تاريخ اليمن الإسلامي

أحمد بن أحمد بن محمّد المطاع

تاريخ اليمن الإسلامي

المؤلف:

أحمد بن أحمد بن محمّد المطاع


المحقق: عبد الله محمّد الحبشي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: شركة دار التنوير للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٨

نظر إليهن المفضل مات لوقته غيرة وأسفا سنة ٥٠٤ ، ومن مبرّات المفضل بن أبي البركات جرّه الغيل من خنوة (١) الى مدينة الجند ونحته لذلك الجبال والصخور ، وبذله كل مستطاع لتعبيد طرقه في بطون الأودية ، ومخارم الجبال وتجديد عمارة الجند.

ومن لطيف ما يروى عنه أنه لما كان بمحل امارته حصن التعكر كانت السيدة تنتقل من ذي جبلة إلى التعكر ايّام الصيف فإذا جاء الشتاء نزلت ذي جبلة ، وكانت ذخائرها وذخائر بني الصّليحي وما يعزّ عليهم من الأموال والتحف موضوعة به ، فذكروا أن المفضل قال لها يوما : يا مولاتنا انظري ما كان لك في هذا الحصن فانقليه فإنّي لا أحب أن يكون لأحد علّ فيه طاعة ، فقالت : لا بأس عليك انت رجل البيت ، ولا تكلفك ما يسؤك ، ولما نزلت من الحصن لم تعد إليه حتى ماتت ، ولكنها تغيّرت عما كانت عليه من الاعتماد عليه في مهماتها وتنكرت له بعض التنكر ، ولما مات المفضل على الضفة المذكورة ، انتقلت السيدة إلى الربادي (٢) ، وكاتبت الفقهاء بالنزول من الحصن على ان يشترطوا عليها ما شاءوا ، فأجابوا إلى ذلك ، ونزلوا بعد أن اشترطوا عليها شروطا وفت لهم بها ، وجعلت فيه مولاها فتح بن مفتاح.

ذكر المتغلبين على صنعاء بعد بني الصليحي

لما تحول المكرم عن صنعاء إلى ذي جبلة استعمل على صنعاء القاضي عمران بن الفضل برهة ، ثم ولّاها حاتم بن الغشم بن المغلس ، ولما عزل القاضي عمران قال مخاطبا المكرم والأمير سبأ بن أحمد :

ولا تحرجا بالعزل أكباد معشر

إذا غضبوا غلّ القنا وتكسرا

__________________

(١) خنوه : بكسر الحاء المعجمة والنون الساكنة قرية سميت بها عزلة خنوة الواقعة في منتهى مخلاف جعفر متصلة بوادي ظباء من أعمال ذي السفال وذي اشرق.

(٢) الربادي : عزله حصبة تقع جنوبي مدينة ذي جبلة.

٢٨١

فلو أن مولانا (١) معدا أتاكما

بعزل تولى الكل منا وأدبرا

ولا تفرقا من لغة والداكما

وعودا الى عقليكما وتدبرا

فإن انتما انكرتما ما نظمته

فصدقي غدا من طلعة الشمس أشهر

فلما مات (٢) الداعي سبأ خرجت صنعاء وأعمالها عن مملكة الصليحيين ، واستولى عليها السلطان الأجل حاتم بن الغشم المغلسي سنة ٤٩٢ ، وكان ناهضا كافيا معدودا من كملة الرّجال ، وكان له من الولد ثلاثة ، وهم محمد وعبد الله ومعن ، فقام ولده محمد بكثير من أعمال أبيه في حياته ، وكانت له حظرات جنونية منها ، أنه سمع يوما ضرب الطبول وأصوات المزامير فاهتز لذلك ، وأخذته الأريحية فلبس لامة حربة ، وركب جواده ، وأمر همدان بالرّكوب ثم خرج بهم يريد نجران ، فقالوا : أن بيننا وبين نجران مسافة بعيدة ، وليس معنا عدّة ولا زاد ولا رواحل ، فقال : لا بد من ذلك ، فقالوا : دعنا نعود إلى صنعاء نتجهز ونعود إليك ، فقال : صبوا دروعكم هاهنا ، ففعلوا فسمّي ذلك الموضع مصبّ الدّروع من ذلك اليوم ، ثم رجعوا إلى صنعاء وخرجوا فسار بهم إلى نجران فاستباحها وعاد إلى صنعاء.

ومنها انه كان إذا تزوّج امرأة وأحبّها قتلها ، فتحاماه النّاس وامتنعوا عن تزويجه ، ثم انه خطب إمرأة من بني الصّليحي أهل قيضان (٣) ، فلم يزوجوه إلّا بعد ضمان والده وكفالته مع جمع من رؤساء العرب ، وأخبره والده انه مقتول بها ان قتلها ، فقبل الولد ذلك ، وأقامت عنده ما شاء الله ، ثم قتلها ، وفرّ إلى حصن براش خوفا من أبيه ، فلم يزل أبوه يخادعه حتى نزل إليه فقتله ، واحتز رأسه وحمله على رمح ودخل به صنعاء ، ولما فوجئت ابنة المقتول برأس ابيها جنت وحزن عليه أبوه ورثاه بأبيات منها :

__________________

(١) نزهة الأخبار والمراد بمعد الخليفة الفاطمي.

(٢) قرة العيون والخزرجي وابناء الزمن.

(٣) قيضان : حصن خارب من جبل بني الحارث من بلاد يريم.

٢٨٢

وقلت له هذا قصاص بما جنت

يداك وكان الله روحك راحما

وكنت اذا جشمته لملمته

رأيت فتى للمعضل الخطب حاسما

وان حضر اليوم العبوس رأيته

اذا طاشت الأحلام أروع باسما

ودخلت سنة ٤٩٣ وما بعدها إلى سنة ٤٩٨ فيها مات جياش بن نجاح ، وولي الأمر بعد ولده فاتك بن جياش ، وهو ابن الجارية الهندية ، فخرج عليه أخوه ابراهيم وعبد الواحد (١) ، وكانت بينهم عدة وقائع ، انتهت بظفر فاتك بأخيه عبد الواحد ، فأكرمه وصفح عنه وبالغ في برّه ، وأما ابراهيم فنزل بأسعد بن وائل الوحاظي الكلاعي الحميري ، فأكرمه بما لم يسبق إليه أحد ، وقال في انباء الزّمن (٢) انه لما ظفر بعبد الواحد سجنه في زبيد (٣)

الحرب بين الخطاب (٤) ابن أبي الحفاظ الحجوري وأخيه

ودخلت سنة ٥٠٠ فيها كان الحرب بين الخطاب بن الحسن وأخيه سليمان بن الحسن بن أبي الحفاظ بن حجور بن قدم بن جشيم الهمداني ، فاستنصر سليمان بصاحب زبيد فاتك بن نجاح وبالشريف صاحب المخلاف السليماني ، واستنصر الخطاب ببني الصليحي ، وفي النهاية تمكّن الخطاب من أخيه سليمان فقتله ، وكان الخطاب هذا قد قتل أخالد إسمه احمد بن الحسن ، قصاصا كما زعم بأخت له قتلها احمد بن الحسن ففر سليمان عن البلاد ، وانتشرت كلمتهم ، وتمزّقت جامعتهم واستمر سليمان يجوس خلال الديار الخاضعة لحكم أخيه بمن معه من ألفاف القبائل ، ويستنصر بصاحب زبيدة تارة وبالأشراف أخرى ، حتى أدّى ذلك إلى خراب البلاد ، وهلاك

__________________

(١) في الأصل عبد الوالد (سبق قلم).

(٢) غاية الأماني ص ٢٨١.

(٣) فراغ في الأصل.

(٤) هو السلطان الاجل الخطاب بن الحسن قال في اللآلىء ان بني الحفاظ كانوا دعاة للاسماعيلية وكان هذا الخطاب داعيا للخليفة الملقب الأمر بأحكام الله المنصور بن المستعلي (ص).

٢٨٣

العباد في سبيل المصالح الخصوصيّة ، وعلى حساب الأطماع الملتهبة ، والنفوس المتعطّشة إلى السّلب والنهب ، وكان مستقر ملك هذه الأسرة الجريب (١) من ناحية بني جلّ ودير ابن عنجر ويعرف الآن بسوق المحرّق وقلحاح ، قال الشرقي في لآليه : وفي قلحاح مآثر عظيمة وعمارة كثيرة قلّ ما يوجد مثلها ، ولا أدري هل هي من مآثرهم أولا لأنهم لم يذكروه في أشعارهم مع كثرة ذكرهم لغيره من سائر القرى والقبائل ، الذين في تلك الجهة وقد ذكر في اللآلىء عدة قصائد للخطاب وأخيه سليمان (٢). وفيها مثال ناطق وصورة كاملة لما لحق البلاد وأهلها من الخراب والدمار والبؤس والإقتار ، بسبب الأخوين المذكورين ، فمن ذلك هذه القصيدة لسليمان يمدح الجريب ويذم اخاه الخطاب أولها :

إذا الله عمّ الأرض منه برحمة

فروى منها محلها وخصيبها

فلا تخطئن أرض المحافر سهلها

وأوعارها قبل البلاد نصيبها

بلاد تساوى بردها وحرورها

فسيان كانون بها وأبيبها (٣)

غزيرة أنهار تفيض مياهها

وغير حرور حيث كان قليبها

واعذب ارض الله اما لشارب

وخصّ بها طيبا وبرد اجريبها

اذا كانت العذراء للشمس منزلا

وقابل أيام الخريف صريبها

رأيت بها الأعناب والخوخ دائما

مع التين والتفاح يرضيك طيبها

ومنها :

وفيها من الفتيان كل سيمذع

تعاف الدّنايا (٤) نفسه وتعيبها

تعاف

__________________

(١) الجريب : بفتح الجيم وكسر الراء قرية من بلاد حجور الشام.

(٢) وقد طبع ديوانهما مع حذف فاحش في السنوات الأخيرة وشردبوان الحطاب الحجوري مستقلا الاستاذ اسماعيل قربان من على الاسماعيلية بالهند.

(٣) شهر ابيب : من شهور القبط.

(٤) في الأصل دنيا.

٢٨٤

تذكرتها ذكر البغي شبابها

وقد حال عما تبتغبه مشيبها

ومنها في ذكر ما كان بينه وبين أخيه :

وأغراه أقوام إلى أن أصابني

على الأمن فالله الغداة حسيبها

سعت بيننا منهم عقارب اجنة

وبغضاء لا يألوا سريعا دبيبها

والفوا صبيا لا دراية عنده

بضغن وأحقاد طوتها قلوبها

ولا بأمور بيننا وغبائن

تزرّ عليها منذ كانت جيوبها

ولو أنني حاذرت منه الذي اتى

تباعد عنه عند ذاك قريبها

ولكنني قلت الأخ الجامع الذي

عناصره لا يخلف الدهر طيبها

وأدّبته حتى غدا بين قومه

يشير إليه الكل هذا أديبها

ولم اعتقد فيه الذي كان ينطوي

عليه له نفس خبيث عيوبها

وإن كنت لم أترك له نفع درهم

ولا غلّة من زرع ارض يصيبها

ولا ساكن ما بين حمّى كنانة

إلى السرو إلّا وحش ضبع وذيبها

وفي أسفل «المرباح» شاما ومصعدا

إلى «العرق» (١) قفرا دورها ودروبها

شننت عليها غارة بعد غارة

الى ان ملته شرقا وغربا نهوبها

واذرعت في سكانها القتلى كي

يروا بأني احميها وأني أريبها

وابدى لهم تقصيره عن حمائهم

ومنعي عنها وهي تدمي ندوبها

فلما رأيت السيف (٢) رجالها

شجاني قناها صبعة وذهوبها

وذكرت نفسي العفو عنها وانني

لصافح اجرام الجناة وهو بها

ومن هي حتى اجعل الحال منهم

وتعظم في صفحي وعفوي ذنوبها

وحسبنا ما تنم عنه هذه الأبيات من روح الاستغلال والاستئثار ، وما كان لتعارض المصالح والمنافع من أثر في العمران والسكان ، وللسلطان

__________________

(١) بلد من حجور.

(٢) بياض في الأصل.

٢٨٥

الخطّاب بن الحسن قصيدة تضمّنت وقائع ابن مهدي كتبها إلى الشريف غانم بن يحيى بن حمزة بن سليمان صاحب المخلاف ، وجعلها ملحمة ضمنها ما سيقع من الأحداث ايام ابن مهدي وما بعده أولها :

اذا رحل في عقرب عبّها عبّا

فخل التواني وانتظر كل ما ينبا

إذا حل في برج اكليل راسخ

فقل يا هوان العجم يا غرّة الوبا

وابصر ابا يعقوب حربا جرت به

أمور واسباب تشب البلا شبّا

سيظهر يا مولاي غانم ظاهر

يسقي بني الأحبوش كاسا له قبّا (١)

إلى آخرها وهي طويلة استند فيها إلى علم المستقبل ، وما سيكون فيه من أنباء وأحداث ، ونحن هنا لا نحب الخوض في صحّة أنباء علم المستقبل وما جاء فيه من تنجيم وحدثان وملاحم ، وأحاديث منسوبة إلى النبي صلى الله وسلم عليه وعلى آله أو إلى الكتب القديمة كأخبار وهب بن منبه وكعب الاحبار وغيرهم ، ولا بأس ان نشير إلى طرف من ذلك ، فمنها ما صنعة كعب الأحبار لما دخل عمر بن الخطاب بيت المقدس ، وأراد أن يجعل المصلّى ، فعمد إلى كناسة كانت الروم دفنت فيها بيت المقدس ، وهو الهيكل في زمان بني اسرائيل فجثا في أصلها وحثأ في قبائه وأمر النّاس ان يصنعوا صنيعه ، وسمع تكبير النّاس من خلفه ، فقال : ما هذا فقالوا : كبر كعب فكبّر النّاس بتكبيره ، فقال : عليّ به ، فأتى ، فسأله : عن سبب تكبيره ، فقال : يا أمير المؤمنين إنه قد تنبأ على ما صنعت نبيّ منذ خمسمائة عام ، وسرد له خبرا ذكره الطبري كله من الاسرائيليات التي ابتدعها هو وسواه ولا أصل لها ، وما أخبر به (٢) عمر بن الخطاب من أنه سيموت بعد ثلاثة أيام ، وان التوراة نصّت

__________________

(١) القب : المرّ.

(٢) والذي جزم به كثير من المحقّقين ان قتل عمر نتيجة لمؤامرة واتفاق جنائي غمس يده فيه الهرمزان وفيروز ابي لؤلؤة عبد المغيرة بن شعبة وجفيته الأنباري وكعب الأحبار راجع ما كتبه الأستاذ عبد الوهاب النجار (ص).

٢٨٦

على صفة عمر وحليته إلى غير ذلك هذا ما كان في القرن الأول.

وفي أيام الدّولة الأموية والعباسية ، كان لأخبار الملاحم والحدثان ونحوها المقام الأول ، وقد وضعت الملاحم والاخبار واخترعت الأحاديث على عهد الدّولتين ، وكان لها في واعمالهما تأثير كبير فمن ذلك ما روى (١) ان مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية لم يجد في الحرب الفاصلة بين حياة دولته وموتها ولا إنهزم مغلوبا ولكنه ، كان نظر في كتب الحدثان فوجد فيها ان طاعة المسودة (٢) ، لا تجاوز الزاب (٣) فقال : ذلك لوزرائه ، فقالوا له ان بمصر زابا آخر قال فإليها نذهب ، والزاب الذي أراد علمه هو بأرض المغرب.

وروى (المبرد في كامله) حكاية أخرى جرت بين عبد الملك بن مروان وصديق له كان من أهل الكتاب فاسلم حذر عبد الملك أمور استقبالية الزّمن منكرة فنفض عبد الملك ثوبه ، وقال : معاذ الله ، فقال له صاحبه : ما قلت شاكا ولا مرتابا ، وإني لا أجدك بجميع أوصافك ، فقال عبد الملك : ثم ما ذا. قال : يتداولها رهطك ، قال : إلى متى ، قال : الى ان تخرج الرّايات السود من خراسان : هذه لمعة من أخبار الملاحم والكتب القديمة كانت رائجة في القرون الأولى.

اما ما نسب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فكثير منها ما رواه (الخطيب في تأريخه) في ترجمة الإمام القائم بأمر الله عبد الله بن احمد العباسي عن أبي سعيد الخدري : سمعت رسول الله (ص) يقول : منا القائم ، ومنا المنصور ، ومنا السفاح ، ومنا المهدي فأما القائم فتأتيه الخلافة

__________________

(١) راجع كتاب الامامة والسياسة (ص).

(٢) يعني بني العباس.

(٣) الزاب : موضع في العراق وآخر بالمغرب يطلق على عدة بلدان منه بمسكره وقسطنطينية وطولعه وقفصة وغيرها (مراصد الاطلاع ص ٦٥٢).

٢٨٧

لم يهرق فيها حجمة دم ، وأما المنصور ، فلا ترد له راية وأما السّفاح فهو يسفح المال والدم ، وأما المهدي فيملأ الأرض عدلا كما ملئت ظلما.

وقال (المسعودي) في مروج الذّهب ، ولما حبس إبراهيم الامام بحرّان وعلم ان لا نجاة له من مروان ، أثبت وصيته وجعلها إلى أخيه أبي العباس ، وأوصاه بالقيام بالدّولة ، فإن هذا الامر صائر إليه لا محالة ، وانه بذلك أتتهم الرّواية.

والكلام على هذا الفن متشعب الأطراف يستغرق مجلّدات وليس من غرضنا الخوض فيه وإنما اوردنا ما تقدم بمناسبة ملحمة السلطان الخطاب بن محسن الحجوري الهمداني.

قال في أنباء الزمن : (١) ودخلت سنة ٥٠١ فيها قتل مسعود بن العباس صاحب عدن وقام بعده ولده ابو الغارات بن مسعود.

ودخلت سنة ٥٠٢ (٢) فيها مات السلطان حاتم بن الغشم المغلسي الهمداني صاحب صنعاء وتولى بعده عبد الله بن حاتم ، قال الخزرجي : وكان يعرف بالشاب العادل فلبث في الإمارة سنتين ، وقتل مسموما ، فتولّى بعده أخوه معن بن حاتم ، فحصل في ولايته قلق واضطراب (٣) انكرته همدان ، وفي مقدّمتها القاضي احمد بن عمران بن الفضل ، (٤) وكان زعيم همدان وعالمها فجمع همدان وخلع معنا عن الأمر وساعدته سائر قبائل همدان على ذلك ، وذلك في سنة ٥١٠ ، وبعد أن خلع هذا الأمير انتقل الأمر إلى فخذ آخر من همدان ، وهم بنو القبيب ، وكان أول

__________________

(١) غاية الأماني (مختصر ابناء الزمن) ص ٢٨٢.

(٢) غاية الأماني ص ٢٨٢.

(٣) الخزرجي : العسجد المسبوك ص ٧٢.

(٤) عبارة الخزرجي «تشويش وضبط» وقد أبدلها المؤلف رحمه الله بعبارة عصرية تتفق مع ثقافته وعلى هذا يسير في كثير من المواضع فلا حاجة الى التنبيه إليه هنا.

٢٨٨

من تولّى منهم هشام بن القبيب ، وأخوه حماس بن القبيب ، واستقر الأمر فيهم مشتركا بين الأخوين إلى أن توفي هشام في التاريخ الآتي.

ودخلت سنة ٥٠٣ (١) فيها توفي فاتك بن جياش صاحب زبيد ، وترك ولده منصور صغيرا لم يبلغ الحلم ، فملكته عبيد أبيه ، وثار عليه عمه إبراهيم ونزل الى تهامة ، وقصد زبيد فخرج لحربه ، عبيد فاتك فانتهز عبد الله احمد خلو المدينة عن الحامية فثار بها وملكها ، ودخل دار الإمارة ، فأسرع خاصة الأمير الصغير بإخراج مولاهم ، خوفا عليه من عبيد عمه الثائر الجديد عبد الواحد ، وأدلوه من سور البلد ، ولما عرف إبراهيم ما كان من أخيه عبد الواحد أيس من زبيد واحلام الملك ولاذ بإبن ابي الحفاظ الحجوري ، وهو يومئذ بالحريب ، وسار منصور بن فاتك في عبيده وأتباعه إلى المفضل بن ابي البركات الحميري ، فنزلوا عليه وعلى الحرة السيدة فأكرما وفادتهم ، ثم إن مماليك منصور وأتباعه ، طلبوا من المفضل النصرة على أن تكون له ربع البلاد ، فهرع لنصرتهم ، وأخرج عبد الواحد من زبيد ، وثبت منصور ومماليكه في البلاد ، وكان المفضّل همّ ان يغدر بهم ويملك البلاد ، لو لا ما بلغه من إستيلاء الفقهاء (٢) على حصنه كما تقدم.

ودخلت سنة ٥٠٤ فيها المفضل بن ابي البركات (٣) وقد تقدم.

ودخلت سنة ٥٠٦ فيها استعادت الحرة السيدة حصن التعكر من الفقهاء.

ودخلت سنة ٥٠٧ وما بعدها إلى سنة ٥٠٩ لم يتفق فيها ما ينبغي ذكره.

__________________

(١) غاية الأماني ص ٢٨٣.

(٢) يعني فقهاء التعكر من بني المصوع.

(٣) يعني فيها مات المفضل بن ابي البركات سبب غيرته على نسائه وقد رآهن يرقصن فوق حصنه كما تقدم فيما مضى.

٢٨٩

ودخلت سنة ٥١٠ فيها جمع القاضي عمران بن الفضل قبائل همدان إلى الموضع المعروف بمصبّ الدروع ، وخلع معن بن حاتم عن الإمارة كما مر.

وفيها قدم من الدّيار المصرية علي بن إبراهيم بن نجيب الدولة مؤازرا للحرة الملك السيدة ودفاعا بأمر الدّعوة العبيدية ، ومعه عشرون فارسا ، وكان نبيها عاقلا حسن التدبير واسع الإطلاع ملمّا بمذهب الإسماعيلية فأقامته السيدة على سدتها محافظا بذي جبلة ، وكانت خولان قد استطالت على الرّعية ، واستخفت بأمر السيدة ، فأدّبهم إبن نجيب الدولة ، وطردهم (١) من البلاد وغزا الأطراف ، ولما تحقّقت السيدة فيه إكتفائه ولّته مخلاف الجند ، وأمرته بالنقلة إليه لتوسطه بين الأعمال واستمر على عمله إلى سنة ٥١٨ ، وفيها غزا زبيد فقاتل أهلها على باب القرتب (٢) وعاد ابن نجيب الدّولة إلى الجند بعد أن صرع عن جواده وأشيع أنه قتل.

وفي سنة ٥١٩ أظهر الخلاف على السّيدة ، وقال : انها قد خرفت وشاخت ، فجمعت له ملوك اليمن وأمرتهم بمحاربته ، وكان لا يخالفها أحد منهم في صلح أو حرب ، فحصروه في الجند وكانت مسورة ، ولما أشتد عليه الحصر والقتال ، بعثت الحرة إلى وجوه القبائل المحاصرة بعشرة آلاف دينار (٣) مصرية ، وأمرت ان يذيعوا في العسكر ان المال من إبن نجيب (٤) الدولة فطلبت الجنود من سلاطينها أن ينفقوا عليهم ، وألا ارتحلوا فلم يعطوهم ، فارتحلوا وتفرّق الناس ، وقيل لإبن نجيب الدّولة ، هذا من تدبير

__________________

(١) الجندي والخزرجي وانباء الزمن.

(٢) القرتب : بلدة وضاحية من ظاهر جنوب مدينة زبيد.

(٣) في الأصل دنيا

(٤) يرد ذكره أحيانا في أصل الكتاب بابن نجيب الدولة بالباء الموحدة من تحته فلعله وقف على هذا في بعض المخطوطات التي ينقل عنها.

٢٩٠

التي قلت : انها قد خرفت ، فركب إليها إلى ذي جبلة واعتذر مما فرط منه ، ولم يزل من أساطين مملكتها ، ورجال دولتها إلى أن قدم من الدّيار المصرية ، الأمير الكذاب سنة ٥٢٠ فحسده وكاد له عند الخليفة الآمر بأحكام الله بأنه يريد قلب دولته ، فأرسل العبيدي يستدعيه ، فلما ركب البحر غرقه ربان السفينة بمؤامرة رسول الخليفة العبيدي ومن معه ، وكانت السيدة قد أستوثقت له من رسل العبيدي بالأيمان الأكيدة والعهود الوثيقة فنسوا تلك العهود وأغرقوا رسولها أيضا محمد بن الأزدي وكانت قد أرسلته بهدية وكتاب شفاعة لإبن نجيب الدولة ، ولما بلغ السّيدة الواقع ندمت لأنها كانت مانعت في أول الامر عن إرساله ، ولم تذعن إلّا بعد الأيمان والعهود ومن رسل العبيدي ولذلك ندمت ولات ساعة مندم.

ثم انها اقامت الداعي ابراهيم الحامدي (١) ، وفي أثناء مدته مات الخليفة الآمر بأحكام الله العبيدي (٢) ، وقام الحافظ بعده كما سيأتي وذكر في أنباء الزمن (٣) هذه الحوادث في سنة ٥١٠ وقال : ان إبن نجيب الدّولة أركب في سفينة سواحلية إلى مصر معذّبا ومهانا.

قيام الامام المحسن بن محمد

قال في اللآلىء المضيئة نقلا عن العباب للعدوى (٤) ، وقد ذكر نسب المحسّن فقال : هو المحسن بن محمد بن المختار بويع له بالخلافة وتلقّب

__________________

(١) هو ابراهيم بن الحسين بن ابي السعود الحامدي من كبار علماء الاسماعيلية وكان يسمى عندهم بوالد الجميع من مؤلفاته كنز الولد المطبوع في المانيا وغيره توفي سنة ٥٥٧.

(٢) حكمه من سنة ٤٩٥ إلى سنة ٥٢٤.

(٣) غاية الأماني ص ٢٨٥.

(٤) هو العلامة الحسين بن علي بن صالح العدوي من أدباء اليمن في القرن التاسع الهجري ومن سنوحه الامام المهدي احمد بن يحيى المرتضى في كتابه العتاب في شرح أبيات الآداب منه نسخة خطه بمكتبة الاستاد احمد بن ابراهيم العيزري بذمار ومصوره بمعهخد المخطوطات بمصر.

٢٩١

بالمعيد لدين الله ، قال : وكان فقيها خطيبا شاعرا قتله الحدادون من أهل صعدة ، وقتلوا ولده وجماعة من شيعته في منزله واحرقوه ، واستصبحوا بشحمه بسبب انه قتل باطنيا كان ضعيفا لهم وفي الحدائق الوردية (١) ان المحسن لما وصلته دعوة الامام أبي طالب الأخير ، قام بها أحسن قيام ونفذت أوامره بصعدة ونجران والجوفين والظاهر ومصانع حمير ، وعن الأمير الحسين ان المحسن هذا ملك حصن ثلا وغيره من الحصون ، وهو الذي قتل عامر بن سليمان الزّواحي ثم قتله أهل صعدة وولده غدرا ، فقام بثأره السيد الشريف الواصل من الديلم ، وأخرب صعدة وأعانه على ذلك شيخ الشيعة في وقته محمد بن عليان البحتري (٢) ، وأمدّهم الأمير غانم بن يحيى بن حمزة السليماني بمال كثير ، قال في انباء الزمن (٣) ان مدد الشريف يحيى بن حمزة كان عشرة آلاف دينار ، فاجتمعت القبائل وحاصروا صعدة ، حتى طلب أهلها الأمان فأمنوهم ثمانية أيام ، ودخلت القبائل صعدة ، فانتهبوا ما بقي فيها ثم أخربوها وبالغوا في خرابها ، وتفرقت القبائل ، وبقيت صعدة خاوية مدة والله اعلم ، وقد أورد صاحب أنباء الزمن (٤) خبر قيام المحسن سنة ٥١١ ، وقال في نسبه : هو المحسن بن أحمد بن المختار بن الناصر بن الهادي إلى الحق عليه السلام قال ودخلت سنة ٥١٢ إلى سنة ٥١٤ (٥) لم يتفق فيها ما يوجب الرّقم.

ودخلت سنة ٥١٥ فيها قتل السلطان أسعد بن عيسى الوائلي الكلاعي صاحب مخلاف وحاظة ذكره الجندي وعمارة وأثنيا عليه.

ودخلت سنة ٥١٦ وما بعدها إلى سنة ٥١٩ ، وفيها قتل منصور بن فاتك

__________________

(١) في غاية الأماني ص ٢٨٨ لأنها خرجت ابنته إلى خولان.

(١) في غاية الأماني ص ٢٨٨ لأنها خرجت ابنته إلى خولان.

(٢) غاية الأماني ص ٢٨٨.

(٣) الغاية ص ٢٨٧.

(٤) الغاية ص ٢٨٨.

٢٩٢

وزيره أنيس الفاتكي ، وكان جبارا غشوما مهيبا شجاعا كانت له مع العرب عدّة وقعات ، تحاموا تهامة لهولها ، ثم أنه طغى وتكبّر وشمخ بأنفه ، وضرب السّكة بإسمه ، وركب بالمظلة ، وهمّ بقتل مولاه منصور بن فاتك ، فلما تحقّق ذلك عنه عمل منصور وليمة في قصره ودعاه إليها مع وجوه دولته ، ثم قتله وصادر أمواله ، ومن جواريه الحرة علم أبتاعها منصور من ذريته ، واستولدها فاتك بن منصور بن فاتك ، ورث الملك بعد ابيه ، وكانت الحرة علم عاقلة كاملة فاضلة قد رزقت من التّوفيق والسّداد والخبر ما يتجاوز حد الواصف كانت كثيرة الحج والصدقة ، تحج بأهل اليمن برّا وبحرا هكذا روى الخزرجي (١) والربيع (٢) ، وقال الجندي : أنها كانت تجهز الحاج بالخفارة والزّاد من زبيد إلى مكة ، فيأمن الأخطار ، والمكوس ، وكان فيها من تسديد الملك بحيث وكّل إليها سيدها منصور تدبير الملك ، فكان لا يقطع هو ولا أحد من أهل دولته أمرا دون مراجعتها ، وكانت تكرم الفقهاء والعبّاد وتحترمهم ، وهي التي اسقطت خراج أرض علي بن مهدي لما بلغها عنه من النّسك والعبادة وببركتها أثرى وتموّل ، وفي الخزرجي (٣) ان قتل أنيس الفاتكي سنة ٥١٧ ، وفي قرة العيون (٤) سنة ٥١٠.

ثم استوزر منصور منّ الله الفاتكي ، وكان من أكابر الوزراء وأعيانهم شجاعا كريما جوادا متلافا ، آزر الشّعراء بالعظيم من عونه ، وزوّدهم بالجليل من سيبه (٥) فأثنوا عليه الخير كله ، قال الخزرجي (٦) نقلا عن الفقيه محمد بن

__________________

(١) العسجد المسبوك ١٢٦.

(٢) بغية المستفيد ص ٥٩.

(٣) العسجد المسبوك من ١٢٣.

(٤) قلت في مطبوعة قرة العيون ج ١ ص ٣٥٢ قتله سنة ١٧ ، كما هو مذكور في اصله العسجد المسبوك.

(٥) سيبة : عطاؤه ومنه قول المتنبي :

ومن الخير بطؤ سيبك عني

اسرع السحب في المسير الجمام

(٦) انظر العسجد المسبوك والنقل من مفيد عمارة من ٢١٠ وفيه محمد بن عبد الله السهامي.

٢٩٣

علي الهامي مؤدّب أولاد الوزير المذكور (اذكر اني جلّدت مدائح الوزير في عشرة أجزاء كبار (١) من شعر المجيدين من الشعراء) ولم يكن نائله محصورا على مرتزقة الشعراء فحسب ، بل كان ندى الكف كذلك لقاصده وطالب رفده ، تصدق على فقهاء الحنفية ، والشافعية ، بما أغناهم من الأرض ، وفي أيامه قصد ابن نجيب الدولة الاستيلاء على زبيد فصده منّ الله الفاتكي وهزمه شر هزيمة كما تقدم.

وكان مع هذه الخلال فاسقا متهتّكا ، زير نساء (لا يرسل الساق إلّا ممسكا ساقا) ثم أنه تطاول ، وطمحت نفسه إلى الملك ، فاحتال على سيده وقتله بالسمّ ، وملك ولده فاتك بن منصور ، وهو إذ ذاك طفل صغير ، وكان أبوه قد توفي عن أكثر من ألف (٢) سرية سراريه وسراري أبوه وغيرهما من آل نجاح ، فأمتدت إليهنّ يد منّ الله المذكور ، وعبث بأعراضهن ، ولم ينج من شره إلّا عشرين حظايا منصور بن فاتك ، فيهنّ الحرة علم ام فاتك الملك الطفل ، ثم ان هذا الوحش ، أراد ان يفترس ابنة معارك بن جياش ، وكانت موصوفة بالجمال ، فأفتدت نفسها منه بأربعين بكرا من جواريها ، فلم يقنعه هذا الفداء ، وعند ذلك دبرن حيلة للخلاص من شره ، فاحتالت بعضهن ومكنته من نفسها ، وبعد أن أكمل عمله ، مسحت مذاكيره بمنديل مسموم فهلك من ساعته ، وخرجت مسرعة ولحقت بالحرة علم ، ودخل عليه ولده فوجده لا حراك به ، فدفنه في إصطبل داره ، وغيّب قبره ، ومن آثار هذا الوزير سور مدينة زبيد ، بعد الحسين بن سلامة ، وكانت وفاته سنة ٥٢٤.

__________________

(١) وفيه مبالغة ظاهرة (ص).

(٢) هذه رواية الخزرجي واصحب قرة العيون ، ونحن نعتقد انها لا تخلو عن المبالغة فإن هذا العدد الكبير تضيق به قصور بغداد العباسية ومصر الفاطمية. ووو. فتأمل (ص) قلت : الخزرجي والديبع وقعا صريعي عمارة الذي نقلا عنه ، وقد أكثر في تاريخه من المبالغات والأساطير ولم يكن من يزاحمه في كتابة التاريخ في عصره حتى يصحح هفواته فالله المستعان.

٢٩٤

وتولّى بعده الوزارة القائد زريق الكاتب الفاتكي ، وكان ضعيف التّدبير فاستقال ، وتقلّد منصبه أبو منصور مفلح الفاتكي ، وكان حازما شجاعا ، كريما عفيفا قال الخزرجي (١) : وكان النّاس يقولون لو كان له نسب في قريش كملت فيه شروط الخلافة ، وقد أنتهت به الحال الى الخروج من زبيد والاستيلاء على حصن كرش من جبل برع ، وشن الغارات من قبله على زبيد ، وعلى مزاحميه في منصب الوزارة من العبيد ، واستنجد بالشريف غانم بن يحيى السليماني ، فأمده بألف فارس وعشرة آلاف راجل وعلى رأسهم الشّريف غانم ، وقد جعل للشريف لقاء نجدته إسقاط الاتاوة التي كانت على الشريف لصاحب زبيد وهي عبارة عن خمسة وستين ألف دينار.

وتنازل عن بعض الجهة الشمالية من تهامة ، مما هو تحت نفوذ أمراء زبيد ، فنهض الشريف ومفلح الفاتكي في جموعهم وقصدوا مدينة زبيد ، فخرج لمقابلتهم القائد سرور ، أحد المنافسين لمفلح المذكور إلى المهجم ، ولما نشبت الحرب ودارت رحاها أنهزم الشريف وجنوده ، وتم النصر لسرور فقلّده مولاهم ، فاتك بن منصور المهجم ، وما يليها من الأعمال الشامية ، وعاد مفلح إلى حصن الكرش ومات به سنة ٥٢٧ (٢) وخلف ابنه منصور فحارب سرور ، وهو أمير المهجم والقائم بأعمال الوزارة إقبال الفاتكي ، ثم أن أصحاب منصور ، تخلوا عنه ، وخذلوه فطلب من إقبال الأمان فأمنه ثم غدر به وقتله فغضب السّلطان فاتك وهمّ بإقبال الفاتكي ، فاعتذر إليه واسترضاه فسكت على وغل ولكن الوزير لم يطمئن الى ذلك السّكوت ، وأخذ يفكر في جريمة أخرى ، وهو قتل مولاه السلطان ، ولم يزل يحتال حتى تمكّن وسقاه السم سنة ٥٣١

__________________

(١) العسجد ص ١٢٧.

(٢) الخزرجي وقرة العيون ، وأما صاحب أنباء الزمن فإنه استطرد هذه الحوادث في سنة ٥١٩ واعتبر ما بعدها من السنين إلى سنة ٥٢٤ خالية عما ينبغي ذكره وفي سنة ٥٢٤ ذكر طريق البصرة وحضرموت (ص).

٢٩٥

طريق البصرة وطريق حضرموت

قال في انبأ الزمن ودخلت سنة ٥٢٤ (١) فيها انقطع الطّريق من اليمن الى البصرة والكوفة عن مرور التجار والقوافل الكبار ، وكانوا يسافرون في كل عام مرّتين على طريق اليمامة والحسأ ، وسبب إنقطاعها ضعف الدّولة العباسية وظهور القرامطة الفساق ، ولم يسلكها بعد ذلك أهل الجهات النجدية برفاقة من ساكني تلك الأطراف ، وكانوا يخرجون من نجران إلى بلاد الدواسر (٢) ثم الى (٣) البديع ثم الى الحسأ في اثني عشر يوما ، وأما طريق الرجل من الجوف إلى البصرة فانقطعت بالمرة وقد يسلكها نادرا جماعة من البدو الإبل المضمرة يجعلون على أيديها وارجلها الأدم لكثرة الحرشات والعقارب الناهشات ، وعلى طريق قريبة يقطعونها الى البصرة ، وكانت عامرة مسلوكة أيام التبابعة ، ومن بعدهم ، إلى أن قيل ان داؤد بن المنصور بالله عبد الله حمزة أخربها وطم آبارها عند عوده من غزوة غزاها خوفا من لحوق أهلها ، وقيل ان الريح عفت آثارها ، وصارت كثيبا من الرّمل ، والله اعلم. ، واما الطريق من اليمن الى حضرموت فمسلوكة من ثلاث جهات ، أحدها طريق شبوه يقطعها المار في ثلاثة أيام من بيحان إلى حضرموت ، والثانية يقطعونها كذلك في ثمانية أيام إلى مأرب ، غير أنهم يحتاجون إلى حمل الماء على المطايا لانقطاعه في أكثرها ، وهي رمال ما بين الجوف وحضرموت ، وسكانها البدو من المعضة (٤) ، والعربان ، ولا يسلكها إلّا المخفّون ، وأما أهل الأثقال فيخافون فيها من عدوان أهلها عليهم ، وإنما يسلكون طريق الساحل من عدن ، ومنهم من يخرج من رداع إلى بني ارض (٥) ثم إلى بلاد العوالقة (٦) ثم

__________________

(١) غاية الأماني ص ٢٩٢.

(٢) المعضّة : بتشديد الضاد المعجمة طائفة من قبائل امتفرقة اهل ما نسبه يتنقلون ما بين الجوف نجران على اطراف الرملة.

(٣) بنو أرض : مناطق البيضاء ما بين رداع وبيحان.

(٢) المعضّة : بتشديد الضاد المعجمة طائفة من قبائل امتفرقة اهل ما نسبه يتنقلون ما بين الجوف نجران على اطراف الرملة.

(٣) بنو أرض : مناطق البيضاء ما بين رداع وبيحان.

(٤) ناحية مشهور من النواحي المجاورة للبيضاء ويافع.

٢٩٦

إلى بلاد عبد الواحد (١) ثم الى بلاد هينين (٢) ، ثم إلى حضرموت في عشرين يوما تقريبا والله اعلم ، أنتهى ما اورده صاحب انباء الزمن (٣) ، وقد نقلنا عنه هذه الجملة التأريخية الجغرافية بالحرف الواحد والعهدة عليه ، وسيأتي ما يدل على إن المواصلة بين اليمن وبغداد عن طريق البصرة والجوف وأرض الحشرات والعقارب الناهشات ، كانت مستمرة ، يقطعها الواحد والجماعة ، فمن ذلك إرسال الملك المظفر الرّسولي سفيره إلى بغداد عن طريق براقش (٤) سنة ٦٥٠ لطلب تشريف سلطته على اليمن من هنالك ، والمرة الثانية عند ما قتل الإمام أحمد بن يحيى سنة ٦٥٦ أزعج (٥) المظفر رسوله إلى بغداد بذلك النّبأ ولما وصل حامل تلك الرسالة الى براقش في جوف اليمن متوجّها إلى البصرة ، لقي الخبر عن بغداد وسقوطها في أيدي التتر ، ومحو الخلافة والخليفة ، كل هذه الحوادث تشير إلى أن الطريق ما زالت تسلك وانها لم تنقطع بالمرّة.

وأما طريق حضرموت فقد استوفينا الكلام عنها في ايام الإمام المتوكل على الله إسماعيل في القسم الثالث من هذا التاريخ فليرجع اليه من شاء.

ودخلت سنة ٥٢٧ فيها مات هشام بن القبيب الهمداني ، وانفرد بالأمر اخوه حماس فقويت شكوته وعظمت ولايته ، وفي أيامه جاءه صارخ من يام يشكو إستطالة اهل نجران (٦) عليهم فغراء نجران واثخن بني الحرث ومن

__________________

(١) المعروفة الآن بالواحدي كانت من أهم قبائل النواحي التوسع وهم جيران العوالق شرفا بشمال وعاصمة بلادهم حبان.

(٢) من مدن حضرموت.

(٣) انظرها بنصها ايضا في غاية الأماني ص ٢٩٢ ـ ٢٩٣.

(٤) براقش : تقع بالجهة الجنوبية من معين ضمن وادي الجوف.

(٥) ازعجه في اللغة بمعنى أقلقه وطرده من مكانه.

(٦) نزهة الأخبار (ص) كذا يسميه المؤلف وفي المخطوط من الكتاب بعنوان نزهة الأفكار وهو ـ للداعي ادريس بن الحسن المتوفي سنة ٨٧٢ وقد يخلط بينه وبين اصله عيون الأخبار للمؤلف والأخير طبعت منه أجزاء رديئة تحقيق الى الغاية.

٢٩٧

والاهم ، وفيهم نصارى فأسر كثيرا من بني الحرث ، وأتى بهم إلى همدان فأقتسموهم في موضع بالظّاهر ، وسمي ذلك الموضع بالمقتسم واسنكوا الأسرى معهم وسمّوهم بالمقتسمين ، وغزا السلطان المذكور بلاد جنب ، وقتل منهم مقتلة عظيمة واستمرت الولاية إلى أن مات سنة ٥٣٣.

ظهور الإمام علي بن زيد وقتله

ودخلت سنة ٥٣١ فيها ظهر الإمام المحتسب علي بن زيد بن إبراهيم بن الملح بن الإمام (١) المنتصر بالله محمد بن الإمام المختار بن الناصر بن الإمام الهادي إلى الحق عليه السلام ، قام محتسبا من درب يرسم من اعمال صعدة وجمع جموعا وخرج بها الى نواحي صعدة ولما بلغ الإمام أحمد بن سليمان ذلك ، نهض من الجوف لمناصرته ، وكان ذلك قبل دعوة الإمام أحمد بن سليمان ، فسار إليه ناصره هو وصنوه يحيى بن سليمان وصنوه عبد الله ولقوه إلى حقل صعدة في خيل ورجال وافرة ، واجتمعت إليه القبائل من همدان وخولان وكهلان ، وسائر قبائل قحطان ، فتقدم بهم إلى شظب وكان الإمام احمد بن سليمان قد أشار عليه بالزّحف على صنعاء ، فلم يقبل منه وأقام بشظب في بني حجّاج بمن معه ، فاستثقله أهل تلك الجهة لكثرة النّفقة ، وتمالوا على الغدر به ، وبأصحابه ، وكان أهل الجهة يحملون إليهم الطّعام فاجتمع منهم في بعض الأيّام زهاء خمسمائة رجل ، وحملوا الطّعام على عادتهم ، وقد ستروا أسلحتهم تحت ثيابهم ، ثم وثبوا على أصحاب الإمام علي بن زيد فقتلوا منهم قتلا ذريعا ، وانهزم علي بن زيد فتبعوه وقتلوه وقبره في شظب مشهور رحمه الله وإليه أشار صاحب البسامة بقوله :

وفي ابن زيد لاهل الفكر معتبر

لما تسنّم رأس الطود من شعر

__________________

(١) اللآلىء المضيئة وأنباء الزمن.

٢٩٨

وكان قتله في جمادي الآخرة من السّنة وللإمام احمد بن سليمان في ذلك قصيدة طويلة أولها : (١)

من ضيّع الحزم لم يرشد ولم يصب

واغتاله الدّهر بالخذلان والنصب

ومنها :

دعا ابن زيد فلبينا لدعوته

وغيره قد دعا قدما فلم نجب

وجاءه الناس من شام ومن يمن

على الضوامر في ركب وفي خبب

حتى إذا صار من نجد إلى حرض

ملك الأمير ومن مقرا (٢) الى خلب (٣)

كاتبته غير وان من شؤابة لها

ولم تبرح بثافت (٤) في عز بلا تعب

ومنها :

من اودته في يشيع (٥) حين اعجبني

جيش اجيش كمثل العارض السكب

فقلت آثر به صنعاء ودع شظبا

حتى تعود فليس الرأس كالذنب

إلى آخرها.

ودخلت سنة ٥٣٢ وفيها مات الدّاعي سبأ بن أبي السعود الزريعي قال الجندي رحمه الله : دخل الدّاعي سبأ عدن فوقف بها سبعة أشهر ثم توفي في التاريخ المذكور ، ودفن في حصن التّعكر ، وقد تحارب الدّاعي سبأ (٦) ، وابن عمه علي بن ابي الغارات وسبب ذلك أنه لما تولّى علي بن أبي الغارات أساء السيرة في الرّعية وبسط يده على ما كان إلى سبأ بن أبي السعود وكانت

__________________

(١) الأبيات في اللآلىء المضيئة (مخطوط).

(٢) مقري : هو ما يعرف الآن بمغرب عنس من بلاد ذمار ، وفي اللآلىء «حفر».

(٣) واد من تهامة.

(٤) هي اثافت سبق ذكرها.

(٥) يشيع : بلده عامرة في الشمال الغربي من ريدة وهي من بني عبد.

(٦) الخزرجي والجندي.

٢٩٩

قد اتّسعت ولايته ، فكان له حصن التعكر (١) بعدن وباب البرّ وما يدخل منه ومن البرّ الدملوة (٢) وسامع (٣) ومطران (٤) ويمين (٥) وذبحان (٦) وبعض المعافر ، وبعض الجند ، وقد صبر الداعي سبأ صبرا كاد يخرج الأمر من يده ، ولما عيل صبره ، قام لحرب علي بن ابي الغارات ، وضم إليه همدان وخولان وحمير ومذحج ، وبعد غارات وفتكات تمّ النصر لسبأ بن أبي السعود ، بعد إنفاق أموال طائلة ، وتنازل لأصحابه إلى درجة تدلّ على كمال عقله وعلو همته ، وتعرف هذه الحرب بحرب الرّعارع ، وفيها يقول علي بن زياد المازني : (٧)

خلت الرعارع من بني المسعود

فعهودهم عنها كغير عهود

حلّت بها آل الزريع وانما المحسّن

حلت أسود وفي مقام أسود

وأقرت السّيدة سبأ بن أبي السعود على عمله ، وكان يحمل إليها الخراج المضروب ، حتى مات وتولّى بعده إبنه علي الأغر فلم تطل أيامه ومات سنة ٥٣٤.

ودخلت سنة ٥٣٢ فيها (٨) ماتت الحرة الملكة السيدة بنت احمد بن

__________________

(١) التعكر : هو المعروف بجبل شمسان فوق عدن وهو مسيطر على ميناء عدن من الشمال وهو غير

(٢) التعكر الجبل المذكور كثيرا في التاريخ وسيأتي ذكره.

الدملوة : حصن منيع يعتبر فرع من جبل الصلو في بلاد الحجرية وهو اليوم خرائب مندرسة.

(٣) سامع جبل وعزلة من ناحية المواسط وأعمال الحجرية وهو في الجنوب من جبل صبر.

(٤) مطران : حصن في سامع وهو اليوم خرائب وفي أسفله قرية تحمل اسم الحصن.

(٥) في الأصل (نمن) والتصحيح من قرة العيون ج ١ ص ٣٠٦ ، ويمين بضم الياء المثناة من

(٦) تحت ثم ميم وياء ونون حصن في ارض العزاعز من المعافر (الحجرية) في المغرب الشمالي من مركز القضاء التربة بمسافة ٨ ك. م.

بضم أوله عزلة من قضاء الحجرية من أشهر قراها التربة.

(٧) هدية الزمن ص ٥٧.

(٨) الخزرجي وقرة العيون (ص).

٣٠٠