وصعوباتها ، ومن ثم لم يكتب تاريخه لسرد الأحداث وحدها ، وإنما جعله نقدا عاما لرواية التاريخ اليمني التي وصلتنا من خلال مصادره ، يقول بعد نقل عبارة للخزرجي في العسجد المسبوك وأخرى ليحيى بن الحسين في أنباء الزمن :

«وفيهما من الإضطراب ما لا يخفى وسيمر بك التفصيل لبقية الحوادث ومنها تعلم انهما أرادا أن يختصرا فخلّط عليهما».

٤٣

فمن أسباب رداءة الرواية عند مؤرخنا التّسرع في النقل واختصار العبائر دون فهم فحواها حقيقة.

وربما استعمل مؤلفنا لمحاولة فهم الحقيقة كما وردت شتّى معارفه المتنوعة من تحليل منطقي ، إلى معرفة جغرافية ، إلى غير ذلك أنظر إليه ينتقد قول صاحب أنباء الزمن حول توارد الجيوش على الحبوض في ظفار ، وتجنيد الدّولة الرسولية طاقاتها لمحاربته «فاين نجد من تهامة ، والعجب من صاحب أنباء الزمن كيف يقبل مثل هذه الرواية ، وهو لم يحدثنا قط فيما كتبه ، من أن نفوذ أمراء ظفار وقلاعهم كانت شحنت بها بلاد الجوف»

ويستعمل الأقيسة والبراهين التاريخية لنقد الحدث الواحد الذي لا يقبله الواقع ، يقول في إنتقاد قول صاحب انباء الزمن ان الطريق بين اليمن والبصرة انقطعت عن مرور التجار «وقد نقلنا عنه هذه الجملة التاريخية الجغرافية بالحرف الواحد والعهدة عليه ، وسيأتي ما يدل على ان المواصلة بين اليمن وبغداد عن طريق البصرة والجوف وأرض الحشرات والعقارب الناهشات ، كانت مستمرّة يقطعها الواحد والجماعة فمن ذلك إرسال الملك المظفر سفيره إلى بغداد عن طريق براقش سنة ٦٥٠ والمرة الثانية عند ما قتل الإمام أحمد بن الحسين سنة ٦٥٦ أزعج المظفر رسوله إلى بغداد بذلك النبا» الخ.

فهو هنا يستعمل في نقده الوقائع التاريخية التي حدثت بالفعل معتمدا على تواريخ ، وأقوال مضبوطة لمؤرّخين معروفين.

وربما لا تسعفه المادة في بعض الأحيان لنقد خبر واه ، أو جملة جزافية ، فنجده يوردها بصيغة تضعيف تجعله في حلّ من تبعتها ، كأن يقول : كذا قول فلان ، أو : «وقد نقلنا هذه الجمل التاريخية بالحرف الواحد والعهدة عليه».

وقد ينبّه صراحة على الخطأ بعد إعمال الجهد في تصحيحه ، والتنقيب

٤٤

عن مصادره فيقول : «اعتمدنا في هذه الأنباء على رواية الخزرجي وفيها من الإضطراب ما لا يخفى ، وقد راجعنا أنباء الزمن ، وقرة العيون ، وبغية المستفيد ، وغيرها فوجدنا من الاختلاف ما تعذّر معه الوفاق والملاءمة»

ومن ثم يجد مؤرخنا نفسه أمام مسؤولية كبيرة في تدوين التاريخ فلا ينساق إلى أقوال المؤرخين في كتبهم كما ترد ، وإنما يحلّل ويقيس ، وقد وقف كثيرا عند قول صاحب البسامة في غزو الإمام الناصر عدن في القرن الثالث الهجري يقول مؤلفنا : «وقد أطلنا البحث في جميع المصادر الموجودة بأيدينا عما أشار إليه السيد صارم الدين بقوله عند ذكر الإمام الناصر في البسامة :

ودوّخ اليمن الأقصى الى عدن

مع الجبال كبغداد وكالشعر

فلم نجد تفاصيل هاتيك الملاحم ما يستحق التصدير

ويرى قصور المؤرخين القدماء عن سبر الأمور وكنه أغوارها من جميع الوجوه سببا في البعد عن الحقيقة ففي الحديث عن ثورة أهل بحران يرى تأثير النّصارى الموجودين فيها خلال ذلك الوقت على تلك الحوادث أمرا لم يفطن إليه أحد يقول : «ولو أن قدماء المؤرّخين نظروا إلى الحوادث ، نظر إستنتاج ، ولا حظوا أحوال البيئة ، والوسط الذي عاشت فيه هذه الطائفة والظروف الداخلية والخارجية ، التي كان لها أثرها في تكوين طباعهم وتلوين مشاربهم لظهرت النتيجة معلنة بما كان لدعاة النصرانية من يد في «تأريث تلك النّار ، ولكنهم اكتفوا بالنظر السّطحي في تدوين الملاحم البشرية ، والمعارك الدموية ، فجاءت الثمرة ناقصة يعوزها النضوج».

ويتشعب البحث أمامه في تتبع هفوات المؤرخين ، ويعلل أسبابها إلى أمرين أدركهما من تتبعه الشّديد لطبيعة تلك الأخبار والروايات وهما : «قوة الإيحاء وفعل المحاكاة» يقول عن بعضهم : «فقد تأثر بغلط غيره ، واندفع إلى متابعته بقوة الإيحاء ، وفعل المحاكاة».

٤٥

على أن من أهم أسلحة مؤرخنا في تتبع تلك الأوهام وتصحيحها التّنبيه على حيدها عن الواقع وتتبع المصادر ونقل أقوالها المختلفة في الحادثة الواحدة ، ففي تعليل أسباب خروج الأيوبيين إلى اليمن وإرجاعه عند بعض المؤرخين إلى رسالة ابن النساخ إلى خليفة بغداد يقول شهيدنا المطاع «وعندي انه من البعيد وعند كل من له أدنى معرفة بنزعات النفوس واتجاهات من يحكم ، ولا سيما تلك القرون وصدور مثل هذه التهديدات القاسية من رجل يطلب النّصرة ويرجو النّصفة ، مع ما فيها من المدح والإشادة والتنويه والتعظيم للإمام المنصور وعماله».

«وإنما نستبعد صدورها على ذلك الأسلوب من رجل لا يملك إلّا ثورة نفسه ، وقوة روحه وما يضطرم بين جوانحه من براكين الحقد والضغينة ، على من جرّعه كأس التّنكيل المريرة ، وهل من المعقول أن يحوّل جمر غضبه الماحق نحو خليفة بغداد الضعيف العاجز ، هذا ما يلوح للناقد من جهة الأسلوب ، وأما من الوجهة التاريخية فإنه لم ينقل أن الحكومة العباسية نهضت إلى اليمن في ذلك التاريخ ، وأنّى لها ذلك والخليفة لا يملك أمر نفسه فضلا عن قصره ومدينته وقد لا يكتفي بمجرد التّنبيه اللفظي على شطط الخبر الموهوم ، وإنما يقتله بحثا من خلال تتبع المصادر التي أوردت ذلك الخبر ، ويبحث عنه في مظانه الأصيلة ، غير معتمد على قول واحد ، أنظر إليه مثلا في تتبع خبر وفاة منصور ابن حسن حيث تجده ينقل عن أنباء الزمن وسيرة الناصر ، وقرة العيون ، واللآلىء المضيئة ، ويقول في نصّ قرة العيون حول هذه المسألة : «وهو يخالف ما سبق في ترجمة الناصر في وقعة نغاش التي أباد بها القرامطة من ناحية مسور» فهو لم يكتف بتلك النصوص المستفيضة حول تلك المسألة ، وإنما استعان فيها بقرائن تاريخية أخرى يعزّز بها قوله.

ويبلغ التحليل ذروته عند شهيدنا المطاع عند ما يستعين بالجانب النفسي

٤٦

لسبر غور الحادثة التاريخية أو النّص الأدبي كإيراده لشعر جياش في نبذ الحلم بقوله :

إذا كان حلم المرء عون عدوه

عليه فإن الجهل أنقى وأروح

وفي العفو ضعف والعقوبة قوة

إذا كنت تعفو عن كفور وتصفح

نجده يربط هذا بعمل جياش المشين بقتل وزيره ابن خلف الذي شاركه محنته وهربه إلى الهند يقول :

«وكأنه وخزه الضمير وأنّبه الوجدان وأهاب به العدل وسمع صوت الحق يلومه ، ويقبح فعله ، لاذ بنزعات الطغاة ، وشذوذ العتاة ، فاستروح لكلمة الطاغية ابن الزّيات المأثورة ، إذا قال له المعذّب : ارحمني قال : الرّحمة خور في الطبيعة ، فرقص على ذلك الإيقاع ونظم الأبيات المتقدمة».

على أن أهم ما يشدّك في الكتاب ويجذبك اليه هو حسن التناسق ، وروعة التبويب ، مع أنه ربط كتابه بطريقة الحوليات وذلك لمنهج ارتضاه ، حيث تتعدد الحوادث وتتشتّت اتجاهاتها ، بحيث يتعذّر حصرها ، وقد ألمّ بذلك في اسلوب عصري حديث يقرّب إليك النافر ويسهّل عليك الفهم ، إسمعه وهو يحدّثنا عن انقراض الدولة الصليحية وموت ملكتها : «وبموتها انقرضت الحكومة الصليحية بعد أن حكمت قرابة قرن سخّرت البلاد لمصالحها ، وتركت الأمة اليمنية تعيش في جو مختنق وميدان ضيق ، رهن القواعد المرسومة والنّظريات المعلومة ، من دعاة الإسماعيلية ، وكانت الطبقة المسيطرة تتلعب بعقول العامة ، وتستأثر بكل موارد العيش ، ومرافق الحياة .. ولذلك تفككت عرى القومية ، وتلاشت العقلية والمنتجات الفنية.

وفقدت ملكة الإبداع والابتكار».

ويتجلى في أسلوب أديبنا في أحيان كثيرة إشراقات أدبية رائعة ، تحول النص التاريخي من سرد إجمالي مجرّد إلى قطعة أدبية فخمة ، تجذبك إليها وتضطرّك إلى متابعة الحدث بتشوق ولهفة ، اسمعه وهو يصف حالة ذي

٤٧

الشّرفين وهو محاصر ، وقد عزم على المغامرة والمخاطرة لسحق الجند المحاصر له يقول : «واستمر الحال على ذلك خمسة أشهر بعد عزم المكرم ، وبعدها رأى الأمير ذو الشرفين أن المآل سيىء وأن العاقبة وبيلة ، لما رأى من نفاذ ما عنده من المأكول والمشروب ، فعمد إلى محبرته ، وكتب وصيته الأخيرة ، وآل على نفسه أن يبذلها في سبيل قتال الظالمين ، ثم شحذ عزم أصحابه وحمّسهم وانحدر وقد وزّع أصحابه طوائف ، وصبّح الجند المحاصر ، والنوم ملابس جفونهم ، فأوقع بهم وأثخن فيهم قتلا وغنيمة ، وانقلب إلى المعقل بالغنائم الوفيرة ، ونفائس الأسلاب الطريفة ، وتناول قلمه وكتب هذه القصيدة :

ألا قل لربات الخدور الكواعب

يقبلن أيدينا وحد القواضب

الخ».

وهكذا يستمر في السرد ، فلا تحسّ بنفسك إلّا وأنت تتابع أحداث قصة مشوقة زيّنها أسلوب كاتبنا الرّصين وطريقته البلاغية المتماسكة تجذبك إليها وتضطرك إلى متابعة الحدث.

وخذ أيضا هذه القطعة الأدبية من تعبير أديبنا :

«والتقى الجمعان فاقتتلا أياما وثبت الفريقان يخطّان بدم القتلى صحيفة سوداء من أعجب ما سجّله طغيان القوة في صحائف التاريخ».

ويقول في موضع آخر بعد إقدام جياش على قتل الغز الواصلين إلى اليمن باستدعاء منه «فهلك أكثرهم ولم يخلص إلى زبيد منهم إلّا دون الألف فلم يطمئن فؤاد ذلك الأمير وظلّ شبح الخوف منهم سمير أحلامه وهو اجس أمانيه رغما عن قلّتهم وأبت نوازع نفسه إلّا جعل تلك الأرواح ضحايا طغيانه فجهز» الخ.

وإليك نصّا آخر تستبين منه مقدرة الرجل على التعبير وملكته في الإنشاء

٤٨

«لما قتل القائد سرور على الصفة المذكورة عظم الخطب واستيقظ الهول ونشبت الفتنة واشتعل ولاة زبيد وأمراؤها بتنازع زهرة الحياة عن تدبير الملك وحياطته ، فكانت الأحداث تتوالى والمصائب تتعاقب على ما حول زبيد ، ومن بها لاهون بشهوة الحكم وفتنة المال ، وذلك البلاء المبرم والويل الرامل ، والعدو اللّدود يحصي عليهم أنفاسهم ، ويراقب حركاتهم ويستطلع أنباءهم حتى إذا غمرتهم الحيرة وأعماهم الهوى وحق عليهم القول ، وآن أن يبتلعهم الفناء في ظلمات مهاويه وينظمهم التاريخ في فجائعه ومآسيه ، وثب عليهم بجنود متعطشة» الخ.

إلى آخر تعابير المؤلف الفنية وقد طرّز بها كتابه ووشى بها عمله هذا ، مما أضفى على التاريخ حلّة جديدة من التعبير الأدبي الذي أحيا به ما أندرس من رفات القوم وشخوصهم.

ولما كان مؤلفنا أدبيّ النزعة شاعري الهوى ، كان له عناية أخرى من البحث ، يفرد له زيادة ثانية في الثقافة وهي عنايته بتاريخ الأدب والحركة العلمية ، أثناء سرده لحوادث التاريخ ومجرياته فهو ما يكاد يفرغ من الحديث عن الوقائع حتى يلم إلمامة سريعة بحياة الأدب والشعر ، وكأنه متأثر بمعاصريه من أعلام الأدب العربي في مصر كطه حسين وأحمد أمين وغيرهما ، مثال ذلك قوله بعد الفراغ من الحديث عن الدولة الرسولية ووقائعها : «يجب أن نشير إلى نبذة قصيرة من الشعر ، لتكون مثالا للباحث في الأدب اليمني في جميع أدواره ، وقد أوردنا في كل دور من الأدوار التي كتبنا عنها ، أمثلة صالحة ، لمناسبات مختلفة» الخ.

وكان معاصره الأستاذ عبد الله بن محسن العزب قد ألمّ بالتاريخ الأدبي في الفصول المسلسلة على صفحات «الحكمة» فجاء مؤلفنا ليؤيد الخطوة ويعمّق البحث ، وإن كان حديثه هنا إستطرادا عاجلا.

ولم يكتف بالجانب الأدبي وحده والنّظرة الثقافية العامة للتاريخ

٤٩

اليمني ، وإنما ألحقه ببحث آخر أبدع فيه مؤلفنا أيما إبداع حيث تتجلى فيه شخصيته البارزة وميوله المتحررة ذلك هو حديثه ، عن جانب العمران والتطور الحضاري وقد أدرج خلال صفحات كتابه ملاحظات عابرة عن حياة الناس والعمران يقول في أول الكتاب أثناء الحديث عن الدّولة الزيادية «دفنت القرون أخبار هذه الإمارة ولم يصل الينا من أخبارهم إلّا نتفا يسيرة وذلك ما سطرناه ولعل القارىء يستنتج من أخبار الخراج وجمل الضّرائب بعض ما يريد عن الحركة العمرانية وسير التجارة ، وسعة النّفوذ ولكن بصورة إجمالية ، وبقدر ما فات المؤرخ من استيعاب المادة اللّازمة يضعف الإستنتاج ويتعذّر الحكم ، والذي يلوح لنا أنه كان بكل جهة من جهات القطر دار ضرب للنقود وشبه استقلال للولاة».

ويجعل للإستغلال وإيثار المصالح الخاصة دور هما البيّن في سقوط العمران وتدهور البلاد. فهذه دولة آل الحجورى وقد انشغل الإخوة بينهم البين بالتقاتل على الملك كان «لروح الإستغلال والإستيثار وما كان لتعارض المصالح والمنافع من أثر في العمران والسكان».

وهكذا يكون تدهور العمران عاملا لمؤثرات سياسية تنخر في جسم التّقدم والانفتاح وتحوزه عن الرخاء والازدهار الحضاري ، فهذه دولة بني أيوب في اليمن وقد أشادت الحضارات والرقي في مصر والشام ، تفشل في إيجاد هذا الأمر في اليمن ، لأسباب يرجعها المؤلف إلى القسوة والطيش في سياسة النّاس ، وعدم استعمال الرفق في الرعية : «وما رحبته اليمن ممن وصل إليها سوى العيث والدمار ، فأين الملك المعظم ومبّراته العلمية ومجمعه الذي أسسه لتأليف معجم اللغة العربية ، من طيش الملك المسعود وبطشه ، وغروره وفتكه بهذه البلاد ، وأين الإحسان الصلاحي ومكارمه ورفقه ، وحسن سيرته ، من شدة طغتكين وظلم عماله وتكالب الجميع على جمع الأموال وإرهاق الأمة».

٥٠

وهكذا ينقد المؤلف ويقارن ببصيرة وذكاء بين الحضارات المتفاوتة ، وقد نعمت بعضها بأمن وسلام وازدهار وأخرى بحروب وقلاقل وشقاء وما ذاك إلّا ان اليمن مني بولاة جور طغاة.

ويدفعه استطراده هذا إلى أن يربط أسباب قيام الدّول وسقوطها بخصيّصة الرفق واللّين ، أو عكسهما من قبل بعض الحكام ، فعند ما يأذن الله بزوال دولة يجعلها تجور على رعاياها ، فيكون هذا الأمر عاملا في سقوط تلك الدولة ، فهذه دولة بني رسول التي عرفت في اليمن في أول دورها باللّين والرفق والتقدم العلمي والعمراني تنقض غزلها في آخر حياتها ، ويميل ولاتها إلى البطش والعدوان يقول : «كيف لا والحوادث تنطق بلسان فصيح ، وتعلن لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ، إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فيها سمق دوح هذه الحكومة ، ورقّ ظلّها وامتدت أشعة شمسها على روابي اليمن وبطاحه وسهوله ، إبان مجدها وميعة عظمتها واستقامة أخلاقها ، ولكنها لم تثبت طويلا تلك الأوصاف الجميلة بل أصيبت بالداء العضال والسّم الناقع فنخر سوس الفساد في جرثومتها فشاخت وهرمت ، وتداعى بنيان فخارها وانهار ركن مجدها ، فكوّرت شمسها بمقدار ما لا بسها من المرض والضعف ، وما زالت تكور حتى انزوت أشعتها الذابلة في تعز وزبيد وما جاورهما .. وما ذاك إلا عقوبة البغي وتفرق الكلمة ، وانقسام الوحدة واتباع الهوى والاسترسال في القسوة والإيغال في الجور».

المؤرخ الثائر

وهذا يجرنا إلى الحديث عن المطاع المصلح الثائر ، الذي ضحّى بحياته وباع روحه رخيصة في سبيل مبادئه الوطنية وتقدم شعبه وبلاده ، وهو وإن عاش في أبّان قوة الإمام وصولته ، إلا أن هذا لا يمنعه من أن يوجّه الانتقادات ويجعل من درس التاريخ دروسا في أخلاق السياسة وسلوك الحكام. للعظة والإعتبار ، فالتاريخ عنده ليس إلّا أخلاقا سياسية يجب أن

٥١

يحتذى بالصالح منها ويبتعد عن الطالح منها «فجلال التاريخ وعلوّه إنما هما لما يستفيده الناظر فيه من آداب وأخلاق ، وتعاليم سياسية ، وعرفان بمبادىء الأمور ومصائرها وتطورها».

وفي غمار بحثه في التاريخ يبحث عن موقع الأمّة والشعب في خضم الأحداث العاتية ، وسيطرة القوي على الضعيف ، فالتاريخ اليمني في عمومه عبر متكررة من تلك المآسي الدامية ، وها هو الشّعب الذي لا يملك من أمره شيئا وقد «تسلطن الأتابك وتحكمت المرأة ، ولكل واحد من هؤلاء المتسلطنين وجهة هو موليها ، فبعضهم كان يرهق الأمة باسمه وبعضهم باسم الخليفة وآخر باسم صاحب مصر الأيوبي ، وهكذا دوائر الفوضى وأزمنة الإنحلال».

وبقدر ما نعم الملوك برغد العيش وسلطان الجاه ازداد الشعب بؤسا : «ولا شك أن إفتتانهم في بناء القصور ومظاهر النعيم ووسائل الترف حمّل البلاد والرعية أوزارا باهظة ، وأحمالا لا تطاق ، وكلما انغمس الولاة في البذخ والترف انحسر ظلّ الحياة عن التاجر والفلّاح واقترب منهم شبح البؤس والفاقة».

وهو لا يستغرب من شيء كاستغرابه من استكانة الأمة وسكوتها عن الظلم فيقول ثائرا ومحرّضا :

«ومن المؤسف والمخجل أن تعيش هذه الجريمة ويستمر ذلك العسف من ذلك التاريخ إلى أيام الأشرف واغرب من كل هذا رضوخ الأمة واستسلامها واحتمالها لهذه الأوزار الباهضة»

وبعد تلك لمحة عابرة عن ثورة مؤلفنا في كتابه هذا ، وسنجده موضوعيّا في كل ما خطّته يداه ، وقد تحرّى الصّدق والصّحة في كل عصور التاريخ وأدواره ، لا يمنعه هوى ولا يستشط به ميل عن قول الحق مهما كان

٥٢

فهو دوما يتحرّى الحقيقة من مصادرها المتعدّدة ولعلنا سنكبر المؤلف ونقدر عمله إذا علمنا أن كل مصادره التي رجع إليها في التاريخ كانت في ذلك الوقت لا تزال مخطوطة ، وقد لقي مشقة في حل طلاسمها ، وفك خطوطها حتى اننا نجده يقول : «ما أكثر التصحيف والتحريف بل المسخ في المصادر التي استقينا منها أخبار هذا القسم ولعمري ان تفهّم القلم المسماري وحل رموز المسند أقرب إلى الفهم من تحريف النّاسخ وسوء فهم الماسخ لتلك الأسفار»

وبقدر ما عانى المؤلف الشهيد رحمه الله من مشقة وجهد في إخراج الكتاب فإن المحقق الخفير قد بذل طاقته ومستطاعه من نسخ دؤوب وتعليق وتحقيق آملا أن يكون خدمة متواضعة لتراث هذا الرجل الوطني العظيم وإفادة لأبناء الجيل الجديد ، الذين وجدوا الأمور ممهّدة متيسرة.

وبالله التوفيق وعليه التكلان

عبد الله محمد الحبشي.

٥٣

(تنبيه)

ما كان من هوامش بخط مؤلف الكتاب العلامة الشهيد أحمد بن أحمد المطاع رمز إليه ب «ص» أي في أصل المؤلف أو رمز للمصنف نفسه وما كان للمحقق ترك بدون اشارة.

٥٤

٥٥

٥٦

بسم الله الرحمن الرحيم

(بنو زياد وأول من ملك منهم

أسباب خروجهم اليمن واختطاط مدينة زبيد)

وأعن يا كريم قال العلامة الخزرجي (١) رحمه الله عن كتاب المفيد الكبير تأليف الملك ظهير الدين (٢) جيّاش بن نجاح الحبشي مما كان سنة تسع وتسعين ومائة أتى إلى المأمون العباسي بقوم انتسب أحدهم إلى تغلب بن وائل او بعضهم إلى سليمان بن هشام بن عبد الملك بن مروان ، وبعضهم إلى يزيد بن معاوية (٣) فقال المأمون : أما الأمويان فيقتلان ، وأما التغلبي فيعفى عنه رعاية لإسمه وإسم أبيه ، وكان اسمه محمد بن هارون ، فقال له محمد بن عبد الله بن زياد : والله يا أمير المؤمنين ما نزعنا يدا عن طاعة ، وان كنت تقتلنا لجناية الأموية فيكم ، فإن الله يقول (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى)(٤).

فاستحسن المأمون كلامه ، فلما كان في المحرم سنة ٢٠٢ ماءتين واثنتين ،

__________________

(١) هو العلامة ابو الحسن علي بن الحسن الخزرجي المتوفى سنة ٨١٢ والنقل من كتابه العسجد المسبوك ص ٩٦ ط وزارة الاعلام.

(٢) كذا في أصل المؤلف رحمه الله وفي المفيد لعمارة ص ٣٥ نصير الدين والمفيد هذا هو اصل الخزرجي.

(٣) كتب المؤلف رحمه الله تعليقا على هذا قوله : «الذي في سائر النسخ الى زياد بن أبيه وهو الظاهر» قلت ملاحظة المؤلف هي الصحيحة ففي مفيد عمارة ص ٣٦ ط حسن سليمان «فانتسب احدهم واسمه محمد بن فلان بن عبيد الله بن زياد الى زياد» وفي السلوك للجندي عبيد الله بن زياد بن أبيه وفي قرة العيون لابن الديبع ج ١ ص ٣٢١ يزيد بن معاوية وهو صورة عن العسجد المسبوك.

(٤) الآية ١٢ سورة فاطر.

٥٧

ورد على المأمون كتاب عامله على اليمن ، بخروج الأشاعر (١) وعك (٢) عن الطاعة ، وهم جلّ عرب تهامة فوجه المأمون محمد بن عبد الله بن زياد أميرا ، وارسل معه المرواني وزيرا ، والتغلبي حاكما ومفتيا ، وهو جدّ القضاة آل أبي عقامة قضاة زبيد ، فخرجوا من بغداد في الجيش الذي أنفذه المأمون لحرب ابراهيم بن المهدي فحج ابن زياد ومن معه سنة ٢٠٣ وسار إلى اليمن ، ففتح تهامة ، واختط مدينة زبيد في شعبان سنة ٢٠٤ سنة أربع ومائتين وجرت بينه وبين عرب تهامة معارك هامية ، كتب له فيها النصر فأذلّهم ، وكان وزيره المرواني فضرب المثل في الدهاء والحزم ، فكان يقال ابن زياد بجعذة قال عمارة : وإليه ينسب مخلاف جعفر وهو الذي اختط مدينة المديخرة (٣) بجبل التومان (٤) وقد غلّطه الجندي (٥) وقال : (ان الذي اختط مدينة المذيخرة الأمير جعفر بن ابراهيم بن ذي المنار المناخي ، وإليه ينسب المخلاف والمناخيون ملوك ريمة (٦) وقياض ويعرفون في عصرنا بسلاطين قياض) (٧) وكان المأمون قد عهد إلى ابن زياد بولاية البلاد التهامية ، وما استولى عليه من بلاد الجبال ، وبادر ابن زياد بإرسال وزيره الأموي إلى بغداد بهدايا (٨) وتحف وأموال وفيرة إلى المأمون في السنة الثانية من وصوله اليمن فحج الأموي وقصد بغداد بما حمله من اليمن ، فسرّ المأمون بذلك وأعاده في السنة السادسة ، وأصحبه بألفي فارس فيهم من مسودة خراسان تسعمائة فارس

__________________

(١) الاشاعر قبيلة مشهورة من قبائل اليمن وهو ولد الأشعر بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ. ومساكنهم وادي زبيد والحجري ص ٧٩.

(٢) من قبائل اليمن من ولد عك بن عدنان بن عبد الله بن الازو.

(٣) المذيخرة : من بلدان العدين.

(٤) الثومان : غرب مدينة ذي السفال بمسافة خمس ساعات.

(٥) قلت ومنهم من يغلط عماره ويجعل الصواب قول الجندي.

(٦) ريمة : هي ريمة المناخي حصن منيع يقع غربي المذخيرة.

(٧) انظر السلوك ج ١ ص ٢١٧.

(٨) في الأصل بهذيا «سهوا».

٥٨

لإخضاع اليمن وبهذا الجيش غلظ أمر ابن زياد واتسع ملكه وشمل نفوذه حضرموت والشحر ومرباط وعدن والتهايم الى حلي بن يعقوب ، وملك من الجبال الجند وأعماله ومخلاف جعفر ، ومخلاف المعافر وصنعاء وأعمالها ونجران وبيحان والحجاز بأسره (١) وقلد مولاه جعفر الجبال واشترط على أهل تهامة ألّا يركبوا الخيل ولم يزل مواليا لبني العباس يخطب لهم على المنابر ويحمل إليهم الأموال العظيمة والهدايا النفيسة مالكا لليمن بأسرها إلى أن توفى سنة ٢٤٥ خمس وأربعين ومائتين.

وسنأتي على ذكر عمال حكومة بغداد على اليمن وتعدادهم تفصيلا في السنين التي خرجوا فيها ، وكان ينبغي ذكرهم تباعا من سنة ٢٠٦ وما بعدها ، ولكن حكومة بني زياد ستتفرق أنباؤها ، ويصعب على القارىء ضبطها ، وما عمدنا إلى هذا إلّا لما قرأنا في كتب التاريخ اليمنية وغيرها ، من أن بني زياد ملكوا اليمن بأسره ، وبعضهم يستثني آخر أيام إسحق بن ابراهيم المعروف بأبي الجيش ، ويقول انه لما أسنّ وكبر ضعف عن إدارة الملك ، واستخف به بعض ولاته ، فتغلبوا عليه كما سيمر بك قريبا ، وعلى كل تقدير فإنه لا يعقل ان ترسل حكومة بغداد عاملها على اليمن يجبي الأموال وينفذ ما يريد ، ويبطش بمن ناواه وجاذبه حبل سيادته ، وملك اليمن بأسره ، والحجاز بأسره كما زعم عمارة والخزرجي والجندي قابع قبوع القنفذ في قريته التي عمرها على وادي زبيد ، والذي يلوح لنا من خلال الحوادث انه كان يمتد نفوذ بني زياد على غير التهائم في بعض الفترات ، وقد جرى الأستاذ المعاصر الشيخ محمد الحضري في كتابه المحاضرات الإسلامية على منهاج المتقدّمين ، كأبي الفدا وصبح الأعشى ، وغيرهم ، فزعم أن محمد بن عبد الله بن زياد صار باليمن كملك مستقل إلا انه كان يوالي بني العباس.

ولما مات محمد بن زياد في التاريخ المذكور قام بالأمر بعده ولده

__________________

(١) راجع تاريخ الخزرجي ومفيد عمارة وتاريخ البهاء الجندي (المؤلف).

٥٩

ابراهيم بن محمد فقام بالأمر أتم قيام ، ولم يزل مالكا لليمن سائرا سيرة حسنة إلى أن توفي سنة ٢٨٩. هكذا في الخزرجي (١) وقرة العيون (٢) وشرح البسامة «اللآلى المضيّة» للسيد أحمد بن محمد الشرفي (٣) وغيرها ، وهو يخالف ما سيأتي فإن الروايات متضافرة ، على أن ظهور الإمام الهادي إلى الحق سنة ٢٨٤ في أيام أبي الجيش وقام بالأمر بعده ولده زياد بن ابراهيم بن محمد ولم تطل مدته قال الخزرجي : ولم أقف على تاريخ وفاته.

ابو الجيش اسحق بن ابراهيم (٤)

وبعد وفاة زياد المذكور قام أخوه اسحق بن ابراهيم بن زياد ويعرف بأبي الجيش فطالت مدته في الملك وبلغ فيه نحوا من ثمانين سنة ، فتشتّت عليه أطراف البلاد ، وتغلب عليه كثير ممن كان تحت يده منهم صاحب صنعا اسعد (٥) بن ابي يعفر بن إبراهيم بن محمد بن يعفر بن عبد الرحيم الحوالي ، ولكنه كان يخطب لأبي الجيش ويضرب الدراهم على اسمه ويستبد بحاصلات البلاد ، فلم يكن يحمل لأبي الجيش شيئا. قال الخزرجي : وكان مبلغ إرتفاع أموال أسعد بن أبي يعفر لا يزيد عن أربعمائة ألف دينار في السنة يصرف معظمها في سبيل المروّة لوافديه وقاصديه.

وفي أيامه ظهر الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين وكان خروجه المرة الأولى سنة ٢٨٠ ، فوصل إلى الشرفة من بلاد نهم ، وأقام بها مدّة ،

__________________

(١) العسجد المسبوك ص ٩٨

(٢) قرة العيون ج ١ ص ٣٢٣.

(٣) من العلماء المؤرخين وفاته سنة ١٠٥٥.

(٤) وفي أنباء الزمن حوادث سنة ٢٩٠ قال وفيها : مات ابراهيم بن محمد بن زياد صاحب زبيد وقام بعده ولده اسحاق الملقب بأبي الجيش وطالت مدته وهذه الرواية تخالف كل ما سبق فتأملّ (ص).

(٥) هذا يشعر ان بني الحوالي كانوا مربوطين بآل زياد وسيأتي ما يفيد ان ولايتهم كانت مستمدة من حلفاء بغداد (ص).

٦٠