تاريخ اليمن الإسلامي

أحمد بن أحمد بن محمّد المطاع

تاريخ اليمن الإسلامي

المؤلف:

أحمد بن أحمد بن محمّد المطاع


المحقق: عبد الله محمّد الحبشي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: شركة دار التنوير للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٨

جعفر بن موسى الصّليحي عن ثمان وثمانين سنة ، وكان مولدها سنة ٤٤٤ ونشأت في كفالة الحرة اسماء بنت شهاب (١) زوجة المكرم علي بن محمد الصّليحي وكانت موضع عنايته وعطفه ورعايته ، وكان يقول لزوجه أسماء : هذه والله كافلة ذرارينا ، القائمة بهذا الأمر لمن بقي منا ، فأدبتها أسماء أحسن أدب ، وهذبتها أكمل تهذيب حتى كملت محاسنها ، وكانت قارئة كاتبة حافظة للأشعار والأخبار عارفة بالأنساب والتّواريخ وأيام العرب ، ولما عرفت به من رجاحة العقل وحسن التدبير للملك ، كان يقال لها : بلقيس الصّغرى ، وبموتها أنقرضت الحكومة الصليحية بعد أن حكمت قرابة قرن سخّرت البلاد لمصالحها ، وتركت الأمة اليمنية ، تعيش في جوّ مختنق وميدان ضيق ، رهن القواعد المرسومة ، والنّظريات المعلومة من دعاة الأسماعيلية ، وكانت الطبقة المتسيطرة ، تتلاعب بعقول العامة وتستأثر بكل موارد العيش ، ومرافق الحياة ، وتتمتّع بجميع وسائل الرفاه ، تحت ستار الدّعاية الإسماعيلية ، ولذلك تفككت عرى القومية وتلاشت العقلية ، والمنتجات الفنية ، وفقدت ملكة الإبداع والابتكار ، وأصبح الإيمان بمزاعم الدعاة ، يفرض على النّاس فرضا فتشابهت نتائج الأفكار كتشابه ميادين الحياة أيام تلك الحكومة ، ولله الأمر من قبل ومن بعد :

رويدا انها دول

تدول وبعدها أخر

يظل الحق منهزما

زمانا ثم ينتصر

وقبرت (٢) السيدة الملكة بالجامع الذي انشأته بذي جبلة غربي المقدّم ، وانتقل ما كان بيدها من الحصون والذّخائر والأموال إلى المنصور بن

__________________

(١) قال الجندي ان أحمد بن جعفر الصليحي مات تحت الهدم بعدن وهي إذ ذاك صغيرة فضمها علي بن محمد إلى زوجته أسماء (ص).

(٢) هذا البحث إلى نهايته منقول من قرة العيون ، وفي انباء الزمن أن للسيدة الجناح الشرقي بجامع صنعاء وهي حقيقة لم يتكلم عليها أحد قبله فيما وقعت عليه أيدينا من المصادر وقد سبق الكلام على هذا في حوادث سنة ٢٦٥ (ص).

٣٠١

المفضل بن أبي البركات الحميري ، فلما كبر وضعف عن كثير من الحركات ، وأحب السكون أبتاع الداعي محمد بن سبأ بن أبي السعود منه الحصون والبلاد بمائة ألف درهم ، قال عمارة : وهي ثمانية وعشرون معقلا ما بين حصن ومدينة ، من ذلك جبلة وإب والتعكر (١) وحب (٢) ، ونزل منصور بن المفضل إلى حصن تعز وصبر (٣) ، وهو أول من اتخذ ثعبات (٤) متنزها ، وكان ينزل من الحصن فيقف بها الأيام ، ولم يزل كذلك إلى أن توفي سنة ٥٤٢ ، وخلف إبنه احمد فقام مقامه الى سنة ٥٥٨ ثم طلع علي بن مهدي من تهامة فأبتاع منه تعز وحب انتقل هو إلى الجند فسكنها إلى أن توفي سنة ٥٦٣ والله تعالى اعلم ، فهذا ما كان من أخبار الدولة الصليحية وما يتعلق بها والله ولي التوفيق.

الامام المتوكل على الله احمد بن سليمان عليه السلام

وفي هذه السنة (٥٣٢) ظهر الامام المجتهد المحقق أبو الحسن أحمد بن سليمان بن محمد بن المطهر بن علي بن الناصر احمد بن الهادي إلى الحق عليه السلام ، ولد بنواحي حوث سنة ٥٠٠ ، ونشأ بها ، وسلك طريقة آبائه الأطهار ، في طلب العلوم والتشمير لمعالي الأمور ، فكان يتحفّزه للقيام بحمل أعباء الخلافة من صغره ، ويرى أن النّاس في حاجة ملحّة إلى رجل عظيم ، تكون فيه القدرة الكافية لكبح النّزعات الجامحة إلى الأثرة ، ومعالجة النّفوس المصابة بداء الجهل والعناد ، وكان دائم الحنين إلى الجهاد ،

__________________

(١) التعكر : هو الجبل المشهور يقع في ارض ذي الكلاع من مخلاف جعفر ويطل على ذي جبله ومدينة إب من الجنوب وعلى مدينة ذي السفال والجند من الشمال.

(٢) حب : حصن من عزلة سيران في بعدان وهو من أمنع الحصون.

(٣) صبر : جبل مشهور تقع في سفح منحدره الشمالي مدينة تعر ، وهو على ارتفاع ٣٠٠٠ متر من البحر.

(٤) ثعبات : محله واقعة في سفح المتصل بجبيل الحجملية والتي تبعد عنها ساعة إلّا ربعا.

٣٠٢

وتحكيم الرّماح السمهرية والمشرفيات الحداد لإرغام معاطس شمخت عن الحق ، ونفوسا حادت عن الرّشاد وكان أيضا يحز في نفسه ضيع الأشراف ، وإيثارهم الخمول وله في ذلك عدة قصائد منها قوله (١) :

لأحكمّن صوار ما ورماحا

ولأبذلن مع السّماح سماحا

ولأقتلن قبيلة بقبيلة

ولاسلبن (٢) من العدا أرواحا

ولأروينّ السمر ممن ابتغى

فإذا ارتوين أفدنني اصلاحا

إلى آخرها قال في اللالىء المضيئة : كان عليه السلام في العلم والعمل والشجاعة الغاية والنهاية ، ويقال فيه : القوّال الفعّال ، وأحسن ما يقال في وصفه ما قال هو في نفسه :

تزعزع مني الأرض خوفا ورهبة

إذا قلت ألجم يا غلام واسرج

انتهى.

وكان يرجو ان يقوم من العترة الزّكية بأمر الأمة من يصلح للقيام ولذلك تصامم عن إجابة دعوة الإمام علي بن زيد لما بلغته في بداية الأمر ، لأنه لم يبلغ المستوى اللّائق بمنصب الإمامة من النّاحية العلمية ، ولكنه عند ما سمع بأن المذكور قد جمع الجموع وقصد حرب صعدة رأى نفسه مضطرّا لموازرته وقال : أنا إن خذلته ووقفت عنه كنت عونا لأعداء الله ، وخاذلا لأولياء الله ، وتقدم إلى نصرته هو وأخوته بمن قدر على جمعه كما مر ، ومما يدل على ما كان يرجوه من قيام من يصلح للقيام قوله :

اما انه لو لا الرجاء لدعوة

مباركة تهدى لدين الغواطم

وعلمي بأن الله ليس بغافل

وان نعيم الدّهر ليس بدائم

لآليت لا أخشى الزمان وصرفه

ولو زارني يوما بإحدى العظائم

__________________

(١) القصيدة في الحدائق الوردية ج ٢ ص ١٢٣.

(٢) في الأصل ولا اسلبن.

٣٠٣

بموت مريح وهو أنجع زائر

وكنت بهذا رابحا غير غارم

لأجل الذي شاهدت من أهل عصرنا

وعاينت من عصيانهم والمآثم

نسوا حقنا واستأثروا بنصيبنا

من الأمر هذا من كبار المظالم

ومنها :

ولكن نصر الله قد آن وقته

لنا يا بني الزّهراء بنهضة قائم

كريم أخي عالم وفضل وسؤدد

وذي همة تعلو السهى والنعائم

وصبر واقدام وحزم ونجدة

وشدّة بأس عند ضرب الجماجم

إلى آخرها : ولما عزم الإمام على إظهار دعوته نهض من الجوف ومعه رجلان إلى برط فبايعه قوم من دهمة ، وسار إلى نجران ونزل على الشيخ العون بن زغبة ففرح بمقدمه ، وأطلعه على ما قد ظهر بنجران من المنكرات ، ووصلته قبائل همدان نجران وبايعوه في شهر صفر من السّنة ووزّع كتب الدّعوة إلى عموم البلاد اليمنية ، فلم يتحرك لها إلّا القليل الذي لا يعتدّ به ، ثم إنه وصل إليه صنوه الشريف يحيى بن سليمان في جماعة من الأشراف وأشاروا عليه بمغادرة نجران إلى الجوف ليتوسّط لهمدان ويكرّر الإرسال إليهم فبادر بالانتقال ورافقه الشيخ العون بن زغبة ، وحاتم بن سليمان اليامي ، وسالم بن الخطر اليامي ، وفي طريقه بايعته بنو عامر ، وأرسل لوائلة فبايعوه ، وسار الى برط ومكث به خمسة أيام في أثنائها وافته جميع قبائل دهمة بدوها وحضرها ، وبايعوه على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فشكر لهمدان وأثنى عليهم بهذه الأبيات :

أأغضي على صرف الزمان وجوره

وارضى بخط ناقص وخمول

وقد خصني ربي بأزكى عطية

وفضل ومجد في الأنام أثيل

وحولي همدان بن زائد ذوو الحمى

بناة العلا من حاشد وبكيل

هم نصروا الهادي الى الحق جدنا

بكل رقيق الشفرتين صقيل

ولما بلغ السلطان جحاف بن ربيع الدّعامي وصول الإمام الى برط

٣٠٤

وعزمه على النزول ، كتب إليه لا يغشاه بالنّاس ، وإذا كان يريد الاتفاق فسيلقاه إلى موضع يعيّنه الإمام لشدّة لحقت البلاد يومئذ ، ولكن الإمام أغضبه اقتراح الدّعام ، فنزل من برط ، وبات بالمراشي ، وسار إلى خيوان وعزم ان لا يطأ بلاد الجوف إلّا وقد تقلّص ظل كل نفوذ فيه لغيره وسار إلى بلد بني ربيعة ، وكانت قد استدعته قبائل خولان (صعدة) فسار إليهم ، وكل ما مرّ بقبيلة من القبائل تلقوه بالسّمع والطاعة ، وكذلك فعلت خولان ، وكان أهل الحقل وبعض رجال من غيرهم قد تآمروا على صدّه من إجتياز الحقل وإعلان الخلاف والتمرد ، وسبب ذلك خوفهم مما سبق منهم إلى الأمير المحسّن في حياته ، وبعد وفاته ، ثم ما لحقهم من مقام الإمام علي بن زيد ، فصاروا لا يسمعون بقائم من أهل البيت إلّا وايقنوا انه يهتك استارهم ، ويخرب ديارهم ولما علم الشرفاء بنو الهادي بما أئتمر به أهل الحقل ندبوا لقتالهم بني جماعة فلبّت بنو جماعة وطلبت نزول الإمام في بلادهم ، فتحول الإمام إليهم ، ولما عزموا على الخروج لقتال أهل الحقل ، وتأكد أهل الحقل ذلك ، عدلوا الى استخدام المال ، وارسلوا الرّؤساء بني جماعة بشيء من الحطام ، فرجعوا عن عزمهم ، وتخاذلوا عن نصرة الإمام ، وتركوه فسار عنهم إلى نجران ، وصادف في طريقه من المشكلات ما ينوء بحمله أفذاذ. الرجال ، وكل هذه الحوادث في السنة الأولى من دعوته. (١)

ودخلت سنة ٥٣٣ لم يكن هذا العام أسعد طالعا على الإمام ودعوته من العام الماضي ، ولكنه ظل مثابرا بهمة لا تعرف الملل ، وعزيمة تهزأ بالخطوب ، فأقام بنجران شهر صفر وربيع من السنة ، وجاءته قبائل من همدان وجنب يحرّضونه على الانتقام لهم من بني الحارث النجرانيين ، فلم

__________________

(١) سيرة الامام المتوكل على الله احمد بن سليمان واللآلىء المضيئة (ص). (قلت) وقف المؤلف على سيرة المتوكل احمد بن سليمان ومعه من الكتب التاريخية النادرة ولا أعرف من مخطوطاتها سوى قطعة لمكتبة جامع صنعاء وهي من تأليف العلامة سليمان بن يحيى الثقفي.

٣٠٥

يلتفت إلى ما راموه ، وقال لهم : أنا أطلب قوما إن أمرتهم ائتمروا ، وإن نهيتهم انتهوا ، في كل وقت ، ولستم بهذه الصّفة ، وما لبث أن وافته كتب الرّبيعة يستدعونه ، ويعدونه النصرة ، فتحول إليهم ، ومرّ ببلاد وادعة ونزل على الشيخ عمر بن احمد اليرسمي ، وحضرت إليه قبائل وادعة معتذرة عن تثاقلها عن نصرته ، فعذرهم وسار إلى بلاد الربيعة (١) ، وكانوا في حرب مع بني مالك (٢) ، فلما اقترب منهم الإمام خاف أهل الحقل أن يميل إليه أحد الفريقين المتحاربين ، وبذلوا الأموال في سبيل الصّلح بينهم ، حتى تم لهم ما أرادوه ، وكان فيه القضاء على آمال الإمام ، فقد تنكرت له الربيعة ، واخلفته ما وعدت ، وكذلك غيرها ممن بايعه ، والسّبب في تلون القبائل الآخرة (٣) ، دعايات قام بنشرها بعض رجاله الذين قد بايعوه وشهدوا بإمامته ، ولكنهم خافوه على مناصبهم التي كانت تدرّ عليهم الأموال باسم الزكاة (٤) ونحوها ، فلم ييأس ، واستمر على نشر دعوته بمختلف الوسائل ، وأقام بحيدان ، وأمر بعمارة هجرة بموضع يقال له الجحفات بوادي حيدان ، ثم انه حشد القبائل ، فاجتمع له منهم زهاء ألف رجل وسار بهم يريد الحقل ، فلما بلغ بهم ساقين اقترحوا عليه أن يرسل للرّبيعة لتنظم إليهم ، فراسلهم الإمام ، وأوفد إليهم جماعة من الشرفاء والمشائخ ، فلم يلتفتوا إلى وفده ، ولا احسنوا ردّه ، رغما على ما بذله لهم من الأموال ، فلما عاين من معه إمتناع الرّبيعة ، تخاذلوا عنه ، ورجعوا أدراجهم ، فنزل على بني بحر ، وأرادهم على القيام معه

__________________

(١) الربيعة قبائل من أسفل نجران انظر صفة جزيرة العرب ص ٢٢٨.

(٢) قبائل ومواضيع من تلك النواحي (المخلاف السليماني).

(٣) كذا أو لعلها «الأخرى».

(٤) قلت كان من أكبر من جاهر الإمام احمد بن سليمان العداء هم طائفة المطرفية الذين لم يعترفوا بامامته ورأوا فيه عدم الكفاءة ، وكان المطرفية قد قوي نفوذهم في ذلك الوقت وأصبح لهم هجر وشيوخ علم لا تعترف بالإمامة قط. حين رأى منهم الإمام عبد الله بن حمزة الخطر الداهم على قواعد الإمامة فقام بحربه المشهورة عليهم كما سيأتي.

٣٠٦

فأجابوه ، وطلبوا المهلة إلى خروج عيد النحر فأنظرهم الإمام ، ثم أنها تجهّزت جماعة من هذه القبيلة ، وساروا مع الإمام غير بعيد ، ثم رأوا أنهم قلّة لا يقوون على قتال فتركهم ورجع حيدان.

وفيها اجتمعت همدان لما كثر الاختلاف بين أولاد النبيب ، وقصدت السلطان الأجل حميد الدّولة حاتم بن عمران بن الفضل اليامي ، كريم همدان وطلبوا منه القيام بالأمر وإصلاح البلاد فأجابهم إلى ذلك ، ودخل صنعاء في سبعمائة فارس من همدان ، وسيأتي تفصيل ما كان بينه وبين الإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان.

ودخلت سنة ٥٣٤ فيها عاد الإمام إلى تحشيد القبائل ، وإثارتهم لقتال من شذ عن جماعته ، وفي مقدّمتهم أهل الحقل (١) فلما عاينت قبائل الحقل جند الإمام ، تقدمت إلى الإمام بالسّمع والطاعة ، وانضمت في عداد الجند الذي معه ، فسار بهم إلى نجران فتلقّاه السّلطان هشام بن نباتة المداني ، والعون بن زغبة ، في أفراس من بني الحارث وهمدان ، ثم تقدّم إلى قبائل وادعة ، فصلّى بهم الجمعة ، وانتقل إلى الهجر ، ثم سار إلى كوكبان (٢) محل السّلطان هشام فبات ليلته في ضيافة السلطان ، ولما أصبح اتته بنو زريع وعلى رأسهم سلطانهم روح بن زريع ، وسألوه النّزول في ضيافتهم ، هو ومن معهم فساعدهم الإمام ، وبات عندهم ليلة ، ثم عاد إلى مقره ، وبعد أن تم له تقرير أمور البلاد ، وتثبيت أحوال الولاة غادرها إلى الجبجب ، وفيها مات الدّاعي الأغر علي بن سبأ وتولى بعده اخوه محمد بن سبأ قال الديبع في قرة العيون (٣) : وفي أيامه قدم رسول من مصر من الخليفة بتقليد الدّعوة علي بن سبأ ، فوجده قد مات فقلد الدعوة أخاه محمد بن سبأ ، ونعته

__________________

(١) لعله حقل صعدة بالشمال من المدينة.

(٢) هو غير كوكبان المعروفة بحصنها والقريبة من شبام.

(٣) قرة العيون ج ١ ص ٣٠٩.

٣٠٧

بالمعظّم ، ونعت وزيره الشيخ بلال بالنعوت الجليلة.

وقد أشار إلى الرسول الموفد صاحب أنباء الزمن (١) ، ولكنه خلط في اسمه قال : ومن خلال ذلك قدم رجل احمد بن علي بن الزبير برسالة من العبيدي صاحب مصر ، وذكر الخبر ، والرّسول المذكور ، هو القاضي الرشيد ابن الزبير أخو القاضي المهذب شاعر الوزير الطلائع بن زريك ، وزير الحافظ العبيدي ، وكان الغرض من إيفاده تقوية الروابط بين مصر واليمن ، فإنّها كانت قد توتّرت العلائق ورثّ الحبل ، وانقطعت الرابطة الروحية بموت الآمر بأحكام الله ، وأصبح الخليفة في زعم دعاتهم باليمن (٢) مستورا فلما مات الآمر آخر أيام السيدة ، وتولّى بعده الحافظ عبد المجيد (٣) قطعوا الخطبة والدّعوة للحافظ المذكور ، وانكمشت الدّعوة الإسماعيلية ، تعمل عملها في ربوع اليمن ، وتقوم بالعجائب في سبيل المحافظة على مبادئها وتعاليمها ، وتدعو إلى الخليفة المستور ، فأراد الحافظ بإرسال داعيته القاضي استرداد النفوذ والسلطة الروحية ، ولكنه لم يفلح ، وأخفق مسعى داعيته ، وكان حظه من الأمير الزريعي الحبس والتنكيل (خلاف ما قاله الديبع وصاحب أنباء الزمن) ولم يستطع خليفة مصر تخليص داعيته من الهوّة التي ارتطم فيها ، حتى كان من أخيه القاضي المهذب (٤) إنشاء قصيدة مدح بها الدّاعي واستعطفه ورجاه لأخيه المسجون ، وكان من أثر هذه القصيدة إطلاقه والقصيدة المذكورة من غرر شعر القاضي المهذب وأولها :

__________________

(١) غاية الأماني ص ٢٩٧.

(٢) راجع نزهة الأخبار (ص).

(٣) هو عبد المجيد بن محمد بن المستنصر بالله مولده سنة ٤٦٧ ووفاته سنة ٥٤٤.

(٤) هو الأديب المهذب الحسن بن علي بن ابراهيم الزبيري الغساني من ادباء مصر له ديوان شعر وتفسير للقرآن يقال يقع في خمسين مجلدا توفي سنة ٥٦١.

وأخوه القاضي الرشيد هو أحمد بن علي بن ابراهيم أديب اكثر شهرة من أخيه له مؤلفات كثيرة أغلبها فقد منها مقامته الحصيبة الفها في زبيد توفي سنة ٥٦٣ قتلا.

٣٠٨

يا ريع أين ترى الأحبة يمموا

هل انجدوا من بعدنا أم اتهموا

نزلوا من العين السواد وان نأوا

ومن الفؤاد مكان ما أنا اكتم

رحلوا وفي القلب المعنّى بعدهم

وجه على مر الزّمان مخيم

ومنها :

إني امرؤ قد بعت حظي راضيا

من هذه الدنيا بحظي منهم

ما كان بعد أخي الذي فارقته

ليبوح إلّا بالشكاية لي فم

أقوت مغانيه وعطّل ربعه

ولربما هجر العرين الضيغم

ورمت به الأهوال همة ماجد

كالسّيف يمضي عزمه ويصمم

يا راحلا للمجد عنا والعلا

أترى يكون لكم إلينا مقدم

يفديك قوم كنت واسط عقدهم

ما ان لهم مذ غبت شمل ينظم

جهلوا قطنوا ان بعدك مغنم

لما رحلت وانما هو مغرم

ولقد أقر العين ان عداك قد

هلكوا ببغيهم وانت مسلّم

ومنها في مدح الدّاعي :

أقيال بأس خير من حمل القنا

وملوك قحطان الذين هموهمو

متواضعين ولو ترى ناديهم

ما اسطعت من إجلالهم تتكلم

وكفاهم شرفا ومجدا انهم

قد أصبح الدّاعي المتوج منهم

هو بدر تم في سماء علاهم

وبنو أبيه بنو زريع أنجم

ملك حماة جنة لعفاته

لكنه للحاسدين جهنّم

وكان (١) الدّاعي محمد المذكور كريما جوادا مدحه جماعة من الشعراء وتوفي بالدملوة سنة ٥٤٨ وقام بعده بالأمر ولده عمران بن محمد بن سبأ وسيأتي ذكره ان شاء الله.

__________________

(١) قرة العيون (ص).

٣٠٩

عزم الإمام إلى نجران واستيلاؤه على صعدة

ودخلت سنة ٥٣٥ فيها إئتنف الإمام الحشد لقصد نجران ، فسار في عسكر كثير فيه أربعمائة ترس ، وألف قوس ، وكان قد بلغه عن أهل نجران تذبذبا في الطاعة ، وكانت كتبهم تنم عن ذلك ، فكان كل فريق منهم يزكّي نفسه ، ويدل على غيره بأنه يتحفز للخلاف ، فأراد أن يعلم المفسد من المصلح ، ونهض إليهم بجموعه وطاف بلادهم ، وتوغّل فيها ، ولاح له ما اعتزم عليه بعضهم ، فلم يكترث بذلك وقابل الإساءة بالإحسان ، وأقام بنجران أياما ، ورجع في حافرته إلى صعدة ، وكان أهل صعدة قد تواثقوا على حربه ، والإمتناع عن تسليم حصون بلادهم إليه ، ولكنهم اطمأنوا إلى ما سمعوا عنه من حسن السيرة بنجران ، فساعدوه على ما أراد وفتحوا له أبواب البلاد ، ولله در القائل :

ولم أر مثل الرفق في فعله

اخرج للحية من جحرها

وبعد أيام أقامها بصعدة تحول إلى الجبجب ، وهنالك بلغه أن انسانا شرب الخمر ، وخاف الحد فاستجار بالرّبيعة فأجاروه ، وأتوا إلى الإمام متشفعين للشارب فقال لهم الإمام الحق لله ، ولا بدّ من الحد ، وطلب الرجل وأمر بجلده ثمانين حد الشرب ، وبلغه أيضا أن جماعة من بني مالك تراموا فيما بينهم ، فغضب لذلك وأمر بالنفير لحربهم ، فوصلته مشائخ آل سعود ، وهم أهل الجناية ، وقالوا : ما حكمت علينا في جناية هؤلاء الصّبيان فافعله ، فإنا سامعون مطيعون ، فقال : لا بد من حبسهم أو هدم منازلهم فرأوا الخراب أهون عليهم من الحبس ، فامتثلوا فأرسل معهم من أخرب دربالهم بالصّعيد يقال له درب آل أبين ، قال في اللآلىء المضيئة : وكان عليه السّلام يعاقب المحدثين تارة في أجسامهم بالجلد والحبس ، وتارة بخراب منازلهم ، على قدر اجتهاده ، وكان قد أخرب منازل على المحدثين ، منها

٣١٠

منزلان بصعدة ، ومنزلان بأسل (١) ، ودرب بالمحفا ، ودرب بزهوان ، ودرب بني معاد (٢) ، فلما رأى النّاس من شدّته في الصغائر ما رأوا ، اخضعوا له طوعا وكرها ، وطابت له مخاليف صعدة ونجران ، وجرت فيها أقلامه ونفذت فيها أحكامه ، وسمع من كان منتزحا بعد له وحسن سيرته فكاتبوه من كل ناحية ، وكان ممن كاتبه السلطان هاشم والسلطان ابن احمد بن عمران ، والقاضي احمد بن عبد السلام (٣) بن أبي يحيى ، وفي المكاتبة المذكورة من شعر ولده يحيى بن أحمد وذلك قوله :

أإنسان عيني ما تألفت انسانا

فألفيته للقانع الود قنعانا

ومنه :

خليلي ان الدهر أعتب عاتبا

عليه وأرضى بالرضا عنه غضبانا

كأن لياله تأدبن أوسطا

عليها فدانت احمد بن سليمانا

إمام أمام الجيش منه عزيمة

يشين بها من كل شأن له شانا

إلى آخرها فأجاب الإمام عليه بقوله :

انشر سري ينشي من الرّوض افنانا

ومسكا وكافورا وريحا وريحانا

أم الجوهر الشفاف أم سلك لؤلؤ

تضمّن ياقوتا ثمينا وعقيانا

ام العنبر (٤) الشحري أم طرس ماجد

حسبناه لما ان فضضناه بستاتا

أرق من الماء المعين معانيا

وأبهر من نور الغزالة برهانا

حبانا به القاضي الأجل ابن احمد بن

عبد السلام النّدب يحيى وحيانا

وفيها نهض الإمام إلى الجوف بمن معه من همدان ، وقبائل صعدة ،

__________________

(١) أسل : واد في بلاد دهمة من أعمال صعدة.

(٢) بنو معاد : عزلة من ناحية سحار وأعمال صعدة.

(٣) والد القاضي جعفر بن عبد السلام.

(٤) في الأصل العبر.

٣١١

وغيرهم ، فأطاعه أهل الجوف وشوابة ، وبلاد أرحب ، ولما استتب له أمر بلاد الجوف ، رجع إلى بلاد بني جماعة ، فأصلح بينهم في دماء كانت مثار خلاف فيما بينهم ، وقابلته بنو ربيعة بالحرب ، فقاتلهم وأخرب ديارهم ، وانتقل إلى نجران لتأديبهم لما أحدثوه من العيث والفساد بعد رحيله عنهم ، فنكل بهم وأخرب قراهم فأجابته (١) يام من السّهل والجبل ووادعة وشاكر ودهمة وبنو مرة وغيرهم طائعين مستسلمين فرجع إلى صعدة ظافرا منصورا.

عزم الإمام لتأديب (٢) الشقي ابن الطحل وفساد ابن القدمي ، وأهل الحقل

ودخلت سنة ٥٣٦ فيها بلغ الإمام أن عرفطة بن الطحل قطع طريق الحاج ، ومعه أهل عنز فنهض لحربهم إلى أن بلغ جانبا من العرض ، وبلغه أن قوما من يرسم قتلوا رجلا من بني حمزة وهربوا بلاد الرّبيعة ، فأمر بخراب منازل الجناة المذكورين ولكنه خشي أن يتعدّاهم الخراب إلى غيرهم ، فرجع عن قصد العنزيين لتدارك ذلك ، وكانت نيران الخلاف قد بدأت تتّقد بين بني مالك المأمورين بخراب منازل المجرمين وأهل صعدة ، فأصلح الإمام بينهم ، وسار إلى حيدان يحشد القبائل لحرب العنزّيين فاجتمع له خلق كثير ، ولما بلغ أهل الحقل اجتماع القبائل وتلبيتهم نداء الإمام خافوا أن يستظهر عليهم ، وينيلهم السوء فسعوا في تفريق من اجتمع إليه ، وصاروا إلى رجل من أهل مجن يقال له محمد بن القدمي ، ووعدوه النصرة والمعاونة إن هو ثار على الإمام ، فخف ابن القدمي وعمد إلى قافلة آتية من نجران بعضها للإمام من صدقات وبعضها لتجار من نجران وصعدة ، وهي تمر وعطب (٣) فنهبها ، وقتل رجلا ممن كان معها ، وكان ذلك في أسفل بلاد البقرا ، ولما

__________________

(١) في الأصل : فاجأته.

(٢) في الأصل : لتائب.

(٣) العطب : القطن.

٣١٢

علم الإمام بذلك أراد أن يغزوهم وطلب من خولان وبلاد حيدان مناصرته ، فقالوا له : انا قد خرجنا معك مخارج كثيرة فلزمت على أيدينا وأطلقت أيدي بني جماعة في مخرج نجران ، فسار عنهم مغاضبا ، فلقيه جماعة من مشائخ بني جماعة فأخبرهم بخبره فأجابوه بالسمع والطاعة ، وانضم إليهم بنو بحر ، وقصدوا ابن القدمي إلى مجن ، وكان قد تحصّن منهم في درب حصين ، ولما عاينوا مناعة الحصن طلب رؤساء العسكر من الإمام الإمساك عن الحرب وسعوا في الصّلح فقال لهم الإمام : أنا لا أرضى إلّا بتنفيذ قول الله تعالى : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) الآية (١) في ابن القدمي ، فقالوا له : سنأتيك به لتنفذ فيه ما أردت ، فلما كان من الغد وصلوا بأخ له وأربعة معه وقالوا دونك هؤلاء فقيدهم واحبسهم أمّا محمد بن القدمي فإنه هرب في اللّيل فقيّدهم الإمام ، ثم علم ان ابن القدمي لم يخرج من الدّرب ، وانما اختفى فغضب الإمام وأطلق المقيدين ، وأمر ابن القدمي ان يذهب إلى أخيه ، وإذن لذلك الجمع أن ينصرف لأنه عرف فيهم عدم النّصح ، وعزم على اعادة الكرة على ابن القدمي ، في فرصة أخرى فتفرّق عنه أصحابه ، وبقي في أربعين رجلا منهم ، فأراد أهل الحقل وابن القدمي إنتهاز الفرصة لقّلة من معه ، وباغتوه في ثمانين رجلا من خيارهم ، فثبت لهم الإمام حتى أعياهم ، فتفرقوا عنه وامسكوا ، وكانت الحرب بمجن ، ولما علمت القبائل القريبة هبّوا سراعا لنصرة الإمام ، وقالوا : قد اجتهدنا في إغفال الحرب عن ابن القدمي بمخرجك إلى الشام ، والآن لا عذر لنا عن حربه ونكاله ، لما كان منه ، وكذلك فعلت القبائل البعيدة فشدّدوا الحصار والمضايقة لابن القدمي وأصحابه ، حتى أجلوهم عن الدّرب (٢) وهربوا منه ، فهدمه الإمام وكبس خندقه وبئره وأحرق أبوابه وأخشابه ، بعد أن قتل من أهل الدّرب ثلاثة رجال ، وفي ذلك الوقت قال الإمام قصيدته التي أولها :

__________________

(١) الآية ٢٣ سورة المائدة.

(٢) يتكرر ذكر الدرب هنا وهو ما يقابل الحارة أو الضاحية في كلام الناس.

٣١٣

منازلنا للوافدين منازل

وساحاتنا للواردين مناهل

وكل دخيل عندنا الدهر (١) مكرم

وكل غريب نحونا فهو آهل

وكل امرىء في هذه الأرض عالم

بأني فعول كلما أنا قائل

ومنها :

دعوتكم في ساعة العسر معلنا

فلم تسمعوا والكفر في الناس شامل

وكابدت هذا الناس وحدي وخانني

صديقي وأقصاني وأعرض عاذل

ثم رجع إلى الجبجب ، وأما أهل الحقل فإنه زاد خوفهم وعزموا على الغدر بالإمام فقصدوه إلى الجبجب ، برفاقة بني بحر مظهرين النّدم ومضمرين الغدر والخيانة ، ولكنها خابت مساعيهم وطردهم الإمام من حضرته وأكرم وفادة بني بحر.

خلاف اهل الجوف

فيها وفد على الإمام السلطان جحاف بن الرّبيع ، وكان هو الوالي على الجوف من قبل الإمام (٢) ، فذكر أن بعض قبائل الجوف تمردوا ونزعوا أيديهم عن الطّاعة وحالفوا السلطان فليته بن العطاف النهمي ، وجمعوا البوادي من جنب ونهم وغيرهم إلى الوادي ، وقتلوا السلطان منيع بن أرحب وغيره من أنصار الإمام فأمر بجمع القبائل ، وكان ممن وصل إليه البحريون ، ومعهم ابن القدمي وقالوا هذا جارنا قد أتينا به اليك فشفع فيه السّلطان جحاف ، وسأل العطف عليه ، فقبل الإمام شفاعته وعفا عنه تألّفا لبني بحر ، ورعاية لهم ، ونهض الى الجوف ، ولما دخل سوق الدّعام ، ألتفّت حوله القبائل التي لم تنزع إلى العصيان وبعد أن راسل القبائل المتمردة ، ودعاهم إلى الطاعة حاصرهم في حصنهم ، فما كان بأسرع من طلبهم الأمان ، وإعلانهم الطاعة فأمنهم ، وعاد إلى الجبجب وقد طوّع أهل الجوف البدو والحضر.

__________________

(١) في الأصل (الدوهر).

(٢) في الأصل الأم.

٣١٤

ظهور علي بن مهدي الحميري

وفي (١) هذه السنة اشتهر أمر علي بن مهدي بن محمد بن علي بن داؤد بن محمد الرعيني ثم الحميري ، وكان يسكن بقرية الغبرة اسفل وادي زبيد وبها ولد ، وكان ابوه صالحا فنشأ ابنه على طريقته ، محبّا للعزلة متمسّكا بالعبادة غزير الدّمعة واسع الفكرة كثير المحفوظات فصيح العبارة كثير الوعظة والتحذير من صحبة الملوك ، له رحلات إلى بيت الله الحرام ، وفي أثناء رحلاته ، كان يأخذ عن علماء العراق ووعّاظهم ، وكان يخبر عن المستقبل ، ويكاشف النّاس بكثير من الأمور ، فيصدق فأفتتن النّاس به وطار ذكره ، وكان أوّل ظهوره سنة ٥٣١ ، واستمر على الحال المذكور من الصّلاح والعبادة والتّردّد إلى حرم الله إلى سنة ٣٦ ، فنال من احترام العامة والخاصة ، مكانة عاليه ، ولا سيما عند الحرة علم أم فاتك بن منصور ملك زبيد فإنها أمرت باسقاط خراج أراضيه ، وأراضي من يلوذ به من قريب وتابع ، قال الجندي : فلم تمض مدة حتى أثروا وصاروا أهل خيول صاهلة وعدد للحرب باهرة ، وفراسة شاهرة ، فكانوا في ركوب الخيل كما قال الشاعر :

فكأنما نتجت قياما تحتهم

وكأنما ولدوا على صهواتها

انتهى : وسيأتي الكلام على بني مهدي وحكومتهم تفصيلا إن شاء الله.

ثورة الشريف المهول بحقل صعده

ودخلت سنة ٥٣٧ (٢) فيها ثار الشريف عبد الله بن محمد المهول ، وكان أهل الحقل هم الذين حرّضوه على الخروج ، فقصد الرّبيعة ، ونحر على

__________________

(١) الخزرجي وانباء الزمن وقرة العيون (ص).

(٢) قال في انباء الزّمن ودخلت سنة ٥٣٧ لم يتفق فيها ولا فيما بعدها يوجب الذكر. ودخلت سنة ٥٣٩ الى سنة ٤٣ وفي سيرة الإمام احمد ما حرّرنا من الحوادث لهذه السنين.

٣١٥

مقابرهم ليثيرهم على الخلاف والخروج على الإمام فاجتمع له منهم جماعة ، وانضم إليهم غيرهم ، وقصد الإمام الى الجبجب ولما نشبت الحرب انهزم أصحاب الشريف ، وعادوا أدراجهم ، وفي ذلك يقول الإمام من قصيدة يعاتب بها الأشراف منها :

وغشيرتي متربّصون جميعهم

بي عثرة في وقت كل عثار

لم آتهم بنكاية بل جئتهم

بزيادة في المال والمقدار

ولم يزل مقيما بالجبجب حتى بلغه ان أهل الحقل وبعض قبائل صعدة وغيرهم تجمعوا وأجمعوا على الخلاف ، فأغضبه ذلك وسار إلى البطنة فنزل على الشيخ حسن بن قيس وأقام عنده إلى آخر سنة ٥٣٨ ، وفي ذي الحجة منها أرسل الإمام إلى كافة الشرفاء بني علي بمكة قصيدة يدعوهم بها إلى الجهاد ودخلت سنة ٥٣٩ فيها فتك السلطان هشام بن نباتة النّجراني بالسلطان روح بن زريع ، وكان الإمام قد عقد له أمانا فأغضبه هشام بن نباتة المذكور فجمع القبائل وسار إلى نجران لحربه وتأديبه ، ولما وصل نجران أخرب دور المعتدين وقطع نخيلهم وتمّ له ما أراد من تأديبهم ، ثم رجع إلى البطنة وبعد أيّام انتقل إلى هجرته بحيدان ، فأقام بها سبعة أشهر ألف فيها كتابه المشهور بحقائق المعرفة في علم الكلام. قال الشرفي في اللآلىء المضيئة وهو كتاب جيّد التّصنيف حسن التأليف ، ووفد عليه أثناء تأليفه الشيخ ابو الحسين بن أبي القاسم من ناحية بلاد عنس وجماعة معه فتعلّموه ونسخوا الكتاب وأعجبوا به (١).

ودخلت سنة ٥٤٠ فيها ظهرت بصعدة منكرات وأمور قباح ، وكانت ولاية صعدة إلى آل الشمري ، فراسلهم الإمام وحذّرهم عاقبة الغي والضّلال فلم يكترثوا بنصحه ونهيه ، ولما تحقق له ذلك ، جمع خولان لغزوهم ،

__________________

(١) من هذا الكتاب عدة نسخ خطية في مكتبة جامع صنعاء وغيره انظر كتابنا مصادر الفكر الإسلامي ص ٥٣٥.

٣١٦

ولكن آل الشمري خافوا ، ففزعوا إلى جمع كميّة من المال من أهل صعدة وانفقوها لا حباط حركة الجيش المهيأ لتأديبهم ، فتم لهم المراد.

وفيها وفد على الإمام السلطان هشام بن نباتة معتذرا مما فرط منه فاعذره ، وأمنه وصرفه إلى بلاده.

ذكر من وفد على الإمام المتوكل من العلماء وخبر نزوله الى تهامة

ودخلت سنة ٥٤١ فيها كتب الشّريف علي بن عيسى وحمزة السليماني من مكة إلى الإمام المتوكل يخبره بوصول الشّيخ الفقيه زيد بن الحسن البيهقي (١) من بلاد خراسان ، وأنه يريد الإتصال بحضرة الإمام ، فرحب به الإمام وأكرم نزله ، وكان الشّيخ المذكور عالما ورعا عابدا ، أوصل معه كثير من الكتب في فنون مختلفة ، فأقام بهجرة محنكة بوادي حيدان في ضيافة الإمام أيّاما ، ثم انتقل الى صعدة وأقام بها مدة يدرس وينشر فضائل أهل البيت عليهم السلام.

وفيها أيضا وفد على الإمام الشيخ الأجل محمد بن عليان (٢) كبير الشيعة بوقش وغيرها من الهجر ، ولما استقر بحضرته أرسل لجميع الشيعة من بلاد خولان وأهل الهجر (٣) فيهم فوصل منهم عدد كثير بايعوا الإمام وتابعوه ، وكان ممن وصل مع البيهقي رجل من فقهاء تهامة طلب من الإمام الإنتقال إلى جوار تهامة ومراسلة الشريف غانم بن يحيى بن حمزة بن وهاس السليماني ، وكافة الشرفاء من بني سليمان بالموعظة ونهيهم عمّا كانوا عليه من الظّلم والفسق

__________________

(١) كان قدومه لمناظرة المطرفية وقد ذكره صاحب كتاب التمييز بين الاسلام والمطرفية العلامة عبد الله بن زيد العنسي المتوفي سنة ٦٦٧ وفي مطلع البدور ترجمة لآخر هو زيد بن احمد بن الحسن البيهقي قال قدم هجرة حوث سنة ٦١٠ فلعله هو هو.

(٢) ترجم له مسلم اللحجي في تاريخه وعده من كبار علماء المطرفية.

(٣) الهجر هي مراكز العلم والتدريس.

٣١٧

فأجابه الإمام ، ونهض الى بلاد الأبقور (١) واستنفرهم معه فأجابوه ، وتحرك في جيش كبير حتى نزل بموضع يقال له الصبابة أعلا وادي جازان ، ولما علم به الشّريف غانم بن يحيى خشي أن تجتمع أهل تهامة عليه مع الإمام ، ففرّق الأموال على أهل البلاد ، ثم جمع الجنود وقصد الإحاطة بالإمام ومن معه ، ولكن ذلك الجند فشل وتفرق ، فلاذ الشريف بأهل الحبشة أمراء زبيد ، وطلب منهم النجدة فلم ينجدوه ، وأخيرا عدل عن هذا وذاك ، واستذرى (٢) بالإمام ، وبذل له الطّاعة فاستوثق (٣) منه الإمام بالإيمان ، وعاد إلى الجبجب وأقام فيه إلى سنة ٥٤٢.

ودخلت سنة ٥٤٣ فيها كانت الحرب بين يرسم (٤) وأهل صعدة ، وكان الإمام بجبل بني عويمر (٥) منهوكا مما لحقه من المرض على إثر تهامة ، ولما عرف غلبة الصعديين ليرسم ، تقدم من موضعه لنجدة اليرسميين ، فدخل صعدة في عدد قليل فأحاط به الصّعديون ، وحاصروه في الجهة التي دخل منها ، ولم يتمكن من الخلاص إلّا بمشقة ، وعاد إلى محلّه متعبا منهوكا ، واستقر فيه إلى أن كان إجتماع الأشراف للنّظر فيمن يصلح للقيام بأمر الأمة كما سيأتي.

ودخلت سنة ٥٤٤ (٦) فيها أشترى الدّاعي محمد بن سبأ الزريعي من السلطان منصور بن المفضل بن ابي البركات الحميري ما كان تحت يده من المدن والحصون كالتّعكر ، وإب ، وجبلة ، وغيرها ، وقد تقدم ذكر الحصون

__________________

(١) الأبقور : قبيلة من خولان بن عمر لها بقية في سحار بالشمال من صعدة.

(٢) التجأ إليه.

(٣) في الأصل فستوثق.

(٤) يرسم سبق ذكرها وهي تقع في الغرب من الجنوبي من صعدة بمسافة نحو ميل.

(٥) في الأصل كتبه هكذا ثم كتب فوق الكلمة عوير (ظنا) : وبنو عوير من قبائل سحار في الجنوب الغربي من صعدة.

(٦) غاية الأماني ص ٣٠٠.

٣١٨

والمدن المذكورة في السنة التي ماتت فيها السيدة الصليحية.

اجتماع الأشراف ومبايعتهم الإمام المتوكل على الله

ودخلت سنة ٥٤٥ فيها اجتمعت الأشراف في مدر من بلاد حاشد ، للنظر فيمن يصلح للإمامة والقيام بأعباء الأمة ، وكان هذا الاجتماع العظيم مؤلّفا من كافة الاشراف العلويين ، فكان مجموعهم ينوف على الألف ، وحضر معهم من كبار الشّيعة وعلمائهم من يهمهم ذلك الأمر ، ولما كمل نظام عقدهم ، أفاضوا في البحث والتّنقيب عمّن يصلح منهم لمنصب الامامة والقيام بأمر الجهاد ، وبعد إمعان في التّفكير ، قرروا أن الإمام المتوكل أحمد بن سليمان قد سبقهم في التّقدم إلى الجهاد ، وبذّهم في القدرة على حلّ المشكلات ، وإخماد نيران الفساد ، فهو بها أولى ، فأجمع رأيهم على متابعته ولزوم جماعته واختاروا منهم ثلثمائة رجل للوفادة عليه ، وإبلاغه القرار المجمع عليه ، فسار الوفد إلى حضرة الإمام الى الحجب ، ولما وصلوا إليه سرّ بهم وأكرمهم ، ثم انهم عرضوا عليه قرار ذلك المؤتمر ، فرفض قبول الأمر ، واعتذر لهم بما لقيه منهم من الإعراض والجفوة عند ما كان يدعوهم في الأزمات التي لقيها من السنين الماضية ، فقالوا له : قد كنت تدعونا فلم نجبك فكانت لك الحجة علينا ، واليوم قد صارت لنا الحجة عليك ، وقد ألقينا مقاليدها اليك فقال : تالله لا كانت لكم الحجة عليّ ، وبادر بالنّهوض إلى الجوف ، وفي أثناء مسيره ، وصله كتاب من أخيه عبد الله بن سليمان من حوث يقول فيه انه قد فشا الفساد ، وفاضت الموبقات وركب الناس رؤوسهم في المنكرات ، واسترسلوا إلى الشّهوات بحيث لو أراد إصلاح قرية واحدة لتعذر عليه إصلاحها ، ولو جمع ما في قرية واحدة من قرى الظاهر من الخمر لسال إلى موضع بعيد ، ونبأ على تمكن الرذائل في النفوس ، فهو ينصح له بالرجوع من حيث أتى فلم يتأثّر الإمام بما في كتاب أخيه ، وقال : لا يلزمني أن أرجع لأجل كتاب ، بل أتقدّم إلى أوّل قرية فإن نزّهتها عن المنكرات

٣١٩

وقمعت أهلها فالذي بعدها يجري مجراها ، ولقيه الشيخ عيسى الوادعي ، فكان له نعم العون في إزالة المنكرات من بلاد وادعة ، ولما وصل إلى حوث تلقّاها أهلها بالسّمع والطاعة ، وأتاه القاضي الأجل نشوان بن سعيد الحميري مهنئا بقصيدة أولها :

سلام الله كل صباح يوم

على خير البرية اجمعينا

على الغر الجحاجح من قريش

أئمتنا الذين بهم هدينا

ومنها :

فأبلغ ساكني الأمصار إنّا

بأحمد ذي المكارم قد رضينا

بأكرم ناشىء أصلا وفرعا

وأعلا قائم حسبا ودينا

رضينا بالإمام وذاك فرض

نقول به ونعلن ما بقينا

إلى آخرها : ثم نهض من حوث إلى بلد بني (١) قيس فلقيته بنو صرم (٢) وبايعوه ، وكان يرغب في إجتماع العلويين بالجوف وانضمامهم إلى ذلك المحل ليكوّنوا قوّة يعتمد عليها عند الحاجة ، ولما رأى تقاعسهم عن هذه الغاية قال قصيدة يؤنبهم بها ، ويحضهم على الإنتقال معه إلى الجوف ، والعمارة بعمران وأولها :

يا بني هاشم بني الأخيار

وبني المنجبين والأطهار

ومنها :

انتم فوق ما ذكرت ولكن

قد بليتم بالقلّ والاعسار

واعتمدتم على الشحاذة والبرّ

وذلّ السّؤال والاعتبار (٣)

__________________

(١) بنو قيس : عزلة من ناحية خمر.

(٢) بنو صريم : من قبائل حاشد وهم بنو صريم بن مالك بن حرب بن وادعة بن عمرو بن عامر بن كاشح بن دافع بن مالك بن جشم بن حاشد ولها بطون كثيرة معروفة.

(٣) كذا في الأصل.

٣٢٠