تاريخ اليمن الإسلامي

أحمد بن أحمد بن محمّد المطاع

تاريخ اليمن الإسلامي

المؤلف:

أحمد بن أحمد بن محمّد المطاع


المحقق: عبد الله محمّد الحبشي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: شركة دار التنوير للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٨

بوصاب شاكيا ما لحقهم من ابن مهدي ، وذلك انه خطب إليهم فتاة لهم فلبوه ، فطلع إليهم في ثلاثة آلاف من أصحابه ، جعلهم تحت الحصن ، ودخل على إمرأته في ثلاثمائة رجل منهم ، فلما تمكنوا من الحصن شهروا سيوفهم وذبحوا من فيه من صغير وكبير ، ذكر وانثى ولم يبقوا إلّا على أربع عشرة امرأة منهن صهرته وبناتها فسباهن ، وأخذ جميع ما في الحصن من الأموال ، وكان معه قوم من رازح (١) يقال لهم بنو منّبه زادوه جرأة ، فغضب الإمام لذلك ، وعزم على الانتقام من ابن مهدي فحشد قبائل جنب وتألف رئيسهم زيد بن عمرو ، وغيره من المشائخ بالمال ، فنهضوا معه وقصدوا زبيد (٢) فباتوا بها ليلة ، وتقدّموا إلى الجليب تحت حصن قوارير ، وأمسوا هنالك ، ولما أصبحوا ، أرسل الإمام جماعة للكشف عن ابن مهدي ، فتقدمت طليعة إلى محله فوجدوه في نفر قليل ، ولم يكن قد علم بوصولهم ، وعادوا إلى معسكرهم يحثون أصحابهم على مباغتة الرّجل وانتهاز فرصة غفلته ، فقال لهم شيخهم جابر بن عبد الله الجنبي : ان كنتم تريدون أموال أهل زبيد ، فدعوا ابن مهدي إلى أن تفرغوا من زبيد وهو لكم من بعد ، وان لم تكونوا تطمعون في زبيد ، فخذوا ابن مهدي ، وخذّلهم فتواصوا على كتمان الخبر عن الإمام وباتوا آمنين ، ولكن ابن مهدي انتبه لهم سريعا ، وبيّتهم تلك فما استيقظوا إلّا من وقع السيوف ، وثبت الإمام في جماعة من أصحابه ، وحملوا على ابن مهدي ، فانهزم ، وقتل جماعة ممن معه ، ولما أصبح الإمام أراد أن يتقدم إلى موضع ابن مهدي فامتنع عليه أصحابه وأبوا إلّا قصد زبيد فساعدهم وسار إلى زبيد ، وضرب مضربه بباب التبارق ، وقد ظفر جنده في طريقهم بقافلة لا بن مهدي تحمل حبّا وسمنا ، فنهبوها ،

__________________

(٢) قلت : هذه المعلومات المهمة التي يوردها مؤلف الكتاب عن سيرة الإمام المتوكل هو مما ينفرد به ولا توجد في سائر كتب التاريخ اليمنية المعروفة.

(١) رازح : أحد أقضية لواء صعدة يضم عدة قرى.

٣٤١

وأدخلوها زبيد فتبلغ بها أهل المدينة ، وخرجت العلماء والقواد والعظماء لاستقبال الامام والسلام عليه ، وحمدوا الله على قدومه.

وكان أمير زبيد يومئذ فاتك بن محمد بن جياش ، وكان فاسقا مسرفا تروى عنه أمور قبيحة موحشة في نفسه ، فبات الإمام وأصحابه وهم يسمعون عزف القيان ، ونغمات الطنابير ، وأصوات الملاهي ، ففزعوا لذلك ، وحولوا مضاربهم إلى الميدان ، وحرّض الإمام على قتل فاتك ، ولم يزل يعمل الحيلة في ذلك ، حتى تمكن منه ولمّا شعر الأمير الحبشي بالخطر ، أرسل بعض جواريه بفدية إلى الامام على أن يعزله ويولي سواه ، فلم يقبل منه الفدية وأمر به ، فكسرت رقبته ، ورمى قوما كانوا معه يفعلون المنكر بالحراب ، وبقتله انقرض ملك الأحباش من اليمن ، (هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً)(١).

فاذا الدار ما بها من انيس

واذا القوم ما لهم من محسّ

غير ذكرى مآثر وعظات

خلّدتها الدّهور في عرض طرس

يجد الناظرون في اسطريها

عبرة الدّهر والزمان المؤس

واذا فاتك التفات إلى الما

ضي فقد غاب عنك وجه التأسي

وبعد قتل الأمير المذكور ، أقام الإمام ثمانية أيّام ، وجعل على زبيد رجلا من من بني جياش يقال له محمد بن نجاح ، وكانت قوّاد الحبشة تنفق على عسكر الإمام مدة إقامتهم في زبيد ، وأمّا الإمام وخاصته فإنه كان ينفق عليهم من ماله ، وكان بعض قوّاد الأمير فاتك قد اغتصب كميّة كبيرة من مال فاتك واستجار بالإمام ، فاجتمع قوّاد الحبشة ، وقالوا ان مع هذا مال ملك زبيد ، فقال لهم الامام : يكون معه مال من كان ، فقد أجرته وما معه.

ثم عزم على الخروج لحرب ابن مهدي الى رمع ، ولما خرج من

__________________

(١) الآية ٩٨ سورة مريم.

٣٤٢

المدينة تأخر بعض أصحابه فأغلق عليهم اهل زبيد الباب وتقاعدوا عن الخروج ، معه لحرب عدوّهم ، ولم يفتحوا لهم الباب إلّا بعد أن خاطب فيهم الإمام ، وقد أخذوا خيلهم وسلاحهم ، فانثنى الإمام عن حرب ابن مهدي ، وهمّ بمحاربتهم لإساءتهم إلى أصحابه ، ثم انه ترك الكل ، وعاد إلى ذمار ، وفي أثناء الطّريق راجعه أصحابه في أخذ المال الذي اخذه القائد ريحان على مولاه فاتك وقالوا هو لبيت المال ، فقال : ما يسعني عند الله ، ولا ينبغي لي من المنعة ، وقد أجرته وماله ، وقد قال الله سبحانه وتعالى : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ)(١) وأنا أعمل فيه بكتاب الله ، ولم يزل معه حتى أبلغه مأمنه ، انتهى المراد نقله في المسيرة فيما يتعلّق بزولة زبيد ، ثم ان ابن مهدي شدد الحصار على زبيد ، حتى دخلها قهرا يوم الجمعة ١٤ شهر رجب سنة ٥٥٤ ، فأقام بقية شهر رجب وشعبان ورمضان ، ومات سادس شوّال من السنة ودفن في المشهد القريب من مدرسة الميلين (٢) وأوصى ولده أن يجعله جامعا يصلّي فيه ففعل ثم أخربه بعض ملوك الغز وجعله اصطبلا (٣) ومن شعر بن مهدي :

عناق القنا والصافنات السوابق

ألذّ وأشهى من عناق العواتق

وسهرتنا باللّيل فوق ظهورها

ألذّ إلينا من رقاد النمارق

وهي قصيدة طويلة (٤) قالها لما دخل زبيد ، وقام بعده ولده مهدي بن

__________________

(١) الآية ٦ سورة التوبة.

(٢) مدرسة الميلين : من مدارس زبيد يقول العاص اسماعيل بن علي الأكوع «نقع شرقي الدار الناصري ومكانها اليوم أو قريب منه مدرسة الاسكندر بناها الملك المعز اسماعيل بن طغتكين بن ايوب» انظر المدارس الاسلامية ص ١٨.

(٣) يقول ابن الديبع : ثم كان بعد ذلك يسمي معقاب عاتكة فجعل فيه محامل السلطان وغيرها من آلاتهم ثم خرب ولم يبق منه الا منارة سقطت في أول دولة الملك الظاهر الغساني سنة ٨٣١ انظر قرة العيون ج ٢ ص ٣٦٥.

(٤) انظرها كاملة في قرة العيون ج ١ ص ٣٦٤.

٣٤٣

علي فدوّخ البلاد وذلّت لهيبته الأمراء والملوك وسيأتي تمام خبره وخبر أخيه عبد النبي بن مهدي بن علي في موضعه ان شاء الله.

وفي هذه السنة سار الإمام احمد بن سليمان من ذمار إلى عيّان على طريق الجوف لما بلغه من إقدام عمر بن منيع السليماني ، وأقاربه على إخراج ولد القاسم بن جعفر وأقاربه وأهله من درب عيان ، واخراب ذلك الدّرب ، وكانوا يظنون ان ذلك يوافق غرض الإمام لميل ولد القاسم عنه ، فلما علموا بقرب الإمام من عيان ارتفعوا بمن معهم من دهمة إلى جبل شرقي عيان ، فأمر الإمام بقطع زروعهم ، وإخراب دورهم ، ثم عاد إلى مسلت ومنه إلى الخارد بالجوف الأعلى فاستقر فيه ، وعمر حصنا منيعا ، واجتمع حوله من أهل تلك الجهة ، جماعة للسكون (١) بجواره ودخلت سنة ٥٥٥ فيها خالف أهل مقرا وريمة القريبة من صنعاء على الإمام ، وكان قد استعمل عليها ولده المطهر فشدّد عليهم في الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ، والمحافظة على الصّلوات ، فكان هذا الحزم سبب الفساد ، ومنعوا الواجبات ، فنهض الإمام لحربهم حتى وصل إلى بلاد حاشد ، كتب إليه حاتم بن أحمد ان يمر على صنعاء فإنها بلاده ، ومراده المكر فعرف الإمام مراده ، ورجع طريق الجوف ، ثم نهض إلى الجهة المخالفة ، فظفر بأهلها واجتمع بولده المطهر ، ثم توجّه إلى ذمار ، ومنه إلى إب ، ثم رجع إلى الجوف ولقاه ولده المطهر واستقر هنالك (٢).

ودخلت سنة ٥٥٦ فيها مات السلطان حاتم بن احمد اليامي ، وتولّى بعده ولده السلطان علي بن حاتم يوم وفاة أبيه فبايعة أهل همدان ، ثم رجع إلى حصنه ، ضهر فأقام فيه أيّاما ، ثم خالف عليه أهل همدان ومالوا إلى

__________________

(١) في الأصل للكسون بتقديم السين.

(٢) انباء الزمن (ص).

٣٤٤

رجل من آل القبيب ، واجتمعوا في داره بناحية القطيع (١) من صنعاء وبلغ علي بن حاتم خبرهم ، فنهض إلى صنعاء في جمع كثير من القبائل واجتمع من همدان سبعمائة فارس عند باب شعوب ، فلما وصل علي بن حاتم تفرق أكثرهم وقاتلته طائفة منهم قتالا شديدا ، ثم ولوا عنه ودخل الدرب (٢) ، وخرج أخوه عمران بن حاتم ، وهو صبي صغير فقاتلهم في أزقة المدينة حتى قتل بسهم ، فاضطربت همدان لقتله خوفا من علي بن حاتم ، فوهب لهم علي بن حاتم دم أخيه تأليفا لهم ، وتسكينا لاضطرابهم ، واستقرّ في صنعاء ، وبعد أيّام أخذ حصن ذي مرمر وكان لقوم من همدان وكوكبان والعروس (٣) وكانا لبني الزّواحي ، وأخذ بكر وعمر هذه الحصون جميعها ، وملك الظاهر والمغارب ، وكان جوادا كريما يقطع الرجل من همدان البلد والبلدين ويمنعه من مضاررة أهلها ، وجعل على كل مخلاف عاملا فمتى آن حصاد الثمرة ، أمر عماله أن يقيضوا من الرّعية الخمس مجرّدا عن غيره من سائر المطالب على طريقة العبيديين (٤)

وفيها نزل المطهر بن الإمام إلى تهامة للصّلح بين الشريف قاسم بن غانم وبني عمّه السليمانيين ، وبعد إكمال عمله خفر قافلة الحاج ، وعاد معهم إلى صعدة ، فألحّ عليه أهل صنعاء بمرافقتهم إلى وطنهم فخرج معهم ، وفي أثناء الطريق باغته المرض. ودخل صنعاء عليلا ومات بها ، فحمله السّلطان علي بن حاتم إلى المنظر ، ودفنه بها وحزن عليه كثيرا ، ورثاه بقصيدة طويلة أرسلها إلى والده الإمام ، وقد ذكر هذه المرثاة ومرثاة الإمام كاتب السيرة.

وفيها أعاد الإمام الكرّة على أهل صعدة ، وسار لحربهم في جنود كثيرة

__________________

(١) القطيع : حاره بصنعاء في الجانب الشرقي منها

(٢) المصدر نفسه (ص)

(٣) حصن العروس من حضور بالجنوب الغربي من صنعاء وهو مقابل لكوكبان من الجنوب

(٤) انباء الزمن (ص)

٣٤٥

وكانوا قد أحكموا تحصين المدينة وجعلوا عليها خندقا فأحاط بها عسكر الإمام ، واشتد الحرب حتى اقتحموا المدينة وكبسوا الخندق ، وثغروا السور أيضا ، فخامر الصّعديين الفشل ، والقوا سلاحهم وتراسهم وسائر آلات الحرب ، فاستولى عليها الإمام واخرب كثيرا من دورها ، وعاد الى الجبجب وأذن لعسكره بالعود إلى أهلهم ، ثم انه نقل عائلته من الجبجب إلى الجوف ، فبلغه ان بني مالك ، وأهل صعدة فرحوا بانتقاله ، وانهم توعّدوا الأشراف ويرسم بالانتقام والطرد من البلاد فغار لذلك ، ولحقته الحميّة والرّأفة على أقاربه ، وبني عمه ، وأنصاره ، ورأى انه لا معدى له من حمايتهم ، وقد كره مقامه الأول بالجبجب ، ولا يريد المقام بصعدة ، فطلع حصن تلمص (١) ، قال كاتب سيرته : وهو حصن عظيم جاهلي في طود شامخ منفرد من الجبال مطل على الحقل ، وحاكم عليه وإلى جنبه مدينة صعدة القديمة ، وكانت من المدن الكبار العظيمة ، واسمها في الجاهلية جمع. وبحصن تلمص هذا يضرب المثل ، وكان يسكنه في الجاهلية نوال بن عتيك نازع الأكتاف ، من ولاة سيف بن ذي يزن ، قال الشاعر :

اصبحت توعدني بأمر معضل

حتى كأنك نازع الاكتاف

عبد ابن ذي يزن برأس تلمص

بين الأرائك مسبل الاسجاف

فلما طلعه الإمام أحكم تحصينه ، وعبّد طرقه ، وحفر مناهله ، وشاد فيه الغرف والقباب بالجص والآجر ، ومكث فيه إلى شهر محرم سنة ٥٥٨ ، ثم سار إلى الجوف ومنه إلى مسلت ، فوافاه بمسلت صنوه الشريف عبد الله بن سليمان ، وذكر له ان السّلطان منصور بن ابي النور العرجي صاحب مسور ، استطال على قوم بناحيته فأخذ حصنهم وعوّل عليه في القيام

__________________

(١) تلمص : بضم التاء واسكان اللام وضم الميم وصاد حصن مشهور في بلاد سحار من أعمال صعدة كانت تقوم في سفحه مدينة صعدة القديمة (المقحفي : معجم المدن والقبائل ص ٧١).

٣٤٦

لنصرة المظلومين فلم يجد الإمام بدّا من القيام ، لإخراج الظالم العرجي من حصن اولئك القوم وتكبّد المشاق لذلك. واجتاز طرقا وعرة المسالك ، حتى انه قال لبعض أصحابه : والله لو أعطيت عشرة آلاف على ان أنزل نقيل المحدد (١) ، وهو الذي رجع منه الهادي (٢) الى الحق عليه السلام ، وقال : ما افترض الله عليّ جهادا في هذه البلاد ، ولكني أطلب التّقرب إلى الله في نصرة المظلوم ، ورفع يد الظالم ، وصلة الرّحم في مساعدة صنوي (٣) ، وإسعاف سؤاله ومقصده ، ولما قرب من الحصن المذكور ، أقبل عليه النّاس ، فخاف العرجي على بلاده إن هو استمر في ظلمه وعناده ، فتخلى عن الحصن ، وسلّمه لأربابه ، ورجع الإمام إلى الجوف ، واجتمع إليه آل الدعام ، وغيرهم ، فسار بهم إلى حصنه تلمّص وأقام به أيّاما يراسل القبائل ، ويحرضهم على الاجتماع لقتال أهل صعدة ، فاجتمع منهم خلق كثير ، فتقدّم بهم إلى صعدة وحاصرها أيّاما ولم يتمكن منها لخيانة كانت من قبائل خولان ، فلما عرف ذلك أذن للجنود بالعود إلى بلدانهم.

وفيها وصل الشّريف ابو الفضائل علي بن إدريس السليماني من أرض وساع (٤) مهاجرا إلى الإمام في جماعة من أصحابه ، فأكرم الإمام نزلهم ، وأنزل الشّريف وأهله وحشمه في حصنه تلمص واحلّ الشرفاء الذين معه بدرب الأشراف وبعضهم بالجبجب.

قيام مهدي بن علي واحداثه

قد ذكر مهلك علي بن مهدي وأشرنا إلى قيام ولده عبد النبي وأخيه

__________________

(١) المحدد بفتح الدال وسكون الحاء المهملة ثم دالين مهملتين أولاهما مكسورة قرية آهلة بالسكان من آل الفليحي (صفة ١٢٣).

(٢) انظره سيرة الهادي ص

(٣) الصنو : الشقيق.

(٤) عدّة العقيلي في معجم جازان من أودية المخلاف السليماني.

٣٤٧

مهدي بن علي ، فكان عبد النبي يتولّى أمور المملكة ، وأخوه مهدي أمور الجيش والسّرايا فاستباح بلادا كثيرة وقتل قتلات عظيمة ، واغار على لحج مرتين إحداهما في شعبان سنة ٥٥٦ والثانية في رمضان سنة ٥٥٨ فقتل من أهل [لحج](١) في الغارتين عددا كبيرا وسبى الحريم ، ونهب أموالا كثيرة وقيلت في ذلك الأشعار منها قول الهندي (٢) الشاعر :

أتشرب الخمر في ربا عدن

والبيض والسمر في الحصيب ظما

كلا ومهدي فارس بطل

وصدر حيزوم يملأ الحزما (٣)

ثم أغار على الجند في شوال من السّنة المذكورة فحصرها أربعة عشر يوما ، ودخلها غرة ذي القعدة سنة ٥٥٨ فقتل اكثر من وجد فيها من صغير وكبير ، ورماهم في البئر التي في المسجد وحرق أكثر دورها وأحرق المسجد بمن فيه من الضعفاء والعجائز ، واموال الناس والكتب ، والمصاحف وقتل أهل قرية الذنبتين (٤) ، وكانوا قد اختفوا بأكمة ذي عراكض (٥) فدل عليهم صوت حمار لهم ، فطلع اليهم وقتل منهم جماعة ، وقتل أهل قرية العربة واخرب مسجد الجند ، وعاد إلى زبيد وقد أصابته طائرة (٦) تفطر منها جسمه ، بعد أن ظهر به شبه أحراق النار ، فلم ينزل إلّا في محفة قد فرشت بالقطن المندوف ، فلما صار في زبيد توفي مستهل ذي الحجة في السنة المذكورة

__________________

(١) ساقط من الأصل.

(٢) كذا في الأصل وفي العسجد المسبوك ص ١٣٦ (ابن الهنيني) وفي قرة العيون ج ١ ص ٣١٦. (ابن الهيبي).

(٣) هذه رواية الخزرجي وبغية المستفيد وقرة العيون وأنباء الزمن (ص).

(٤) الذّنبتين : قرية خربة من بادية الجندي.

(٥) موضع قبلى الذنبتين انظر (العسجد المسبوك ص ١٣٧).

(٦) هو المعروف عند اطباء العرب بمرض الطير وهو مرض جلدي يصيب الأعضاء الداخلية.

٣٤٨

وقال الخزرجي (١) نقلا عن صاحب العقد الثمين (٢) إنه لما رجع من الجند الى زبيد أقام بها أياما ثم مرض في المحرم سنة ٥٥٩ ، وتوفي يوم الأحد الثامن عشر من الشهر المذكور وقبر في المشهد مع والده واستقلّ بالأمر بعده أخوه عبد النبي.

وقال الجندي : انه لما هلك علي بن مهدي خلفه إبنه مهدي ، ولما تمهدت له قاعدة الملك غزا البلاد ، فصالحه الدّاعي عمران عن عدن والدّملوة بمال ، فقبله ، ولم يعترضه ولا بلاده ، ثم طلع الجند والمخلاف فقتل في الجند ونواحيها مقتلة عظيمة الخ ... (٣).

أحداث عبد النبي بن علي بن مهدي ، ومقتل الشريف وهاس

ما كادت تخمد نار فتنة مهدي بن علي بعد هلاكه حتى ائتنف النّاس من فتنة أخرى كسابقتها أو أشد فقد استقلّ بالأمر عبد النبي في سنة ٥٥٩ فأغار على أبين (٤) وأحرقها وقتل أهلها ، وما لبث أن عاد إلى زبيد بعد أن عاث وافسد في أبين وجهاتها ، ودخلت سنة ٥٦٠ فيها كان في تهامة مجاعة وقحط عظيم فهدأ عبد النّبي ولم يتحرك حتى إذ أمطرت البلاد وأخصب النّاس ، وأخذت الأرض زخرفها وازينت ، فاجأها ابن مهدي بأحداثه فقصد المخلاف السّليماني ، وكان بينه وبين صاحبه الأمير الكبير الشريف وهاس بن يحيى بن غانم موادعة ومهادنة فختر (٥) وغدر ، وباغت الشريف على غرة ، وليس معه غير عبيده وأهل المدينة وليس له وزر يعتصم به ولا حصن يفزع إليه ، فوقع

__________________

(١) العسجد المسبوك ص ١٣٧.

(٢) لعله نفس الكتاب المسمى السمط الغالي الثمن لابن حاتم وهو من الكتب القيمة طبع في لندن تحقيق الدكتور ركس سميث.

(٣) الخزرجي وأنباء الزمن وقرة العيون (ص).

(٤) أبين : مخلاف مشهور على ساحل البحر الهندي شرقي عدن.

(٥) ختر : غدر والختار الغدار والختر اقبح الغدر.

٣٤٩

ابن مهدي وأصحابه في أهل الساعد (١) مدينة الشريف المذكور فقتلوا أهلها وقتلوا الامير وهاس وولده بعد أن دافعا عن نفسيهما وسبيت النساء ونهبت الأموال ، ولما بلغ الإمام مقتل الأمير وسبي الحريم ساءة ذلك واغتم غمّا شديدا ، وقال : لا رحم الله وهاسا لقد كان لنا غمّا وعارا في حياته ومماته ، ثم كتب إلى أخيه الأمير قاسم بن غانم يعزّيه ويؤنبه وكافة بني هاشم بقصيدة أولها : (٢)

هو الدهر يرضى اهله ثم يغضب

ويبني لهم حينا وحينا يخرّب

ومنها :

كفعل ابن مهدي اللّعين وخربه

وهم ثلة ترعى المواشي وتحلب

وما أظهروا من منكر في تهامة

وخطب جسيم صدعه ليس يشعب

ومنها :

وصالوا على وهاس غدرا وبينه

وبينهم عقد ولم يتطيّبوا

وفي هذه الحادثة الممضّة يقول عبد النبي قصيدته المسمّطة يرثي بها والده ويذكر فيها حوادثه وأخباره منها قوله :

وهاك فاسمع خبرا

جاءت له الحبو كرى (٣)

من ساعد وتعشرا (٤)(٥)

وعارض فيها هما

لوت بوهاس ضحى

فابتدرته مرحا

فضل من تحت الرحى

مضرجا مرغّما

__________________

(١) الساعد : عدّها الهمداني قرية من حكم (صفة ٩٧).

(٢) سيرة الإمام احمد.

(٣) الخزرجي وقرة العيون وبغية المستفيد.

(٤) الداهية والمعركة بعد إنقضاء الحرب.

(٥) تعثر : واد من أودية المخلاف السليماني.

٣٥٠

إلى آخرها وهي طويلة تشهد له بالابداع وسعة الإطلاع (١) قال صاحب انباء الزمن (٢) نقلا عن بعض المؤرخين (٣) أفترق ملك اليمن في هذه المدة ، فكان عدن وأبين والدّملوة وتعز إلى نقيل صيد لآل زريع أهل عدن ، وذمار ومخاليفها لسلاطين جنب وصنعاء وأعمالها الى الظاهر ، وحدود الأهنوم لعلي بن حاتم صاحب صنعاء ، وصعده وما اليها للأشراف ، وشهارة وبلادها لأولاد القاسم العياني عليه السلام ، والجريب وما حاوله ، لولد عمر بن شرحبيل (آل أبي الحفاظ) (٤) الحجوري وتهامة الشامية (المخلاف السليماني) (٥) الى حرض للشريف وهاس بن غانم بن يحيى بن حمزة السليماني (٦) ، وبلاد زبيد إلى حد حرض من جهة اليمن إلى عبد النبي بن علي ، ولم يزالوا كذلك إلى أن زالت دولتهم جميعا ببني أيوب الآتي ذكرهم إن شاء الله قال : وأما الأمام احمد بن سليمان عليه السلام فإنّه لم يعمر دارا ولا جبى خراجا ولا درّب دربا ، وانما مضى على الجهاد ، ومحاربة أهل البغى والفساد ، فجزاه الله عن الإسلام وأهله خيرا انتهى.

ودخلت سنة ٥٦١ فيها طلع احمد بن علي بن مهدي من زبيد لعمارة مدينته الجند في عسكر جرّار ، وابتدأ في عمارتها من يوم السّبت خامس شهر ذي القعدة من السنة ، واستمر إلى نهاية الشّهر المذكور ، ثم أغار على الجوة (٧) وبها جيش الداعي عمران بن محمد بن سبأ الزريعي فدخلها جند إبن مهدي وحرقها ، وقد كانت سبقت له غارة على الجوة أيضا في بعض الأعياد ،

__________________

(١) انظرها في العسجد المسبوك ص ١٤٢ وثغر عدن ج ٢ ص ١٢٧.

(٢) غاية الأماني (مختصر انباء الزمن) ص ٣١٦.

(٣) هو الحجوري في روضة الأخبار (مخطوط).

(٤) ما بين القوس من زيادة المؤلف.

(٥) كسابقه.

(٦) في غاية الأماني «للشريف غانم بن يحي بن حمزة بن وهاس السليماني».

(٧) الجوة : مدينة خربة في جبل الصلو تحت قلعة الدملوة.

٣٥١

وظفر بأهلها يومئذ فقال في ذلك الشاعر الهندي (١) :

بكرت نقل من الكماة ضراغما

من آل مهدي هما احازما

وكذاك ليس تروق ابنية العلا

إلّا إذا كنتم لهنّ دعائما

صبحت اكناف الجواة بغارة

شعواء طبقت الحماة جماجما

وحرمتهم فيها مطاعم عيدهم

وتركتهم للمرهفات مطاعما

ودخلت سنة ٥٦٢ فيها طلع عبد النبي إلى الجند في جمادي الآخرة من السنة وعاد إلى زبيد وخرج إلى مخلاف جعفر وحصر حصن المجمعة (٢) فأخذها ثم قصد مدينة إب فأخذها يوم الخميس الخامس من شهر ربيع الأول من هذه السنة وأخذ الشماحي (٣) يوم الأحد الثامن من الشهر المذكور واستولى على البلاد ، وبث السّرايا والجنود في كل جهة وسار إلى عدن فحاصرها

ودخلت سنة ٥٦٨ (٤) فيها طلع السلطان عمران بن محمد الداعي سبأ إلى صنعاء يستنجد بالسلطان علي بن حاتم صاحب صنعاء فأكرمه ولم يتأخر عن نصرته ، وجمع همدان وسنحان وبني شهاب (٥) ونهد وغيرهم ونهض بهم لحرب عبد النبي ، وكان السلطان الزريعي قد تقدمه إلى جنب ومذحج ، واستنفرهم للقتال فنفروا معه واجتمعت الجنود كلها في السّحول (٦) وذلك سنة ٥٦٩ ، فنهضوا مجتمعين ، وقد تقدّمت جيوش ابن مهدي إلى حصن المسواد (٧) وذي جبلة فتلقّتهم جيوش علي بن حاتم ، فانهزم أصحاب ابن

__________________

(١) كذا عند المؤلف كسابقه وفي العسجد «الهنيني»

(٢) حصن في الشوافي من أعمال إب

(٣) الشماحي : قرية من عزلة الموية من بعد ان.

(٤) هذه الحادثة كان وضعها هنا سهوا وسنأتي على بقية الحوادث التي من بعد سنة ٥٦٢ (ص).

(٥) الخزرجي والجندي وقرة العيون وبغية المستفيد (ص)

(٦) السحول : بلد معروف ما بين مدينة إب جنوبا وحتى قفر يريم شمالا

(٧) المسواد : جبل بالجنوب من مدينة إب فوق نقيل المحمول من جهة الشرق ..

٣٥٢

مهدي وقتل منهم خلق كثير ، وأسر وغنم ودخل ذي جبلة ، فلم يجد بها أحدا من عسكر ابن مهدي ، وكانوا قد هربوا ليلا ، وانحاز بعضهم إلى دار الحرة أروى بنت علي بن محمد الصليحي ، فاستولى عليها السلطان علي بن حاتم وأجار الحرة ، وجميع من معها من عسكر ابن مهدي وغيرهم ، وما معهم من أموال وخيل وسلاح ، وبقي بها مدّة ، ثم نهض بعسكره إلى الجند ، فوجدها خالية من العسكر والرّعايا فدخلها بعض العسكر ، وأقام السلطان علي بن حاتم خارج المدينة ، وبلغه أن عبد النبي في حصن تعز ، وقد اجتمع إليه أصحابه فخف علي بن حاتم ومن معه لمهاجمة تعز ، فلما دخل المدينة وجد عسكر عبد النبي قد اجتمعوا إلى ذي عدينة (١) ، فوقع القتال الشديد بين الفريقين ، فكانت الدائرة على أصحاب ابن مهدي ، وقتل منهم مقتلة عظيمة ، وعقر من خيلهم شيء كثير ، وأخذ منها نحو مائة فرس ، ونهب من سلاحهم ، وعددهم شيء كثير ، ونهبت ذي عدينة يومئذ نهبا عظيما ، وكان عبد النبي بن مهدي في أعلا حصن تعز على سطح من سطوحه وراء كتيبة تبرق ، فقال : ان صدقني ظنّي فهذا علي بن حاتم فقيل له : نعم تلك كتيبة همدان فأنشد متمثلا :

واعلم بني بأن كل قبيلة

ستذلّ ان نهضت لها قحطان

ثم رجع السلطان علي بن حاتم في أصحابه الى الجند وأخرب دار المملكة في الجند التي عمرها السلطان محمد بن سبأ بن أبي السعود ، ووافته الأنباء بأن العسكر الذي كان بالرعارع (٢) محاصرا لعدن من قبل ابن مهدي قد هربوا فأراد ان يهبط تهامة ، فلم تطاوعه قبائل جنب على ذلك وتفرّقوا عنه ، وكتبوا لإبن مهدي :

رحلنا وخلّفنا السلاطين خلفنا

فدونك يا عبد النبي عشاكا

__________________

(١) احد أحياء مدينة تعز.

(٢) الرعارع : مدينة كانت عاصمة مخلاف لحج أيام الزريعيين وهي اليوم خراب.

٣٥٣

فأمر إبن مهدي بصده عن طلوع نقيل صيد (١) وبعد قتال عنيف تمكن علي بن حاتم من طلوع النّقيل وأراد ان يعيد الكّره علي عبد النبي فلما علم بذلك راسله في طلب الصلح فأجابه السلطان علي بن حاتم وشرط عليه عدم التّعرض لبني زريع فقبل عبد النبي وتم الصلح على ذلك.

قال في أنباء الزمن ودخلت سنة ٥٦٣ لم يتفق فيها ولا في السنة التي بعدها ما يوجب الذكر.

ودخلت سنة ٥٦٤ فيها وقعت حروب بين الإمام احمد بن سليمان وبين الأشراف القاسميين وساق الخبر الآتي ، وقد وجدنا في سيرة الامام الحوادث المحررة هنا قبل خبر الاشراف القاسميين وإليك البيان وذلك من سنة ٥٥٩ وما بعدها فذكر : أن أصحاب ابن مهدي لما طلعوا إلى مخلاف جعفر وكانت محطة جنب في نقيل صيد في اعلاه عند حصن سماره وقد أضرّ بهم أصحاب ابن مهدي.

فوصل الامام الى بلد عنس ففرح الجنبيون بوصول الإمام وأشاعوا انه وصل ممدّا لهم ، فلما علم بذلك جنود ابن مهدي رجعوا زبيد ولما وصلوا زبيد ، بلغهم أن الامام تقدّم الى بلد عنس ، وزبيد وانه لم يأت في شأن جنب ، وأعادوا الكرة على جنب ، فكانت بينهما حرب في السّحول أوقعوا بجنب وأخذوا ابلهم وأزوادهم وجميع ما تحويه محطّتهم ، فعظم الهول واشتد الخطب على أهل ذمار ، واستعدوا لمغادرة البلاد والفرار إلى حيث يعوي الذّئب (٢) ، خوفا من إبن مهدي وفرقا من جنده ، فدخل الإمام ذمار ، وسكّن روعهم ، وجمع جنبا وأخذ عليهم العهود في المتابعة ، ولما علم بذلك أصحاب ابن مهدي وعلى رأسهم زعيمهم أحمد بن علي الحرامي ، وكان قد

__________________

(١) هو ما يعرف الآن بسمارة في رأس جبل صيد بين الأشراف القاسميين إب ويريم منتهى حقل اقتاب).

(٢) من الأمثال يقال في حيث يعوي الذئب أي بالغ في الهرب.

٣٥٤

نزع يده عن الطاعة ، وأقام بأكناف تهامة مما يلي الجبال ، فرح وكتب إلى الامام يستقدمه ويستدعيه ويعده الموازرة ، وانه سيدخل عكّا (١) في الطاعة وهم قوة ابن مهدي وأنصاره فكتب إليه الإمام كتبا منها كتاب دعوة ، وهو :

بسم الله الرحمن الرحيم (٢).

من عبد الله المتوكل على الله والداعي إليه والمجاهد في سبيله أمير المؤمنين أحمد بن سليمان بن الهادي إلى الحق المبين يحيى بن الحسين بن رسول الله صلى الله عليهم أجمعين وآلهم الطيبين إلى الكافة من المسلمين الرّاغبين في الاعتصام بحبل الدين ، سلام عليكم ، فاني أحمد إليكم الله الذي بهر برهانه وغمر إحسانه ، وعمت آلاؤه ، وحسن بلاؤه ، وأسأله ان يصلي على جدنا محمد خاتم الأنبياء ووصيه سيد الأوصياء والشجرة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء ، وعلى عترته الأبرار المصطفين الأخيار الذين هم ينابيع العلم وعيونه ، ورضاب الحق ومعينه ، مفاتيح أقفاله ، ومصابيح حرامه وحلاله ، قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله حكاية عن ربه عز وجل انه قال : انت شجرة على أغصانها وفاطمة ورقها والحسن والحسين ثمارها خلقتها من طينة عليّين وخلقت شيعتكم منكم انهم لو ضربوا على أعناقهم بالسيوف لم يزدادوا لكم إلّا حبّا ، وقد شيد ذلك ما روي عن جدنا رسول الله انه قال : في كل خلف من أهل بيتي عدول ينغوي عن هذا الدين تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين : ثم اني أتيتكم عباد الله من أفضل أهل بيت نبيّكم على ما لا يتوارى نوره ، ولا يتبارى مسيره فانهم علائق للنجاة ، ووثائق للفوز من المهلكات ، قال جدنا رسول الله

__________________

(١) اي قبيلة عك وهي من الأزد من ولد عدنان بن عبد الله بن الأزد بن الغوث بن النبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ.

(٢) هذه الرسالة نموذج من الأدب السياسي الذي كان يتعاطى خلال القرن السادس (زمن كتابة هذه الرسالة) وقد نقلها المؤلف من الكتاب النادر سيرة الإمام أحمد بن سليمان فيفهم.

٣٥٥

صلى الله عليه وآله وسلم «مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ، ومن تخلّف عنها غرق وهوى (١)» فكما علمتم عباد الله ان أمة نوح كلها هلكت إلّا من ركب في السّفينة ، فكذلك يهلك من أمة نبينا من لم يتمسك بعترته الطاهرة الأمينة ، وهذا موضع التشبيه بين الأمتين ، والتنبيه على عظم خطر الحالتين ، ، والذي لا يتمارى فيه العارفون ، ولا يختلف في صحته المتفقون ، (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ)(٢) فرض الله سبحانه مودّتنا أهل البيت على قاصي الأمة ودانيها ، ومطيع البريّة وعاصيها ، فقال عز من قائل (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى)(٣) وقال رسول الله «أحبوا لله لما يغذوكم من نعمه ، وأحبّوني لحبّ الله وأحبوا أهل بيتي لحبّي وروى عنه أنه قال ان الله تعالى جعل أجرى عليكم المودة في القربى واني سائلكم غدا ومحف لكم في المسئلة ، وحرّم بغضنا على الأحمر والأسود ، وجعلنا بابا إلى عذاب الأبد ، والهلاك المخلد (٤)(٥) وإحباط محاسن الأعمال ، وحرمان الجزيل من النّوال ، وقد شهد بذلك ما روى عن جابر بن عبد الله ، قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وقال أيها الناس من بغضنا أهل البيت بعثه الله يهوديّا ، قلت : يا رسول الله وإن صام وصلّى وزعم انه مسلم قال وان صام وصلّى وزعم أنه مسلم ، فنحن أولو الأمر الذين أمر الله سبحانه بطاعتهم واوجب على عباده فرض متابعتهم :إلى أن قال : ولما انتهى الأمر في هذا الزّمان إليّ ووجب فريضة النّظر في المهمات عليّ ، ورأيت ما شاع من الطّغيان والمنكر ، وظهر من الفساد في البر والبحر ، لم يسعني في دين الإسلام ولا جاز لي في مذاهب الأسلاف

__________________

(١) حديث اخرجه البزار عن ابن عباس وعن الزبير انظر «الفتح الكبير» ج ٣ ص ١٣٣.

(٢) الآية ٤٣ سورة العنكبوت.

(٣) الآية ٢٣ سورة الشورى.

(٤) حديث أخرجه الترمذي عن ابن عباس.

(٥) في الأصل الملحد.

٣٥٦

الكرام ، أن أتسربل سرابيل الونى ولا أسدل على نفسي أستار الهوينا ، ولا أركن إلى زهرة الحياة الدنيا ولا أن أطلب لذّتها التي تبيد وتفني ، وقد سمعت الله يقول (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها)(١) الآية فعلمت ان لزوم الفريضة لي بالدعاء للحق إلى الله ، والجهاد في سبيله قال تعالى (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ).

وقال : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ) الآية (٢) ولا شك في وجوب الاجابة عليكم وتوجّه فرضها إليكم قال تعالى (يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ)(٣) الآية.

معاشر المسلمين أجيبوا دعوتي فإنّي أدعوكم إلى أن تحيوا ما أحياه كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ، إلى آخر الكتاب وهو طويل جدّا.

ولما وصل ذلك الكتاب وما معه من الكتب إلى إبن الحرامي اطلع عليه أصحابه ، وكان فيهم ابن عمّ له من فقهاء الشافعية فتدسس إلى مكاره إبن عمه ، وما اكثر دسائس الأصدقاء الأشرار ، وسعى في إيصال الكتب إلى عبد النبي بن مهدي فاستطار لبّ عبد النبي ، وتضاعف قلقه ، وبذل كل قواه في إستمالة ابن الحرامي وأصحابه رؤساء عك ، حتى أوقعهم في حبائل مكره ، ومصائد مكيدته بما أنهد لهم من الصّلات ، وزخرف من الأقوال ، ثم عرضهم على السّيف فقتل من رؤساء عك ثلثمائة فارس وخمسين فارسا ، فيهم ابن الحرامي وغيره من رجالهم المعدودين ، وتلك عاقبة من أسرف في الثّقة وأثمن غير أمين :

إذا أنت حمّلت الخؤون أمانة

فانك قد اسندتها شر مسند

__________________

(١) الآية ١٥ سورة هود.

(٢) الآية ١٠٤ سورة آل عمران.

(٣) الآية ٣١ سورة الأحقاف.

٣٥٧

فقد ارتكب ابن الحرامي غلطتين عظيمتين أولاهما : إفشاء سرّه وإظهار ما يجب كتمانه ، والثانية ركونه إلى عدوّه وإنجذابه إلى فخّه وبذلك هلك وأهلك.

(وغرة مرة من فعل غرّ

وغرة مرتين فعال موق) (١)

قال كاتب سيرة الإمام احمد بن سليمان وعنه نقلنا هذه الأخبار : (وبقتل هؤلاء الرّجال ضعف أمر بني مهدي ، واختل حالهم ولم تبق لهم طاقة يبلغون بها حيث كانوا يبلغون ، وافترق أولاد إبن مهدي في ذات بينهم).

وكان الإمام قد أرسل القاضي علي بن عبد الأعلى بن ابي يحيى إلى عدن داعيا له ومعه نسخة من كتاب الدّعوة التي قدمنا ، وصاحب عدن يومئذ ، عمران بن محمد بن سبأ ، ففرح بمقدمه وسرّه حركة الإمام ، وجمعه القبائل لمحاربة ابن مهدي الذي أضرّ بمخاليفه ، وأخذ أكثر بلدانه ، وجعله خائفا يترقّب مهاجمة عدن ، وإلحاقه بأمس الدّابر ، فأعاد سفير الإمام ورجلا من قبله ، ومعهما هدايا وتحف نفيسة قدمها كشاهد على إخلاصه ، وطلب من الإمام المواجهة إلى المخلاف ، فلم يلتفت الإمام إلى ذلك ، وكانت قبائل همدان وجنب ومذحج ، وسنحان قد عاهدوه على النصرة والنّهوض معه إلى زبيد ، فنهد بهم إلى مقرا وترامت أنباء حركته إلى بني مهدي ، فماجوا واضطربوا ، ولاذوا بحصن قوارير فتيقّن الإمام فوزه ورجحان كفته إن هو أقدم بمن معه من الجنود المتحمسة لمحو بني مهدي ، واستئصالهم ، ولكنه فكر فيما بأيدي بني مهدي من سبايا الأشراف السليمانيين وحمير وهمدان وخولان والحبشة ، وعرف أنهم سيقهرون ويغلبون ، وتؤخذ السبايا من أيديهم وتصبح في قبضة جيوشه الموتورة ، وعندئذ يصعب تداركها ويتعذر استخراجها من أيديهم ، كما أنه ليس من السهل كبح نزعاتهم الجامحة إلى السّلب والاستئثار

__________________

(١) موق : حمق.

٣٥٨

(وتلك معرة الجيش) فأراد الإمام صرف ذلك الجند عن مجد الفتح ، وعزة الظفر ، حتى يستنهض بني سليمان وكافة بني حسن إيثارا لهم بلذة الإنتقام ، وزهو الغلب ، لأنهم أحق بالعز من سواهم وأسلس قيادا لسلامة طباعهم من خلق الكبر والمنافسة المتأصلة في نفوس غيرهم من القبائل اليمنية ، فاعتزم العود وتأجيل القضاء على الخصم الى فرصة أخرى ، فانحل نظام ذلك الجمع ، وقلعت المضارب ورجع إلى وقش (١) وكانت المطرفية (٢) ، قد خافت فوصل إليه بعض رؤسائهم معترفين بالخطأ ، طالبين عفوه ، فعفا عنهم ، وهرب بعضهم دفاعا عن عقيدته فأقر القاضي جعفر بن عبد السلام بهجرة وقش ، ومكث الإمام هنالك برهة ، ألّف فيها كتابه الرّد على من طعن في سيرته (٣) ثم انتقل إلى الجهات الشامية من بلاد الظاهر (٤) وكان قد اصيب بالعمى فكان ما سيأتي.

خلاف الشريف فليته بن القاسم القاسمي واحداثه

لما أصيب الإمام بالكمه (٥) استبشر بذلك بعض عداته ، وحسنوا للشريف فليته القاسم القيام ونكث البيعة ، فبادر الشريف ، وكاتب الأشراف الحسينية ونهض بمن معه إلى من (٦) حضور وجهاته ، وقصد أثافت ، فلما بلغها قام فليته بن العطاف النهميّ يحرض النّاس على الجهاد مع الإمام ، ودخل بجماعة من الأشراف والشيعة مصنعة أثافت ، فحلف له الجميع على السمع والطاعة والجهاد معه للإمام أحمد بن سليمان.

__________________

(١) وقش : محل اثري من ناحية البستان غربي صنعاء كان مقر وقاعدة المطرفية.

(٢) مذهب نشأ في ذلك الوقت ومؤسسه هو مطرف بن شهاب واليه ينسب ومن مرتكزاته القول بأن العالم يحيل ويستحيل والتأثر في كثير من أقوالهم بأفكار المعتزلة.

(٣) سبق ذكرها.

(٤) بلاد الظاهر يتردد ذكرها وهي الجهات الشمالية من حاشد ونواحيها.

(٥) العمى.

(٦) كذا في الأصل.

٣٥٩

ولما علم بذلك الإمام تقدّم إلى حوث ، ثم سار إلى بهمان (١) في جماعة من الأشراف الهادويين والشيعة ، فخرج أصحاب فليته بن العطاف النهمي في لقائه الى بهمان ، وبادرهم أصحاب الشّريف فليته وأحاطوا بالإمام ومن معه فلم يثبت من أصحاب الإمام إلّا نفر قليل ، دخل بهم درب القدمان ، فاحاط به القوم إحاطة السّوار ، وتخاذل بقية من ثبت معه ، حتى لم يبق معه غير ثلاثة رجال فأسروه ونهبوا ما معه ونقلوه إلى اثافت ، فبقي بها أياما ، ثم ان السّلطان علي بن حاتم كاتب الأشراف وقبح فعلهم ، واستثار حماسة السلاطين بني الدّعام ورجالات نهم وغيرهم ، وأمرهم بالإجتماع والحركة لإخراج الإمام ، وكانت زوجة الإمام ابنة فليته بن العطاف النهمي ، قد قصدت السّلطان مؤمل بن جحاف النّهمي تحثّه على جمع قبائل بكيل لإستنقاذ الإمام ، فسارع مؤمل وجمع زهاء ألف وخمسمائة رجل من بكيل جلّهم من الرؤساء وأهل النّجدة والبأس ، وقصد الشريف فليته إلى أثافت ، وكان إخوة الشّريف المذكور ، قد خرجوا للسباق فتأمر البكيليون أو يطلق الإمام ، ولما عرضوا عليه حاجتهم ، وعرف ما إئتمروا به اضطر إلى التّنازل ، واطلق الإمام ، بعد أن أخذ منه العهد ومن أصحابه أن يذهب الى الشّام وإلّا يبغيه شرّا ، فخرج الى خيوان ثم سار إلى حوث ، فأقام بها أيّاما ، وقصد صنعاء بعد أن كتب إلى صاحبها السلطان علي بن حاتم من حوث بما لحقه من الشرفاء ومن وازرهم بهذه القصيدة.

أبنيّ اني في الحياة وبعدها

أوصيك ان أخا الوصاة الأقرب

لا تنسين أباك يعثر بينهم

أعمى يدبّ على اليدين وينكب

ويجرّ للحبس الشّديد وبعده

يؤذى بكل كريهة ويعذّب

لكنني أسد فروس ناله

كمه العمى فسطا عليه الثعلب

وكذلك الثّعبان يجرح بعضه

فالذر يتبع جرحه والجندب

__________________

(١) موضع يقع في خيار حاشد جنبوي حوث.

٣٦٠