تاريخ اليمن الإسلامي

أحمد بن أحمد بن محمّد المطاع

تاريخ اليمن الإسلامي

المؤلف:

أحمد بن أحمد بن محمّد المطاع


المحقق: عبد الله محمّد الحبشي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: شركة دار التنوير للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٨

باري (١) من بلد الجبل ، قال الأمير ذو الشرفين : لعسكره هذه قرية كانت ظاهرة الفجور كثيرة الفسق والفجور ، والواجب علينا ان نطهرها فأمر بإحراقها وخرابها ، وتولّى الفاضل خراب دار بني الصّليحي التي كانت هنالك.

وفيها سار الفاضل إلى بلاد الشرف ، فملك حصن نوسان (٢) ، وطرد عامل الصّليحي وأقام بنو سان ثمانية أيّام فهرعت إليه قبائل تلك الجهة بالسّمع والطاعة وعاد إلى مستقرّه.

إحتلال حصن مسور والاستيلاء على بلاد المغرب

ودخلت سنة ٤٦٤ فيها تم للشّريفين إحتلال حصن مسور ، وذلك بمعاونة السلطان منصور حسين بن المنتاب بن إبراهيم بن عبد الحميد ، وبإحتلال مسور ، أذعنت قبائل النّاحية طرّا ، وتزوج الأمير ذو الشرفين بإبنة السلطان ، فمنحه لقب ذا الفضلين أي فتح سور وتقديم السّيدة المباركة ، وتمرّدت بنو شاور (٣) ، فلم تذعن ، فتقدّم إليها الشّريف الفاضل والسلطان وبعد مقتلة عظيمة سقطت البلاد واستسلمت ، وانتشر الجند المغير في أنحائها واخذوا ما وجدوا من الأموال ، وآب الشريف الفاضل بالفوز والغنيمة.

وقبض على السلطان بن أبي القبائل بن هاشم ، فاحتفظ به حتى أطلعه شهارة ، وقبض حصن حقيل ، وتمرّدت أيضا بنو عامر وغيرهم من قبائل حجور ، وكان زعيمهم إبن مفلح فقتل ابن مفلح ومن شايعه وأحرقت منازله واقبلت قبائل البلاد تقدّم السّمع والطاعة ، وبعد ذلك تم خضوع جبل حفاش (٤) ، وكان فيه من قبل المكرم السلطان محمد بن ابراهيم الصليحي فأسر الشريف السلطان الصليحي وجماعة من بني الصليحي ، وأرسل بهم

__________________

(١) باري : مدينة خربة في بلد الجبر بالشرق الشمالي من حجة.

(٢) نوسان : بالضم عزله من ناحية كحلان الشرق بالشرق الشمالي من جحة بمسافة ٢٤ ك. م.

(٣) بنو شاور : بطن من حاشد من ولد شاور بن قدم بن قادم بن زيد بن عريب بن جشم بن حاشد.

(٤) حفاش : جبل مشهور بالغرب من صنعاء بمسافة ١٤١ ك. م جوار جبل (ملحان) وهو ناحية تابعة لقضاء المحويث.

٢٦١

إلى شهارة واستولى على حصن القفل (١) ، وأخذ ما وجد فيه من سلاح وكراع وأثاث وأموال ، وهدم الحصن.

وفيها أخذ الامير ذو الشرفين بعد إستقراره بمسور ، يجمع الفضّة من الجهات الموالية له من حلى النساء وغيرها ، وضرب السّكة بإسمه فتحصّل منها شيء كثير.

وفيها توترت العلاقات بين الأشراف وذي الفضلين المنصور بن الحسين ، وهم السّلطان ذو الفضلين بالفساد والعصيان ، وليس لذلك باعث سوى أن الشريف الفاضل أخذ الميثاق الغليظ على السلطان لينصرن ذا الشرفين ويوالي من والاه الخ ... ثم بعد الميثاق أراده الإعتراف بأن البلدان المجاورة لمسور لا حق فيها للسّلطان ، وانها للأمير حيث وهو الفاتح لها ، فغضب السّلطان وانحرف ولاؤه ، وقد تكدّر الموقف ، إلى أن همّ ذو الشرفين بمغادرة مسور لو لا حكمة الفاضل وثباته وعرفانه بأن مسور إذا سقط سقطت البلاد كلها ، وتمرددت القبائل فصبر كما قال : وفي الحلق شجا وفي العين قذا

وفيها وصل السّلطان محمد بن ورقا من بني جناح من يناع الى الشريف الفاضل واخبره بأن لديه يدا على فتح حصن يناع (٢) فأمره الشريف بتنفيذ خطّته فعاد إليه وفتحه ، وكتب إلى الأمير ذي الشرفين ، وكان قد تقدم إلى عرّ شاحذ ، فأمده بالشريف ليث الدولة ، وعضّدها حميدان بن القاسم ، وتم فتح يناع والحيمة ، وظفروا بغنائم وافرة وتأبّت قبائل حضور ، على بني الصليحي بيازل ، وقتلوا منهم كثيرا ، وكان ممن قتل السّلطان احمد بن اسعد اللهابي ، في عدّة من رؤساء حراز ، وبعدها تم للأشراف فتح حصن ذروة في الشّمال

__________________

(١) حصن من جبل حفاش السابق.

(٢) يناع : حصن مشهور عداده في عزله الجدعان الخيمة الداخلية.

٢٦٢

فهدموه ، ثم ان القبائل توافدت على ذي الشرفين ، والقوا اليه مقاليد البلاد ، وفتحوا له حضور والمصانع (١) وحصن بكر (٢) وحصن القرانع (٣) ، كل هذا والشريف الفاضل القاسم بن جعفر في مسور ، ثم أنه خرج قاصدا شوابه من أرحب ، فوافته الأنباء بأن عسكر الصّليحي يحاصر ثلا ، فعاد لإنقاذها ، ثم عاد إلى مسور ، ووصل اليه اهل زجّان (٤) ، وسلموا له حصن ذمرمر ، وقتلوا من كان فيه من خدم الصليحي.

محاولة المكرم لإسترجاع يناع

ودخلت سنة ٤٦٦ فيها جهز الصّليحي جيشا إلى الحيمة ، لإسترداد يناع ، ووصل الجند إلى عرّ ذيب ، وفي وادي شمّ (٥) تنازل الجند مع أتباع الشّريف وكان الفشل والخيبة ، من حظ بني الصليحي ، وقد كان هذا الحشد من الصليحي حافزا للأمير ذي الشرفين بأن يصعد بنفسه إلى يناع فجمع الشيعة وأصرّ على طلوع يناع ، وأخوه الفاضل يعارضه ، ولا يوافقه ، وأخيرا تقدم وأقام بيناع من رجب سنة ٦٦ إلى محرم سنة ٦٧ والفاضل بمسور أقام أيّاما ، ثم خلف عليه الشريف احمد بن جعفر ، وتقدم إلى ثلا ، وأغار على صنعاء ، ووصلت خيله إلى شعوب (٦) والجراف (٧) ، وأغلقت أبواب صنعاء فرقا وخوفا ، ثم عاد إلى ثلا ، ومراده زحزحة مراكز بني الصليحي ، من حضور المصانع ، وبعد مدة أتجه إلى ذمرمر وساق إليه قوت من الطعام والزّبيب ، ثم ان الأمير شرع يشعر بخطورة موقفه بيناع ، وصعوبة مقامه ،

__________________

(١) المصانع : جبال مرتفع بالشمال الغربي من صنعاء.

(٢) بكر بضم الباء والكاف حصن يحاذي جبل كوكبان ويطل على مركز الطويلة.

(٣) القرانع : سلسلة جبال والغرب الشمالي من صنعاء تحتضن مدنه الطويلة وغيرها من القرى.

(٤) فرحان : بكسر الزاي وتشديد الجيم من قرى بني الحارث.

(٥) شم : بضم الشين المعجمة موضع من الخيمة الداخلية بالغرب الشمالي من صنعاء.

(٦) شعوب : ضاحية صنعاء الشمالية.

(٧) الجراف : قرية ملاصقة لصنعاء من ناحية الشمال.

٢٦٣

وحذر أشد الحذر من إحتشاد الصّليحي فأخذ يستغيث بأخيه فبعث إليه بقوت من الطعام والزبيب ، وأصبح ذو الشرفين يكاتب بني شهاب ويستنصرهم ويستفزّهم ، ويبذل لهم الرغائب ، ويكاتبهم بالشعر البليغ ، وهو غير آمن على نفسه إلّا إذا سلم إليه بنو شهاب رهائن من رجالهم يثق بهم ، ويكونون رمز الطاعة والإخلاص ، وعقيب ذلك ، وصل المكرم بجنده قاصدا بيت بوس ، وقرن عنتر (١) ومناجزة بني شهاب ، فدارت بين الفريقين معركة حامية الوطيس ، أنتهت بهزيمة الصليحي ، وعاد في حافرته إلى صنعاء واجتمعت القبائل ، بجوار صنعاء ، ووصلت خيل الأمير ذي الشوفين إلى غيل البرمكي (٢) ، ووقع الحصار على صنعاء حتى هلك أكثر النّاس جوعا ، من جرّاء عدم إستطاعة خروج أحد ، قال مفرح بن أحمد : وصار لا يخرج لهم سرح (٣) ولا مال ولا رسول ، إلّا قبض وقتل ، وجاعوا جوعا شديدا وقال بعض شعرائهم :

وكم من سيّد بطل همام

على باب المدينة مات جوعا

إضطراب الحبل وانعكاس الأمور

بينما الأشراف مغتبطون بما نالوه من النفوذ ، وما أنزلوه بعدوهم ألألّد من ضروب التنكيل ، وافانين المضايقة ، إذ بالأمور تدبر والاجواء تغيم ، والحبل يضطرب ، والنفوذ ينكمش ، وإذ بمشارق اليمن الخاضعة لهم ، قد تنكّرت ولبست جلد النّمر ، وظهرت لهم بمظهر العدوّ ، إذا بالمغارب مثل مسور ، وحناش ، وملحان ، والحيمة ، وغيرها ، تنتقض وتهيج ، وتصرخ وتثور قال كاتب سيرة ذي الشرفين في بيان السّبب الباعث لهذه الانقلابات وهذه التصوّرات التي فاجأتهم بها. ولما يستتب لهم الأمر إلّا بضعة أيّام في عدة

__________________

(١) قرن عنتر قال في أنباء الزمن ويعرف الآن بظفار فوق بيت سبطان من الجنوب (ص).

(٢) غيل البرمكي : من أنهار صنعاء الجارية في ذلك الوقت اندثر منذ مدة.

(٣) المال السّائم وفي الحديث انما المشركون على سرح بالمدينة.

٢٦٤

نواح وخرج ذو الشرفين من يناع في الشهر السابع في حين وافاه وهو المحرم أول شهور سنة ٤٦٧ ، وكان سبب خروجه وإنتشار الأمور ونزول السّلاطين والمقدّمات من الحصون ، فساد العشائر فأمّا فساد عشائر المغرب ، فكان سببه من جهة العمال ، واستلحاف (١) الأموال وسوء السياسة والغفلة عما بنينا عليه ، ومالت بهم الدّنيا ، فيما صاروا إليه قد صرنا في شعب ، وهم في شعب ، ولما كان الأمر كذلك تراسل العشار وتأمروا على الفساد ، في جميع البلاد ، قال : وأما فساد عشائر المشرق فاستمالهم (٢) بنو الصّليحي بالطّمع وزخرفت لهم الخدع وتمشى على عوامهم وطغامهم بذلك الشريف حسين بن أبي الفتح ، وأعانه بنو الصليحي بدفع الأموال : انتهى.

وكان المكرم قد تذرّع لتنفيذ (٣) سياسته ضد الأشراف بأنّه أخذ بيد الحسين بن أبي الفتح الدّيلمي ، وأعانه وحسن له الخروج إلى قبائل المشرق ليصرف انظارهم عن الأشراف ، وقد كان خروجه سببا قويّا في إضطراب الأمور وارتباك الأحوال إلى غاية ان الشريف الفاضل ، لم يتمكن من إرسال كتاب إلى أخيه الى يناع إلّا في صحيفة صغيرة ، أودعت في عقص (٤) شعر الرّسول الحامل له مخافة أن تمزقه العشائر الثائرة ضدهم ، وقد هرع ذو الشرفين من يناع وأمّ سهمان (٥) واتجه الى حاز من همدان واجتمع بأخيه الفاضل في ثلا ، وفي مبيتهم بثلا ، وافاهم من يؤكّد لهم بأن عشائر المغرب كلّها ، وفي مقدّمتها بلاد مسور أنتقضت وثارت ، وحسّنوا له معاودة مسور ، والرجوع إليه ، وقد كان مزمعا على مطاولة بني الصّليحي ، وشنّ الغارات عليهم في جهات عمران فبدا له ما أشير عليه من التّعريج على مسور والقضاء على

__________________

(١) استلحاف الأموال ومعابها.

(٢) في الأصل فستمالهم.

(٣) في الاصل لتفيد.

(٤) عقص الشعر ضفره وفتله.

(٥) سهمان : عزلة من ناحية حفاش وأعمال المحويث.

٢٦٥

العشائر الثائرة هو الصّواب ، وقد خسر بهذا الرأي ، ثقة من بقي على نصرته لأن هواهم كان في مناجزة الصّليحيين ، ومقاومتهم ، وترك العشائر الثائرة ، ولما وصل مسور ، وأزمع على الخروج منه لتأديب العشائر واستوثق من بني المنتاب على حفظ حريمه واحترام شيعته وانصاره ، ولكنه ما سار إلّا قليلا حتى احاطت بهم العشائر وسدّوا امامهم الطّرق ، ولم يخلصوا إلّا بعد معارك سقط فيها عدّة من أصحابه ، وأخذوا كثيرا من متاعه أثقاله وكلّما تقدّم الشريف الفاضل تألبت عليه وعلى من معه القبائل تقتل وتسل وقد دافع ومن معه دفاع الأبطال وخسروا خسارة فادحة ، من الرّجال والأموال حتى أنتهوا الى أقر (١).

وبعد هذه الحوادث المظلمة اتفق رأي الشريف الفاضل ، وذو الشرفين ، على إثارة الحروب في البون ومواصلة الإغارة في جوانبه ، ثم افترقا على غير نتيجة.

ثم ان الأمير ذا الشّرفين هرع من شهارة إلى شظب ونواحيه باستدعاء من الأهالي ، وبعد ما استوثق منهم ، برهائن ، ورغم كل ذلك فقد كانت النهاية تمرد أهالي شظب ، ومن بجوارهم ، ولم تصف منهم المودة ، ثم ان الشريف الفاضل وأخاه أتّجها وصعدا ذروة وحصناها تحصينا نافعا ، ثم تلاشت الأمور وتخلّى الأشراف من متاعب الرّياسة ، وانكمش الكل بشهارة ، وترك المعاقل والجحافل ، إلى أن كان ما سيمر بك الآن وفيه النهاية.

مصرع الشريف الفاضل

ودخلت سنة ٤٦٨ فيها أزمع الشّريف الفاضل على إحياء الأرض واستثمارها ، والتخلّي عن الزعامة وآصارها ، وعزفت نفسه الحروب وملابسة الخطوب ، لكثرة ما قاسى في ذلك من نصب ولغوب ، فمال إلى الزّراعة ،

__________________

(١) أقر : واد مشهور شرقي شهارة في بلاد حاشد.

٢٦٦

واستغلال الأرض ، وكانت أراضي عمران في نظره أجود من غيرها تربة وهواء ، فوجه عنايته نحوها ، ونقل أهله وشيعته ، إلى عمران ، ومدّ يده ألى إحياء أرض بني نشق (١) بعد أن استنزل رضاء من كان يخاف معارضتهم ، وهم نهم ، وبنو الدّعام ، وحلفوا له على حسن الجوار ، وكانت هذه الأرض قد زرعها الدّعام ثم الإمام الناصر ، فقسمها الفاضل أثلاثا فجعل لهم ثلثا ، ولبني نشق ، وبني الدعام ثلثا ، وجعل له ولصنوه ذي الشرفين ثلثا ، وأجعل لشيعته وأصحابه قسطا منه ، واعتزم على أن يرد غيل الخارد (٢) على قديمه ويسقي منه هذه البقاع ، فجمع بقر خيوان والجوف مع بقر المزرعة ، وشرع يعمل بهّمة لا تعرف الملل ، وفي خلال ذلك عرف في وجوه بعض القبائل تنكّرا واشمئزازا حمله على مصارحة أصحابه ، بما يتوقّعه منهم ، ومصارحة القبائل أيضا بأنه غير مطمئن على حياته معهم ، وأنه متشائم بما يراه من تنكرّهم وحذرهم سؤ العاقبة ، ووبال المصير ، إن صح ما يقرأه على صفحات وجوههم ، ورغما على كل إنذار ، فقد باغته بعض رجالهم ، وهو يغتسل بالوادي ، وأردوه قتيلا ، فانطفأ (٣) سراج حياته الذي طالما اهتدت به الكتائب ، في مدلهمات الخطوب ، ولم تكتف تلك الأيدي الآثمة القادرة بقتل الفاضل فحسب ، بل تجاوزته إلى غيره ممن كان يصحبه ، ومنهم الشريف القاسم بن إبراهيم ، وقد عظم الخطب عند ذي الشرفين وأخذ يكتب إلى رؤساء القبائل ويرسل اللّعنات على الغادرين الخائنين ، ويحاول النّصرة من الشيعة لئلا يطل دم الشريف الذي قضى حياته متعبا منهوكا في إبتنى صرح المجد وتشييدهم :

وكل أخ مفارقه أخوه

لعمر ابيك الا الفرقدان

__________________

(١) نشق بلدة اثرية ورد ذكرها في النقوش وهي ما يسمى اليوم بهمدان الجوف.

(٢) الخارد : نهر مشهور يسقي أرض الجوف.

(٣) في الأصل فنطفا.

٢٦٧

الامير بعد هلك الشرفين

كان لمصرع الشّريف الفاضل دويّ الصاعقة في جميع البلاد الموالية للأشراف ، وأصبح نبأ مقتله حديث

السّامر ، وعجالة المسافر ، ولم تكن لوعة الأسى ، وشدة الحزن ، عقدة في لسان الشريف ذي الشرفين مانعة عن تحريك أوتار القلوب ، وإثارة خفايا الأفئدة ، فما زال يستثير همم القبائل ، ويستفز عواطفهم ، حتى أثارها نقمة صاخبة ، على منازل الغدر وبالخادعين ، بمن اجتمع تحت لوائه من القبائل المتفرقة ، فنهض بهم إلى الجوف ، وجعل يستقرى منازل المعتدين ومزارعهم ، ويوسعها نسفا وتدميرا ، ويتأثر الفارين منهم حتى أروى غليله ، وشفا غيظه ، وانتهى الأمر بنقل جثتي الشّريفين هامدتين ، وآلت الأمور إلى دفن الشّريف القاسم بن ابراهيم بعيان ، ودفن الشّريف الفاضل بالحصن من بلاد وادعة ، وفيه يقول مفرج بن أحمد :

سقى قبرا بأرض بني عبيد

بصحن الحضن رجاس الغمام (١)

ودخلت سنة ٤٦٩ فيها تواردت الأنباء بأن رجل من الاباضية (٢) ببلاد الشرف يقال له ابن عبد المجيد الأباخي أدّعى الإمامة والتف حوله أهل الشرف ، فعظم موقع هذا النبأ عند الأمير ذي الشرفين ، فجمع الجموع ، ونهض إلى بلاد الشرف لقتال الأباضي ، فدارت بينه وبين أتباع ابن عبد المجيد معركة بجبل المحطور (٣) ، كان النصر فيها لذي الشرفين وأصحابه ، وقتل كثير من أتباع مدعي الإمامة ، وقضى على تلك البذرة ، وبعد حادثة الشرف قوي الأمل عند الأمير وأعاد الكرة ، فانتقل إلى الجوف ، وسار إلى نهم ، واستمال بني الدّعام ، وتوثق منهم بالأيمان الغليظة والأقسام الباهضة ،

__________________

(١) رجست السماء رعدت وأوشكت على المطر.

(٢) ظللت الاباضية في جهات اليمن الشمالية إلى ما يقارب القرن الخامس وكانت اسرة مسلم اللحجي تدين بهذا المذهب.

(٣) المحظور : قرية من بلاد الشرق شمالي حجة.

٢٦٨

ثم حدثت بينه وبين قبائل عذر معركة طاحت فيها كثير من الرؤوس من الفريقين وفيها توتّرت العلاقات بين الأمير ذي الشرفين وأخيه سنان الدولة احمد بن جعفر ، فسار الأمير سنان الدولة إلى نواحي صعدة ، وبعد أخذ وردّ تحسنت الأمور ، وعادت المياه إلى مجاريها ، ولم يلبث الامير أن باغته الحمام سنة ٤٧٨.

وما زال حتى أزهق الموت نفسه

شجا لعدو أو لجا لضعيف

واجتمعت الشّيعة بعد دفنه وبايعت ولده الأمير جعفر بن محمد بن جعفر وهو آخر قائم من أولاد الإمام القاسم بن علي العياني ، فانه ضعف سلطانهم لخلاف دبّ فيما بينهم.

وقد كان الأمير ذو الشرفين ، قبيل موته قد تلوّن له الدّهر وقست عليه الأيّام ، ولبست له جلد النّمر ، ولما لم يجد لقوس الرّجاء منزعا ، جنح إلى مكاتبة المكرّم في الموافقة على الهدنة ، وأن يترك المكرّم له بعض البلاد اليمنية في الجهة الشّمالية ، فحالت الأقدار دون وصول ذلك الكتاب الى الصليحي بإمساك حامله له ، حتى عصفت رياح المنيّة بسوح الأمير ، ودعاه إلى داره الملك القدير ، فاستراح من جفوة الأيام ومعاشرة اللئام :

لين الثري للجسوم خير

من صحبة العالم الجفاة

عودة الأمير الحبشي سعيد الأحول إلى زبيد

ودخلت سنة ٤٧٩ فيها عاد الامير سعيد الأحول إلى زبيد ، وأخرج عامل المكرم سعيد بن شهاب منها بصورة جميلة مكافأة له على حسن صنيعه مع الأحباش ومن يمت إليهم بسبب قال في أنباء الزمن (وفيها استقرت ولاية زريع بن العباس بن مكرم الهمداني في عدن وتوارثها أولاده من بعده) (١)

__________________

(١) غاية الأماني ص ٢٧١.

٢٦٩

وكان السّبب في تملك آل زريع لعدن وما صاقبها من البلاد ان علي بن محمد الصّليحي ، كان قد أقر بني معن (وهم قوم من الأصابح) على عدن وألزمهم برفع خراجها إلى زوجة المكرم السّيدة بنت أحمد وكان قد أصدقها عدن لمّا زوّجها المكرم فلما قتل علي بن محمد ، تغلب بنو معن على ما تحت أيديهم ، فقصدهم المكرّم وأخرجهم منها ، وولّاها العباس ومسعود ابني المكرم الهمداني ، وكانت لهما سابقة محمودة وبلاء حسن مع المكرم لما دخل زبيد لإنقاذ أمه من أسر الأحباش ، فجعل للعباس حصن التّعكر بعدن وباب البر وما يدخل منه وللمسعود حصن الخضراء وباب البحر ، وما يدخل منه إلى عدن واليه أمر المدينة أيضا ، واستخلفهما للسّيدة فحافظا على العهد ، وكانا يحملان الى السيدة مائة ألف دينار في كل سنة وقد تنقص إلى أن مات العبّاس بن المكرم فخلفه ولده زريع بن العباس ، وبقيا على ذلك الى أن قتلا في باب زبيد مع عامل السّيدة (١) المفضل بن ابي البركات كما سيأتي.

ودخلت سنة ٤٨٠ (٢) فيها انتقل المكرم الصليحي الى ذي جبله بعد وفاة والدته أسماء بنت شهاب وفوض أمر الملك إلى زوجته الحرة السيدة بنت أحمد بن جعفر بن موسى الصّليحي واستخلف على صنعاء عمران بن الفضل الهمداني واختط بذي جبلة دار العز.

قتل سعيد الأحول وفرار جياش الى الهند

ودخلت سنة ٤٨١ (٣) فيها دبرت الحرة السّيدة على قتل سعيد الأحول فكتبت الى الحسين بن التبعي صاحب حصن الشعر بأن يستدعي الأمير الحبشي من زبيد ، ويقول له : أن المكرم قد أصابه الفالج وعكف على

__________________

(١) راجع عمان والخزرجي والجندي وقرة العيون ونزهة الأخبار.

(٢) غاية الأماني ص ٤٧١.

(٣) غاية الأماني ص ٤٧٢.

٢٧٠

اللّذات وصار أمره في يد إمرأة ، وأنت أكبر ملوك اليمن وأحب الينا من بني الصّليحي فان رأيت أن تنهض إلى ذي جبلة من تهامة ، ونحن من الجبال فافعل ، فطمع الحبشي بهذه الأماني المعسولة ، ونهد من زبيد في ثلاثين ألفا من العبيد ، وكانت السّيدة قد أحكمت التدبير ، وكتبت لأسعد بن شهاب وعمران بن الفضل أن يهرعا الى زبيد فنزلا في ثلاثة آلاف فارس فدخلاها بعد خروج سعيد الأحول منها وهرب من بها من بني نجاح فلحق جيّاش بن نجاح بالهند ، وكان من خبره ما سيأتي.

وسار سعيد الأحول نحو الحسين (١) بن التّبعي فلما قارب حصن الشعر انقض عليه الجيشان أصحاب بن التّبعي ومن ألحق به من جنود السيدة :

وما هي إلّا دعوة واجابة

ان التحمت والحرب بكر وتغلب

فأبصرت ما لم تبصرا من مشاهد

ولا شهدت يوما معدّ ويعرب

فقتل الأحول وأصحابه ، ولم ينج منهم إلّا الشريد ، وكانت أم المعارك زوجة سعيد الأحول معه بهذه الحرب فاحتزوا رأس زوجها وحملوه أمام هودجها كما فعل زوجها برأس علي بن محمد الصليحي مع زوجته أسماء بنت شهاب.

ولما وصلوا بالرأس وتلك المرأة البائسة إلى الحرة السيدة فرحت بذلك ، وأوغلت في الانتقام ولجّت في التشفي وأمرت بنصب الرأس تحت طاقة أم المعارك وتمنّت لو أن مولاتها أسماء بنت شهاب حيّة لترى هذه الفعلة النكراء ، ولأن كان ذلك العبد قد رأى الخرق مغنما والتجاوز مغرما حيث بدا بفعلته الشنعاء فإنّ الحرة اسماء لم تحسن بما فعلته صنعا ، والتشفي طرف من العجز ، وهو خلق [في](٢) المرأة طبعا ، وقديما كانت المرأة السّبب

__________________

(١) الخزرجي وأنباء الزمن وقرة العيون.

(٢) زيادة من عندنا.

٢٧١

الأول لإثارة الحروب العاصفة والغارات الجارفة ، أيام العرب بما تثير في النفوس من أحقاد تنوسيت ، ولكن المرأة لا تنسى وهل المرأة إلا المرأة منذ وجد الانسان إلى أن تقوم الساعة :

فلا تحسبن هندا لها الغدر وحدها

سجيّة نفس كل غانية هند

ولما قتل سعيد الأحول ولّى المكرم أسعد بن شهاب على زبيد فسلك طريقته المعروفة من الرّفق وحسن المعاملة ، وهرب جياش بن نجاح إلى الهند ، ورافقه وزيره خلف بن أبي طاهر الأموي ، فلبثا في الهند تسعة أشهر تزوج جياش في أثنائها بجارية هندية ، ثم رجعا الى اليمن آخر سنة ٤٨١ والجارية الهندية في خمسة أشهر من حملها ، ولما وصلا إلى عدن قدّم جياش وزيره الأموي الى زبيد ، وأمره أن يظهر في الناس موت جيّاش بأرض الهند ، ويستأمن لنفسه ، ويستقري أخبار موالي آل نجاح ، وأقاربهم ومن تربطه بالدّولة النجاحية رابطة حب وولاء ، وسار الأمير جيّاش إلى ذي جبلة متنكّرا في زي الهنود يتنسّم أخبار المكرم ، وبعد ان وقف على ما يهمّه الوقوف عليه من أمر عدوّه ، هرع إلى زبيد ودخلها متنكرّا أيضا ، فاجتمع بوزيره الأموي وأخبره عن مواليه ، وذي قرابته بما سّربه ، وفتح له باب في استرجاع مجدهم الذّاهب ، ولم يزل يدأب هو ووزيره حتى جمعا من الأحباش خمسة الآلاف حربة ، وكان يأوي بجوار الدّار السلطانية ويقصد مصطبة علي بن القم في كل صباح قال : فسمعته يوما وهو يقول : والله لوجدت كلبا من آل نجاح لملكته زبيد وكان ابن القم وزيرا لوالي المكرم الأمير أسعد المذكور ، ثم انه اتصل بعلي بن القم ، وولده الحسين بن القم الشاعر المشهور (١) وهو على حال تنكره ، وكان اتّصاله بهما بواسطة لعب

__________________

(١) هو ابو عبد الله الحسين بن علي بن القم كان شاعر الدولة الصليحية له ديوان شعر منه نسخة لمكتبة بريطانيا توفي نحو سنة ٤٨٠.

٢٧٢

الشطرنج قال فلما أراد الله تعالى رجوع الأمر إليّ لعبت أنا وحسين بن القم وليس معنا إلا أبوه على سريره ، وهو يعلّم ولده ، فتراخيت له حتى غلبني قصدا للتّقرب إلى قلب والده فطاش الحسين بن علي من الفرح وسفه عليّ بلسانه فاحتملته لأبيه ، فمد يده إلى الخرقة التي كانت على عيني : ـ (وكان قد جعل هذه الخرقة على عينه لئلّا يعرف وتشبه بأهل الهند) ـ فاحفظني ذلك ، فقام أبوه فقبّح عليه فعله ، وقمت مغتاظا ، فعثرت فقلت أنا جيّاش بن نجاح على جاري عادتي ، ولم يسمعني إلّا الشيخ علي بن القم فوثب مسرعا خلفي يجرّ رداءه ، حتى أدركني فأمسكني وأخرج المصحف ، وحلف لي بما طابت به نفسي ، وحلفت له ، وليس معنا أحد ، ثم أمر باخلاء دار الأغر بن الصليحي ، وفرشت ونقلت إليها الجارية الهندية ، فلما كان الليل اتاني علي بن القم وقال : خبرنا لا يخفي على أسعد بن شهاب ، فقلت له أن معي بالمدينة خمسة آلاف حربة (وفي تلك اللّيلة وضعت الجارية الهندية الفاتك بن جياش) وكان قد رأى الحسين بن سلامة وأخبره أن أمره سيعود إليه ليلة ولادة الجارية) فقال قد ملكت فاكشف امرك قال جياش : اني أكره قتل اسعد بن شهاب لأنه طالما قدر على أهلينا وذرارينا ، فعفا عنهم وأحسن إليهم ، فقال ابن القم : فافعل ما تراه ، فأمر بضرب الطّبول والأبواق وثار معه كافة المدينة وخمسة آلاف من الحبشة واسر ابن شهاب ، فلما حضر اليه أكرمه جيّاش وأولاه خيرا وسيره بجميع ما يملك من خيل ومال ، وعاد ملك آل نجاح كما كان قال الديبع في كتابه بغية المستفيد (١) : وكان جياش يلقب بالملك العادل ويكنى بأبي طامى وكان فاضلا وله شعر رائق وترسل فائق ، وهو مصنف كتاب «المفيد في أخبار مدينة زبيد» وهو كتاب متسع الإفادة عزيز الوجود ومن شعره :

اذا كان حلم المرء عون عدوّه

عليه فإن الجهل أبقى وأروح

__________________

(١) بغية المستفيد ص ٥٤.

٢٧٣

وفي العفو ضعف والعقوبة قوة

إذا كنت تعفو عن كفور وتصفح

بهذه الفكرة الشاذة والنفسيّة المزدوجة قضى على وزيره أبي طاهر الأموي المرواني وكان من أفراد الذّهر نبلا وفضلا ، وهو الذي صحبه إلى الهند وكان له الأثر الصّالح في إعادة الملك إليه فعاهده إن عاد الأمر إليه ليقاسمنّه الملك وقد وفّى له الحبشي واستوزره وسمّاه قسيم الملك ولما أراد أن يتزوّج إمرأة من الفرسانيين أهل موزع ، تمنع بعض أهلها فأرسل وزيره هذا لاستدراجهم واستمالتهم ، وبناء على ماله من مكانة في النفوس استشاره أولياء المرأة فأشار عليهم بالامتناع لأنّهم يرجعون في النسب إلى تغلب ، والحبشي غير كفوء للعربي لا هكذا أشار عليهم الوزير فاستدرجهم الحبشي بالمال حتى رضوا ولما سألهم عن سبب امتناعهم ذكروا له ما اشار به الوزير ، فلم يتورّع الأمير الحبشي عن قتل وزيره ظلما وعدوانا.

وكأنه قد وخزه الضمير وأنّبه الوجدان ، وأهاب العدل وسمع صوت الحقّ يلومه ويقبح فعله لاذ بنزعات الطغاة وشذوذ العتاة ، فاستروح لكلمة الطاغية بن الزيات (١) المأثورة إذا قال له المعذّب أرحمني قال : (الرحمة خور في الطبيعة) فرقص على ذلك الإيقاع ونظم الأبيات المتقدمة ، قال الخزرجي وقد قتله يقول ابن القم (٢) :

أخطأت يا جياش في قتل الحسن

فقأت والله به عين الزمن

ولم يكن منطويا على دخن

مبرا من الفسوق والدّرن

كان جزاه حين ولاك اليمن

قتلكه ودفنه بلا كفن

قال ولما قتل جياش الحسن استعظم الناس ذلك من جياش ، لأنه كان موصوفا بالعدل والحلم معظما للعلماء مبجّلا لهم سيما الحسن بن أبي عقامة

__________________

(١) ابن الزيات هو محمد بن عبد الملك بن أبان بن حمزة المعروف بابن الزيات وزر للمعتصم والواثق من بني العباس توفي سنة ٢٣٣.

(٢) الخزرجي وأنباء الزمن والجندي.

٢٧٤

الذي قتله لعلمه وفضله ولأنه كان أحد الأسباب لجياش في أخذ الملك بتهامة (١).

وفاة المكرم وقيام الداعي سبأ بن أحمد الصليحي

ودخلت سنة ٤٨٤ فيها مات المكرّم احمد بن علي بن محمد الصليحي بذي جبلة وأسند وصيته في الدعوة إلى الأمير الكبير الداعي سبأ بن أحمد الصليحي وفي الملك إلى زوجته الحرة السيدة. وقال الجندي ان المكرم تحرك من ذي جبلة إلى صنعاء فتوفي في بيت بوس في السنة المذكورة.

وكان مقرّ الدّاعي سبأ بن احمد بحصن أشيح بمخلاف بلاد الهان (بلاد آنس) وهو حصن منيع يماثل حصن مسار في الارتفاع والمنعة ، وكانت بلاد الجبال خاضعة لبني الصليحي ، وزبيد والتهايم لجياش بن نجاح ، وقد مرّت على البلاد برهة بعد تغلّب جياش على زبيد ، شبه سكون لعجز المكرّم عن مقاومة الأحباش ، فلما تولى سبأ بن احمد آثارها داحسية غبرا على زبيد وشنّ الغارات (٢) على التهائم ، ومن أشهر الوقائع ، وقعة الكظائم (٣) على باب زبيد ، وكان كل واحد من الفريقين قد تحفّز لمحو الفريق الآخر ، وأعد لذلك عدّته فحشد الدّاعي سبأ عشرة آلاف راجل وثلاثة آلاف فارس وجمع جيّاش جموعه واستنجد بالشّريف يحيى بن حمزة بن وهاس ، واتفق رأي امراء زبيد على مكاتبة سبأ والميل إليه فكاتبوه وخادعوه ، ولما اقترب بجنوده من المدينة ، ودارت رحا الحرب ثار الشريف يحيى بن حمزة ، وكان قد كمن متربّعا سنوح الفرصة ، فلما لاحت له حمل على القاضي عمران بن الفضل ،

__________________

(١) في مفيد عمارة ص ٢٠٧ ان هذه الأبيات قيلت بسبب قتل نجاح الحسن بن ابي عقامة فيحقق وعد قصة بوسط المذكور في زواج نجاح في السلوك منسوبة الى ابن عقامة المذكور فلعل الأمر البئس على المؤلف رحمه الله والله أعلم.

(٢) في الأصل الغرات.

(٣) الكظائم : محل بالقرب من مدينة زبيد.

٢٧٥

وطعنه طعنة نجلاء لا تسدّها عصائب الخمر ولا ثمر الرأ ، وقتل يومئذ الأمير قيس بن أحمد بن المظفر وانهزم أصحاب الأمير سبأ وعقر فرسه فسار في غمار المنهزمين على أقدامه ، حتى أركبه بعض أصحابه على جواده ، وكان الدّاعي سبأ قد وثق بمكاتبة أمراء جياش فلم يتحوط الاحتياط اللّازم فكانت الدائرة عليه. (١)

وبعد أيام عزم أولاد القاضي عمران إلى تهامة للأخذ بثأر ابيهما من قاتله الشريف فقتلاه غيلة ورجعا (٢).

لم تكن وقعة الكظائم فاصلة بل كانت مثيرة وحافزة للفريقين على مواصلة الكفاح وشن الغارات فكانت الحبشة إذا جاء الشتاء تخرج من البلاد إلى جزيرة دهلك فتخلفها العرب وتستمر العرب في تهامة وزبيد إلى فصل الصّيف إذ فيه تعود حكومة الأحباش سيرتها الأولى ، وهكذا دواليك ، وكانت الحكومة الصليحية تقبض خراج تهامة وتسقط عن الرّعية ما سلّمته لبني نجاح ايام الصّيف والخريف فإذا جاء دور آل نجاح ، احتسبوا للرّعية ما دفعوه للحكومة الصليحية على هذا الحال استمرت الحالة برهة من الزمان.

زواج الداعي سبأ بن أحمد بالحرة السيدة

لما أكملت الحرة السيدة أيّام العدّة ، خطبها الدّاعي سبأ فكرهت ذلك ، وامتنعت فغضب سبأ وجمع جموعه ، وقصد حرب السيدة إلى ذي جبلة فجمعت هي أيضا الجنود ، والتقى الجمعان فاقتتلا أيّاما وثبت الفريقان يخطّان بدم القتلى صحيفة سوداء من أعجب ما سجّله طغيان القوة في صحائف التاريخ ، ولما تكافأت القوى توسّط أخو [السيدة](٣) لأمها

__________________

(١) الخزرجي ونزهة الأخبار.

(٢) انظر هذا في غاية الأماني ص ٢٧٥.

(٣) ساقط من الأصل.

٢٧٦

سليمان بن عامر الزّواحي ، وأشار على الدّاعي سبأ بمراجعة إمامه المستنصر (١) العبيدي ، فانصاع الداعي الى مقترح الزّواحي ، ورجع بجنوده المسخرة الى مقره بحصن أشيح وبادر بإرسال رسولين ، ومعهما هدية نفيسة وزوّدهما بكتاب إلى المستنصر فما كان بأسرع من عود رسولي الدّاعي ومعهما جواب المستنصر ورجل آخر موفد من قبل الخليفة ، يحتّم على السّيدة قبول الدّاعي سبأ زوجا لها ، ولمّا مثل رسول الخليفة بين السيدة ، وعندها وزراء دولتها ورجالها أبلغها سلام أمير المؤمنين ، وما منحها من الألقاب وأفاض عليها من النّعوت ، وبعد ذلك قرأ عليها قرار مولاه ، ونصّه (٢) : وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا ان تكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعصى الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا (٣) وقد زوّجك أمير المؤمنين الأوحد الدّاعي المنصور المظفر ، عمدة الخلافة ، أمير الأمراء أبي احمد سبأ بن احمد بن المظفر على ما حضر من المال ، وهو مائة ألف دينار وخمسون ألفا اصنافا (٤) ، وعلى كره قبلت فهرع الدّاعي سبأ إليها في جموع كثيرة ، وأقام بذي جبلة شهرا والحرة السيدة تنفق عليه وعلى أصحابه النّفقات الواسعة ورأى من علو همتها ما حمله على النّدم على خطبتها ، ثم أرسل إليها سرّا ان تأذن له بالدخول إلى دارها ليتوهم الناس أنه قد خلا بها ، فأذنت له بالدّخول الى بعض مقاصير الدّار ، وبعثت إليه جارية تشابهها ، وعرف الأمير سبأ حيلتها فقعد لا يرفع طرفه إلى الجارية وهي قائمة على رأسه ، فلما أصبح رفع مخيمه ورجع إلى حصنه ودخلت سنة ٤٨٥ وفيها مات زريع بن العباس

__________________

(١) المستنصر هو معد بن علي بن الحاكم بأمر الله الفاطمي تولى الحكم صغيرا سنة ٤٢٧ وتوفي سنة ٤٨٧.

(٢) الآية ٣٦ سورة الأحزاب.

(٣) الخزرجي وأنباء الزمن (ص).

(٤) جمع صنف وهي القطعة من القماش.

٢٧٧

الهمداني صاحب عدن وولي بعده (١) أمر عدن ولده سبأ.

طائفة الغز الواصلة لإنجاد جياش بن نجاح

ودخلت سنة ٤٨٦ (٢) فيها استدعى جياش طائفة من الغز لمحاربة الدّاعي سبأ بن أحمد ، فخرج منهم ثلاثة آلاف فلما فارقوا مكة ، وتوجّهوا نحو زبيد ندم الأمير جياش وخاف منهم ان يستولوا على البلاد ، وأمر عماله في الطرقات ان يضعوا لهم السّم في الطّعام والشّراب فهلك أكثرهم ، ولم يخلص إلى زبيد منهم إلّا دون الألف ، فلم يطمئن فؤاد ذلك الأمير ، وظلّ شبح الخوف منهم سمير أحلامه ، وهواجس أمانيه رغما على قلّتهم وأبت نوازع نفسه إلّا جعل تلك الأرواح ضحايا طغيانها فجهّز منهم خمسمائة فارس إلى الجبال ، ولما وصلوا الى البون دس عليهم من قتلهم بالسم وبعد ذلك عاد على بقيتهم فأقطعهم وادي ذؤال (٣) بعد ان فرق كلمتهم وافعم (٤) صدورهم حقدا على بعضهم بعضا ، وتركهم عبيدا مسخرين لإرادته.

ان الشجاع هو الجبال عن الأذى

وأرى الجري على الشرور حيانا (٥)

ودخلت سنة ٤٩١ فيها مات الأمير سبأ بن زريع ، وولي الأمر بعده في عدن وأعمالها أخوه أبو السعود (٦).

وفاة الداعي سبأ بن احمد الصليحي

ودخلت سنة ٤٩٢ فيها مات الأمير الكبير الدّاعي سبأ بن احمد

__________________

(١) في الأصل بعد.

(٢) غاية الأماني ص ٢٧٩.

(٣) ذؤال : واد مشهور يسيل من جبال ريمة الاشباط ويصب في البحر الأحمر من ساحل الطائف ما بين وادي سهام ووادي رمع.

(٤) افعم صدورهم : ملأها.

(٥) من أبيات لأحمد شوقي.

(٦) انباء الزمن والخزرجي.

٢٧٨

الصليحي ، وكان (١) شجاعا كريما فصيحا أنوفا ذا شمم وعفة ونزاهة واباء قال الجندي : كان من أكرم العرب وأعفهم وأشرفهم نفسا ، ما وطىء أمة ولا شرب مسكرا : وكان ممدوحا يقصده الشعراء ويمدحونه فيثيبهم ، وربما مدحهم بشيء من الشعر مع الإنالة ، وإلى ذلك أشار ابن القم بقوله (٢) :

ولما مدحت الهزيري ابن احمد

اجاز وكافأني على المدح بالمدح

فعوضني (٣) شعرا بشعري وزادني

نوالا فهذا رأس مالي وذا ربحي

شققت إليه الناس حتى رأيته

فكنت كمن شق الظلام الى الصبح

[فقبح دهر ليس فيه ابن احمد

ونزه دهر كان فيه من القبح](٤)

قال عمارة (٥) : لما قام ابن القم بين يدي سبأ ينشده هذه القصيدة التي منها هذه الأبيات منعه من القيام ، ورمى له بمخدة وأمره بالقعود عليها إكراما ورفعا عن (٦) الحاضرين ، ثم لمّا فرغ من الإنشاء قاله : با [أبا](٧) عبد الله انت عندنا كما قال المتنبي :

وفؤادي من الملوك وان

كان لساني يرى من الشعراء

فانظر أيها الناظر في كتابي ، في فعل هذا القيل (٨) وحسنه ، وما لاطف به هذا الشّاعر وأحسن إليه مقالا وفعالا ، وكان الأمير سبأ بن احمد دميم الخلق ، قصيرا لا يكاد يظهر من السرج ان ركب.

__________________

(١) انباء الزمن وقرة العيون.

(٢) الأبيات في المفيد لعمارة ص ٢٤٣.

(٣) في مطبوعة المفيد فعوض عن شعري بشعر.

(٤) هذا البيت ساقط من مطبوعة المفيد.

(٥) المفيد ص ٢٤٣.

(٦) في مطبوعة المفيد عنا.

(٧) ساقط من الأصل والزيادة من المفيد.

(٨) لقب ملوك حمير القادمى.

٢٧٩

السيدة بنت احمد بعد وفاة الداعي سبأ

لما مات (١) الداعي سبأ بن احمد أقامت السّيدة للذّب عن مملكتها والقيام بأمر دولتها المفضل بن أبي البركات بن الوليد الحميري ، وكان عاملا على التعكر ، وما إليه ، وجعلت مكانه أخاه خالد بن أبي البركات ، وبعد مضي سنتنين على خالد المذكور في ولاية التعكر ، قتله الفقيه عبد الله ابن المصوع غيلة ، وكان خالد بن أبي البركات يجلّ الفقيه المذكور ويحترمه ، لعلمه وديانته فسهل له الحجاب ، بحيث لا يمنع عن الدّخول إليه في أي وقت أراد ، فدخل عليه في بعض غفلاته ، وقتله استحلالا لدمه ، لكونه على مذهب الاسماعيلية ، وكان قد استصحب كميّة من المال ليستغوي به الجند المرتّب بذلك المعقل ، ولم يستشر غير نفسه ، فلما قتل خالدا المذكور صاح الفقيه وارتبك فتبادر إليه أهل الحصن والحقوه بمن قتل :

فأضحى كظهر الفحل جبّ سنامه

يدبّ إلى الأعداء احدب باركا

ثم انه طلع المفضل واليا على التعكر بدلا عن أخيه ، وأظهر عداوة الفقهاء ، وقبض على أموال الفقيه وأراضي قومه قال الجندي : وهي الأملاك القديمة التي في ذي السفال ، وصار المفضل رجل البيت ، ومدير الملك والذّاب عنه ، وغزا عدن لاخضاع المتغلّبين على السيدة عن تسليم الخراج من بني زريع ، وانجد منصور بن فاتك لما استنجد بالسيدة كما سيأتي ، وسار الى زبيد فغنم الفقهاء بعده عن الحصن ووثبوا عليه ، فطلع من زبيد وشدّد عليهم الحصار ، ولما تيقّنوا الضّعف وأحسوا بالهزيمة والاستسلام عمدوا إلى نسائه وجواريه ، فأخرجوهن إلى موضع مشرف من الحصن على محطته ، وأمروهن بضرب الدّفوف ورفع أصواتهن بالغناء (٢) ، وعليهم ثياب الزّينة فلما

__________________

(١) غاية الأماني ص ٢٧٩.

(٢) انظر خبر علماء التعكر في السلوك للجندي وغاية الأماني ص ٢٨٣ والمستبصر لابن المجاور وغيره.

٢٨٠