تاريخ اليمن الإسلامي

أحمد بن أحمد بن محمّد المطاع

تاريخ اليمن الإسلامي

المؤلف:

أحمد بن أحمد بن محمّد المطاع


المحقق: عبد الله محمّد الحبشي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: شركة دار التنوير للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٨

المعيد ، وغلظ أمره وارتفع دخانه ، وانفذ ولاته إلى جميع المخاليف ، ويرحم الله القائل :

وكل قرن ناجم في زمن

فهو شبيه زمن فيه بدا

وأقام بصنعاء أياما ثم سار إلى حراز ، فلقيته عنس وبكيل على بركة ضاف (١) ، فسار الى الهان وأقام بها سبعة أيام ثم انتقل الى ذمار ، وأمر بعمارة حصن هران (٢).

ودخلت سنة ٤١٩ فيها هرع المعيد إلى مخلاف جعفر ، ومعه صاحب حصن كحلان والمنصور بن ابي الفتوح ، فأقام بإب وانقاد له أهل المخلاف إلّا ابن مكرمان فإنه استدعى عسكر القائد مرجان (٣) الحبشي فأقاموا إلى سنة ٤٢ ، وفسد ما بين النّاعطي ومنصور وابن أبي حاشد ، فتفرقوا ورجع ابن أبي حاشد ، وابن أبي الفتوح الى طاعة القائد مرجان ، وكان سلطان الحبشة أمير زبيد قد امتد إلى بلاد الزيدية في ذلك التاريخ ، كما سبقت الإشارة إليه ، ولم تبق غير الجهة الشّمالية فإنها كانت بيد الأشراف ، وأما المعيد فإنه رجع إلى هران بمراسلة من عنس ، وما عتمت ان تآمرت عليه بعض قبائل عنس وقتلته في ذي الحجة سنة ٤٢١.

وفي تاريخ مسلم (٤) اللحجي ان المعيد دخل صنعاء في عشرة آلاف من همدان ، وأهل اليمن فيهم السلطان يحيى بن أبي حاشد بن الضّحاك

__________________

(١) قرية عامرة في قاع جهران.

(٢) انباء الزمن والخزرجي (ص).

(٣) هذه رواية الخزرجي وهي تخالف ما سبق فإن القائد مرجان قتل سنة ٤١٢ كما ذكره الدّيبع في قرة العيون والخزرجي أيضا في غير هذا المكان في الفصل المخصوص بالدّ ولد الحبشية باليمن : وأمّا صاحب أنباء الزمن فإنه قال في سنة ٤١٩ وما بعدها إلى سنة ٤٢١ لم يتفق فيها غير ما تقدم ، ولكنه أفاد في سنة ٤٢٢ ان مخلاف الهان تحت نفوذ القائد مرجان ، وهو غير صحيح فراجع ما تقدم (ص).

(٤) نقل هذه الشرفي في اللآلىء.

٢٢١

الهمداني ، وهو يومئذ زعيم همدان قال : ولما أقبل المعيد يريد صنعاء تلقّته همدان إلى بعض الطّريق ، ثم أتوا القاضي تبع بن المسّلم القاضي بجوب (١) ، قال : وهو علّامة همدان وأحد شيوخ الزّيديّة ، فقالوا له : اخرج معنا إلى هذا الرّجل فانظر لنا ما عنده ، فإن كان إماما طاعنّا بين يديه بالرماح ، فقال : لست آتيه ولكني أكتب لكم مسائل فإن أجاب عنها فهو عالم ، وان عجز عن جوابها فليس كذلك ، ففعل ودفع إليهم دواة واوراقا ، فلما أتوا إلى المعيد ووقف على المسائل اعتذر بعدم وجود الورق ، فقالوا : معنا الورق ، قال لا بد من دواة ، فقالوا : وهذه الدّواة ، ودفعوها إليه ، فقال : هذه سمّاقيات (٢) تبّع (٣) ، والله لئن ظفرت به لأخرجن لسانه من قفاه ، قال فكان تبعّ منه خائفا

وفي هذه السّنة اشتد القحط باليمن ومات كثير من النّاس وخلت بلاد كثيرة من أهلها واستمر القحط الى سنة ٤٢٢.

وفيها كانت الفتنة بين الشيعة والسنيّة ، وصنعاء خالية عن السلطان إلا لبني مروان (٤) بعض الأمر ، وولاية الهان ومقرا إليهم من تحت يد القائد (مرجان) (٥) ولصاحب مسور حسين بن المنتاب بعض منازعة ودام الحال كذلك إلى سنة ٤٢٦ ، وفيها ظهر الإمام ابو هاشم النفس الزكية.

الإمام ابو هاشم النفس الزكية

الحسن بن عبد الرحمن بن يحيى بن عبد الله بن الحسين بن القاسم بن

__________________

(١) موضع يقع جنوب ريدة وشمال عمران وهو إلى ريدة أقرب.

(٢) اي كذب خالص.

(٣) يعني تبعا بن المسلم السابق ذكره.

(٤) هكذا في الخزرجي وأنباء الزمن واللآلىء المضيئة ، ولم نعثر لأي مؤرخ من هؤلاء ولا غيرهم على شيء عن هذه الأسرة وكيف ملكت صنعاء ومن أين أتت إليها.

(٥) في اللآلىء والخزرجي : وولاية مقرا والهان إليهم من يد تحت يد القائد فقط ، وزاد صاحب أنباء الزمن لفظة (مرجان) وهو غير سديد فتأمل (ص).

٢٢٢

ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام ، قدم من الشّام ومعه حمزة ومحمد فقصد صنعاء ووصله المنصور ابن أبي الفتوح فبايعه ، ورجع إلى بلدته قال الخزرجي (١) واستقوت الشيعة على السنية وعزل القاضي النقوي وكان سنيّا وأقام الإمام الى سنة ٤٢٩ ، ثم خالفت عليه حمدان ودخل ابن أبي حاشد صنعاء ثم خرج وتعطلت عن الإمارة الى سنة ٤٣١ ، وقال في انباء الزمن (٢) : ولبث الإمام مدة يسيرة ثم عارضه حسين بن مروان وما برح الاختلاف إلى سنة ٤٢٩ ، ودخلت سنة ٤٣٠ فيها تعطلت صنعاء من الإمارة الى سنة ٤٣١ واستدعت همدان جعفر بن الإمام فدخل صنعاء في شهر ربيع من السنة فافترقت عليه همدان وعلى ابن أبي حاشد ، وكان الاكثر مع ابن أبي حاشد فخرج جعفر من صنعاء منهزما وسار ابن أبي الفتوح إلى مخلاف جعفر للقاء ابن الكرندي ، وعبد الله بن يعفر فأقام معهما إلى شهر ربيع الآخر ، ثم عاد فقوي به أمر ابن أبي حاشد ثم فسد الحال بينهما (٣) ، وهرب ابن أبي حاشد من صنعاء وجمع جموعا وجاءه ابن سلمة الشّهابي ، فقصد ابن أبي الفتوح الى السر (فتراكزوا) فيها وقتل ابن عم لابن أبي الفتوح ، واستدعت همدان جعفر بن الإمام إلى صنعاء بأمر ابن أبي حاشد ، وكان ابن أبي الفتوح بعلب (٤) وابن أبي حاشد ببيت بوس فأقاموا كذلك مدة وجعفر ابن الإمام بصنعاء تارة يجبي الأموال ، وتارة يضعف عن ذلك ثم ان ابن أبي حاشد كره مقام جعفر بصنعاء فعامل عليه من أخرجه منها ، فسار الى ابن ابي الفتوح ، واستدعى ابن أبي حاشد الإمام أبا هاشم النفس الزكية ، فدخل صنعاء ثاني خروج جعفر عنها ، فأقام الإمام بها ثمانية أيام ، وولّى على البلاد واليا ،

__________________

(١) العسجد المسبوك من ٩٩

(٢) غاية الأماني ص ٢٤٤

(٣) انباء الزمن والخزرجي واللآلىء المضيئة وقرة العيون

(٤) قرية في سفح جبل نقم جنوبية على بعد ٤ ك. م

٢٢٣

وخرج إلى ريدة وسار منها إلى ناعط ، ومات فيه ، وقبره هنالك مشهور مزور ، وكانت وفاته سنة ٤٣٣.

وذكر صاحب الحدائق الوردية (١) أنه أقام بصنعاء من ثالث شعبان إلى نصف شهر رمضان ثم خرج لفساد من عارضه وهو الحسين بن مروان ، وأقام عنها مدة ، ثم حلفت له همدان سوى بني حماد في المحرم سنة ٤٣٣ ، فدخل صنعاء يوم الأربعاء لثمان عشرة من الشّهر المذكور ، فأقام بها ثمانية ايام ، وولّى فيها واليا ، وخرج إلى ريدة وأقام أمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر حتى توفاه الله حميدا وقبضه إليه سعيدا.

وقد أورد (صاحب الحدائق) كتابا للإمام ابي هاشم أرسله من ناعط الى صعده سنة ٤١٨ ، وهو كتاب دعوته ضمنه كثيرا من المسائل الدينية والسياسية والادارية ، تناول فيه واجبات الخليفة ، ثم القضاة ، وكيف يجب ان يكون سلوكهم ، وعلى أي اسلوب يقضون فيما اشتبه عليهم من الحوادث الاجتماعية التي لا دليل عليها ، ثم بين واجبات القوّاد وأمراء الجيوش ، وآدابهم الدينية والسياسية ، وكيف يلزم ان يعوّد الأمراء والقائد نفسه وجيشه في الحرب والسلم ، وغير ذلك والكتاب طويل جدا ذكر فيه جميع طبقات الأمّة ، وأشار إلى سياسة كل طبقة وإداراتها ، أورده بكماله الفقيه حميد الشهيد في حدائقه الوردية (٢) فليرجع إليه من شاء.

ولم تزل الحروب والفتن بين ابن أبي حاشد وابن ابي الفتوح مستمرة وصنعاء خالية عن السلطة إلى سنة ٤٣٦.

الإمام أبو الفتح الديلمي

فيها وصل الإمام النّاصر لدين الله ابو الفتح الحسن بن ناصر بن

__________________

(١) الحدائق الوردية ج ٢ ص ٩٠.

(٢) انظر في صفحة ٩١ من الكتاب المذكور.

٢٢٤

محمد بن عيسى بن محمد بن عبد الله بن احمد بن عبد الله بن علي بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن ابي طالب عليه السلام ، من بلاد الدّيلم إلى اليمن ، فجمع العساكر ، ودخل صعدة ، فنهبها وأخرب دورا بها ، وقتل من خولان بمجز مقتلة عظيمة ورجع في ذي القعدة فدخل صنعاء واستعمل عليها رجل من ولد الزّيدي وكان قد دخلها قبله ابن أبي الفتوح وابن أبي حاشد فنصرته الشيعة على السنيّة ، وانتقل الإمام إلى ذيبين فأقام فيه بقيّة هذه السنة ، وهو أول من اختط ظفار.

ودخلت سنة ٤٣٨ فيها خرج الإمام من ذيبين إلى حذّان أسفل وادي السّر ، ثم سار إلى علب ، واستقام له الأمر ، ووصل ابن أبي الفتوح ، وعمر له في علب قصرا بالجصّ والآجر واستقر فيه ، وكتب له ابن أبي الفتوح إلى عنس فأقبل من رؤوسائهم مائة فارس فدخلوا في طاعة الإمام وبايعوه واستدعى له جعفر ابن الامام القاسم ، وجعله أمير الأمراء ، وصرف له ربع ما حصل للإمام ، ثم فسد الأمر بينهما ولم يتم ، وتمالا جعفر بن الإمام وابن أبي حاشد على حرب الإمام أبي الفتح ، وخرج من صنعاء فأمر الإمام بخراب دور بني الحارث ، ودور بني مروان فغضب ابن أبي الفتوح وابن أبي حاشد لذلك ، ودخلا صنعاء فرفعا أيدي ولاة الإمام ، وطردا الشّيعة من الجامع ومكّنا منه أهل السنة وقطعا إسم الإمام من الخطبة فخرج الإمام من علب إلى الجوف ، ثم رجع إلى بلاد عنس ، ووصل الأمير جعفر صنعاء ، فأقاموا فيها مدة ، وتوفي السلطان يحيى بن أبي حاشد أول سنة ٤٤٠ ، ووصل المنصور بن أبي الفتوح في مائة فارس معزّيا فيه إلى همدان ، فأقام النّاس ابنه أبا حاشد ، وحلفت له همدان ، هكذا رواية الخزرجي (١) وصاحب أنباء الزمن (٢) والديبع في قرة (٣)

__________________

(١) العسجد ٥٤.

(٢) غاية الأماني ٢٤٦.

(٣) قرة العيون ٢٤١.

٢٢٥

العيون والشرقي في لآلية لهذه سلسلة الحوادث والله أعلم.

قيام علي بن محمد الصليحي وأخباره

قال الخزرجي : أجمع علماء التاريخ ورواة الأخبار من أهل اليمن أن القاضي محمد الصليحي ، والد الأمير علي بن محمد الصليحي كان فقيها عالما سني المذهب وكان قاضيا في بلده حسن السيرة مرضي الطريقة ، وكان أهله وجماعته يطيعونه ولا يخرجون عن أمره ، وكان الدّاعي عامر بن عبد الله الزواحي يلوذ به ، ويركن إليه كثيرا لرياسته وسؤدده ، وصلاحه وعلمه فرأى يوما ولده عليا فلاحت له فيه فحائل النجابة وكان يومئذ دون البلوغ ، فكان الداعي عامر بن عبد الله الزّواحي كل ما وصل الى القاضي يتحدث مع ولده على المذكور ، ويخلو به ويطلعه على ما عنده حتى استماله وغرس في قلبه ما غرس من علومه وأدبه ومحبّة مذهبه ، وقيل بل رأى حلية الصّليحي في كتاب الصّور وهو من الكتب القديمة فأوقفه على ما فيه سرّا ، فلما حضرت الدّاعي الوفاة أوصى بجميع كتبه ، وما جمعه من أموال الدّعاية لعلي بن محمد الصليحي فعكف على دراسة تلك الكتب ، وكان ذكيّا فلم يبلغ الحلم حتى تضلّع في معارفه التي بلغ فيها ، وكان فقيها في مذهب الإمامية ، ثم صار يحجّ بالناس دليلا على طريق السّراة ، ولم يزل كذلك نحوا من خمس عشرة سنة ، وكان النّاس يقولون له : بلغنا إنك ستملك اليمن بأسره ، فينكر ذلك على من يقوله مع كونه قد اشتهر على السنة الخاصة والعامة ، فلما كان في سنة ٤٢٩ ثار الصّليحي في رأس جبل مسار ومعه ستون رجلا قد حالفهم على الموت أو الظّفر ، وأخذ في البناء في قلته (١) من بعد طلوع الشمس ذلك اليوم ، فاجتمعت قبائل حراز واستنكروا فعله ، وحاولوا منعه والضرب على يده ، فقدر بكمال دربته وحنكته على استمالتهم وصرفهم عما كانوا متجهين

__________________

(١) رأس الجبل.

٢٢٦

إليه ، وانصرفت تلك القبائل ، ولم يمض عليه شهرا إلّا وقد بناه وحصّنه ، وجعل امره يظهر شيئا فشيئا حتى استفحل امره ووصلته الشّيعة من أنحاء اليمن وجمعوا له أموالا جليلة ، وأظهر الدعوة للمنتصر بالله معد بن الظاهر العبيدي ، فلما ظهر بمسار ، وكان معه فيه من سنحان ويام وجشم وغيرهم ، نهض لحربه أحد رؤساء حراز جعفر بن العباس شافعي المذهب ، وكان مجابا في مغارب اليمن ، وجعفر بن الإمام القاسم جمعوا القبائل وقصدوه ، فلم يجد الصّليحي بدّا من المقاومة والدّفاع وأوقع جعفر بن العباس في محطته فقتله في شعبان من السنة ، وقتل من أصحابه جمعا كثيرا ، فتفرّق الناس عنه ، ثم طلع جبل حضور فاستفتحه ، وأخذ حصن يناع فجمع له ابن أبي حاشد جمعا فالتقوا بصوف وهي قرية من حضور بني شهاب ، فقتل ابن أبي حاشد ، وقتل معه ألف رجل من أصحابه ، وبهذه الوقعة يضرب المثل في اليمن ، ثم سار الصّليحي إلى صنعاء فملكها وطوى اليمن طيّا ، سهله ووعره وبره وبحره ، وهذا شيء لم يعهد مثله في جاهلية ولا اسلام هذه رواية الخزرجي بالفظه تقريبا (١) ، وقد اعتبر قيام الصّليحي سنة ٤٢٩ وهو يخالف ما في كتابه في غير هذا الموضع فراجع ما نقلناه عنه في حوادث سنة ٤٢٩ وما بعدها إلى سنة ٤٤٠ تجد صنعاء وما جاورها تختلف عليها الولاة والمتغلّبين وقد تخلوا عن السلطة البتة ، ونقل الديبع في قرة العيون (٢) ، خبر ظهور الصّليحي على الأسلوب المتقدّم نقلا عن الخزرجي إلّا أنه قال فلما كانت سنة ٤٣٩ ثار في رأس جبل مسار ومعه ستون رجلا الخ ولا ندري هل اختلاف التاريخ بين ما في تأريخ الخزرجي وبين ما في قرة العيون من تصحيف الكاتب في الأم التي نقلنا عنها أم هو الأصل ، وما أكثر التّصحيف

__________________

(١) تصرفنا بعض تصرف مع المحافظة على معنى الأصل لعدم وضوح بعض الكلمات في النسخة التي نستقى منها ابحاثنا (ص).

(٢) قرة العيون ج ١ ص ٢٤٤.

٢٢٧

والتحريف بل المسخ في المصادر التي استقينا منها أخبار هذا القسم ولعمري ان تفهم القلم المسماري وحل رموز المسند أقرب إلى الفهم من تحريف النّاسخ وسوء فهم الماسخ لتلك الأسفار وفي انباء الزمن (١) ما لفظه : ودخلت سنة ٤٣٩ فيها ثار علي بن محمد الصليحي في مسار من أعمال حراز ، فملك اليمن جميعة من مكة إلى عدن في أقرب زمن وسيرته مشهورة وأخباره مذكورة انتهى.

وفي اللآلىء المضيئة نقلا عن مسلم اللحجي قال : ولما حضرت الوفاة سليمان (٢) بن عبد الله الزواحي ، سلم أمر الدعوة (العبيدية) الى علي بن محمد الصّليحي فوثب ، على قلعة مسار فأخذها ، ثم فتح حصون اليمن وقلاعها ومدنها ومخاليفها ، وقتل رجالها ، واسر ملوكها ولما انتهى هو ومن سبق إلى نصرته من همدان الحجاز وجنب (٣) وسنحان (٤) ونهد (٥) ، الى أعلى جبل حضور (٦) ، وكان ملك صنعاء وأعمالها إلى همدان البون ورئيسهم ابو حاشد (٧) بن يحيى بن أبي حاشد بن الضحاك ، وأنهم حشدوا في لقائه حتى اجتمعوا بسهمان (٨) فهموا بالتقدم إليه الى الجبل ، أو بعض المواضع منه نحو قاع بيت حدد فقال لهم رجل من الحمادّيين يقال له حتروش ، وكان من أشراق همدان لا أراكم أن تفارقوا مواضعكم ، وان هبط اليكم القوم اخذتهم

__________________

(١) غاية الأماني ص ٢٤٧.

(٢) سيق عن الخزرجي ان هذا الداعية العبيدي اسمه عامر (ص).

(٣) جنب : من قبائل مذحج وهم ولد يزيد بن حرب مواطنها هران ذمار وغيرها.

(٤) قبيلة مشهورة ممتدة من قاع صنعاء الى ما عاود حولان العالية.

(٥) قبيلة من قضاعة معروفة.

(٦) حضور : جبل شامخ غربي صنعاء لمسافة ١٨ ك. م

(٧) هذا يؤيد ان ظهور الصليحي حوالي سنة ٤٤٠ فان وفاة السلطان يحيى بن أبي حاشد وقيام ولده ابو حاشد هذا كان سنة ٤٠ كما تقدم.

(٨) سهمان : قاع بالغرب من صنعاء.

٢٢٨

الخيل في هذا القاع ، وان وقفوا كنتم اصبر فأبوا إلّا التقدم ، فلما صاروا بوادي صوف ، اغتنم الصليحي وأصحابه الفرصة في ذلك فقتلهم هنالك ، وذكروا ان عدة من قتل منهم ألف قتيل منهم سلطانهم ابو حاشد بن يحيى ، وكان حتروش حين تقدموا تأخر هو إلى صنعاء فأمّنه الصليحي وأكرمه واتخذه جليسا ، وكانت قبائل اليمن ذلك الزمان كثيرة العدّ والعدد والخيل والسلاح.

قال مسلّم اللحجي : أخبرني مسعود قال أدركت همدان قبل خروج علي بن محمد الصليحي ودعوته وهم ألف فارس في صنعاء والبون وأعمالهما غير وادعة وبكيل ويام وحجور ، وأدركت عنسا وهم ألف فارس أيضا وبني الحارث بالرحبة وهم خمسمائة فارس ، والأبناء وفيهم ثلاثمائة فارس أو قال خمسمائة أو نحو ذلك ، وقال : وكان ابن الأشجب ، أو قال : الأشجب ملك مسور ولاعة ، وهو من آل المنتاب يأخذ الأتاوة من ملك تهامة كل عام ، فاذا حال الحول بعث لرؤساء همدان من يأتيه بهم ، الى بيت الحراني بناحية مسور ، ثم كتب إلى ملك زبيد ان همدان وحمير قد أتوار لجوائزهم ، فإن اتتهم وإلّا اتوك فيبعث إليهم الأموال ، فيعطيهم منها ويكسوهم فينصرفون ، فلما ملكهم الصليحي ، أذل عزّهم وقتل سراتهم ، وأشرافهم ، وأوطا نخوتهم ، وأخذ الأنفس والأموال واستعبد الذرية والأطفال انتهى (١).

وفي سيرة الامير ذي الشرفين لكاتبها مفرج بن أحمد (٢) قال : لما كان في

__________________

(١) لم نجد ما يؤيد رواية مسلم هذه بل الحال كانت على العكس فإن أحوال بلاد الجبال كانت مضطربة حتى كان نفوذ أمراء الحبشة يتغلغل في صميمها كما أشرنا إليه في حوادث سنة ٤٢٠ وما بعدها ، ولم نقف على اسم الأشجب هذا فرضا عن عظمته المزعومة التي استطاع بها أن يهيمن على همدان وحمير ويضرب الاتاوة على ملوك زبيد ومن العجائب ان هذا المؤرخ عاش حوالي القرن الخامس وكان من السهل عليه تمحيص الأخبار وتحقيقها ولا سيما فيما يتعلّق بالزمن القريب منه.

(٢) هو مفرج بن احمد الربعي من علماء القرن الخامس له سيرة الأمير ذي الشرفين منها نسخة خطية بجامع صنعاء.

٢٢٩

غيبة إمام العصر ، وصاحب الدّهر المهدي لدين الله الحسين بن القاسم بقي النّاس في فتن وزلازل وظلمة ومحن في سنة ٤٠٤ إلى سنة ٤٣٧ ، وفيها خرج عدوّ الله علي بن محمد الصليحي متوجّها إلى الحرم ودعا إلى مذهب الإسماعيلية بالحجاز وسلك نجدا في مبتداه وتهامة في منتهاه ، وأجابه إلى ذلك طوائف من حراز وغيره ، وطلع في رأس الحول من قابل إلى جبل مسار ، وذكر خبر اجتماع قبائل حراز واستنكارهم ، ثم إقناعهم وقيام قبائل المغرب تحت رياسة جعفر بن العباس لحرب الصليحي وانهزامهم ، ثم أورد ما خلاصته : ان الرّؤساء من همدان وحمير والاحبوب والمغرب اجتمعوا في بيت معدى كرب ، وحضر معهم الأمير جعفر بن الإمام القاسم وولده عبد الله جعفر وانتدبوا الثاني لقتال الصليحي واختاروا ان تكون الحيمة ميدان حربهم وكفاحهم ، وكان في المحارم من عزلة الحدب ، ولما ألتقى الجمعان ، وتنازل الفريقان كتب النصر للصليحي وخذلت القبائل ، وسقط الأمير عبد الله بن جعفر أسيرا في أيدي القوم. وحمل إلى مسار ثم منّ عليه الصّليحي بعد أن استحلفه وأكّد عليه المواثيق ألّا يعود إلى الخروج عليه ، ثم اجتمعت القبائل والرؤساء مرة ثانية وقرّ رأيهم على إرسال حملة أخرى تحت رياسة الأمير جعفر بن القاسم ، فنهض الأمير إلى صيد البراد ، وهنالك التقى الجمعان فانهزم أصحاب الأمير جعفر بعد قتل مستمر ووقع الامير أسيرا في أيدي القوم فنقلوه إلى مسار ، ثم أن الصليحي أطلعه وخلّى شأنه بعد أن واثقه على ان لا ينصب له حربا ، ولا يقاتل له حزبا (١) ودخلت سنة ٤٤١ فيها هاجت ريح شديدة في شبام حمير فاقتلعت شجر البرقوق واحتملت الكلاب حتى سمع نباحها في الجو ، وهدمت دورا ومساجد فسبحان القادر.

__________________

(١) راجع سيرة ذي الشرفين وهو يخالف ما سبق عمله الخزرجي وما في أنباء الزمن من ان الامير جعفر اشترك في المعركة التي كانت بين الصليحي وجعفر بن العباس فتأمّل (ص).

٢٣٠

ودخلت سنة ٤٤٤ فيها سار الإمام أبو الفتح الى عنس فقصده الصّليحي ، فقتله في نيّف وسبعين نفرا من أصحابه في نجد الحاج (١) ودفنوا جميعا في محل واحد برومان في بلد عنس وقبورهم هنالك مشهورة رحمهم الله (٢) قال في أنباء الزمن بعد هذه الحادثة : ودخلت سنة ٤٤٥ الى سنة ٤٤٨ لم يتفق فيهن ما ينبغي ذكره.

فلنرجع الى سيرة ذي الشرفين ، ودخلت سنة ٤٤٤ فيها طلع الصليحي إلى يناع ، وأوقع بالأحبوب وأهل الجبل في يناعة (٣) وظافره أبو الحسين بن مهلهل بن جناح وصعد إلى بيت خولان وطارت الأنباء بهذه الحوادث ، فارتاع لها النّاس ، وفزعت حمير وهمدان وخولان ، وبني الحارث إلى الرئيس حاشد بن يحيى ، وأجمع رأيهم على الصّمود إلى البقاع التي احتلّها الصليحي لإنقاذها والضرب على يده فهرعت جموع كثيرة تحت قيادة أبي حاشد بن يحيى وفي قرية يازل (٤) التقى الفريقان ، ودارت بينهما معركة من أحمى المعارك وطيسا ، سقط فيها أبو حاشد بن يحيى قتيلا وقتل غيره من رؤساء القبائل وسلاطينها وباء العسكر الصليحي بالغنائم الوفيرة ، من خيل وسلاح وعدد ورماح ، وبهذه الحادثة التي قضى فيها على كثير من رؤساء القبائل والعشائر التي لا يستهان بها وبشجاعتها ، طار ذكر الصّليحي واستفحل أمره ، ووجفت فرقا منه القلوب واستكانت له كثير من الرؤوس ، ووافته الأمور ، وانقاد له الحرون ، وتعبّدت أمامه طرق القلب والإستيلاء ، ونهض إلى تهامة ليفتحها ، لما كان يخافه من آل نجاح واهتبالهم الغرّة في اثناء حروبه مع قبائل المشرق فينقضوا على حراز مبعث دعوته ، ومنبع قوته ، فتم

__________________

(١) نجد الجاح بالعرب من رداع ولا يزال مشهده قائما إلى الآن.

(٢) انباء الزمن وسيأتي خلافه.

(٣) يناعه بلد وواد من ناحية خارف قضاء خمر

(٤) من قرى بني مطر في عزله بني سوار على الطريق الغربية لصنعاء.

٢٣١

له فتح تهامة (١) وبعد تلك الحادثة التي أمضّت قلوب كثير من القبائل دبّر الناس الحيلة ، وتشاوروا ، وأجمعوا على مناجزة الصليحي ومقاومته ، وفي مقدمتهم الشريف الفاضل القاسم بن جعفر والإمام حمزة بن أبي هاشم ، وتحمّس النّاس واستعدوا ، واتصلت الأنباء بالصليحي فكتب إلى الشريف القاسم كتابا يقول فيه : أما بعد فان الله لو أراد للنّملة صلاحا لما جعل لها جناحا ، وأفاض في الوعيد والتهديد ، وذّيله بأبيات منها :

هذا اليقين وخيل الحق مقبلة

تحثّ في نقعها جرى السراحين (٢)

هناك لا تنفع الرسّى (٣) ندامته

وعض إبهامه في الوقت والحين

فيال همدان لا يغرركم طمع

الى الغرور حبالات الشياطين

الخ ..

فأجاب عليه الشريف الفاضل بكلام طويل منه : وقفنا على كتاب رجل قد طما في بحر الغرور وعلا في أسفل الأمور ، يخبط العشوى في تجبره ، ويمشي الخيلا بتكبره ، إلى أن قال : فلا يغره يازل وما قتل فيه من فارس وراجل ، فأنها امنيّة خدعتهم ، وعددهم فاجأهم ، فلو تأهبوا لقتاله ، وأخذه ونزاله ، لضاق به الفجاج ، وكثر منه الإرتجاج ، وهم الآن قد أصلحوا السلاح ، وثقفوا الرماح واثقين بإزالة الدولة عنه للبراهين التي قد لاحت ، وللأمور التي قد أتى وقتها وفاحت ، لما أتى في محكم التنزيل ، وفسره أمير المؤمنين ، فالأمر صائر إلى أربابه حقّا ، والفرع عائد الى نصابه صدقا ، وكتب أبياتا يقول فيها :

هذي اليقين واللاي عز الديني

ليس الوعيد ولا الارجاف يثنيني

__________________

(١) سيأتي ان فتح تهامة انما تم بعد قتل الأمير نجاح بالسم الذي دسّه إليه الصليحي سنة ٤٥٢ كما سيأتي (ص).

(٢) جمع سرحان : وهو الذئب.

(٣) يعني به القاسم بن جعفر الغياني.

٢٣٢

عزمي وثيق وقلبي مرتعب

إذا ألمّ نواميس الدهاقين (١)

لا بد من وقعة مني تظل بها

اشلاؤكم فرقا بين السراحين

ومنها :

وان همدان لا تغضي على قذأ

ولا تلاقيه إلّا في الميادين

بكل أجر وسبّاح وسابحة

على مناكبها شم العرانين

عزم الشريف الفاضل الى صعدة وطلوع الصليحي من تهامة

لم يهمل الشريف الفاضل فرصة غياب الصليحي عن البلاد واشتغاله بتهامة فأخذ يهدم الحصون التي بناها علي بن محمد في بني الحذيفي في الحيمة وفي البون وغيرها ، وأصبح يولّي الولاة ويطوف في النّواحي التي هي فارغة ، ثم انه قصد صعدة ، وطلع الصليحي من زبيد إلى صنعاء ولما شاعت الأخبار بطلوع الصليحي صنعاء رجع الشريف الفاضل من صعدة إلى البون ولقيه هزيم أهل صنعاء في البون ، وعرف ان اكثر الناس الذين كانوا يحضّونه منضمين إلى حزبه قد تخلوا عنه واستمالهم الصّليحي بالمال ثم انه حض الناس على الخروج لحرب الصّليحي ، فخرج معه خمسمائة نفر أمرّ عليهم أخاه الحسين بن جعفر وابن عمه عيسى ، وساروا إلى صنعاء ، ولما قرب تفرق أصحاب الحسن وبقي في نفر قليل وتقدّم الصليحي الى بيت خولان ثم تقدم إلى صنعاء فدخلها ليومين خاليين من ذي القعدة سنة ٤٤٧ وكان الشريف ، قد خرج عنها في نفر قليل ، وفيها سار الشريف الفاضل الى بلد بني صريم ووصلت خيل الصليحي الى عجيب.

ودخلت سنة ٤٤٨ في المحرم منها تفرقت رؤساء همدان منهم سلامة بن الضحاك وعلي بن ذعقان وغيرهما من الرؤساء في بني صريم وبني الدعام وجمعوا العساكر من حاشد وبكيل ، واستنهضوا الشريف الفاضل ،

__________________

(١) جمع دهقان : زعيم فلاحي العجم.

٢٣٣

فلم يجد بدّا من النهوض معهم ، وهو كاره لذلك ، وتحكموا عليه في الحركة والسكون وأصبح معهم لا يبدي (١) ولا يعيد ، ولقد سأله سائل في تلك المدّة أتقصر الصلاة أم تتم ، فقال : سل على ذعفان دلاله على أنه لا يملك راية في الحلّ والترحال وأنه طوع رأي غيره من الرّؤساء ، وتقدمت رؤساء همدان بمن معها إلى حاز من همدان وزحفت جيوش الصليحي إلى قراتل بجوار حاز ، ولما ألتقى الجمعان ، ولّت همدان ومن معها من القبائل مدبرة وتفرقوا أيدي سبأ ، وكان الشريف الفاضل قال لهم : اغزوا بنا القوم إلى موضعهم فلم يسعدوه ، ثم قال لهم : أتبعوني الخيل إلى صنعاء فلم يتبعوه ، فلما حقّت عليهم الهزيمة ، وطاروا شعاعا ، ثبت الشريف الفاضل في خمسة نفر من أصحابه ، فأبلوا بلاء حسنا ، وفي هذه الوقعة قتل علي بن ذعفان ، وقيس بن وهيب وجماعة من وجوه الناس.

الهرابة وما كان بها من الأحداث

بعد الفشل الذي منيت به القبائل ، والهزيمة التي فرقتهم أيدي سبأ في الوقعة المتقدمة انتقل الشّريف الفاضل ومن رافقه من آله وشيعته ، مثل جشم بن عبد الأعلى بن الدعام ، والرّبيع بن الروية ، وذعفان بن ذعفان ، وعباد بن شهاب صاحب الهجر بالأحبوب وغيرهم ممن يؤثرون هجران أوطانهم ومنازلهم على الرضوخ والاستسلام للصليحي ، واتفق رأيهم على اتخاذ الهرابة (٢) معقلا لهم ، فاجتمع بهذا الموضع نحو ألفي مقاتل ، ومعهم نساءهم وأولادهم ، ولما اتصل بالصّليحي ما فعله الشريف الفاضل وشيعته ، أخذ يرسل الكتائب والسلاهب (٣) ويرمي الهرابة بالقبائل والقنابل (٤) وأحاط بها

__________________

(١) راجع السيرة واللآلىء المضيئة.

(٢) الهرابة حصن في ناحية بلاد وادعة في الظاهر بنواحي حوث (ص).

(٣) جمع سلهب الخيل الطويل على وجه الأرض.

(٤) القنابل : الطائفة من الناس والخيل.

٢٣٤

من كل جوانبها ، وضيّق الحصار عليها سبعين يوما جمادى الأول والآخرة وعشرا من رجب سنة ٤٤٨ ، ونصب المجانيق والعرادات وعظم الحشد إلى تلك البقعة ، حتى كان يخيل للسّامع أن الأرض ترتج وتضطرب ، عند ضرب الجباجب والطّبول ، ونفخ النفاطات (١) والأبواق ، فثبت أصحاب الفاضل ثباتا يدهش اللّب ، وبرهنوا على بسالة وصبر قل أن يتحمّلها إنسان مهما بلغت حماسته ، وعاهدوا الشريف الفاضل على الموت ، وواثقوه على ان لا يخرج من الباب احد أو يهلك دون ذلك ، كلا هذا ومورد ألما بعيد عنهم ، وليس معهم منه إلّا ما كانوا قد احتجنوه واحرزوه ، ولطول المدة نفذ ما معهم من الماء وبلغ الحال إلى أن تقاسموا الماء بالعطبة (٢) ، وطلب رجل شربة ماء على ان يبذل فيها ما يملك ، وكان ما له لا يقل عن ألف دينار ، فلم يجد ، وبذلت إمرأة مائة وعشرين دينارا عوض شربة ماء فلم تجد ذلك ، وكانوا يضعون الدروع الحديدية على صدورهم يتلذّذون ببرد الحديد ، وماتت البهائم والخيل من العطش ، حتى امتلأت حيطان الهرابة بجثثها المنتنة ، وقد كانت السماء تمطر في آنات متباعدة فيتهافتون على الماء يغترفونه ، من بين جثث الموتى ، وجيف الحيوانات ، وربما عثروا على الماء بعد يومين أو ثلاثة في الحفر التي قد أمتلأت بالأشلاء المنتنة ونحوها ، فيأخذون ما يظفرون ، وقد امتزج بالصديد ، وأصبح أسود كأنه القطران ، فيعمدون إلى طبخه بالنّار ثم إلقاء التراب الأبيض عليه ليغير من لونه ، ثم يسدّون أنوفهم ويشربون فلا يكاد يمرّ من الحلق حتى يتقاياه الشارب ويكاد يهلك وربما هلك.

هذا كله والماء غير ممنوع عنهم ، ولا يصدّهم صاد عن وروده والأمان سائد لمن يريد الورود ، ولكن العهد والميثاق الغليظ حال بينهم وبين الخروج من الأبواب وتعديها ، وقد هلكت النساء والصبيان والبهائم في سبيل المحافظة

__________________

(١) اداة من النحاس يرمى بها النفط.

(٢) العطبة : القطعة الصغيرة من القطن.

٢٣٥

على العهد والوفاء به ، وفي هذه المدة وعلى هذا الحال والجيش الصليحي محيط بهم يرجمونهم بالحجارة ، ويرشنونهم بالنّبل ، ويضايقون عليهم أماكنهم ومواضع مرورهم ، لأن الهرابة موضع مطمئن من الأرض ، تحيط به آكام وجبال شاهقة ، فهدمت أكثر حصون الهرابة ، وتعب أكثر الناس من هذه الشدّة والمغامرة ، فخرجوا وخلفوا الشّريف ، ونحو مائة فمن لم تطب نفوسهم بخسران الأجر والثواب ، فآثروا ما هنالك وصبروا حتى داهمتهم الجنود الصليحي وحملت عليهم حملة واحدة وتبادلوا مع من بقي القتال ساعة من النّهار ، وخرج الشّريف عيسى بن عياش إلى الصليحي ، فأكرمه وكساه ، وأعطاه الأمان له ولأهل الحصن ، وعاد إلى الشريف الفاضل ، وعرض عليه ما وصل به من الصّليحي ، فلم يقبل الفاضل ، ثم أنه عرض الأمر على أهله وخواص شيعته ، وبعد أخذ ورد أجمع رأيهم على خروج الشريف الفاضل بنفسه الى الصليحي ، فخرج الفاضل ، ولما قرب من مضرب الصليحي نهض لا ستقباله ماشيا وأكرمه وعظّمه ، وكان الشريف الفاضل ، قد أرسل الشريف عيسى بن عياش إلى مكة للاستنجاد بالشريف شكر ابن أبي الفتوح الحسنى ، وبني حسن فلم ينجده ، فعنّفه الصّليحي على ذلك ، وأمر يقبض ما في دار الشّريف الفاضل من سلاح ، وأطلق له منها عشرة أدراع وعشرة أسياف ، وأطلق بجميع أصحابه سلاحهم ، وما يقدر الواحد أن يحمل هو وحريمه ، وكانت الجنود قد تهافتت على الحصن ، فهرع الصّليحي بنفسه لصونهم ، وأخذ يذود كل من يحاول الفساد ، وأرسل البغال فأخرجت النساء والأطفال على اجمل هيئة وإلى هذه الحادثة أشار صاحب البسامة بقوله :

وفي الهرابة ايام لفاضلنا

وصنوه ذي المعالي خير منتصر

حطّ الصليحي حوليها بعسكره

سبعين يوما وما فيها سوى قطر

ثم ان الفاضل سيّر بالحرم والذرية صنوه ذا الشرفين الى الحضن ، وأمر الصليحي بهدم الهرابة ، ولما راعه من صبر أولئك الرجال حكى عنه أنه

٢٣٦

قال : (لو كان لي مثل رجال الهرابة لدخلت بهم العراق) وقد تسامح مع رجال الهرابة ، فلم يجر على أحد منهم سوء ما عدا الشريف الفاضل فإنه حمله معه إلى صنعاء وجعله في دار خاصة فضيّق عليه الموكّل بحفظه في كل شيء حتى في القوت ، فلما بلغ الصّليحي ذلك نقله دارا أخرى ، وأمر بالترفيه عليه وعدم مضايقته وخصّص له بغلة لركوبه في المراسم الحافلة والأعياد.

عزم الصليحي الى جنوب اليمن ومحاربة آل الكرندي

ودخلت سنة ٤٥٠ في المحرم منها عزم الصّليحي لحرب يعفر بن احمد الكرندي ومنازلته بحصن السوأ (١) وكان لبني الكرندي مخلاف المعافر ومخلاف التعكر ونواحيها ، وآل الكرندي يرجع نسبهم إلى ابيض بن جمال الذي أقطعه النّبي صلى الله وسلم عليه وعلى آله ، جبل الملح ، وقد تقدم ذكر الأبيض بن جمال في الكوائن أيام البعثة.

وقبل مغادرة الصّليحي صنعاء جعل الخيرة للشريف الفاضل بين أن يقيم بدار تعدّله بصنعاء على الرّحب والسعة والإعزاز والإكرام ، وبين ان يلحق بأهله ، وبين ان يرافقه فأختار الثالث وسار معه في هذه السفرة والعناية (٢) واللطف يحفّان به فأقام الصليحي تسعة أشهر في منازلة الكرندي حتى تمكن من القضاء عليه ، ورجع في حافرته (٣) إلى صنعاء عاصمة ملكه ، واتفق ان جاء والد الشريف الفاضل ، وهو الشّريف جعفر بن القاسم ساعيا في صرف ولده ، وتخليصه من اليد الصليحية ، فعرض له المّ أودى بحياته ، وفارق الحياة بصنعاء ، في شهر ذي الحجة من السنة ، وكان رحمه الله يقول : أنا

__________________

(١) عزلة كبيرة من ناحية المواسط واعمال الحجرية.

(٢) هذه مستقاة من سيرة ذي الشرفين واللآلىء المضيئة أيضا (ص).

(٣) يقال رجع في حافرته : اي في طريقه التي جاء منها.

٢٣٧

أكثر من أعطى عمرا من أهل بيتي أنا ابن خمس وثمانين سنة ٤٨٥ ثم تمثل بقول النّابغة الذبياني (واني لأرجو فوق ذلك مظهرا)

فأمر له الصليحي بأكفان رفيعة ، وقطع من الكافون وخرج وأعيان دولته لتشييع جنازته ، وأمر بدفنه في مقابرهم بصنعاء ، ثم ان الصليحي حضّ الشريف الفاضل على زيارة اهله وقرابته ، وحثه على ذلك ليؤنسهم بعد ما لحقهم من وفاة والدهم ومعيلهم الأكبر فلحق به بعد أن أجزل له الصّلاة ، وأمر لجميع من تحت يده بالملابس الفاخرة والصّلاة ، وعرض على الشّريف قضاء حوائجه ، وأجرى له نفقة شهرية تجري على الدّوام ، فأقام الشريف بأهله مدّة مشتغلا بالعبادة ، ثم أنه كتب للصّليحي : نريد المدينة وزيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وعزم نحو الحجاز ، وعاد إلى اليمن بعد قتل الصليحي ، كما سيأتي بيانه أن شاء.

وفي انباء الزمن ما لفظه : ودخلت سنة ٤٤٩ فيها سار الصّليحي لقتال آل الكرندي ، وسار الفاضل صحبته حتى وصل زبيد (١) ، ثم عزم على التوجّه للحج فأذن له الصّليحي ، وسار مع أخوه ذو الشرفين محمد بن جعفر في نفر قليل حتى أنتهيا إلى بلاد خثعم بعد مشقات شديدة ، وأهوال عديدة ، ولما استقرّا في بلاد خثعم تزوّجا فيها ، وأقاما مدة ، ثم طلّق الفاضل زوجته ، وسار إلى مكة فمكث فيها سبع سنين ، ثم همّ بالمسير إلى الكوفة فبلغه قتل علي بن محمد الصليحي في المهجم ، كما سيأتي ذكره ، ووردت عليه كتب من اليمن مخبرة بقيام حمزة بن أبي هاشم وان الوصول متحتّم عليه لمناصرته فرجع إلى اليمن (٢).

__________________

(١) قد سبق نقلا عن سيرة ذي الشرفين في حوادث سنة ٤٤٤ ان الصليحي غزا تهامة في ذلك التاريخ وهذا صاحب أنباء الزمن يقول انه دخل زبيد في هذه السنة والخزرجي يقول انه طوى اليمن سهله ووعره إلى آخر ما نقلناه عنه في سنة ٤٢٩ وبعد كل ذلك سيأتي عنهم ما يخالف الرواية الأولى فتأمل (ص).

(٢) انظر غاية الأماني ص ٣٥٢.

٢٣٨

ودخلت سنة ٤٥٠ لم يتفق فيها ولا في التي تليها ما يوجب الذّكر.

ودخلت سنة ٤٥٢ فيها مات الأمير الحبشي نجاح مولى (١) مرجان بمدينة الكدرا ، من الأعمال التهامية ، مسموما سمّه علي بن محمد الصليحي على يد جارية أهداها الصليحي إلى الحبشي ، وكان الصّليحي بعد أن استولى على صنعاء ، وأخرج منها همدان وشرع نفوذه يمتد خاف من نجاح لعلمه بعجزه عن مقاومته ، وجعل يفكر في ذلك ، فدله تفكيره إلى الغدر وذبح الوجدان في سبيل المجد المزيف ، وجعل سبيل التنفيذ الجارية المهداة فانه زوّدها السّم ، وأمرها بقتل مولاها الجديد. ولما بلغ الصليحي موت نجاح انقض على فريسته ، وبادر إلى زبيد فأزال بني نجاح عنها ، وهم سعيد وجياش ومعارك والذخيرة ومنصور ، وكان معارك أكبرهم فقتل فنسه وهرب سائر إخوته إلى جزيرة دهلك ، وكان منهم ما ستراه قريبا.

ودخلت سنة ٤٥٣ فيها كسفت الشمس كسوفا عظيما حتى (٢) ذهب جميع جرمها وأظلم النهار ، حتى ظهرت الكواكب وسقطت الطيور.

وفيها كتب الصليحي الى المستنصر العبيدي يستأذنه في إظهار (٣) الدّعوة ووجّه إليه بهديّة جليلة منها سبعون سيفا قوائمها من عقيق فقبل المستنصر هديّته وجاد عليه بهذه الألقاب (٤) الفخمة الملك السلطان الأجل الأوحد ، سيف الإمام المظفر ، نظام المؤمنين علي بن محمد الصليحي ، وولّى أخا زوجته أسعد بن شهاب مدينة زبيد ، وامتد نفوذه إلى جزائر البحر الأحمر وأمر أخاه محمد بن علي بأختطاط مدينة النهر ذي جبلة قال الخزرجي : (٥) ولما

__________________

(١) الخزرجي وقرة العيون وأنباء الزمن (ص).

(٢) انباء الزمن (ص).

(٣) الخزرجي وقرة العيون (ص).

(٤) نزهة الأخبار للداعي ادريس (ص).

(٥) العسجد المسبوك ص ٥٧.

٢٣٩

وصل له الأذى (من إمامه المستنصر بنشر الدعوة) وقد توفي نجاح في التاريخ المذكور آنفا سار الصليحي إلى التهائم فأفتتحها ولم تخرج سنة ٤٥٥ ، إلّا وقد استولى على كافة قطر اليمن من مكة إلى حضر موت سهله وجبله ، وتمنّعت عليه صعدة بعض التمّنع بأولاد الناصر ، ثم قتل القائم فيهم وملكها ، واستقر ملكه في صنعاء وأخذ معه ملوك اليمن الذين أزال ملكهم وأسكنهم معه واختط في صنعاء عدة قصور ، وحلف ان لا يولّي تهامة إلّا من حمل له مائة الف دينار ، ثم ندم على يمنة وأراد أن يوليها صهره ، سعد بن شهاب صنو أسماء بنت شهاب والدة المكرم فحملت اسماء عن اخيها المبلغ المذكور ، فقال لها الصليحي : يا مولاتنا أنّا لك هذا ، قالت : هو من عند الله ان الله يرزق من يشاء بغير حساب ، فتبسم الصليحي ، وعرف انه من ماله وخزانته ، فقبضه وقال : هذه بضاعتنا ردّت إلينا ، فقالت اسماء : وغير اهلنا ونحفظ أخانا فولّاه التّهائم ، ودخل أسعد بن شهاب زبيد في سنة ٤٥٦ وأحسن السّيرة في كافة الرّعية ، وأذن لأهل السّنة في إظهار مذهبهم ، فكان يحمل الى الصليحي بعد اخراج أرزاق الجند (١) في كل سنة ألف ألف دينار ، وعامل الحبشة ، ومن يتهم بالدّولة النجاحية بالإحسان والصّفح ، حتى زرع محبّته في قلوب الناس وفي أنباء الزّمن. (٢) ودخلت سنة ٤٥٥ : فيها سار الصليحي مكة فانفق فيها نفقة عظيمة وحمل إليها الأقوات والأطعمة العظيمة ورفع منها رسوم الجور ، وظهر منه فعال جميلة ، ثم عاد إلى تهامة ، وفيها أولاد نجاح المقدم ذكرهم فتوارى عنه سعيد الأحول في زبيد ، وخرج جياش ببقيتهم إلى جزرة وهلك ، وجرت له هنالك أمور يطول شرحها ، ولم تخرج هذه السنة ، حتى استولى الصليحي على اليمن سهله ووعره وبره وبحره إلّا صعدة فإنّها أمتنعت عليه بعض الإمتناع بأولاد الناصر ، حتى قتل القائم منهم فاستقر ملكه

__________________

(١) الخزرجي وقرة العيون (ص).

(٢) غاية الأماني ص ٢٥٤.

٢٤٠