تاريخ اليمن الإسلامي

أحمد بن أحمد بن محمّد المطاع

تاريخ اليمن الإسلامي

المؤلف:

أحمد بن أحمد بن محمّد المطاع


المحقق: عبد الله محمّد الحبشي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: شركة دار التنوير للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٨

سير المقعدين والخذم والعميان

والمطربين والشعار

ان هذا لهو الخسارة والعجز

وهذا رأس نجد أو البوار

فانكفوا يا بني علّى وقوموا

واغضبوا من فعال أهل الصغار

واسمعوا ما اقول واتبعوني

بجيوش وجحفل جرار

بمحل وهجرة في بلاد

زيّنت بالأنهار والأشجار

فيها لمّ شملكم وإليها

إجتماع الأعوان والأنصار

وهي أطول من هذا ، ولما انتقل إلى أثافت ، وصل اليه الشيخ طريف بن يحيى السنحاني ، والشّريف محمد بن عبد الله العلوي ، في جماعة من أهل سناع واخبره بمقتل الشيخ محمد بن عليان في سوق سهمان ، والمتهم بقتله السلطان حاتم بن أحمد وسلمة بن الحسن الشهابي وذلك لما عرفا منه من الجدّ في نشر دعوة الامام دسّا عليه من قتله فغضب الإمام لهذا الخبر ، ونهض من فوره في جماعة من الاشراف ، وأهل سناع (١) إلى الجوف ، وعزم على إتّخاذه دار هجرة بعد أذن السلاطين ربيع بن الجحاف وكافة إخوته ، وبني عمّه ، وكذلك السّلطان فليته بن العطاف النّهمي فأوسعوا له الجناب وتلقّوه بالترحاب.

إنتقال الإمام إلى عمران وفتح صنعاء

ثم انه انتقل من الجوف إلى عمران بقصد التّقرب من صنعاء وجهاتها ، وعمر «المقيلد» وهو من المعاقل القديمة فحصنه وحفر بيره ، ولما علم السّلطان حاتم جهّز جيشا لمحاربته فتحركت القبائل لنصرة الإمام وهرع إليه أهل الهجر (٢) من بكيل وبني شهاب ونواحيها ، فاجتمع منهم زهاء ألف وأربعمائة رجل فيهم خيار علمائهم وفقهائهم ، وأهل المعرفة منهم حاشا ألفاف القبائل ورؤساء العشائر وخيار الأشراف فكسروا جيش السّلطان حاتم ، وطلبوا

__________________

(١) سناع : قرية شرقي حدة على بعد ٨ ك. م من صنعاء.

(٢) أي العلماء وطلبة العلم.

٣٢١

من الإمام الزّحف على صنعاء ، فاغتنم الفرصة ونهض بذلك الجمع فسلك طريق براقش ومر بوادي محرز ، ثم طلع نقيل سامك (١) وكان حاتم بن أحمد قد عهد بمحافظة النقيل إلى أهل السّر وخوفهم من الإمام وجنوده فانتدب منهم جماعة لصد من يقصدهم ، ولزموا رأس النقيل ، وبينما هم كذلك إذ عاينوا الإمام وجنوده يصعدون النّقيل ، فتركوا مواضعهم ، واستقبلوا الإمام بالطاعة وطلب (٢) الأمان فأمّنهم ، ونزل بموضع يقال له دار الخروب ، وهي أطلال قديمة ، ثم واصل سيره إلى أن وصل غيمان من بلاد بني بهلول من الأنباء فبايعته الأنباء وجاءته بنو شهاب في عساكر كثيرة الى غيمان فبايعوه واستنهضوه إلى بلادهم ، فسار إلى حدّة بني شهاب ، وأقام بها أياما ، ثم وصله السلطان سلمة بن الحسن الشّهابي ، وسلّم له بيت بوس ، فانتقل إليه الإمام ومكث فيه أياما يراسل القبائل البعيدة كمذحج ، والهان ، وبكيل ، وغيرهم لمهاجمة صنعاء ، وفي أثناء هذه المدة أرسل بعض خدمته إلى صنعاء ليبتاع له ورقا وصابونا فعلم به السلطان حاتم وطلبه اليه وسأله عن الإمام وقوته ، ثم سلم إليه كتابا إلى الإمام كتب فيه (٣) :

أبا الورق الطلحي (٤) تأخذ ارضنا

ولم تشتجر تحت العجاج رماح

وتملك صنعا وهي كرسي ملكنا

ونحن بأطراف البلاد شحاح

فلما وقف الامام على البيتين ، قال : نعم نأخذها إن شاء الله ، وسرّح الجنود لفتحها من ساعته وبقي في بيت بؤس ، وكانت همدان قد اجتمعت بصنعاء فدارت رحى الحرب ، واستمر الطّعن والضّرب على جوانب المدينة ، ثم إن اهل السّرار من أهل صنعاء دخلوا الجامع الكبير وأظهروا الخلاف ،

__________________

(١) سامك : بلد وواد في سنحان.

(٢) كذا ولعل الصواب «وطلبوا».

(٣) البيتان في العسجد ص ٧٥ وقرة العيون ج ١ ص ٢٩١ وغاية الأماني ص ٣٠٢.

(٤) الطلحي : القراطيس مفردها الطلحية (مولدة).

٣٢٢

وثاروا على همدان وسط المدينة ، فتمكّن الجند الهاجم من إحتلالها ، وتحصن السّلطان وخاصته بغمدان (١) ، وأسرع بإرسال رسوله إلى الإمام يطلب الأمان له ولمن معه فأمّنه ، ولما خرج لمقابلته إلى بيت بوس وشاهد كثرة من اجتمع لحربه مع الإمام انشد : (٢)

غلبنا بني حوا بأسا ونجدة

ولكننا لم نستطع غلب الدهر

فلا لوم فيما لا يطاق وإنما

يلام الفتى فيما يطاق من الأمر

وبعد أن عفا عنه الإمام طلب منه البيعة ، فبايعه ، ودخل الإمام في اليوم الثاني صنعاء دخولا معظما ، نظمت فيه القصائد ، وهنّته الشعراء وأقبل عليه النّاس من كل جهة ، واستعمل على القضاء بصنعاء القاضي جعفر بن أحمد بن عبد السلام (٣) ، وأما السلطان حاتم فانه أنتقل إلى المنظر (٤) ، واستقر بها برهة ثم بلغ الإمام عنه ما غيّر الصفو بينهما فالتقيا الى عرم السدّ وافترقا على غير طائل وسار حاتم الى حصن الظفر (٥) ووقف حتى تفرقت الأشراف وزحف إلى صنعاء فخرج الامام لحربه إلى شعب الجن تحت براش ، وكانت بينهما مناوشة.

وفي الخزرجي (٦) : أن الإمام لما أطلع على البيتين المتقدّمة نهض بعساكره من ذمار إلى موضع من بلاد سنحان يقال له الشرزة ، وكانت عساكره ثمانين ألفا منها ألف وخمسمائة فارس ، والباقي رجّالة وكان المصاف في

__________________

(١) يعني قصر غمدان في الجهة الشرقية من المدينة.

(٢) انظرهما في العسجد ص ٧٥ وقرة العيون ج ١ ص ٢٩٢ وغاية الأماني ص ٣٠٢.

(٣) هو شيخ العلماء ومفخرة اليمن رحل إلى العراق لطلب العلم ونقل علومها وألف المؤلفات الكثيرة وفاته نحو سنة ٥٧٣.

(٤) هو المعروف بالروضة تحت صنعاء من جهة الشمال لمسافة ٥ ك. م وقد تنسب الى حاتم المذكور فيقال لها روضة حاتم لأنه أول من أسسها.

(٥) وفي بعض المصادر المظفر راجع الخزرجي (ص).

(٦) الخزرجي : العسجد المسبوك ص ٧٥.

٣٢٣

الشرزة ، فانكسرت همدان ، وقتل منهم نحوا من خمسمائة أكثرهم من سنحان ، وانهزم السلطان حاتم إلى صنعاء وتبعه عسكر الإمام ، وخالفت اهل صنعاء مع الإمام وساق الخبر على النمط المتقدم ، وليس بصحيح فإنّ عزم الإمام إلى ذمار ، كان بعد هذا التاريخ كما ستراه ، وقد أعتمدنا على ما كتبه مؤلف السيرة.

قال في انباء الزمن (١) : وفي هذه السّنة نزل مطر في جميع اليمن يشبه الدّم حتى بان اثره في الأرض والثياب.

ظهور دولة علي بن مهدي الحميري

ودخلت سنة ٥٤٦ قال في أنباء الزّمن : فيها كانت بيعة علي بن مهدي صاحب وادي زبيد ، وهي البيعة الثانية بعد موت علم النجاحية على جهاد من في زبيد من بني نجاح ، ومن تابعهم من العرب ، وأمر أصحابه بقتل من خالف مذهبه ، وإن كان من قومه ، وهذي أول عقائده الفاسدة ، ثم ارتفع إلى محل يقال له الرأس من اعمال وصاب ، وانتقل منه إلى حصن الشرف (٢) وسمّى من صعد معه من تهامة المهاجرين ، ومن اتاه من الجبال الأنصار ، وجعل على المهاجرين ابن عمه نقيبا وعلى الأنصار نقيبا وسمّى النقيبين شيخي الإسلام ، وكان لا يخاطبه غيرهما ، وربّما احتجب عنهما أحيانا ، وهما يتصرّفان في الأمور ، وما زال يكرّر الغارات على زبيد حتى أخرب المحلات المتوسّطة فيما بين الجبال وزبيد ، وكان يرى جهاد الحبشة آل نجاح واجبا لما هم عليه من الفساد ومخالفة رب العباد ، لكنه قابل المنكر بالمنكر ، ونهى عنه بما هو (٣)

__________________

(١) غاية الأماني ص ٣٠٣.

(٢) من وصاب ايضا.

(٣) غاية الأماني ص ٣٠٤.

٣٢٤

انكر (١) : انتهى. وذكر في حوادث سنة ٥٣٦ بيعته الاولى وأنه قصد مدينة الكدرا (٢) بمن بايعه ، وبها إذ ذاك القائد إسحاق بن مرزوق السحرتي فدحره عنها وأرجعه إلى الجبال فأقام بها ثم كتب إلى الحرّة علم يسألها الذّمة والعفو له ولأصحابه ، ففعلت على كره من أعيان دولتها وفقهاء بلادها ، وعاد إلى مزاولة أعمال الزراعة بوادي زبيدة مدة سنين حتى ماتت علم النجاحية سنة ٥٤٥.

وذكر الجندي والخزرجي وغيرهما خبر ثورته الأولى ومبايعته سنة ٣٨ ثم عودته إلى الجبال ، ومكث الى سنة ٥٤١ وكاتب الحرّة علم يسألها الذمّة ففعلت وعاد الى وطنه وأقام يستغل املاكه فلما ماتت الحرة في التاريخ المتقدم ، بايعه أصحابه البيعة الثانية بقرية القضيب من أوطان زبيد سنة ٥٤٦ ولما انتظمت له البيعة ، قام فيهم خطيبا ، فقال في خطبته : والله ما جعل الله فناء الحبشة إلّا بي وبكم ، وعمّا قليل ان شاء الله سوف تعلمون والله العظيم ربّ موسى وهارون وإبراهيم اني عليهم ريح عاد وصيحة ثمود ، واني احدثكم فلا أكذبكم ، واعدكم فلا أخلفكم ، ولئن كنتم أصبحتم قليلا لتكثرن ، أو وضعاء لتشرفن ، أو أذلّاء لتعزّن حتى تصيروا مثلا في العرب والعجم (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى)(٣) فالاناة الاناة فوحق الله العظيم على كل مؤمن موحد لأخدمنكم بنات الحبشة واخواتهم ولأخولنكم اموالهم واولادهم (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)(٤) الآية

__________________

(١) يعني صاحب انباء الزمن المؤرخ يحيى بن الحسين المتوفي سنة ١٠٩٩. انظر هذا النصر في مختصر الكتاب المذكور المسمى غاية الأماني ص ٢٩٩.

(٢) الكدرا : مدينة خربة قديمة تقع في وادي سهام بين المراوعة والمنصورية.

(٣) الآية ٣١ سورة النجم.

(٤) الآية ٥٥ سورة النور. ـ عزلة الداشر والشرف وحصن قوارير اسما حصون ومحلات معروفة بوصاب السافل إلى الآن.

٣٢٥

ثم قصد الجبال بجمع سمّاهم المهاجرين ، وأقام بموضع يقال له الداشر (١) ، ثم ارتفع عنه إلى حصن يقال له الشرف لبطن من خولان حالفهم وسماهم الأنصار ، ثم ساء ظنه بجميع عسكره فاحتجب عنهم وجعل للمهاجرين نقيبا وللأنصار كذلك وسمّاهما شيخي الاسلام ، فكان لا يدخل عليه غيرهما واستمر يوالي المغار على جهات زبيد ، حتى دمّر القرى ، وعطل المزارع ، واهلك الحرث والنسل ، والله لا يحب الفساد ، ولقد كان هذا الرجل نسيج وحده في طغيان جمع بين القسوة والنّزوة والزهد والشدّة ، والشجاعة والضراعة ، كان حنفي المذهب ، ولكنه يكفّر بالمعاصي ويقتل مرتكبيها ويستبيح قتل مخالفيه ، وسبي ذراريهم فخرب البلاد ، وأهلك العباد ، كان سيىء الظن بأصحابه ، عظيم الإعتماد عليهم في تنفيذ دعوته ، شديد الوطأة عليهم أيضا ، وقد استطاع بمكره وذكاء فطنته ، أن يستولي على قلوب أتباعه ، وكانت قبيلة عك دعامة نهضته ، وأصل مادته استعملهم لتدعيم سلطته ففتكوا بقومه وقبيلته من حمير واستطالوا عليهم بسلطانه. حتى أذلّوا نخوتهم ، وارغموا معاطسهم ، وأخرجوهم من ديارهم ، وقد أشار إلى هذه الأحداث الشيخ العلامة البليغ أحمد بن خمر طاش الشراحي الرعيني الحميري الوصابي في مقصورته (٢) التي ذكر فيها ابن مهدي وأحداثه ، وما فعلته عك بحمير من التشريد والتطريد ، وسرد فيها ما كان لملوك حمير من الغلب والملك ، ومن والاهم من سادات العرب وأول هذه المقصورة :

تأدب القلب تباريح الجوى

وعاده عائد شوق قد ثوى

__________________

(١) تعرف بالخمر طاشية نسبة إلى مؤلفها وهي في مفاخر قحطان ونبذ من التاريخ والوعظ شرحها في القرن السابع الأديب سليمان بن موسى بن الجون الأشعري المتوفي سنة ٦٥٢ في كتاب مستقل اسماه «الرياض الادبية في شرح الخرطاشية» منه نسخة خطية في مكتبة لندن.

(١) تعرف بالخمر طاشية نسبة إلى مؤلفها وهي في مفاخر قحطان ونبذ من التاريخ والوعظ شرحها في القرن السابع الأديب سليمان بن موسى بن الجون الأشعري المتوفي سنة ٦٥٢ في كتاب مستقل اسماه «الرياض الادبية في شرح الخرطاشية» منه نسخة خطية في مكتبة لندن.

٣٢٦

ومنها في ذكر الدّيار التي كانت لحمير أيّام علي بن مهدي ، فساروا عنها وتفرّقوا تحت كل كوكب ، من جراء ما لحقهم من إرهاق عك وطغيانهم : (١)

عفّى المسيل فالنخيل فالصوى

الى النقيل فالمقيل فالملا

فالسفح من سرول فاعراض من

باله عني بالغ فالدوح الغضا

فملتقى البطنان من بطينة

فملتقى الأجراع من رعى اللوا

فالنهج من قولس فالمسقط من

حصن قوارير فاكناف الحما

الى ان قال :

الملك القائم من فرع سبا

والقتل والتطريد في آل سبا

إلى آخرها وهي طويلة وفيما سيأتي حركة بن مهدي

بقية اخبار الامام المتوكل بصنعا

كان دخول الامام صنعاء آخر العام المنصرم ، وما كاد يستقرّ بها ، حتى وفد بنو الزّواحي ، وكان اليهم أمر كوكبان فأذعنوا واطاعوا ورهنوا بعض أولادهم على تسليم الحصن فأبى الشريف على ربحي إلّا حربهم وحصارهم ، وأعانه على هذا العزم قوم من صنعاء وزعموا ان أهل كوكبان ان على مخلصين فلا بد من معالجة الشر بالشرّ كما يداوي شارب الخمر بالخمر ، ونهض الشريف بجموعه لحصار كوكبان ، وقد نهاه الإمام عن حربهم إكتفأ بطاعتهم وانقيادهم ، فلم ينته الشريف ، وأقام محاصرا الكوكبان ، ولما وقع القتال على الباب الذي من جهة الضلع (٢) من ناحية المغرب ، كان الجند الواقف بازاء هذه الجهة من قيلاب (٣) من ناحية مسور ،

__________________

(١) من مناهل لعسان (صفة جزيرة العرب ص ٢١٠).

(٢) الضلع : جبل متصل بشبام كوكبان.

(٣) قيلاب : عزله بالشمال من مسور.

٣٢٧

وهم قوم لا عادة لهم بالخيل ، وقتالها ، فلما داهمتمهم همدان بخيولها أكثروا فيهم القتل وهزموهم ، وانهزم قائد الحملة أيضا الشّريف وأهل صنعاء إلى صنعاء ولسان حاله تنشد :

واني واياهم كمن نبه القطا

ولو لم ينبّه باتت الطير لا تسرى

وبعد هذه الهزيمة تداعت همدان للخلاف ، وأعلنت الفساد وعلى رأسها زعيمها السلطان حاتم بن أحمد واجتمعوا إلى الرحبة ، فصمد لهم قوم من جنب ، وانهزمت همدان ، ثم انهم تجمعوا مرة أخرى ، وهاجموا قرية منكل (١) وفتكوا ببعض من فيها ونهبوها ، فأراد أهل صنعاء الانتقام منهم ، وأجمعوا على الخروج لحربهم ، إلى علب ، فنهاهم الإمام لعلمه بعجزهم عن المقاومة ، فلم يقفوا عند نهيه وخرجوا فهزمتهم همدان ، وقتلت منهم ، وسار الشريف علي بن يحيى لاستنفار مذحج على كره من الامام ، فاجتمع له قوم من عنس ، وزبيد ، وجنب ، فلقيهم حاتم بن أحمد بجموعه ، بموضع يقال له رعام (٢) ، فكانت هنالك وقعة عظيمة انهزم فيها أصحاب الشّريف ، وخرج الإمام من صنعاء ، لإنجاد الشريف ، واستخلف على صنعاء السّلطان الخبير بن سلمة الشهابي ورجالا من الأشراف وبني شهاب فأمسى بغيمان ووافته أنباء الهزيمة إليها ، فلم ير بدّا من التقدم إلى ذمار ، ولما علم بعزمه حاتم بن احمد قصد صنعاء فدخلها ، ولم يغير على احد من أصحاب الإمام مخافة العواقب.

حرب القليس وسير الإمام الى الجوف

لما وصل الامام الى ذمار جمع خيلا من جنب نحو ثلثمائة فارس ، وعارضه عبد الله بن يحيى في سبعمائة فارس ممدّا لحاتم بن أحمد ، وكان

__________________

(١) لم نجد هذا الموضع في صفة جزيرة العرب ولا غيرها.

(٢) كسابقه.

٣٢٨

حاتم قد جمع من همدان ونهد وسنحان خمسمائة فارس وثلاثة آلاف راجل ، ولما بلغه خبر عبد الله. بن يحيى ومن معه نهض لحرب الإمام ، والتقى الجمعان بموضع يقال له القليس (١) ، وهنالك تدانى الفريقان ، والتقت حلقتا البطان ودامت الحرب من أول النّهار إلى آخره ، ثم حملت خيل حاتم على أصحاب الإمام حملة واحدة فأفترق أصحاب الإمام ثلاث فرق فرقة لحقت بالجند المحارب ، وفرقة لاذت بالجبل فارة ، وفرقة ثبتت معه ، ثم انه حمل بنفسه على الأعداء حتى خالط صفوفهم وفرقهم ذات اليمين وذات الشمال ، وخرج من بينهم ، ولحق بأصحابه الذين لاذوا بالجبل وأنجاه الله منهم وسار نحو الجوف في شهر جمادي الآخرة من السنة وأقام بعمران إلى شهر شوال ، ثم انتقل الى محله بالجبجب ، وأقام فيه إلى أن بلغه أن حاتم بن احمد يريد الخروج لحربه ، إلى تلك الجهة فأغضبه ذلك ، وعزم على أن يقصد حاتم ويحاربه في بلاده وبادر بالنّهوض الى خولان وله في ذلك قصيدة طويلة أولها :

على رسلكم يا أيها الطلقاء

تأنوا ففي خير الامور أناء

اتسعجلون الشر منا وقبل ذا

جرت نقم حلت بكم وبلاء

ومنها :

وما منكم إلّا أسير أسرته

وأطلقته فالكل لي أسراء

ويوم دخلنا درب صنعاء عنوة

وفيه رجال منكم ونساء

دخلنا وللنسوان من خوف بطشنا

صراخ وللأطفال فيه ضغاء

ودخلت سنة ٥٤٧ فيها نهض الإمام بجموعه إلى مدع (٢) فأقام فيه شهرين ثم سار إلى جبل مسور ، ومنه إلى يناع ، وكان فيه الشريف علي بن

__________________

(١) من قرى جبل النبي شعيب ناحية بني مطر.

(٢) مدع : لابضم الميم جبل وحصن منيع مطل على مدينة ثلا من الغرب الشمالي.

٣٢٩

يحيى ، فتغيب من الإمام لأنه لم يحسن السيرة ولاقاء للإمام ، فأقام بيناع أياما راسل فيها اهل الهجر ، وحرضهم على الجهاد ، وحثّهم على متابعته ، وكانوا قد تقاعدوا عن نصرته وقالوا إلى حاتم بن أحمد ، فتابعوه ، وأجابوا ، ثم تقدم الى نواحي ذمار عن طريق خولان ، وقد انضم اليه جميع من مرّ بهم من القبائل كخولان وجنب ومذحج وغيرها ، وأصبح ذا قوة كافية لإخضاع حاتم بن أحمد وغيره ، فجاهر هذه القبائل بأنه يريد بهم غزو عدن ، فخاف حاتم بن أحمد ، وهرع إلى ذي جبلة ، وطلب من الدّاعي محمد بن سبأ الزريعي صاحب عدن ، أن يلاقيه إلى ذي جبلة فلم يتأخر محمد بن سبأ ، ولما أتفقا عرض حاتم بن أحمد مسألة الإمام والتفاف قبائل البلاد حوله ، واتفاقه معهم على مهاجمة عدن أول المحرم سنة ٥٤٨ ، وعرفا أنّه لا طاقة لهما بحربه ، فعدلا إلى استخدام المال ، وبذل محمد بن سبأ لجنب عشرين ألفا ولمذحج قريبا منها وفرق في رؤساء العسكر وغيرهم ، كميات وافرة ، ولما رجع أحمد بن حاتم بهذه الأموال وفرّقها على المذكورين ، أجمع رأيهم على مصارحة الإمام بما ارتكبوه من الدناءة ، فسار إليه ألفان منهم ، وهو برداع (١) العرش ، وقالوا له : يا مولانا قد أخذنا بسببك (لقمة كبيرة وإنّا نحب ان تسوّغها لنا) وتهب لنا صنعاء وعدن ، في هذه المدة ، وتخرج بنا حيثما أحببت إمّا لشبوة (٢) ، واما لبيحان ، (٣) واما لحضرموت ، أو نجران أو الجوف ، أو صعدة ، فقال : أما صعدة ونجران والجوف ، فهي لي ومن قبلي ، وأمّا غيرها فإني أخاف أن تحصل لكم لقمة أخرى فتأخذونها ، وغضب لإرتكاسهم في مهواة الأطماع ، ورجع عنهم إلى عمران عن طريق

__________________

(١) مدينة بالشرق من ذمار بمسافة ٥٣ ك. م وهي المعروفة برداع الكبرى وقيل لها رداع العرش ليفرق بينها وبين آخر تحمل نفس الاسم.

(٢) مشبوة : منطقة اثرية بين مأرب وحضرموت.

(٣) بيحان : بلدة في الجهة الجنوبية من البيضاء وفي جهة الشرق الجنوبي لحضرموت.

٣٣٠

مراد (١) ، فوادى مأرب ، فالجوف ، ومنه إلى عمران وتكبّد في طريقه هذه من المشاق ما يوهي القوى ، ويوهن الأعناق ، وروى الخزرجي (٢) سببا آخر لتخاذل قبائل جنب عن الإمام ، وهو انه وصل إلى جنب ، وكان بينهم قتول كثيرة ، فأراد الإمام أن يصلح بينهم ، ويجمع كلمتهم ، فلما علم السلطان حاتم بن أحمد بذلك ، ركب في رجال من همدان ، وقصدهم إلى قرب ذمار ، فوصل ، وقد اجتمعت قبائل جنب بأسرها لملاقاة الإمام ، فدخل وسط الحلقة ، وهو على حصانه ، فلم ينكروه ، وقال : حياكم الله يا وجوه العرب ، لا يعيّب عليّ من خلفي فما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ، ولا وجهين في رأسه ، ثم قال : وصلناكم يا وجوه العرب لأمر لكم فيه شرف ، ولنا فيه عز إلى حين فرحّبوا به وعرفوا مقصده ، فقال : علمت أنكم في طلب الإصلاح ، وأخذ ذمم بينكم ، وهدم قتول من عشائركم ، فرأيت أن ألمّ شملكم ؛ وأقطع عنكم ما تحاذرون ، وأتحمل في مالي ديات قتلاكم فحمدته على ذلك ومن حضر من قبائل العرب ، ثم أفترق ذلك الجمع ، وراح معهم إلى ذمار ، وكتب إلى أهله بصنعاء :

مملوك بعضهم ووالد بعضهم

وشقيق بعضهم وهذا جامع

أبليتهم حملي ديات عتيدة (٣)

ان المكارم في الرقاب ودائع

فليسرعوا من فورهم تصديرها

متعّمدين نفاذ ما أنا صانع

وأنفذ بالكتاب رسولا على الفور ، فما لبث أن عاد الرّسول بالمال وكانت ديات جمة ، ففرقها لجنب ، وفرق جموع الأشراف انتهى.

ولما استقرّ الإمام بعمران هذه المرة ، وجّه عنايته نحو الزّراعة ، واتخذ مزارع واسعة وبينما هو مكبّ على عمله إذ وفد عليه ولده المطهر بن أحمد في

__________________

(١) جبل وعزلة من بلاد صرواح وأعمال مارب تسكنه قبيلة مراد المشهورة.

(٢) العسجد المسبوك ص ٧٦.

(٣) في مطبوعة قرة العيون ج ١ ص ٢٩٤ «بينهم حملى ديات عتيدة».

٣٣١

جماعة من الأشراف ، وذكروا له ما ظهر بصعدة من الاستهتار بشرب الخمرة وسألوه النّهوض إليها لإزالة المنكر ، فلم يجد الإمام بدّا من المسارعة والمسير اليها ، ولما دخلها أمر بإحضار من ثبت انه شرب وإقامة الحد عليه ، فأحضروا ، وأمر بجلدهم واغلظ لهم في الكلام ، وأمر بهدم كنيسة كانت لليهود هنالك ، ثم خرج إلى الجبجب ، فأقام فيه أيّاما ، ثم سار إلى مسلت ، ووقع الخوض في الصّلح بينه وبين حاتم بن أحمد فالتقيا الى بيت الجالد ، وتقرر الصّلح على منع الخطبة للباطنية بصنعاء وإظهار مذهب الهادي عليه السلام ، والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ، فقبل حاتم ذلك ، ونفذ شروط الصلح ، وعاد الإمام إلى الجوف ، ثم سار منه إلى الجبجب ، وأقام فيه ، ودخلت سنة ٥٤٨ والامور ساكنة.

تظاهر يام بمذهب الباطنية ومسير الإمام لحربهم

ودخلت سنة ٥٤٩ فيها بلغ الإمام ان قوما من يام بالخانق (١) أظهروا مذهب الباطنية وارتكبوا المنكرات جهارية ، وتركوا صوم رمضان ، وأحيوا ليلة الإفاضة ، وجاءت إمرأة منهم تشكو إلى الإمام ، أن ولدها غشيها ، في تلك الليلة فغضب الإمام لذلك ، ونهض إلى بلاد بني شريف (٢) وسنحان ، ودعاهم الى قتال يام فأجابوه وانضمت إليه أيضا قبائل من نهد وخثعم وتثليث ، وبني عبيدة ، وسار بالجميع الى وادعة ، فوافاهم وقد لزموا جنبتي وادي غيل جلاجل ، فقابلهم جند الإمام ، وعظم النزال واشتد الصدام ، وانهزمت يام ووادعة بعد أن قتل منهم مقتلة عظيمة ، وغنم أصحاب الإمام ما وجدوه ، وأقاموا ثلاثة أيام يهدمون منازل المفسدين ، حتى أجلوهم عنها إلى نجران ، واقفرت بلادهم ، وخلت عن أهلها ، وهي مسير ثلاثة أيام ، وفي هذه الوقعة يقول الإمام عليه السلام :

__________________

(١) سبق ذكره.

(٢) بنو شريف من قبائل خولان من بلاد صعدة.

٣٣٢

الله أكبر اي نصر عاجل

من ذي الجلال بفتح غيل جلاجل

كم منّة منه عليّ ونعمة

وسعادة تترى وفضل فاضل

كفرت به يام ووادعة معا

وتجبّروا وتمسكوا بالباطل

وأتوا من الفحشاء كل كبيرة

فعلا وقولا فوق قول القائل

إلى آخرها : وبعدها رجع إلى الجبجب ، ومكث إلى آخر شهر شعبان من السّنة ، وطلع مغرب بلاد خولان ، فصام هنالك رمضان ، وبلغه أن الشريف قاسم بن غانم بجبل العرو (١) طلع من تهامة لخلاف نشب بينه وبين أخيه وهاس بن غانم فواجهه الإمام إلى هنالك ، وأكرمه فطلب الشّريف من الإمام النصرة على أخيه ، فرحّب به الإمام ، وسار به إلى صعدة ثم انتقل به إلى الجوف ، وكان ما سيأتي.

قال في انباء الزمن (٢) : وفيها كانت قصّة أهل المعلّق وهي قرية ما بين الكدرا والمهجم ، وهي ان الله تعالى أرسل عليهم سحابة سوداء مظلمة أتتهم من جهة اليمن ، فيها رجف شديد وبرق ونار تلتهب ، فلما رأوا ذلك زالت عقولهم ، والتجأ بعضهم إلى المساجد فغشيهم الأمر ، واحتملت الريح أكثر القرية من أصلها بمن فيها من الناس والدّواب حتى القتهم في محل نازح عن القرية بنحو خمسة أميال ، فوجدوا حيث ألقتهم الريح صرعى ولبعضهم انين ، ولم يلبثوا ان هلكوا.

وفيها أيضا سقطت حجر من السماء فوقعت في الصّلاحفة قريب من ذي جبلة ، وحصلت رجفة شديدة تزلزلت منها تلك الجهة بأهلها ، وفيها أيضا حصلت زلزلة عظيمة من صنعاء إلى عدن ، هلك فيها عدد كثير من النّاس ،

__________________

(١) العرو جبل بالغرب من صعدة بمسافة ٣٧ ك. م.

(٢) غاية الأماني ص ٣٠٨ والعسجد ص ١٣١ وفيه المغلف. وكذا في قرة العيون ج ١ ص ٣٦٢ قال في الهامش لا تزال معروفة إلى اليوم وتقع في الجهة الواقعة على شط نهر سردد على طريق المسافرين من الجبال الشمالية وتبعد عن الحديدة بمسافة يوم كامل.

٣٣٣

وانهدم كثير من القرى والحصون فسبحان المخوف بالآيات.

وفي الخزرجي (١) قال : وفي سنة ٥٤٩ سقطت حجر من السماء فوقعت في الصلاحفة موضع قريب من ذي جبلة ، ووقعت رجفة شديدة تزلزلت منها الأرض بأهلها ، وذلك في يوم الجمعة السادس من شهر ربيع الأول من السنة ، وانشقت السماء وسط النهار وظهر نجم وبعده دخان في المخلاف الأخضر (٢) ، وحصلت بعد ذلك زلزلة شديدة في اليمن من صنعاء إلى عدن هلك فيها عدد لا يحصى من النّاس ، وانهدم كثير من الحصون والقرى والمساكن ، وذكر أسماء الحصون والقرى والمساكن وعدد النفوس التي تلفت في هذا الزّلزال ، نرجو الله ان يعاملنا بلطفه ، وهو أرحم الرّاحمين.

وقال في المستبصر (٣) ما لفظه : ذكر المغلف والأسيخلة هما قريتان من أعمال الحبشة (٤) إحداهما المغلف والثانية الأسيخلة فبينما القوم فيما هم عليه من أحوالهم ، الرجال تحرث والنساء تغزل والحمير تتناهق ، والكلاب تتنابح إذ ارتفعوا عن أعين الخلق إلى يوم القيامة ولم يدر أحد ما أصابهم ، ولا ما فعل الله بهم ، ولا ما كان منهم وذلك سنة ٥٦٤ فبقوا مثلا إلى يوم الدين ، فيقال طار بك برق المغلف ، والاسيخلة ، وخسف بقرية العمالق من أعمال الأشعوب يماني صنعاء فأصبح الصباح ، ولم توجد عن القرية وأهلها ودوابهم من خبر سنة ٤٦٥ فاعتبروا يا أولي الأبصار انتهى.

وفيها تجهز الإمام من الجوف لحرب اسعد بن حسين صاحب شوابة وكان قد نكث بيعة الإمام واستدعى بقوم من همدان ، وجمع معهم من سفيان

__________________

(١) العسجد ص ١٣٢ وقرة العيون ج ١ ص ٣٦٢.

(٢) يعني إب ونواحيها.

(٣) المستبصر لابن المجاور.

(٤) في هذه الرواية خلط ـ كعادة ابن المجاور ـ بين الخيال والواقع وفي هذا الخبر تتبادر إلى ذهنه مواضع يمنية فنظنها في الحبشة وكذا في تحديد التاريخ وقد أوردها المؤلف من باب التشابه بين الحادثتين.

٣٣٤

خيلا ورجلا وتحصّن بهم في حصنه وكان منيعا فحاصره الإمام وضيّق عليه وما زال أصحابه يتقرّبون من درب حصن أسعد حتى أقتحموه فاستسلم من فيه ، وطلبوا الأمان فأمّنهم الإمام واخرجهم بنفوسهم لا غير ، وأمر بأخذ ما كان في الدرب من أثاث وبقر وطعام ، وغير ذلك ثم أمر بهدم الدّرب وإحراقه ، فلما نظر أسعد ما حلّ بالدّرب ، ومن فيه طلب الأمان والذّمة لوصوله إلى الامام فأمنه ، فلمّا مثل بين يديه حلف له يمينا على عدم العود ، وكان قد سبق منه مثل ذلك ، فقال الإمام : لقد استبطأت انتقام الله لهذا على الإيمان التي يحلفها ويفجر فيها ، وعاد الإمام إلى الجوف ، وأقام فيه إلى سنة ٥٥٥ وفيها نهض لحرب الشريف وهاس بن غانم ، فانتقل إلى الجبجب ومعه الشريف قاسم بن غانم ، وطلب قبائل يام ووادعة ، وهمدان ونجران ، فلما وصلوا ، وهمّ أن يتقدم ، قالوا له : ان الطريق على خولان ، فإن نهضت خولان نهضنا ، وكان الشّريف وهاس قد أرسل بمال لخولان فتقاعدوا عن نصرة الإمام ، وتعذّر عزم تلك القبائل معه لإمتناع خولان فتحوّل الإمام إلى بلاد عنز (١) وخثعم ، فمرض هنالك ، واعتذر للأمير قاسم بما كان ، ورجع إلى الجبجب مريضا ، وبلغه ان جماعة من صعدة تظاهروا بشرب الخمر ، فأمر من يأتي بهم إليه فأمتنعوا ، وأظهروا الفساد فقصدهم الإمام ولما أظهروا المقاومة والإمتناع ، حاصرهم حتى ضاقت بهم الأقوات ونفد ما معهم ، فخرجوا إليه مستسلمين ، وسلّموه مفاتيح دروبهم ، وطلبوا منه العفو فعفا عنهم ، وكانت مدة الحصار سبعة أشهر.

ودخلت سنة ٥٥١ فيها قتل القائد سرور صاحب زبيد بمسجده أثناء صلاة العصر ، وبقتله ختمت دولة العبيد ، وكان الذي قتله رجل من أصحاب علي بن مهدي وإليه ينسب مسجد سرور بمدينة زبيد ، وكانت ولايته الوزارة سنة ٥٣١ وقد ترجمه الخزرجي واطال في الثناء عليه ، قال الجندي : وقد

__________________

(١) عنز : سبق ذكرها وفي صفة جزيرة العرب ص ٢٣٠ بالقرب من بيشة وجرش.

٣٣٥

تأملت دولة الحبشة في ابتدائها وانتهائها ، فرأيت ابتداءها برجل مبارك ، وهو الحسين بن سلامة ، وانتهاءها برجل مثله ، وهو هذا سرور رحمه الله ، وقال الديبع في كتابه بغية المستفيد (١) وفي أيام وزراء آل نجاح عمل القاضي الرشيد أحمد بن الحسين بن علي بن ابراهيم بن الزبير الغساني الاسواني المجري الذي يدخل مدينة زبيد من النّاحية الشرقية بحكم الهندسة وكان أوحد عصره في ذلك انتهى.

وقعة الشرزة (٢) أو نجد شيعان ودخول الإمام صنعاء

بينما كان الإمام مشغولا بحصار صعدة إذ بحاتم بن احمد يتوغّل في الجهة الشمالية ، ويقصي عنها عمّال الإمام فأخذ قلعة ضهر (٣) ، ونجر (٤) ، وتقدم لحصن ضباعين (٥) فأخذه ، وسار إلى شوابه ، وكاد أن يستولي على سائر تلك الجهات ، فترك الإمام صعدة وانتقل إلى الظّاهر ، ثم إلى الجوف ووصله حاتم بن معن بن الغشم مناويا لحاتم بن احمد فبايعه وكان قد استدعاه زيد بن عمرو كبير جنب إلى ذمار ، فانتهز الإمام الفرصة وهرع الى ذمار ، وكانت قد خربت وأقفرت عن السكان ، ولم يبق بها ديّار ، فلما دخلها الإمام بذل جهودا كبرى واستنفذ كل قواه في سبيل إعادة عمرانها واصلاح ما أفسدته مساعي زيد بن عمرو ، السّاعي في خرابها فتراجع إليها أهلها ، وعمروها ، وشكروا صنيع الإمام ، ثم إنه انتقل منها إلى بلاد جنب ومعه زعيمها زيد بن عمرو ، فأقام فيهم تسعة أشهر يعدّ العدة لمنازلة حاتم بن احمد ، ومهاجمة صنعاء ، فاجتمعت إليه القبائل من جنب وعنس ومذحج ، وزبيد ونهض بهم نحو

__________________

(١) بغية المستفيد ص ٦٤.

(٢) قاع معروفة في بلاد سنحان على مقربة من قرية شعسان وعلى حدود خولان الطيال.

(٣) ضهر. واد بالقرب من صنعاء بمسافة سبعة كيلو وحصنه سمي فده (فلعله المعنى هنا).

(٤) نجر : بلدة اثرية في بني حجاج ناحية عيال سريح بالجنوب من عمران بمسافة ٣ ك. م.

(٥) ضباعين بلدة عامرة من آل يحيى من جبل عيال يزيد.

٣٣٦

صنعاء في شهر شعبان (١) سنة ٥٥٢ ، ولما بلغ الموضع المعروف بنجد الشرزة أو نجد شيعان (٢) ، تلقّته جنود حاتم بن احمد ، وهنالك تلاحم الفريقان ، وتدانى الجمعان ، واستحر الطّعن والضرب ، وكادت الحنود الإمامية أن تولّي الأدبار ، فابتهل الإمام الى الله سبحانه ، وكان من جملة دعائه ذلك اليوم قوله : (اللهم انه لم يبق إلّا نصرك اللهم أن يظهر علينا القوم يذهب دينك) فأرسل الله تعالى ريحا عاصفا من جهة المشرق قابلت وجوه أعدائه فكانت الهزيمة عليهم ، وصاروا درئة لرماح الجند الأمامي ، ومرمى لطعانهم حتى انجلت المعركة عن خمسمائة قتيل وخمسمائة أسير من اصحاب حاتم بن احمد ، وتعقّبهم جند الإمام إلى صنعاء وخشى الإمام على صنعاء وأهلها من معرة الجند الفاتح ، فبات على غيل ابن الاسود (٣) ، ثم نهض وجعل المعسكر بالحصة (٤) لئلا يضر الجند بأحد في المدينة وقد أمنّها وأمر بخراب درب غمدان ، وكان حاتم قد حصّنه وبالغ في إتقانه وطلب له رجل من مصر وبذل من الأموال في تشييده ما لا يحصى قال كاتب (٥) سيرة الامام المتوكل انه لم يبن في اليمن مثله ، وإلى حادثة الشرزة المذكورة وما تقدّمها من الأحداث أشار صاحب البسامة بقوله

واحمد بن سليمان فما رضيت

بعلا به وهو مرضي لدى (٦) البشر

دعا وكان إماما سيّدا علما

برّا تقيا ومن كل العيوب بري

__________________

(١) في انباء الزمن ان هذه الحادثة كانت سنة ٥٥٠ والأرجح ما ذكرناه اعتمادا على ما في سيرة الامام المتوكل.

(٢) شيعان : قرية مشهورة في سنحان جنوب شرقي صنعاء بمسافة ١٨ ك. م.

(٣) هو الغيل الأسود بهريشق صنعاء من جانبها الغربي ومنابعه من سفح الجبل المعروف بحدين جنوبي صنعاء على مسافة ساعة واكثر سقيه في شمال شعوب وقد اندثر هذا النهر (انظر الحجري معجم البلدان ص ٧٨).

(٤) موضع شمالي صنعاء على مسافة نصف ساعة للراجل (الحجري ص ٢٦٢).

(٥) هو العلامة المؤرخ سليمان بن يحيى الثقفي.

(٦) في نسخة من البسّامة «من».

٣٣٧

وصبحت خيله صنعاء معلمة

لما غدا النكر فيها غير مستتر

وحاصرت ما تما فيها عساكره

فانقاد للحق بعد الضعف والخور

واجتاحه عند شيعان بملحمة

ألف مضوا بين مأسور ومجتزر

ولما دخل الإمام صنعاء واستتب له الأمر ، انتقل إلى بيت بوس ، فأقام به شهر رمضان عند السلطان سلمة بن الحسن ، ثم بلغه ان حاتم بن احمد يراسل السّلطان سلمة ويؤامره على الفتك به ، ويعده على ذلك الأموال والضّياع والهبات الكثيرة ، فسار من بيت بوس الى سناع ، ومكث به إلى آخر سنة ٥٥ وكان السّلطان حاتم يريد الصلح والدّخول في الطاعة ، فكتب بذلك إلى الإمام واستعطفه ، فلم يقبل منه الإمام فلما أيس من عطف الإمام خشّن في مراسلته فكانت بينهما مهاجاة ومشاعرات أوردها في سيرته وذكرها الفقيه حميد في الحدائق (١).

عزم الإمام إلى ذمار

ودخلت سنة ٥٥٣ فيها سار الإمام إلى ذمار ، فصالحه زيد بن عمرو على سبعة آلاف دينار في كل سنة ، ثم رجع إلى بلاد بني شهاب فأتاه بنو الزواحي يستنهضونه إلى كوكبان ، فنهض معهم وتسلّمه منهم وانقض على بيت ذخار (٢) ، وأراد حصن بيت (٣) عز وهو لمنصور بن جعفر الضريوة ، فامتنع عليه حصن بيت عز حتى وصلته رجاله من بني الدعام ، وسلاطين مسور من بني المنتاب ، فأعاد الكرّة على أصحاب ابن الضّريوة ، فظفر بهم وتسلّم الحصن وأمّن صاحبه وعفا عنه ، وعاد إلى الجبجب ، وقد عظم أمره واتسع نفوذه ، فراسله السلطان حاتم وسأله أن يرسل إليه ولده المطهر ليزوجه إبنته ،

__________________

(١) انظر الحدائق الوردية ج ٢ ص ١١٩.

(٢) بالضم جبل مشهور يعرف اليوم بضلاع وبيت ذخار قرية فيه.

(٣) بيت عز موضع قريب من كوكبان.

٣٣٨

ويملكه حصن براش (١) ، فكره الإمام مواصلته ورفض ذلك.

وفيها اشترى زيد بن عمرو حصن أشيح بثلاثة آلاف دينار ، وكتب إلى الإمام يستقدمه الى الحصن المذكور ، ولما وصل الإمام إلى حدة بني شهاب تلقّا حاتم بن احمد وطلب منه الصّلح والهدنة فصالحه على الشروط المذكورة في الصّلح الأول ، وسار إلى اشيح (٢) وأقام به الى أن استنجده أهل زبيد.

ذكر مهاجمة علي بن مهدي لمدينة زبيد وأحداثه ، واستنجاد أهل زبيد بالإمام أحمد

قد حدّثناك على صفحات كتابنا عن ابن مهدي الواعظ النّاسك ثم ذكرنا لك طرفا من أخبار ابن مهدي الثّائر ، وإليك الآن البيان عن ابن مهدي الطاغية السّفاك.

لما قتل القائد سرور على الصفة المذكورة في التاريخ المتقدم ، عظم الخطب واستيقظ الهول ، وشبّت الفتنة ، واشتغل ولاة زبيد وأمراؤها ، بتنازع زهرة الحياة ، عن تدبير الملك وحياطته ، فكانت الأحداث تتوالى والمصائب تتعاقب على ما حول زبيد ، ومن بها لاهون بشهوة الحكم ، وفتنة المال ، وذلك البلاء المبرم والويل الرامك (٣) ، والعدو اللّدود يحصي عليهم أنفاسهم ويراقب حركاتهم ، ويستطلع أنباءهم ، حتى إذا غمرتهم الحيرة ، وأعماهم الهوى ، وحق عليهم القول وآل أن يبتلعهم الفناء في ظلمات مهاويه ، وينظمهم التاريخ في فجائعه ومآسيه ، وثب عليهم بجنود متعطّشة الى الدّماء قد ألهب نار حماستها روح زعيمها ومنطقه ، وأفعمهم ببلاغته وسحر بيانه ،

__________________

(١) براش اسم لعدة مواضع ولعل المعنى هو براش المعروف وهو حبل شامخ في الشرق من صنعاء.

(٢) أشيح ، يتكرر ذكره وهو حصن شهير في بني سويد من بلاد آنس ويعرف الآن بحصن ظفار في الشمال الغربي من ضوران بمسافة ٣٠ ك. م.

(٣) المقيم.

٣٣٩

أن الحق معهم :

فما لهم غير الدماء مشارب

وما لهم غير النفوس مطاعم

كأن الوغى قد صار في أنفس الورى

هياما فمن يقتل يمت وهو هائم

قال الخزرجي (١) : انه لما رجع ابن مهدي من مدينة ذي جبلة من عند الداعي سبأ بن محمد بن سبأ الى حصن الشّرف سنة ٥٤٧ (٢) ، دبّر علي قتل القائد سرور الفاتكي ، فلم يزل يرصده حتى قتله سنة ٥٥١ ، فاشتغل رؤساء الحبشة بالتنافس والتحاسد على مرتبته ، وكانت الحرة علم قد توفّت قبله سنة ٥٤٥ ، فانفتح على أهل الدولة بعد القائد سرور باب الشّر المسدود ، وانحل عقدها المشدود ، ففارق ابن مهدي حصن الشرف ، وهبط الى الدّاشر ، وبينه وبين مدينة زبيد أقل من نصف يوم فتقرّبت الرعايا إليه ، وعرب البلاد ، وهم الذين كانوا رعايا الحبشة ، فكان الرّجل من أصحاب ابن مهدي يلقى أخاه أو قريبه أو معروفه ممن هو من رعايا الحبشة ، سواء كان راعي ماشية أو حارس ضيعة فيفسده ، ولم يزل الأمر على ذلك إلى ان زحف ابن مهدي بجموعه الى باب المدينة في جيوش لا تحصى كثرة ، وحدث غير واحد من أهل زبيد ممن أدرك الحصار ، قالوا : لم تصبر أمّة على الحصار والقتال ما صبر عليه أهل زبيد ، وذلك انهم قاتلوا ابن مهدي اثنين وسبعين زحفا ، يقتل في كل زحف من عسكره مثل ما يقتل منهم ، وصبروا على الضّر والجوع ، حتى أكلوا الميتة ، من شدة الجهد ، ثم انهم استنجدوا بالإمام أحمد بن سليمان ، قال في سيرة الإمام ، ما خلاصته : أنه لمّا وصل إلى اشيح ، اقام به شهرا ووصله ولد لأحمد بن محمد بن الخضر الخولاني ، صاحب حصن قوارير (٣)

__________________

(١) العسجد المسبوك ص ١٣٤.

(٢) في العسجد (نسخة وزارة الاعلام المطبوعة) سنة ٥٤٩.

(٣) يتردد ذكره وهو حصن كبير في وصاب السافل قال الحجري حرب منذ زمن قديم ويعرف الآن بالمكعل.

٣٤٠