تاريخ اليمن الإسلامي

أحمد بن أحمد بن محمّد المطاع

تاريخ اليمن الإسلامي

المؤلف:

أحمد بن أحمد بن محمّد المطاع


المحقق: عبد الله محمّد الحبشي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: شركة دار التنوير للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٨

والتنقير عن علم التاريخ ، وما بصحائفه من عبر وعظات ، ومن بين تلك الأسفار ما يخص اليمن المبارك ، «مجر عوالينا ومجرى السوابق» ، أحببت أن أقوم بذلك الواجب بعد أن بذلت الوسع ، واستفرغت الجهد في جمع الشوارد ، وقيد الأوابد ، واستقراء النصوص ، وتتبع الأدلة حسب الإمكان.

وقد راعيت أمانة النقل ، وواجب العلم فيما احتجيت به من كلام الغير ، وأبحت القراء من عقلي ونفسي ما أبحتهم من عقول ونفوس من نقلت عنهم ، فلم أكتف بنقل ما قالوه وجادت به عقولهم من دون أن أبدي رأيي ، ولا سيما فيما تضاربت عنده الأفكار ، واختلفت فيه الروايات ، فإني لم أقف هنالك وقوف المشدود الحيران ، بل تقدمت ومحصت بقدر ما أستطيع ، (مَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ) ، ومن الله استمد التوفيق ، وهو حسبي ونعم الوكيل.

وسأبتدي بذكر حضارة اليمن وأقوال المؤرخين في ذلك.

اليمن مهد الحضارة البشرية

اليمن الخضراء أو اليمن السعيد (١) ذات المروج الخضراء ، والسهول الممرعة ، والهضبات الخصبة ، والجبال الشاهقة ، والينابيع الفياضة ، والأنهار المتدفقة ، والأسداد المحكمة ، والآثار الخالدة ، مشرق شمس الحضارة ، ومطلع أفلاك المدنية ، مركز النبوغ ومعهد الثقافة ، مهد الإنسان الأول (٢) وأقدم بلدان المعمورة رقيا ، وأروعها مدنية ، وأعظمها عمرانا ،

__________________

(١) قال المؤرخ المعاصر الدكتور اسرائيل ولفنسون : «يعتقد جلاوز أن كلمة العرب السعيدة عن اليمن إنما هي ترجمة حرفية لكلمة اليمن باليونانية لأنها مأخوذة من اليمن والبركة ، لا كما يعتقد المستشرقون أن هذا اللفظ من اختراعات اليونان ، هذه ملاحظة دقيقة وتعارض النظرية التي تقول بأن كلمة اليمن تعني ناحية اليمين ، كما أن بلاد الشام من ناحية الشمال.

(٢) عن ابن قتيبة في كتاب المعارف.

٢١

تحت سمائها الصافية وعلى أديمها المنبت ، وفي مروجها النضرة مرحت أبطال الحروب ، وعباقرة الفنون ، ومهرة الرسامين ، ونوابغ الصناع ، وتركوا من نتاج عبقريتهم وآثار نبوغهم معاول الدهر ، وفل شباء القرون.

ولم تزل بعض تلك الآثار جاثمة كالخلود ، تمثل لرأيها أجيالا من ملوك حمير وسبأ ومعين والأذواء ، وينشد لسان حالها قبل سؤالها :

تلك آثارنا تدل علينا

فانظروا بعدنا إلى الآثار

وما عليك أيها الباحث إلا أن تقف قليلا بطلولهم الدوارس ، ورسومهم الطوامس ، بمعين ، وبراقش ، والحمراء ، وصرواح ، وسبأ ، وناعط ، وظفار ، وبينون وغمدان كي تناجيك آثارهم ، وتخبرك مآثرهم من نقوشهم المطلوسة على الأحجار ، وبقية أطلالهم الثابتة على كر الأعصار ، أنهم أساتذة العالم في تلك العصور ، فان بقية ما أسارته الأيام من القصور والهياكل والمدن والمعابد لا يزال قريبا ، مما كان ، والكثير منها سطا عليه الزمان ، فلم يبق منه غير العنوان.

طلل عند دمنة عند رسم

ككتاب محا البلا عنوانه

من رآها هذي ملوك ال

دهر هذا وقارهم والرزانة

وبقيا هياكل وقصور

بين أخذ البلى ودفع المتانة

ثم تندس ذلك القلم المسماري والخط الهيروغلوفي وردد الطرف في آثار الأمم التي نالت حظها الكامل من الحضارة في تلك القرون ، تجد المشابهة الكاملة ، والمشاكلة التامة ، شبه الماء بالماء والغراب بالغراب ، وحينئذ لا يسعك إلا الجزم بوحدة الأصل والتسليم بما قضت به أساطين البحث ورجال التاريخ وعلماء الاجتماع وغواة الآثار من أن تلك الأنوار التي أنارت الشرق والغرب قبس من هذه النار ، فإذا عرفت ذلك فما عليك إلّا أن تنشد بملء فيك.

٢٢

الملك فيك وفي بنيك وأنه

حق من الآباء للأحفاد

وأمانة التاريخ في أعناقهم

من عهد بابل يوم نهضة عاد

وذوي حمورابي وآل سميذع

وبني معين وحمير وأياد

وفيما تكاثفت عليه ظلمات الأعصار ، وطمرته أتربة النسيان ، وغمرته سواقي الزمان ، وزوابع الطغيان ، ولم يبق منه غير (نوء مثل خط بالقلم). من ذلك الماضي المشرق ، والشرف المؤنق ، والفخر التالد ، وما يشبع رغبات الباحثين ، وسد فراغ الخزائن ، ويسدي إلى التاريخ والإنسانية أعظم منه.

فمما لا شك فيه أن اليمن كانت لها حضارة موغلة في إثباج الماضي ، وأنها سبقت مدنية الإ غريق والرومان في تشييد الصروح والقصور والمعابد وتجميلها بالزخارف والنقوش والتهاويل ، وأن سبأ ومأرب كانتا محط رحال النوابغ ، ومثابة لرجال الفنون كالبنائين والحفارين والمصورين ، وان فن العمران بها كان قد سبق زمن (اقليدس) أستاذ الهندسة الأكبر كما يستفاد ذلك من أطلالها التي تدل بنقوشها أنها كانت قبل أن يعرف العالم أقليدس (١).

كانت اليمن وعرف وجودها قبل أن تشاد بيوت النيران ، ومعاقل الأوثان ، وبيع الصلبان ، وأديار الكهان ، قبل أن يبني خوفو (٢) هرمه العظيم ، ويؤسس سرجون (٣) الأول دعائم ملكه بالبحر المتوسط وجزر اليونان ، ويخرج موسى ببني إسرائيل من أرض الفراعنة : كانت شريعة

__________________

(١) اقليدس ابو الهندسة ومؤسس مذهب البحث العلمي وإليه يرجع الفضل في جعل عصر سيدة بطليموس سوتر ، عصر نفوذ رياضي عظيم ، وبطليموس هو مؤسس دولة البطالسة في مصر بعد الاسكندر سنة ٣٢٣ قبل الميلاد.

(٢) خوفو من الملوك الفراعنة الذين بلغت مصر في عهدهم شوطا بعيدا في المدنية.

(٣) سرجون الأول الآشوري أول من أسس ملكا ساميا كبيرا في أرض باجل سنة ٢٨٠٠ ق. م.

وامتد نفوذه إلى البحر الأبيض المتوسط وانتقل إلى الجزر اليونانية ، وسيأتي الكلام على الآشوريين عند ذكر الهجرات القديمة.

٢٣

«حمورابي» (١) أول شريعة عرفها البشر ونظام سنة الإنسان ، واليمن تنظر إليه بعين الإعجاب لأنه فرع من دوحتها العظيمة ، وغصن من شجرتها الباسقة ، وذلك قبل أن ينشر بوذا (٢) تعاليمه على ضفاف الكانج بقرون.

نقل المؤرخ الشهير استرابون اليوناني أن الإسكندر الكبير كان قد اختط خطة قبل موته ، قصاراها أنه يريد نقل عاصمة ملكه من الهند إلى اليمن ، وذلك يدل على ما كان لهذه القطعة المباركة من مكانة في نفس ذلك الفاتح العظيم ، وقديما اطلق عليها الرومان والفرس واليونان اليمن السعيدة ، والجزيرة الخضراء ، ووصفها مؤرخوهم بما يعجز القلم عن وصفه.

عرفت اليمن وعرفت حضارتها الرائعة وعمرانها الزاخر ، وعلومها المنتجة ، وفنونها الجميلة ، قبل أن تعرف أي مدنية على وجه الكرة الأرضية ، ثم كانت مدنيات موغلة في القدم كالمدنية الكلدانية والآشورية والكنعانية والفرعونية ، والفينيقية ، وفي بعض بقاع المعمورة كالهند ، والصين ، وما تلك إلا قبسات نور إنبثق من هذه البلاد كما سيمر بك قريبا :

مشت بمنارهم في الأرض روما

ومن أنوارهم قبست أثينا

قال الكاتب العلامة الأمير شكيب أرسلان في تعليقاته على ابن خلدون ما لفظه : (كانت للعرب مدنية لا سيما في اليمن في غاية الإرتقاء والإزدهار في نحو الألف السنة قبل المسيح) ، ويذهب الأستاذ المستشرق «موريتز» الألماني إلى أن أصل إيجاد الكتابة بالحروف بعد الكتابة الهيروغلوفية كان في اليمن ، وهو يعتقد أن اليمانيين هم الذين اخترعوا الكتابة وليس الفينيقيون هم الذين اخترعوها كما هو الرأي المشهور ، وقد أفضى موريتز إليّ بأدلة على هذا الرأي وقال إن الفينقيين إنما بنوا كتاباتهم على الكتابة العربية اليمنية ، ثم

__________________

(١) من الاسرة الكنعانية التي ملكت بابل بعد الآشوريين حوالي سنة ٢٣٠٠ ق. م.

(٢) ظهر بوذا في القرن الحادي عشر قبل الميلاد ، وقيل إنه كان عايشا في القرن السادس أو السابع قبل المسيح.

٢٤

أن اليونانيين أخذوا الكتابة عن الفينيقيين وأخذ عنهم الرومانيون ، فيكون العرب هم الذين أوجدوا الكتابة في العالم ، وبهذا الاعتبار هم الذين أوجدوا المدنية.

ونقل عن المستشرق «هرمل» نقلا عن الانسيكلوبيدية «دائرة المعارف الاسلامية أن اليونان أخذوا عبادة «أبولون» وأمه «ليوتو» عن العرب ، وقال «روبيرتسون سميث» أن «ليوتو» هذه هي اللات ، وأن اليونانيين بحسب رأي بريتوريوس أخذوا بعض أحرفهم عن كتابة عرب اليمن والبعض الآخر عن الكنعانيين.

وقال هومل أن جنوبي بلاد العرب كانت فيه مدينة في أوائل الألف قبل المسيح بالغة الحد الأقصى من الازدهار بما تركته من معابد وحصون ومحافد وقصور ومكتبات.

(١) فاليمن إذن مهد الديانات ووطن الأساطير ، عانقت الصابئية الأولى ، واحتضنت المجوسية ، كما حمت الوثنية وتغلغلت في جنباتها اليهودية ، وربت فيها المسيحية : دحرت الرومان ، وقهرت الغزاة ، ولفظت الأحباش ، وهضمت الفرس ، وخرجت من معارك الدهر وصراع القرون عربية إسلامية (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ).

فانها لم تلبث الوثنية أن خنست ، كما تخاذلت المسيحية ، وانكمشت اليهودية ، كما تراجعت المجوسية ، وأصبحت هذه القطعة المباركة وزر الأمن ، ومعتصم السعادة ، منبع الحكمة ، ومقر الإيمان ، والمحل الذي منه يأتى نفس الرحمن ، كما أخبر بذلك من لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم القائل : (الإيمان يمان والحكمة يمنية) ، هكذا صح عن سيد ولد آدم

__________________

(١) الحكمة : العدد ١١ ، السنة الثانية ، المجلد الثاني ، رمضان ١٣٥٩ ه‍ (اكتوبر / نوفمبر ١٩٤٠ م) ص ٣٢٨ ـ ٣٣٣.

٢٥

رجل العالم صلى الله عليه وسلم قبل أربعة عشر قرنا ، قبل عصر البخار والكهرباء واستنطاق الجماد ، وحل الرموز وقراءة النقوش ، ومعرفة الآثار ، قبل أن يعثر كريستوف كلمب على أمريكا بألف سنة قال سيد قريش «الحكمة يمانية».

وهناك طوت سجل الماضي ، وقامت بحمل راية الفتح لإسلامي ، فأنجبت من أبطال الحروب ، وكبار القواد ، وأفذاذ الحكماء ، ونوابغ الشعراء ، ومشاهير العلماء ، عداد نجوم السماء.

شهد الخلائق أنها لنجيبة

بدليل من ولدت من النجباء

هب رجال اليمن لنشر راية التوحيد خفافا وثقالا ، واحتملوا أبناءهم وأزواجهم ونزحوا إلى الطرف الأقصى من ديار الإسلام ، وهنالك في أرض الهجرة دافعوا دفاع الأبطال ، واقتحموا الأهوال ، وصابروا وصبروا وقاتلوا حتى ظفروا باحدى الحسنيين (١)

بعد أن ملؤا العالم قديما ، وأخذوا إمرة الأرض اغتصابا ، واستولوا على الممالك أحقابا ، وتسلموا زمام الحياة المادية والمعنوية دفعا وانتزاعا ، بمالهم من صفاء العقول ، ومضاء العزيمة ، وشدة البأس ، وعظمة المجد ، وكرم الأعراق ، فقد كانوا أعجوبة الحياة بكل مظاهرها ، ولله علامة اليمن نشوان بن سعيد حيث يقول :

قومي الذين تملكوا وتمكنوا

في الأرض قبل تمكن الاسكندر

الخاتمون لسد يأجوج الذي

لا يستطاع لردمه من مظهر

والضاربون الهام في يوم الوغى

بين الصوارم والقنا المتكسر

__________________

(١) خرجت الموجة الأخيرة اليمنية لفتح مملكتي فارس والروم في أيام أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، قال الواقدي أن أبا بكر قال لعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه يا أبا الحسين أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول إذا أقبلت حمير ومعها نساؤها وأولادها فابشروا بنصر الله على أهل الشرك ، قال نعم

٢٦

ولكم لحميركم وكم من مفخر

باق إلى ميعاد يوم المحشر

لا شك أن أهل اليمن بلغوا مبلغا (٢٣٠) عظيما في الملك ، واتسع نفوذهم ، فشملت معارفهم وحضارتهم كل ما استولوا عليه من الأقاليم والبلدان ، لأنهم وصلوا إلى ما لم تصل إليه مدارك الأمم في تلك العصور كما تدل عليه آثارهم.

ولا سيما بمدينة سبأ الشهيرة ، ومأرب حيث كانت أعظم مدينة في ذلك الزمن ، فيها من المعابد والقصور والحدائق وأنواع طرف المدنية ما يشهد لها بالسبق ، ولأطلالها اليوم من العظمة والجلال ما تتضاءل أمامه عظمة المدائن ، ويصغر بجانبه ملك كسرى وقيصر ، وحسبك ما وصفها به القرآن الكريم قال تعالى : (لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ).

وقوله تعالى حاكيا عن هدهد سليمان عليه السلام في وصفه عرش بلقيس وملكها : (إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ).

قال العلامة شكيب أرسلان : «على أن مؤرخي الأفرنج يعترفون بأن في كتب مؤرخي الإسلام عن مدينة سبأ القديمة والأدوار التي تلتها تنطبق أشد الانطباق على الكتابات المنقوشة في الحجر وعلى المنابع اليونانية والرومانية ، وكلها تفيد أن مدينة سبأ كانت راقية جدا ، وأرقى من المدنيات العربية الأخرى ، فالمباني القديمة الدائرة من آثار سبأ ، والنقوش والتماثيل وبقايا الأعمدة والهياكل والقصور والأسوار والأبراج وسدود المياه ، مما شاهده سياح الأفرنج بأعينهم ، يطابق أشد المطابقة الأوصاف التي وصف بها اليونان والرومان تلك الآثار المدهشة ولا يجدون فيها مبالغة ، كما أنه عند ما ينظر السائح إلى تلك الآثار لا يعود متعجبا مما جاء عنها في كتب الإسلام ، مما كان يظنه من أساطير الأولين ، وحسبك بما ذكره الهمداني من قصر غمدان

٢٧

وغيره من قصور سبأ مثل قصر سلحين وبينون ، وما ذكره من عظمة سد مأرب ، وما كتبه مؤرخو اليونان والرومان عن فخامة تلك القصور وهاتيك الأسداد والقلاع ، فهو مطابق للمحسوس المشهود بالعيان» اه.

وقد جاء وصف مدينة سبأ عن كثير من قدماء المؤرخين غير العرب قال «أغاثر سيدس» : أنه كان يوجد في سبأ كل شيء يجلب السعادة لبني آدم ، وغير المحصولات المشهورة يوجد فيها اللبان والمر والقرفة ، وكانوا يطبخون مأكولاتهم بالأخشاب ذات الروائح الذكية ، إلى أن قال : دعائم بيوتهم تلمع بالذهب والفضة ، وأبوابهم من العاج مزينة بالجواهر وباطنها يشبه خارجها ، إلى آخر كلامه الذي يدل على أنهم وصلوا إلى ما لم تصل إليه حضارة نيويرك وباريس ولندن اليوم ولا روما وأثينا وبيزنطة والاسكندرية في العصور الغابرة».

ونقل جرجي زيدان عن استرابون الرحالة اليوناني ، أن مأرب كانت في زمانه مدينة عجيبة ، سقوف أبنيتها مصفحة بالذهب والعاج والحجارة الكريمة ، وفيها من الآنية الثمينة المزخرفة ما يبهر العقول. وقال المستشرق (نيولد نيكلسون) الانقليزي في كتابه تاريخ العرب الأدبي : سبأ تستعمل غلطا إذا قصد بها كل بلاد اليمن على حين لم تكن سوى أقليم منها ، وان كانت بلا جدال أقوى شكيمة وأعظم أهمية من كل الممالك والاقاليم التي ورد ذكرها في كتابات الأغريق والرومان القدامى ، ومهما بولغ في عظمتها وثراها فمن المحقق أن سبأ هذه كانت ذات مركز تجاري ممتاز قبل ظهور المسيح بعدة قرون.

وجاء في الأنسيكلوبيدية الاسلامية (دائرة المعارف) أنه لا مبالغة فيما نقلوه من أن أبواب منازل سبأ وجدرانها وسقوفها وأعمدتها كان منها الكثير مموها بالذهب والفضة ، مرصعا بالحجارة الكريمة ، وأن آنيتهم كانت مصوغة من أنفس المعادن ، وهذا ما ذكره الهمداني والمسعودي وغيرهما من مؤرخي

٢٨

العرب ، وما أيدته الكتابات الصخرية نفسها فيما ترويه عن التقادم العظيمة من الذهب والفضة ونفائس الأحجار ، وقد وجد كثير من المسكوكات السبئية ومن الحلى تؤيد أيضا روايات الرواة من كل قبيل اه (١).

وقد علل بعض الباحثين وجود المدنيات بعلل شتى ، منها طيب المناخ ، وكثرة المياه أو المعادن ، ومنهم من يعزوها إلى غرائز اختصت بها بعض الأجناس البشرية ، وصفات جادت بها الطبيعة على بعض الشعوب دون بعض ، وكل ذلك متوفر في هذه البلاد وأهليها.

فمن الذي يجهل ذكاء أهل اليمن الفطري ، ونبوغهم العجيب ونشاطهم ، وما في طباعهم من الوجدان ، ونفوسهم من الحماسة ، وتلك بلا شك من أكبر عوامل النبوغ والتقدم. وفي تاريخهم الغابر كنوز لا تقدر بثمن محفوفة بسياج جلالة العلم ، وطرازه القوة ، وأسراره الذكاء والفطنة ، فكل حجر أقيم ، وكل تمثال نحت ، وكل نقش خلد ، هو صفحة الخلود ، أما من غمرت عبقريتهم أتربة النسيان ، وطمست معالم خلودهم حوادث الأيام ، فلم تتصل بسمع التاريخ فهم أكثر.

وأما خصب التربة ، وبركة الأرض ، وكثرة الإنبات ، وجودة الهواء ، وإعتدال الطقس فأشهر من نار على علم ، قال بعض المؤرخين (٢) : إن مأرب كانت في بهاء ، مشاهدها الطبيعية على شاكلة مدينة دمشق ، يجري في وسطها نهر عظيم تجتمع إليه المياه المنحدرة من أعالي الجبال ، فيتألف من هذه السيول الجائشة بحر شديد الاغتلام ، يفيض مرة في العام على المراعي والحقول فلا يذر فيها حسنا ، ولا يستبقي من روائعها روعة ، وبذلك أصبحت مرتادا للملوك والأمراء ، يرتادونه في فصل الصيف القائظ للترفيه عن أنفسهم ، وفي قوله تعالى : (بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ) ما لا يحتاج إلى مزيد.

__________________

(١) تعليقات الأمير شكيب على ابن خلدون.

(٢) هو الاستاذ المعاصر معروف الارناؤود في كتابه سيد قريش.

٢٩

(١) ألمعنا فيما سبق من أعداد (الحكمة) إلى عظمة اليمن التاريخية ، قيل في حضارتها القديمة ، ونقلنا ما جاء في وصف تلك المدنية عن قدماء المؤرخين من غير العرب كاليونان والرومان والفرس ونحوهم وكلهم أدلة متظافرة على تقدم المخترعين لتلك المدنية في الآداب والمعارف وتعمقهم في أسرار الطبيعة وما خفى من أمرها ، وبذلك يسهل الحكم بأن اليمن مهد الحضارة ، وأن مدنيتها من أقدم ما عرفه التاريخ.

قال العلامة ابن خلدون رحمه الله في مقدمته عند الكلام على العرب وبعدهم عن الصنائع لتوغلهم في البداوة ما لفظه ، وأما اليمن والبحرين وعمان والجزيرة وإن ملكه العرب إلى أنهم تداولوا ملكه آلافا من السنين في أمم كثيرة منهم ، واختطوا أمصاره ومدنه وبلغوا الغاية من الحضارة والترف مثل عاد وثمود (٣٨) والعمالقة وحمير ومن بعدهم من التبابعة والأذواء إلخ ...

وقد لحظ هذه الحقائق كتاب التاريخ الإسلامي كالمسعودي في كتابه مروج الذهب ، وابن هشام في كتابه المسمى بالتيجان ، والهمداني في الإكليل ، وغيرهم ممن كتبوا عن التأريخ القديم ، كل أولئك قص علينا من أخبار حمير ، وعظمة ملكهم ، وسعة ما استولو عليه من الأقاليم والأمم كالصين والهند والترك والبربر ونحوهم إلى ما يدعو إلى الدهشة والارتباك.

وإليك ما رواه نشوان بن سعيد الحميري للربيع بن ضبع الفزاري في كتابه شمس العلوم ، عند الكلام على ظفار ، قال : وللربيع بن ضبع :

وقل في ظفار يوم كانت وأهلها

يدينون قهرا شرقها والمغاربا

لهم دانت الدنيا جميعا بأسرها

يؤدي إليهم خرجها الروم دائبا

وغمدان إذ غمدان لا قصر مثله

زهاء وتشييدا يحاذى الكواكبا

__________________

(١) الحكمة : العدد ٢ ، السنة الثالثة المجلد الثالث ، ذي الحجة ١٣٥٩ ه‍ (ديسمبر ١٩٤٠ / يناير ١٩٤١ م) ص ٣٧ ـ ٤٣.

٣٠

وأرباب بينون وأرباب ناعط

خلا ملكهم منهم فأصبح عازبا

ومأرب إذ كانت وأرباب مأرب

توافي جباء الصين بالخرج مأربا

فمن ذا يرجى الملك من عبد حمير

ويأمن تكرار الردى والنوائبا

أولئك مأوى للنعيم كفاهم

ولكن وجدنا الخير للشر صاحبا

وقد أبطل هذه الروايات ابن خلدون في مقدمته ، وعدها من أغلاط المؤرخين ، وأطال في نقد كل رواية جاءت بغزو حمير لأمم الشرق أو الغرب ، وعلل امتناع ذلك بعلل جغرافية وأخرى إدارية وسياسية ، ولكنه وقع فيما أنكره على غيره ، ولا أقول كما قال فيه بعض المستشرقين من أنه قليل الثبات على وتيرة واحدة ، وإليك ما قاله في نقد أقوال المؤرخين أولا ، قال : (ومن الأخبار الواهية للمؤرخين ما ينقلونه كافة في أخبار التبابعة وملوك اليمن وجزيرة العرب من أنهم كانوا يغزون من قراهم باليمن إلى أفريقيا والبربر من بلاد المغرب وأن افريقش بن قيس بن صيفي من أعاظم ملوكهم الأول ، وكان بعهد موسى عليه السلام أو قبله بقليل ، غزا أفريقيا وأثخن في البربر ، وأنه الذي سماهم بهذا الإسم حين سمع رطانتهم ، وما قال : ما هذه البربرة الخ.

ثم ذكر رواية المسعودي أيضا من أن ذا الأذعار من ملوكهم غزا المغرب ودوخه ، إلى أن قال : «وكذلك يقولون في تبع الآخر من أنه ملك الموصل وأذربيجان ، ولقي الترك وهزمهم ، وأثخن ، ثم غزاهم ثانية وثالثة ، وأنه بعد ذلك أغزى ثلاثة من بنيه بلاد فارس والصغد والصين ، إلى أن قال : وهذه الأخبار كلها بعيدة عن الصحة ، عريقة في الوهم والغلط وأشبه بأحاديث القصص الموضوعة وذلك أن ملك التبابعة إنما كان بجزيرة العرب وكرسيهم صنعاء ، وجزيرة العرب ، يحيط بها البحر من ثلاث جهاتها ، فبحر الهند من الجنوب ، وبحر فارس الهابط منه إلى البصرة من المشرق ، وبحر السويس الهابط منه إلى السويس كما تراه في مصور الجغرافيا ، فلا يجد السالكون من

٣١

اليمن الى المغرب طريقا من غير السويس ، والمسلك هنالك ما بين بحر السويس والبحر الشامي قدر مرحلتين فما دونهما ، ويبعد أن يمر بهذا المسلك ملك عظيم في عساكر موفورة من غير أن تصير من أعماله ، هذا ممتنع في العادة ، وقد كان بتلك الأعمال العمالقة وكنعان بالشام ، والقبط بمصر ، ثم ملك العمالقه مصر ، وملك بنو إسرائيل الشام ، ولم ينقل قط أن التبابعة حاربوا أحدا من هؤلاء الأمم ، ولا ملكوا شيئا من تلك الأعمال الخ.

وهو كلام ظاهر البطلان منقوض ، ولا حاجة إلى بيان غلطاته والتنبيه عليها ، وسرد الروايات التاريخية المناهضة لها ، ولا سيما وقد نقضها هو ، وأورد هذه الأخبار مستدلا بها في عدة مباحث ، منها عند الكلام على الأمم المتوحشة ، وسعة ما تملك مستشهدا بحمير ، وكيف كانوا يخطون من اليمن إلى المغرب مرة ، وإلى العراق والهند أخرى ، وأن ذلك لم يكن لغير العرب من الأمم. وقال في صفحة ١٥٥ عند الكلام على طبائع الدولة في أدوارها الخمسة : وأعتبر ذلك بجوائز ابن ذي يزن لوفد قريش ، كيف أعطاهم من أرطال ، الذهب والفضة والأعبد والوصائف عشرا عشرا ، ومن كرش العنبر واحدة ، وأضعف ذلك بعشرة أمثاله لعبد المطلب ، وإنما ملكه يومئذ فرارة اليمن خاصة تحت استبداد فارس ، وإنما حمله على ذلك نفسه بما كان لقومه من التبابعة من الملك في الأرض والغلب على الأمم في العراقين والهند والمغرب ، وقال في موضع آخر : «وقد كان الخط العربي بالغا مبالغة من الإحكام والإتقان والجودة في دولة التبابعة لما بلغت من الحضارة والترف ، وهو المسمى بالخط الحميري ، وانتقل منها إلى الحيرة لما كان بها دولة آل المنذر ، نسبا التبابعة في العصبية ، المجددين لملك العرب وأرض العراق ، انتهى».

وعلى كل تقدير فإن أجل ما كتب في هذا الباب وأقربه إلى الحقيقة ، ما كتبه نشوان بن سعيد الحميري ، والحسن بن أحمد يعقوب الهمداني ، وهما من فحول رجال اليمن وأعيانها ، غير أنه من المؤسف بل

٣٢

الموجع أن معظم ما كتبوه سطت عليه أيدي الزمان ، ونوائب الأيام ، وكثير من ذلك خرج من اليمن ولاذ بخزائن الغرب ، لاذ ببرلين ولندن وروما والاسكريال ، وما بقي منه بالمين انكمش بخزائن العظماء ، وانحجر في ظلمات البيوت ينادم الفيران والأرضة ، مع أن مؤلفاتهما لا تخلو من المبالغة والمجازفة في كثير من الأخبار ، وذلك لبعد ما بينهم وبين من كتبوا عنهم من القرون الطوال ، فقد نقلوا ما سمعوه وفيما كتبوه طرفا من الخبر لأنباء عن الحقيقة. وزيادة على تقادم العهد ، ميلهم العظيم إلى المجد السالف والتغني بمفاخر الآباء والأجداد إلى درجة التعصب ، وهو ما حال بينهم وبين نقد بعض (٤١) الأخبار المبالغ فيها ، مع أن تلك الأخبار ليست كذبا ، ولا يصح إهمال ما جاء فيه ، نوع من الغلو ، قال الامير شكيب أرسلان : «جاء في الانسيكلوبيدية الإسلامية «دائرة المعارف : «أنه لم يوجد بين كتاب العرب من جاء بتاريخ حقيقي عن اليمن ، وبمعلومات مؤسسة على قواعد متينة ، مثل الهمداني ، فقد كان هذا الرجل يمانيا مولودا في صنعاء ، فحمله حب وطنه ، والإعجاب بقومه ، على تأليف كتاب الأكليل الذي ذكر فيه تاريخ اليمن ، ووصف العاديات التي هي في الجزء الثامن من الأكليل ، كان نشره مع ترجمة ألمانية الدكتور «مولر» ، وقد أخذ من الجزء العاشر معلومات تكمل ما ورد في كتاب الهمداني الآخر المسمى بصفة جزيرة العرب ، وقد كان في كتاب الهمداني قصص أشبه بالأساطير نقلها الهمداني على علاتها إلا انا برغم ذلك هو الكتاب العربي الوحيد الذي يفهم منه القارىء ما اليمن ومن أهل اليمن وفيه تفاصيل عن أنساب اليمن وطبائع أهلها ، وعن مواقع مدنها ، وعن قصورها وحصونها ، لا توجد في كتب الإفرنج برغم تدقيقاتهم ، وكذلك في إكليل الهمداني عن سبأ وعن سيل العرم ما لا يتم تأريخ اليمن إلا به ، وقد ذهب مولر أن الكتابات الحجرية لا تكفي لجلاء وتأريخ سبأ ومعين وبلاد اليمن».

وبالرغم على ما دونه الهمداني وغيره ، وما عثر عليه المستشرقون من

٣٣

النقوش وكشفوه من الآثار ووجدوه من المسكوكات ، فان تاريخ أولئك الأقوام لا يزال في مرحلته الأولى ، وطريق الدراسة مهما أمعن فيها المتوغل ، وتقليب الصفحات وان استغرقت أيام الحياة ، لا تسد الحاجة ولا تروي الغلة لما هنالك من مجاهل لا تهتدي الأفكار إلى مهيعها ، والحل الوحيد لهذه المشكلة إنما هو درس الآثار والتفهم لأسرارها ، وأظن الوقت قد حان للفوز بهذا الفخر العظيم ، فمن الخليق بتاج ذلك المجد الباهر يا ترى؟ الأمل وطيد في همم رجال الجد ، ذوي الغايات البعيدة ، والمراتب الكبيرة ، والنفوس العالية ، والضمائر الحية ، وما ذلك عليهم بعزيز.

إذن فما الحيلة؟ وكيف السبيل الآن إلى معرفة ما لا بد منه للمؤرخ ليعرف الحاضر حق العرفان ، لأنه لا يعرف بغير الماضي لما يستنتجه من المباحث التي تدرجت فيها الأمة وأدوار الانتقالات التي مرت عليها حتى يتسنى له وصف الروابط المعنوية والعادات الموروثة والأخلاق المتنقلة ، ليربط بين ماضيها وحاضرها برباط الوحدة التاريخية.

وهنا يقول القلم وهو يكاد يتعثر خجلا ، ليس أمامك أيها الباحث غير ما كتبه المستشرقون عن هذه البلاد ، وذلك المجد الضارب أطنابه بالنجوم وبقية ما دونه أولئك الآباء الأمجاد ، ولا أقول أنه من العار نقل ما كتبه المستشرقون (فالحكمة ضالة المؤمن) ولكن من العار الجمود عليه والوقوف عند ما رسموه ، وأن نبقى عالة عليهم حتى في معرفة بلادنا ، ومهد آبائنا ، ومدافن أجدادنا.

وعلى كل تقدير فإن للمستشرقين فضلا لا ينكر على التاريخ لإكتشافهم الآثار ، وحلهم النقوش ، ومواصلتهم البحث عن حقائق لها قيمة عالية في عالم التأريخ ، فقد أوضحوا كثيرا من خفاياه ، وعرفوا من الدول الغابرة والأمم القديمة ما لم يعرفه مؤرخو اليونان ولا الرومان ولا العرب أنفسهم كما سيأتي إن شاء الله قريبا.

٣٤

ومن أهم هذه المعلومات ما عثر عليه المستشرق هاليفي وقلازر وأرنو وغيرهم من آثار دول اليمن القديمة ، فانهم جزموا بوجود حكومات متعددة في جهة حضرموت وسبأ وما اتصل بها ، من أهمها : دولة معين وهي أقدم دول اليمن ، ثم دولة سبأ وحمير وحضرموت وقتبان ، بينما كان قدماء المؤرخين من العرب لا يزيدون (٤٣) على ذكر الدولة الحميربة ، وإليها ينسبون كل عظمة ، وبعض مؤرخي اليونان أشار إلى دولة معين بعدة كلمات

أحمد بن أحمد المطاع

٣٥
٣٦

مقدمة المحقق

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

لا بدّ لنا ونحن نستطلع خلاصة التاريخ فيما أنتجه أهل اليمن من آثار فكرية رائدة ، أن نقف عند شخصيات هضم التاريخ حقها وتجاهلها في نفسها وآثارها الفكرية ، وإذا ذكر هؤلاء يكون رأسهم الأديب الحر الشهيد احمد بن احمد المطاع فهذا الرجل ثمرة صالحة لتربة الأرض اليمنية برجالها المفكرين وأحرارها الأذكياء.

وكأني به وقد عاش في بيئة لا تشجع كثيرا المسلك الذي نحاه لنفسه ، قد سبر الأغوار ، وعرف ما يدور حوله من عوالم متقدمة ، وومضات رائعة تمنّى أن يكون لشعبه مثلها ، فطالع وكتب واجتهد حتى ظفر بما رامه فانتج وأبرز على الرّغم من قصر عاشها وقطف الثمرة ولمّا تأت بعد بكل ما فيها من أكل وفاكهة.

نعم نجد في النشر القصير الذي حملته صفحات مجلة الحكمة ما يعطينا صورة كاملة للعقلية المنفتحة التي عرف بها أديبنا الشهيد احمد بن احمد المطاع ، وكان ما كتبه منعطفا تاريخيا في فكرنا الثقافي الحديث قاطبة ، بل هو مرحلة مبكّرة من الإبداع لا نغالي إذا قلنا إنها الأولى من نوعها في الجزيرة العربية.

لكن الإنتاج الفكري الذي رأيناه في مجلة الحكمة ليس هو كل ما في جعبة شهيدنا من إبداع خلّاق ، وإنما سوّد مئات الصفحات في دراسة التاريخ

٣٧

اليمني وقد أراد بها أن تكون درسا عمليّا وتشريحا دقيقا لجسم الأمة عبر أطوارها التاريخية المتعدّدة ، وما اعتراه من أدواء متعمقة ، وأمراض نخرت في كيانه على إثر تفشّي الحكام المسيطرين الذين نهشوا جسمه وتركوه جثة هامدة لا تقوى على حراك.

وقد كان للشهيد أحمد المطاع رسالة وطنية عظيمة ، وفكر إصلاحي ثائر ، يأخذ عليه كل كيانه لم يستطع المجاهرة به في ظل الحاكم المسيطر ، فما كان منه إلّا أن جعل من دراسة التاريخ ستارا يندرج تحته ويبني في أجوائه علمه وما أراده من قول.

فكان هذا الإنتاج الكبير الذي بين يديك ، وهو ثمرة لجهد كبير ، تكاتف على القيام به نخبة من مثقفي اليمن ، ومفكريها في ذلك الوقت ، وهو ثمرة حيّة لمدرسة الحكمة التي تصدّرها الاستاذ احمد عبد الوهاب الوريث ورفقاؤه ، وكانت تنتج وتؤلف تحت رعاية الأستاذ عبد الله بن يحي بن محمد الذي شارك شهيدنا المطاع السيف والموت ، وكان الرجل قد رحل إلى مصر وشجّع نشر بعض الكتب اليمنية وتحقيقها فحقق اديبنا المطاع تحت نظره عطر نسيم وهو أول كتاب تراثي يقوم بتحقيقه باحث يمني في العصر الحديث ، وفي مصر كلّف الأستاذ محب الدين الخطيب بتحقيق الجزء العاشر من الإكليل وطبعه على نفقته ، ثم ترجمة كتاب رحلة ابونتى إلى اليمن ونشرها في مصر. وغيرها ثم تكونت لجنة التاريخ سنة ١٣٥٦ ه‍ لجمع شتات التاريخ اليمني ولمّ مصادره في تدوين شامل أضطلع به أعلام من اليمن في ذلك الوقت ، كان على رأسهم المؤرخ اليمني المعروف محمد بن محمد زبارة والأستاذ احمد بن عبد الوهاب الوريث والشهيد احمد المطاع والاستاذ عبد الله بن محسن العزب والاستاذ عبد الله بن عبد الكريم الجرافي ، وقد تقسموا أدوار التاريخ وعصوره.

فأخذ الأستاد احمد بن عبد الوهاب الوريث تاريخ اليمن قبل الإسلام.

٣٨

وأخذ المؤرخ محمد زبارة جانب التاريخ الإسلامي من صدره حتى القرن الثالث.

وتناول الأستاذ الشهيد احمد المطاع تاريخ اليمن من عصر الدول المستقلة حتى سنة ١٠٠٦ بداية الدولة القاسمية.

والأستاذ عبد الله بن عبد الكريم الجرافي تناول تاريخ اليمن من سنة ١٠٠٦ حتى سنة ١٣٠٧ ه‍ سنة قيام المنصور محمد بن يحيى.

أما الأستاذ عبد الله بن محسن العزب فإنه تناول تاريخ اليمن من سنة ١٣٠٧ حتى سنة ١٣٣٤ وقد وقفنا على قطعة من عمله وقمنا بنشرها.

قلت : لعلّ الأستاذ عبد الله العزب شاركه فيه آخر في فترات التاريخ المكلف بها لم نعثر على اسمه لأن الذي بين أيدينا ليس كل الفترة التي أخذ على نفسه تاريخها.

ومضى هذا الجمع من كتابنا في المهمة التي كلّفوا بها ، وكأنهم في مسابقة أدبية يظهر كل واحد منهم براعته وتفوقه. على أن بعضهم ـ يخيل إلي ـ لم يستطع انجاز عمله لأسباب قاهرة ، والذين انهوا عملهم هم ثلاثة المطاع في العمل الذي بين يديك ، والجرافي في كتاب يحمل اسم انباء اليمن ونبلائه بعد الألف ، وهو موجود بمكتبة الجامع الكبير برقم (١٨ تاريخ و ١٩ تاريخ) والعزب في قطعة تم لنا العثور عليها ونشرها.

وقد عبر كل قسم من الأقسام التي كتبت عن الشخصيات التي تناولتها ، فمؤرخنا المفكر احمد المطاع حينما كتب تاريخه أتى بما لم نعرفه قبله عند مؤرخ يمني آخر من منهجية وسير للمجريات التاريخية وطبيعة الأحداث وملابساتها مع نقد للروايات والمصادر ليس لنا عهد به قبله فصحّ له بهذا ريادة وتفوق وحتى قال الدكتور الشاعر عبد العزيز المقالح : «لا أتردّد عن القول بأنه عند ما يصبح لنا مؤرخون وتكون لنا دراسات تاريخية ، فلا بد أن يكون اسم أحمد المطاع على رأس أسماء أصحاب هذه الدراسات التاريخية

٣٩

لأنه الأب الشرعي للكتابة التاريخية بمعناها الحديث الذي نطلع عليه».

وقد أوفاه حقه من الدّرس الدكتور السيد مصطفى سالم في كتابه عن مجلة الحكمة فانظره هناك.

الشهيد المطاع

هو الأديب العلامة الشهيد احمد بن احمد بن محمد المطاع قال عنه زميله المؤرخ محمد زبارة في ترجمته له في نزهة النظرج ١ ص ٥٥ :

السيّد الأديب النجيب أحمد بن أحمد بن محمد المطاع العباسي مولده سنة ١٣٢٥ ه‍ بصنعاء ونشأ بها وأقبل على العلم والأدب بفهم صادق وذكاء وألمعية ونجابة وهمّة علية ؛ له يد في حسن الإنشاء وإقبال على الكتابة تولّى الكتابة بجريدة الإيمان مع القاضي العلامة عبد الكريم بن أحمد مطهر وكتب رسائل «مقالات» في مجلة (الحكمة) التي أنشئت بصنعاء وراسل الأدباء والعلماء وله شعر حسن.

كتب صاحب الترجمة وهو في بند رميدي من تهامة سنة ١٣٤٤ ه‍ إلى صديق له بصنعاء هذه الأبيات :

أزكى التحيات تغشى ثاقب النظر

سلام أنهى من الأزهار والزهر

ما غنّت الأيك في دوح الغصون وما

ترنم الورق في داج من السحر

فنسمة الصبح لما بالصّبا خطرت

أهدت لنا نفحة من طيبها العطر

وبارق الجزع قد أبدى لنا خبرا

عن الهمام خدين المجد من صغر

عن الذي بسويدا مهجتي سكنوا

بيتا من القلب لا بيتا من الشعر

وقد كتب صاحب الترجمة نبذة من التاريخ اليمني بعبارات شيّقة ، وذلك من حدود المائتين إلى رأس الألف أيام أسست لجنة لتأليف التاريخ اليمني ، وكان صاحب الترجمة والقاضي عبد الكريم الجرافي من أعضائها برئاسة المؤلف والمؤرخ محمد بن محمد زبارة.

٤٠