تاريخ اليمن الإسلامي

أحمد بن أحمد بن محمّد المطاع

تاريخ اليمن الإسلامي

المؤلف:

أحمد بن أحمد بن محمّد المطاع


المحقق: عبد الله محمّد الحبشي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: شركة دار التنوير للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٨

لليمن جميعه ، واتخذ صنعاء دار ملكه ، وعمر فيها عدّة قصور ، وجمع ملوك اليمن الذين أزال ملكهم على يديه وأسكنهم صنعاء ، واشتد ملكه وبلغت سراريه أربعمائة سرّية ، وكانت سيرته فيما رجع لأمر الدين غير مرضية حكى مسلم اللحجي (١) في تاريخه ما معناه : ان الصليحي لما استقر ملكه في صنعاء بلغه ان أهلها يجتمعون في المساجد ، ويتذكرون قبح سيرته ، وربما خاضوا في شيء من قبح عقيدته ، وأنه قد يعيد مذهب علي بن الفضل بصفته ، فشقّ عليه ذلك ، وتألّم منه كثيرا ، وأمسك أياما ، ثم أمر بتسمير أبواب المساجد ومنع من دخولها ، قال مسلم : أخبرني القاضي ابن عبد السلام بن أبي يحيى (٢) ، أن الصليحي لما أراد النّهوض إلى مصر لزيارة العبيدي ، جعل أمواله وذخائره المعدّة لسفره في المسجد الجامع واتخذه خزانة لذلك وملأه بالصناديق وسائر الأحمال فعاجله الله بالنقمة وقتل في سفره ذلك كما سيأتي.

ودخلت سنة ٤٥٨ فيها قام الحمزة بن ابي هاشم لمحاربة الصليحي في ثمانية آلاف راجل ، وخرج لقتاله عامر بن سليمان الزّواحي في ألف وخمسمائة فارس وخمسة عشر ألف مقاتل ، فوقعت بينهم عدّة حروب قتل فيها خلق كثير ، وفي اخرها قتل الحمزة عليه السلام في موضع يعرف بالمنوى من بلاد الخشب وهو واد ضيق التجأ إليه الحمزة وأصحابه ، فأخذ عليهم الصليحي أعلا الوادي وأسفله ورموهم بالنبل والحجارة حتى أثخنوهم ، ووقف بين يدي الحمزة سبعون شيخا من همدان يجالدون دونه حتى قتلوا عن آخرهم ، رحمه الله ، ولم تطل مدة الصليحي بعد قتل الحمزة عليه السلام ، ثم قتل في أواخر هذه السنة ، وقام بثأر الحمزة ولده علي والمحسن بن

__________________

(١) لا يزال النقل عن انباء الزمن.

(٢) في غاية الأماني بزيادة احمد بن عبد السلام وهو اخو العامر جعفر بن عبد السلام.

٢٤١

الحسن بن أولاد الهادي عليه السلام ، فقتل عام الزواحي وولده يحيى في نواحي ثلا (١)

مسير الصليحي للحج ومقتله

بعد أن تم الأمر للصّليحي كما تقدم استقر بصنعاء إلى سنة ٤٥٩ كما أفاده الخزرجي (٢) وقيل إلى سنة ٥٣ ذكره الجندي ، وقال في انباء الزمن : الى سنة ٥٨ وقال الديبع في كتابه بغية المستفيد (٣) انه أقام بصنعاء إلى سنة ٤٧٣ ، وازمع على الحج فاستخلف على ملكه ابنه المكرم وسار في الفي فارس منهم من آل الصليحي مائة وستون رجلا ، واستصحب معه من ملوك اليمن الذين أزال ملكهم ، وخاف من انتقاضهم على ولده خمسون ملكا ، واستحصب معه ايضا زوجته اسماء بنت شهاب ، وكان الصليحي قد استمد الأذن من إمامه بالزيارة له ، فحمل من الهدايا والتحف وآلات (٤) ما لا يحصر وساق بين يديه خمسمائة فرس عليها سرج الفضة وخمسمائة هجين عليها ركب الفضة أيضا ، ومعه خمسون دواة من ذهب وفضة ، وغير ذلك من النفائس ، ولما وصل ظاهر المهجم من تهامة في ضيعة تعرف بأم معبد هاجمه الأمير الحبشي سعيد بن نجاح الأحول ، في سبعين من أصحابه ليس لهم سلاح غير جرد النخل على أطرافها المسامير فلم يشعر النّاس ضحوة النّهار إلّا وقد قتل الصليحي ، (٥) وكان الذي باشر قتله سعيد بن نجاح الأحول بنفسه ،

__________________

(١) ثلا : مدينة اثرية تقوم بالسفح الشرقي من حصن ثلا وهي على بعد ٣٤ ك. م من صنعاء بالشمال الغربي.

(٢) الخزرجي : العسجد المسبوك ص ٥٨.

(٣) غاية الأماني ص ٢٥٦.

(٤) بغية المستفيد ص ٤٧.

(٥) كذا في الأصل.

٢٤٢

وقتل أيضا أخو الصليحي الأمير عبد الله بن محمد وبعد قتل الصليحي تفرّق جيشه واستولى الحبشي على خزائنه ، واسر عائلته وخشن في معاملة الصليحيين فقتل من وجد منهم رميا بالحراب وجعل رأس علي بن محمد على عود مظلّته أمام هودج زوجته أسماء بنت شهاب وفي ذلك يقول شاعرهم العثماني (١) :

بكرت مظلّته عليه فلم ترج

إلّا على الملك الأجل سعيدها

ما كان أقبح رأسه في ظلها

ما كان أجمل رأسه في عودها

سود الأراقم قابلت اسد الثرى

وارحمتا لأسودها من سودها (٢)

ولما دخل زبيد جعل أسماء في دار خاصة بها ، وأمر بنصب الرأسين قبالة طاق الدار التي هي فيه ، وأقامت تحت الأسر سنة كاملة وفي رواية (٣) أخرى : ان الصليحي لما تأهّب للحج وافته الأخبار بأن الأحول سعيد بن نجاح أصبح يترقّب الفرص للانتقاض والانتقام ، وانه قد أخذ في اطراف البلاد بالإفساد فأمر بإلقاء القبض عليه فاستتر واستخفى ، وكان قد دخل زبيد مستخفيا وخرج منها وسلك طريق الساحل ، فكتب أسعد بن شهاب عامل الصليحي على زبيد إلى الصليحي ، يعلمه بذلك فسيّر الصليحي من ركابه خمسة آلاف حربة في طلب الأحول وقتله ، قال الأحول نفسه : وأكثرهم من مماليكنا وأبناء مماليكنا ، فخالفناهم ، ولم نزل نجد في السّير ليلا ونهارا ، إلى أن دخلن طرف المخيّم ، والنّاس يظنون انا من جملة العسكر وحواشيه ، ولم يشعر بنا إلّا عبد الله بن محمد الصليحي ، فإنّه ركب فرسه ، وقال

__________________

(١) هذا الشاعر قدم إلى اليمن من العراق واسمه احمد بن محمد العثماني من ولد عثمان بن عفان ومدح ملوك اليمن ، وكان فيه استهتار ورقه في دين انظر ترجمته في معيد عمارة ص ٢٧٨ ومطالع البدور (خ)

(٢) الأبيات في مفيد عمارة ص ٢٨٣.

(٣) راجع عمارة والخزرجي ونزهة الأخيار.

٢٤٣

لأخيه : يا مولانا اركب هذا والله الأحول بن نجاح ، والعدد الذي جاءنا به كتاب أسعد بن شهاب البارحة من زبيد ، فركب عبد الله بن محمد وكان علي بن محمد ، قد دخل موضع الخلا ، قال جياش : فكنت أول من طعنه ، وشركني فيه عبدّ للملك نجاح بطعنة أخرى ، وحززت رأسه بيدي ، وكانت جنوده قد سبقته ، ولم يبق معه إلّا طائفة من أغلمته ، وفي أنباء الزمن : أن عبد الله بن محمد الصليحي قال لأخيه : يا مولانا هذا والله الأحول سعيد بن نجاح فقال لهم إنّي لا أموت إلّا أمرت (١) إلا بأمّ الدهيم بير أمّ معيد معتقدا أنّها أم معبد الخزاعية التي نزل عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمّا هاجر إلى المدينة المشرفة ، فقال له رجل من أصحابه : قاتل عن نفسك هذه والله بير أم معبد فلحقه زمع اليأس من الحياة ، وبال في أثوابه ، ولم يبرح من مكانه ، حتى قطع رأسه بسيفه إلى أن قال : واستولى ابن نجاح على خزائن الصّليحي وذخائره وخيله ورجله ، بعد أن ذهب في أيدي النّاس منها ما ذهب ، واستغنى الفقير ، حتى لقد حكي ان رجلا مرّ بصندوق مملوءا من الدّنانير أسعد يد ، فرغب عنها ، وقال : اريدها حاشدية ، ثم التفت ليأخذها فلم يجدها ، والاسعدية ضربت اسعد ابن أبي يعفر (٢) انتهى.

وفي الخزرجي (٣) ما خلاصته أنه لما ظفر سعيد بآل الصليحي أشار عليه أخوه جيّاش أن يعفو عمّن قدر عليه من آل الصليحي وغيرهم من أبناء الملوك ، وأن يكتب إلى المكرم انا اخذنا بثأرنا ، واسترجعنا ملكنا ، وقد احسنّا وتجملنا إليك بصيانة والدتك ، والعفو عن بني عمك ، وقال له والله يا

__________________

(١) كذا في الأصل ولعله سهوا أو سبق قلم لأن المخطوط عبارة عن أصل المؤلف رحمه الله الذي بخطه.

(٢) انظر غاية الأماني ص ٢٥٧.

(٣) العسجد المسبوك ص ٥٨.

٢٤٤

مولانا لئن فعلت ذلك ، لا نازعتك قحطان في ملك تهامة أبدا ، ولئن كرهت ذلك لتهيّجنّ (١) حفائظها ، ولتطلبنّ بثأرها ، فإنّهم أهل نفوس أبيّة ، وهمم عربية قال فأجابني بقول الشاعر :

لا تقطعن ذنب الأفعى وتتركها

ان كنت شهما فاتبع رأسها الذنبا

ولم يبق ممن ظفر به من ملوك اليمن الذين كانوا مع الصليحي سوى ثلاثة رجال ، وهم وائل بن عيسى صاحب أحاظة (٢) ، وعلي بن معن صاحب عدن ، وابن الكرندي صاحب المعافر (٣).

أحوال صنعاء بعد قتل الصليحي

ذكرنا ان الصّليحي استخلف لما عزم للحّج ولده المكرم على صنعاء ، فلما قتل وطارت الأنباء بالحادثة لم يجد المكرّم بدّا من إدّراع الصّبر والتشمير للمحافظة على الملك ، وقد كانت أنباء هذه الحادثة مجريّة لكثير من القبائل على الانتقاض ، كما أنها كانت من البواعث لظهور دعوة الإمام حمزة بن أبي هاشم.

ظهور الإمام حمزة بن أبي هاشم عليه السلام

تقدّم رفع نسبه عند الكلام على الإمام أبي هاشم الحسن بن عبد الرحمن ، وإلى الإمام حمزة بن أبي هاشم ، ينتهي نسب الأشراف الحمزات باليمن.

قال في سيرة الأمير ذي الشرفين (٤) ما خلاصته انه لما قتل الصليحي في

__________________

(١) في ارصل لتهيجين.

(٢) ويقال لها ايضا وخاصة بلده في اعلا رأس جبل حبيش في عزلة شبع شمال إب.

(٣) المعافر ما يعرف الآن بالحجرية.

(٤) في الأصل ذي الشريفين.

٢٤٥

التاريخ المذكور ، اجتمعت القبائل من بكيل ووادعة وتهم وغيرهم ، وبايعوا الإمام حمزة بن أبي هاشم ، فأراد الإمام فتح صنعاء وقصدها في جيش عظيم فاستعد المكرم لمدافعته ، والتقى الفريقان بالمنوي من بلاد الحشب ، ودارت بينهما معركة شديدة ، ثبت فيها أصحاب الصّليحي ، وانهزم جند الإمام ، وتفرقوا عنه ، وثبت في سبعين من شيوخ همدان فقاتلوا حتى قتلوا جميعا آخر سنة ٤٥٩.

وفي اللآلىء المضيئة : وكانت لحمزة مع بني الصليحي ، وقعات مشهورة ، ولم يزل مجاهدا في سبيل الله فقصد صنعاء في جيش عرمرم ، فوصل إلى موضع في الخشب يقال له المنوي ، وكان المكرم احمد بن علي بن محمد الصليحي غائبا عنها ، فبلغ ذلك عامر بن سليمان الزّواحي ، وهو أمير جيوشه ، وكان عامر بيريم ، فسار حتى دخل صنعاء ، وخرج قاصدا للمنوي ، فكانت بينهم معركة عظيمة فانهزم عن حمزة جنده وثبت عنده تسعون من شيوخ همدان ، فقاتلوا حتى قتلوا رحمهم الله آخر سنة ٤٥٩ تسع وخمسين واربعمائة ، وفي انباء الزمن : ان قتل الإمام حمزة ووقعة المنوي كانت سنة ٤٥٨ ، قيل عزم علي بن محمد الصليحي للحج ، وانه هو الذي خرج لمحاربته كما تقدم ، وقد أشار الى هذه الوقعة صاحب البسامة بقوله :

وحمزة روت المنوى له بدم

وفرّقت منه بين الرأس والقصر (١)

سر الزواحي والأصارح (٢) مصرعه

وقد ثأرنا به منهم على الأثر

بعامر وبمنصور وأسرته

فما التقى رايح منهم بمبتكر

والذي أخذ بثأر الإمام حمزة هو الأمير المحسّن الآتي ذكره قريبا قتل الزّواحي وولده منصورا ، وروى صاحب اللآلىء المضيئة من كرامات الإمام حمزة بن أبي هاشم عليه السلام ، انه لما دفن واراد أولاده نقله ، حين

__________________

(١) العنق.

(٢) هم بنو الصليحي.

٢٤٦

أمكنتهم الفرصة حملوه وله نور ساطع ، وقبروه في بيت الجالد (١) ، وهو مشهور مزور وروى له كرامات كثيرة.

رجوع الشريف الفاضل إلى اليمن

ذكرنا موت الأمير جعفر بن القاسم والد الفاضل ، وعزم الفاضل إلى أهله بعد موت والده وبعد أن أقام فيهم مدة رحل إلى الحجاز ، فأقام ، وأقام في بلاد خثعم مدة فلم تطب له الاقامة ، وسار إلى الحجاز فمكث به نحو سبع سنين ، قتل في نهايتها الصّليحي ، واتصلت به أنباء قتله وكان قد ضاقت به الحال في الحجاز ، ولحقته حاجة حتى اضطر الى والي المدينة ، وكان غائبا عنها فانتظر أوبته فلم ينل منه ، ما يؤمل بعد أن أكثر ترداده إلى بابه ، ولما آيس منه كتب إليه :

إلى الله أشكو ما تردد قاسم

إلى مخيط صبراتها فا (٢) غلائله

أقمنا زمانا نرتجي فضل مخيط

وهو غائب حتى اتتنا حمائله

فيا ليتنا بنّا ولم نلق مخيطا

وغالته منّا دون مصر غوائله

فصمم على العودة إلى اليمن ، ولما وصل وادعة الفرعين فرح به الشيعة ، وقصّوا عليه ما كان من أخيه محمد بن جعفر أثناء غيبته ، وانه ما زال يبثّ الدعاية سرّا بنشاط ، ورغوب إلى أن هلك الصّليحي فأعلن السّر المكتوم ونهض الإمام حمزة بن أبي هاشم ، لمناداة المكرّم ، ومعه الأمير محمد بن جعفر ، وكتب إلى أخيه إلى الحجاز يستحثّه الأوبة ، فلقيه الكتاب في أطراف اليمن ، وقد كان مآل الإمام حمزة بن ابي هاشم ثانيا له عن عزمه ، مطغيا لجذوة حماسته ، وقد جاء من الحجاز بحماسة تلتهب ، ولكنه أعاد الى ذاكرته الأيّام التي لقيها من القبائل ، وتخاذل النّاس عنه في كثير من المواطن ،

__________________

(١) بيت الجالد : قرية من عزلة الحميس من بلاد أرحب.

(٢) كذا في الأصل.

٢٤٧

فأصبح يقدّم رجلا ويؤخر أخرى ، وواصل سيره إلى عيان في شهر ذو الحجة سنة ٤٦٠ ، وفيها ألقى عصا التّسيار.

استنجاد الحرّة أسماء ولدها المكرم ، وظهور الشّريف الفاضل

ودخلت سنة ٤٦١ فيها احتالت الحرة أسماء بنت شهاب بإرسال كتاب لولدها ، ذكرت فيه أنّها قد حملت من العبد الأسود ، وليس لذلك صحّة فلم يكن الأحول قد رآها قط ، وإنما أرادت استثارة حماسته وحماسة القبائل اليمنية بذلك ، هكذا نصّ عليه المؤرخون (١) وجعلت الكتاب في رغيف ، رمت به إلى رجل من أهل الشرق فسار بالكتاب حتى أوصله إلى المكرم ، فلما قرأه جمع قبائل العرب ، وقرأ عليهم الكتاب جهرا ، فدبّت الحميّة في رؤوسهم ، وأجمعوا على المسير إلى زبيد ، وكان الشريف الفاضل بعيان ، وعنده آل الدّعّام ، وطائفة من بينهم ، ومن وادعة والجميع يحضّونه على الخروج على بني الصّليحي ، فشرح لهم ما يخافه من انتقاضهم ، وما يعانيه من ضيق ذات اليد ، وما عليه حالة أعدائهم من المنعة والقوة ، وكثرة المعاقل والبلاد ، فلما أنس منهم إخلاصا ، انصاع إلى رأيهم ، وأخذ يستعد للنزّول على مقترحهم وانتقل إلى الجوف الاسفل وصار في جماعة وفيرة ، وكان أخوه ذو الشرفين محمد بن جعفر وصنوه الحسن بن جعفر ، قد اتّجها إلى بيت شعيب (٢) وعرّجا على صنعاء ، ونزلا على أميرها من قبل الصّليحي اسماعيل بن أبي جعفر الصليحي ، وتبادل الحديث في هدنة يضربان مدّتها ، وصلح يعتمد النّاس عليه ، وحملهما على التريث إلى أن يقدم المكرم ، فلما قدم المكرم ، قابل الشريفين بكل حفاوة وإكرام ، وحسن عند الفريقين السّعي في الصّلح والهدنة ، وجنح الصليحي إلى كل ما يرضي الأشراف ، مما هو فيه من مهمّة تخليص والدته من أسر الأمير

الحبشي أو الموت دونها ، فتساهل للأشراف ،

__________________

(١) راجع أنباء الزمن والخزرجي وقرة العيون (ص).

(٢) كذا في الأصل ولعلها بيت شهير قرية من جبل عيال يزيد.

٢٤٨

ورضي بأن يقترن بعامله بصنعاء أحد الأشراف لحفظ البلاد ، فوصلها محمد بن القاسم ، ولد الشريف الفاضل ، وتم الشأن ، على أن يكون للأشراف وادعة وبكيل ، وان يكون الحد الفاصل نقيل عجيب ، وضم إلى الأشراف حمدة ، وحاز ، وبيت شعيب ، وبيت سور ، ورجع الشريفان إلى أخيهما الشّريف الفاضل ، ورضي بما فعلا ، وعرض على النّاس ذلك وارتضوه ، وانحدر المكرم إلى زبيد لمناجزة العبيد.

اندحار الأحباش ودخول المكرّم زبيد

هرع المكرم في ثلاثة آلاف فارس غير الرّجل ، ولما همّ بالحركة حرّض أصحابه وأخبرهم انهم سيقدمون على الموت ، فمن كانت له رغبة في الحياة فليرجع ، فرجع بعضهم ، وتقدم في عصابة من الشجعان الذين هم على شرطة ، وبالقرب من زبيد عبّى أصحابه وقصد بهم باب الشبارق ، وهو الباب الشرقي لمدينة زبيد ، فخرج إليهم سعيد الأحول في عشرين ألف حربة ، وصفّ أصحابه على باب المجرى ، في جهة الشّمال ، فتزاحف الجيشان ، واصطدم الفريقان ، ودارت بالحتوف الكؤوس ، وتسابقت الشوس (١) إلى منهل المنيّة ، وقطعت الرؤوس واصدقت العرب الاحباش الطعن والضرب ، فانهزمت الأحباش هزيمة منكرة ، وقتل منهم ما لا يحصى ، وكان الأحول قد أعدّ خيلا مضمرة على باب النخل ، فلمّا تحقق هزيمة أصحابه ركب الخيل في خواصه ، وأهل بيته إلى الساحل ، وقد أعدت له في البحر السفن فركبها إلى دهلك ، ودخلت العرب زبيد قهرا ، وكان أول فارس ، وقف تحت طاقة أسماء ولدها المكرّم ، فقال لها : أدام الله عزّك يا مولاتنا ، فلم تعرفه ، وسألته عن اسمه فقال انا أحمد بن علي فقالت احمد بن علي في العرب كثير ، فرفع المغفر عن وجهه ، فعرفته وقال مرحبا بالولد المكرّم ، من جاء كمجيئك فما أبطأ ولا أخطأ ، وضربت المكرّم الريح

__________________

(١) الشوس : عند المولّدين ابطال الحرب.

٢٤٩

عند ما رفع المغفر ، وهو يتصّبب عرقا ، فارتعش منها واختلجت بشرة وجهه ، وعاش بقيّة عمره كذلك ، ودخل رؤساء العرب مسلّمين على الحرّة أسماء فقابلتهم سافرة كعادتها أيّام زوجها علي بن محمد ، ثم أمر المكرم بإنزال الرأسين وعمر عليهما مشهدا (١) ، ورجع بأمّه إلى صنعاء وعمّل على زبيد خاله أسعد بن شهاب.

ما كان بين الأشراف والمكرم بعد عوده من زبيد

أشرنا إلى الصلح الذي كان الاتفاق عليه قبل نزول المكرّم لمناجزة العبيد فبينما كان المكرّم يستعد لقتال سعيد الأحول ، إذ فرغ الأحول إلى التّفكير فيما يدفع عنه عادية المكرم ، ويصد عنه غاشية أبناء قحطان ، فلم ير وسيلة أفضل من أن يرسل وفدا إلى الشّريف الفاضل يحرك من نشاطه ، ويحثه على مناجزة المكرّم ، والزّحف على صنعاء وأنبأه أنه على استعداد لمعاونته والطلوع إلى صنعاء لمضايقتها ، وطلب من الشّريف الفاضل أن يعيّن موعدا يهرع الفريقان فيه إلى عضد شوكة المكرّم ، وإحتلال صنعاء ، فغنم الفاضل هذه الفرصة فأكرم وفادة الوفد ، وأسرع إلى تحرير الجواب وفيه الموعد المعين لمهاجمة صنعاء ، وأرسل وفدا يحمل المخابرة ، ويوثّق الصّلات الودية ، وبينما هو يلقي دروسه على الوفد ، إذ بالأنباء تطير بأن الأحول ارغمت انفه وترك البلاد ولاذ بالفرار ، وأن المكرّم ربح المعركة ، وقضى على الطّائفة الحبشيّة المتغلّبة في أطراف البلاد ، وحينئذ عرف الشّريف الفاضل خطورة الموقف ، وشرع يفكر في عمارة شهارة ، واتخاذها معقلا ، ولما عاد المكرم إلى صنعاء اتّجه (٢) إلى نجران ، وفي أثناء سفره وافته الأنباء بقدوم (الإمام ابو الفتح الديلمي) من العراق وقصده لأول أمره بلد ضاعن (٣) ، ثم

__________________

(١) انظر هذه الحادثة في جل كتب التاريخ اليمني وهم ينقلون عن عمارة.

(٢) الضمر يعود إلى الشريف الفاضل.

(٣) ضاعن : بلد من جحور شمال جحة.

٢٥٠

صعد إلى جبل البر من جبال (١) ، وانهالت عليه طوائف من قبائل الجبال فاستعد المكرّم لمقاومته ، ولما علم من معه من القبائل بزحف الصّليحي تفرّقوا عنه ، وتخلفوا وتركوه وحيدا فهرع الى الشريف الفاضل الى الجوف ، وكان من أخباره ما سيأتي ، وقد اعتمدنا هنا على ما في سيرة ذي الشرفين ، وذكرنا فيما تقدم انه ظهر الإمام ابو الفتح الديلمي سنة ٤٣٧ كما في أنباء الزّمن والخزرجي وقرة العيون

اتخاذ الأشراف لشهارة معقلا ، وأول اختطاطها

شهارة من أمنع الحصون اليمنية ، وأشهرها قال في سيرة ذي الشرفين : وكان جبل شهارة يسمّى معتقا وفيه يقول

وإذا إمرء أمّ النجاة فانما

سبب النجاة لمعتق في معتق

ثبتت قواعد أسّه بمحمد

لصلاح دين محمد المستعرق

وإنما سمي معتقا ، لأنه كان يلتوي به الطّريد ويأوي البعيد (٢) ، فإذا لحقهم مواليهم قال الأهنوم ، شاوروهم وشاروا معتقا.

عهد الشريف الفاضل إلى أخيه ذي الشرفين بالوثوب على شهارة وتدبير الحيلة لطلوع الجبل فلم يتمكن من ذلك ، ثم ان الفاضل ، أرسل الفقيه على بن محمد بن أبي الخيش في جماعة من الأهتوميين والظليميين ومعه صنوه احمد بن جعفر ، وأمرهم أن تكون إشارة تمكّنهم من قنّة الجبل إيقاد النّار في قمته ، فتيسّر لهم الصعود ، وعملوا بما أشار الشريف الفاضل وغرضه معرفة استيلائهم عليه.

فلما تيقّن ذلك عاد إلى الجوف وبقي يحثّ أنصاره وشيعته على الالتجاء بشهارة ، واتخاذها معقلا ومقاما ، فتقاطرت الشّيعة إلى الجبل ، وبنو

__________________

(١) كذا في الأصل.

(٢) كذا ولعله «العبيد».

٢٥١

فيه الدّور ، وعملوا على تحصينه بما يحتاج إليه علاوة على حصانته الطبيعية فأفلق (١) بني الصليحي ما دبّره الأشراف ، وصنعوه من اختطاط شهارة واعتصامهم بها ، وأخذ المكرّم يفكر فيما يقضي به على هذه التدابير والحركات المتواصلة ، فحشد عساكره ، وجمع قرابته ، وخرج على رأسهم إلى وادعة ليضايق الأشراف ، ويشدد الوطأة على اتباعهم ، ولما أناخ بجنوده في موضع من وادعة يقال له المدحك ، تحرك الشّريف الفاضل ، وحاول أن يباغت المكرّم إلى وادعة فأبى بعض رؤساء أصحابه ذلك وعلّل بأن قوتهم ليست بالمعتمد عليها ، إلى مثل هذه الآراء ، فجنح الفاضل ، إلى قوله : وتقهقر من شؤابه الى ورور ، وتحرّك المكرم إلى أثافت ، وجرّد عصابة من جنده إلى المنقل (٢) فعاثوا في الدّرب ، وسلبوا ما فيه ، فباغتهم جماعة من ذبيان (٣) ، ردتهم على أعقابهم ، ولما رأى المكرّم أن القوة التي معه لا غنى فيها ، رجع أدراجه إلى صنعاء ، وقد اتّقدت نار الحماسة في الشريف الفاضل ، بعد رجوع المكرم فنهد إلى اثافت ، وهدم الدار التي سكنها الصّليحي ، وأقام بها ، وبعث من يستنفر أخاه الأمير ذا الشرفين من شهارة ، فهرع إليه واتجها معا إلى سرّ بكيل ، وفي هذه الغزاة هدم الأشراف الكولة من بلاد خولان ودرب السنتين (٤) ، ودرب الثابتي ، ثم رجع ذو الشرفين إلى شهارة ، وسار الفاضل الى الجوف الأسفل سالكا طريق شوابة ، ثم ان الصليحي جهّز عصابة إلى ذبيان ، فاعترضهم قبائل ذبيان ، ومن هم على ولاء الأشراف من نهم وبني بحير (٥) ، وبني الدّعام ، وتبادلوا القتال ، وقدر رجال الصّليحي على استمالة بني الدعام ، ووصل إليهم رؤساء هذه القبيلة وبعد

__________________

(١) أي أعجب (من التعجب)

(٢) في الصفة للهمداني : منقل سفران وعده من مواضع حاشد.

(٣) قبيلة معروفة في بلاد أرحب وسيأتي للمؤلف بتقديم الباء وهي قبيلة من بكيل.

(٤) من قرى خمر.

(٥) ورد ذكرهم في بعض المخطوطات ببني البحتر بالتاء المثناة من فوق.

٢٥٢

رجوع رجال الصليحي أغار الشّريف على بني الدعام ، فهدم دربهم ، وأخرب في بلادهم ، ونشط الأشراف للإيقاع بكل من يميل الى المكرم أو يقبل أحدا من رجاله ، ثم ان المكرم نهض من صنعاء إلى ذروة (١) ، ونهض الفاضل الى شوابة واستنفر اخاه ذا الشرفين ، فهرع إلى ورور بمن معه من القبائل ، ثم ان الفاضل نهض إلى ذيبين عملا باشارة بعض أصحابه ، فنهد (٢) إليه المكرم ولما التقى الجمعان انهزم اصحاب الفاضل ، وتركوه ، وتمكن الفاضل من النجاء بنفسه وسار إلى الجوف ، ولما بلغ آل الدّعام هزيمة أصحاب الشريف ، اعترضوهم ، وعاونهم أهل درب الجشرج (٣) فأوقعوا بهم تنكيلا وحاسبوهم على ما كان عندما أغار عليهم الفاضل ، وفتحوا البلاد للمكرّم ، فلبث أيّاما قليلة ، وأمدّهم بمال يستعينون به ، وكان المكرم قد بني في ذروة بناء متينا ، يضاهي بناء السابقين ، وانفق في البناء أموالا وفيرة ، وحفر المناهل الكبيرة ، وشاد البناء تشييدا بديعا وزخرف سقوفه بالذّهب وأقام فيها أياما.

الإمام ابو الفتح الديلمي والشّريف الفاضل ومهاجمة صنعاء

أشرنا سابقا إلى اجتماع الامام أبي الفتح بالشريف الفاضل القاسم بن جعفر في الجوف ، وبعد ما لبثا أيّاما يدعوان الناس إلى مؤازرة أهل البيت النّبوي عليهم السلام ، واخلاص النّصرة لهم نهضا إلى شوابة وقد استجاب لهذه الدعوة بعض قبائل المشرق ، فتفرقت الكلمة ، ولم تتوحّد الغاية ، وافترقا من ورور ولما ودّع الإمام أبو الفتح صاحبه الشّريف الفاضل ، نهد إلى

__________________

(١) ذروة : حصن منيع يطل على ذي بين.

(٢) نهد : بمعنى نهض ومضى.

(٣) موضع هناك انظر صفة جزيرة العربية ص ٢٦٤.

٢٥٣

اثافت ، واعتزم هدم مضعتها (١) ، ولما علم الفاضل بهذا الغرم بعث أخاه ليصدّه عنها ، ويردعه فلم يتمكّن الإمام من إنفاذ ما أراده ، وواصل السّير إلى كوكبان ، وحدثت بين رجال الحصن ورجاله مناوشة ، وبينما الحال كذلك إذ بالمكرّم على رأس قوّة هرعت من صنعاء للدّفاع الى كوكبان ، فلما أحس به أصحاب الإمام انهزموا هزيمة منكرة ، وانحدروا من الجبل والسّهام تعمل في اقفيتهم ، وخلص الإمام بنفسه إلى شوابة ، حيث خلف الشّريف الفاضل ، ثم إن المكرم عزم من فوره الى ناحية الجراف (٢) قاصدا الأشراف ، فلم يجد الفاضل دواء يفّل من نشاط المكرّم ، ويغسل آثار تلك الهزيمة من قلوب النّاس إلّا سرعة الحركة من محلّهم والتّقدم إلى صنعاء أو إلى القرب منها لما يعلمه من بعد المكرم عنها ، فأوعز الفاضل إلى الإمام أبي الفتح بأن يقصد مشرق خولان ، يغير بمن معه من تلك البقاع ، وأعرب له أنّه سينهد إلى مشرق همدان ، ويقوم بما عليه هنالك ، فلم يوافق الإمام على هذا وأبى أن يقوم بما أوعز إليه الفاضل فصمّم الفاضل على إنفاذ خطّته وانقضّ إلى ذبيان وواصل السّير إلى رحبه صنعاء ، وكثر الرهج وطارت الأنباء إلى المكرم وعمد من بصنعاء إلى إغلاق أبوابها ، وانقلب الشريف الفاضل وحقائب (٣) أصحابه ببحر من الأموال ممن بيّتهم الجيش على الطّريق ولما بلغ المكرّم نبأ الغارة على صنعاء هرع لا يلوي على شيء مخافة أن تكون صنعاء قد سقطت في أيدي الأشراف فلما علم ان المغيرين (٤) رجعوا عنها ، بقى يفكر في الوسائل التي يجب إتخاذها لتهدية الأحوال ، فلم ير إلّا إيتناف (٥) الحشد ، وتجديد الغرم والاستعداد لمنازلة الأشراف ، واحتلال معقلهم شهارة وقد دهم الشرفي في

__________________

(١) اي قلعتها.

(٢) قرية قديمة في بلادها حاشد على مقربة من خمد في شرقيها وهي عبر جراف صنعاء.

(٣) كذا في الأصل.

(٤) في الأصل المغرين.

(٥) كذا ومن عبارات المتأخرين استئناف كذا وكذا.

٢٥٤

لآليه ، وذكر أن المكرم كان عند محاولة الفاضل احتلال صنعاء بتهامة ، وقد عرفت مما تقدّم أن المكرم كان بناحية الجراف.

ولنعد إلى تأثر الإمام ابي الفتح ، فقد فارق الفاضل عند غزو الرّحبة (١) وقتل قبل حصار شهارة كما يستفاد ذلك من قصيدة للأمير ذي الشرفين قالها بعد انهزام جيوش الصلّيحي عن شهارة ورجوع المكرّم مدحورا وذلك قوله يخاطب الأصلوح ويعدّد ما اجترتموهم

قتلتم (٢) بني الزهرا عمدا قطعتموا

بذيبين والمنوي حبال التواصل

بذيبين والمنوي قطعتم فما الذي

نرجيه منكم بعد تلك الفعائل

وبالفقع والمخلاف أيضا قتلتم

أبا الفتح يهدي رأسه شرّ حامل

الفقع بالفاء والقاف موضع من بلاد خيار وادعة هكذا في هامش اللآلىء المضيئة ، ولكن صاحب البسامة يخالف هذا ويقول انه قتل بنجد الحاج (٣) وإليك قوله

والناصر الديلمي المنتقي سفكت

له دماء يوم نجد الحاج ذي الخبر

قال في انباء الزّمن (٤) ودخلت سنة ٤٤٤ فيها سار الإمام ابو الفتح الى عنس فقصده الصّليحي فقتله في نيّف وسبعين نفرا من أصحابه في نجد الحاج ودفنوا جميعا في محل واحد بردمان في بلد عنس ، وقبورهم هنالك مشهورة رحمهم الله ، وفي الحدائق الوردية (٥) قام عليه السلام في أرض اليمن بعد وصوله من ناحية الديلم ، وكان قيامه في سني الثلاثين وأربعمائة ،

__________________

(١) الرحبة : سبق كذرها وهي ناحية تابعة للواء صنعاء في الشمال الشرقي منها بمسافة ٥ ك. م.

(٢) في الأصل قلتلتم.

(٣) ويؤيده مشهده الموجود فيه الى الآن

(٤) غاية الأماني ص ٣٥١.

(٥) الحدائق الوردية ج ٢ ص ١٠٤

٢٥٥

وانتشر ذكره وعلا أمره ، وملك صعدة والظاهر ، واختط ظفار ، وهو حصن المنصور بالله ، وحارب الصّليحي في بلاد مذحج وقتل من خولان بمجز (١) مقتلة عظيمة ، وله حروب على اثافت من قبل الصّليحي سجال ، له وعليه ، ولم يزل شجا في حلوق الباطنية والمعتدين ، رافعا لمنار الدين حتى قتله الصليحي في نيّف واربعين واربعمائة وقبر بردمان من بلاد عنس.

وقال الشرفي : ان قيامه في سني الثلاثين وأربعمائة إلى أن قال وكان غزير الفهم ، وافر العلم ، له تصانيف تكشف عن علوّ منزلته منها تفسير القرآن (٢) الكريم وهو كتاب جليل القدر ، ومنها الرّسالة «المبهجة في الرّد على الضالة المتلجلجة» يعني بها المطّرفية (٣) ، ومن شعره عليه السلام (٤) :

الا يا لهمدان ابن زيد تعاونوا

لنصرتنا فالدين سرب مضيّع

ونادوا بكيلا ثم وادعة التي

لها المشهد المشهود ساعة تجمعوا

فلا بد من يوم يكون قتامة

لوقع القنا والمشرفية أدرع

سينقاد لي من كان بالامس عاصيا

ويقرب مني النازح المتمنّع

ومنها :

أنا النّاصر المنصور والملك الذي

تراه طوال الدّهر لا يتضعضع

سيملأ دنيانا من العدل بعد ما

مضت حقب بالظلم والجور تترع

وكان أكثر محاربته للصّليحي في بلاد مذحج ، إلى أن قال : وقد تقدّم في ذكر غارة الرّحبة ، انه اجتمع هو والفاضل وقت خروج المكرّم إلى نجران ، وذلك قبل حوزة شهارة ، ولم يزل شجا في حلوقهم حتى قتله

__________________

(١) في المطبوعة من الحدائق ص ١٠٤ لمحرر ومجز من قضاء جماعة في بلاد صعدة.

(٢) وهو بعنوان «البرهان في تفسير القرآن» منه نسخة خطية بجامع صنعاء.

(٣) وهذا هو أول ذكر لهم.

(٤) الشعر في الحدائق الوردية ص ١٠٤.

٢٥٦

الصليحي في سنة ٤٤٤ أربع وأربعين واربعمائة ، ورغما على ما في كلام الشعر في من التّحقيق ، وذكره لغارة الرّحبة التي كانت في حدود سنة ٤٦٢ اثنتين وستين وأربعمائة فقد تأثر بغلط غيره ، واندفع الى متابعتهم بقوّة الايحاء وفعل المحاكاة فتأمّل.

حصار شهارة وما بعده من الأحداث

لما وجّه المكرم عنايته لحصر شهارة ، أخذ يزجي الجنود ويسوق الجيوش إليها ، ويبذل الأموال الطائلة لرؤساء القبائل الذين كانوا يوالون الاشراف ، ولما أكمل عدّته خرج من صنعاء بجنود جمّة وجموع غفيرة ، وضيق على شهارة الحصار ، من كل جهاتها وبثّ العساكر حواليها من جميع جهاتها ، ومن بها معتصمون بمناعة المعقل الطبيعيّة ، ولم تكلّفهم أعمال الصليحي إلّا حراسة هيّنة مخافة أن يتوقل متوقّل (١) أو يغامر مغامر ، وطالت أيام الحصار ، فلم يثن من عزم المحصورين طول الأمد ولا لانت لهم عريكة ، فاعتزم المكرّم العود إلى صنعاء حاضرة ملكه ، وعهد إلى طائفة من عسكره بمواصلة الحصر حتى يتحقّق المآل ، وفعلا نفّذ هذه الخطة ، وآب إلى صنعاء ، وترك ثلّة من الجند في أرباض شهارة ، واستمر الحال على ذلك خمسة أشهر بعد عزم المكرم ، وبعدها رأى الأمير ذو الشرفين أن المال سيىء ، وأن العاقبة وبيلة ، لما رأى من نفاد ما عنده من المأكول والمشروب ، فعمد إلى محبرته وكتب وصيّته الأخيرة وآل على نفسه أن يبذلها في سبيل قتال الظّالمين ، ثم شحذ عزم أصحابه وحمسهم وانحدر ، وقد وزّع أصحابه طوائف ، وصيّح الجند المحاصر والنوم ملابس لجفونهم فأوقع بهم ، وأثخن فيهم قتلا وغنيمة ، وانقلب الى المعقل بالغنائم الوفيرة ونفائس الأسلاب الطريفة وتناول قلمه وكتب هذه القصيدة :

__________________

(١) توقل الجبل : صعدة.

٢٥٧

الا قل لربات الخدور الكواعب

يقبّلن أيدينا وحدّ القواضب

وينعمن ما دمنا ودامت شهارة

بمنة رب العرش جزل المواهب

ويأمن ترويع الأعادي فإننا

بنينا لهن العزّ فوق الكواكب

فقد كنّ شاهدن المكرم إذ أتى

يقود جيوشا نحونا كالسّحائب

من أقطار أرض الله لا شكل كلها

مشارقها والشام ثم المغارب

فبالنّجد أمسى مرسيا وابتنى به

منازل قد حفّت بنصب المضارب

وبثّ لنا الأخبار من كل موضع

يحيط بنا لا شك من كل جانب

إلى آخرها وهي طويلة.

وبعد هذه الموقعة أنسحب من نجى من عسكر المكرم واستصرخوا بصنعاء فوافاهم المد وبعد ان حلم الأديم (١) فانفضت الجموع بالخيبة والفشل.

وفي خلال هذه المحاصرة والشريف الفاضل في الجوف وبنو الدعام وغيرهم من القبائل قد حالوا بينه وبين نجدة أخيه ، ولم يكن له من عمل في تلك الأيام إلّا تبادل الكتابة ، وتوثيق الصلات ، مع آل نجاح ، وقد كان جيّاش بن نجاح ، زعيم الأحباش يجري للشّريف الفاضل ألف دينار شهريّا ، راتبا كبيرا لذلك العهد ، وقد استطاع الفاضل إيصال بعض هذا المال إلى أخيه أيّام الحصار بحجة إرسال رسول يسعى في الصلح بين الفريقين المتحاربين والسرّ المكتوم إيصال المال ، وقد تأكدّت الصّلات بين زعيم الأحباش والشريف الفاضل ، حتى ضربا موعدا معيّنا للاتفاق واللقاء فليس الخبر كالعيان ، ولكن الأقدار لم تيسّر ذلك فقد عاقت بعض الطّوارىء عن الإجتماع بالذّات ، إلّا أن الشّريف الفاضل أعتبر هذه الصّداقة اعتبارا كبيرا ، وشكر لجيّاش أياديه ، وخاطبه بالملك في حادثة ربض شهارة وكتب إليه :

__________________

(١) يقال حلم الجلد : أي اصابه الدود والثقوب.

٢٥٨

تجاوزنا يا رسول عن البلاد

وحثّ إلى ديار بني زياد

واتحف حضرة الملك المرجّى

بأضعاف التّحية والرشاد

وأخبره بأنّا قد ابدنا

بني الأصلوح بالقضب الحداد

صبحناهم غداة السبت كاسا

ضريرا ذو قهار الصبر باد

فلما ذا ذرّ قرن الشمس ذرّت

على غنم وقتلى كالجراد

أبدنا من سراتهم رجالا

بأطراف الظبأ يوم الجلاد

وباقيم يؤول إلى ذهاب

وباقي ما احتووه إلى نقاد

فهم في كل يوم في انتقاص

وإنّا كل يوم في إزدياد

فهذا ما لدينا ابلغنه

الى نجل الموئد ذي الايادي

وبح بالشكر مني ان شكري

له حق عليّ بكل ناد

بجيّاش شددت العزم حتى

بلغت من العداة به مرادي

أمدّ بماله وجبي وأعطى

وأتحف بالطّريف وبالتّلاد

مددت بماله باعي فنالت

نواصي الظالمين على البعاد

وأشعلت النّيار بكل نجد

وداركت المغار لكل واد

وثرت بها عشوزنة (١) عليهم

فقد منعتهم طعم الرّقاد

فراموا نصرة لا من صديق

وجادوا بالعطا لا من (٢) جواد

كدابغة الأديم وقد تهرّا

وعابرة السبيل بغير راد

ومنها :

ولو لا الله والملك المرجّى

لذاب لما أقاسيه فؤادي

ونهم الأكرمون ومن يليهم

من اهل محبّتي وذوي ودادي

وباقي النّاس ليس لهم مرام

سوى خفض المعيشة والتّماد

والأبيات كما ترى ناطقة بشكر الزّعيم الحبشي ، ولقد أهتزت أريحية

__________________

(١) عشوزنة : عسره وشديدة.

(٢) في الأصل «لا لمن».

٢٥٩

الأمير نجاح حينما أملى الشعر بين يديه ، فأمر بجائزة للشّريف الفاضل ألف دينار وكسوة سنيّة وجارية حبشية وزوّدها بقسم غليظ ، قائلا : لو كان في فمه لقمة للفظها لمولاه الشّريف ، هكذا (١) أفاد في سيرة ذي الشرفين بعد هزيمة الصّليحي وكبو زنده في هذه الحوادث عظم أمر الأشراف فأخذوا يبعثون العصابات إلى البقاع النائية ، وسار الشريف الفاضل إلى الملاهي (٢) من جازة تهامة فغنم جميع ما فيه من بزّ وحديد وزروع ، وحصل لجنده منها غنائم عظيمة وعاد ظافرا منصورا.

استيلاء الشريف الفاضل على صعدة

ودخلت سنة ٤٦٣ فيها نهض الشّريف الفاضل إلى صعدة واحتلّها على إثر الخلاف الواقع بين أهل صعدة وأولاد الإمام الهادي بسبب الخطبة ، فقد كان أهل صعدة يريدون ان يخطب خطبهم للمكرّم الصليحي وفعلا رقا منبر الخطابة جعفر بن الحسن الشمري ، وخطب للمكرم الصليحي ، بعد قتال غلب فيه أهل صعدة بني الهادي ، ففزعت الأشراف إلى الشّريف الفاضل وأخيه ، وارتاعت من هذا المنكر الذي يوتي جراهية (٣) في مسجد الإمام الهادي عليه السلام فأغاثهم الفاضل ، وقطع دابر الفتنة ، وكان الفقيه الشمري قد لاذ بالإستتار ، واختفى في القرية ، فقال الفاضل لمن حضره من أعيان البلاد : وحق جدّي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ان لم تأتوني به قبل الظهر لأضرمنّها بالنار ، فلما أتوه به ، حمله إلى شهارة وسجنه بها سبع سنين ، حتى أفتدى نفسه بثلاثة آلاف دينار.

وفيها أنقضى الشّريفان على شظب ، وأوغلا فيها قتلا واسرا واحرقا مدينة

__________________

(١) اعتمدنا ما في سيرة ذي الشرفين وهذه الحوادث تدل على ان نجاح صاحب زبيد لم يزل بزبيد والحال أن المكرم استولى على زبيد وطرد الاحباش عنها سنة ٤٦٠ وعاد إلى صنعاء ، واستخلف عليها اسعد بن شهاب ، ولم يزل عليها إلى أن عادت الحبشة سنة ٤٧٩. وحادثة شهارة وانهزام المكرم عنها سنة ٤٦٢ فتأمل.

(٢) في صفة الجزيرة ٢١٠ من مناهل لعسان.

(٣) جراهية : علانية.

٢٦٠