تاريخ اليمن الإسلامي

أحمد بن أحمد بن محمّد المطاع

تاريخ اليمن الإسلامي

المؤلف:

أحمد بن أحمد بن محمّد المطاع


المحقق: عبد الله محمّد الحبشي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: شركة دار التنوير للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٨

قبائل خولان ، فثار ابن عباد الاكيلي في صعدة كما تقدّم ، وأول هذه القصيدة :

نام خدن الحرب من بعد الأرق

واستلذّ العيش من بعد الشرّق

ومنها :

جهلوا حربي وظنوا أنه

أكلهم خبز النّصارى بالمرق (١)

هذه نظرة عجلى في الموضوع وسنعود إليه في الكلام على نجران أيام الإمام القاسم إن شاء الله ، ولنعد إلى تتمة أخبار ابي جعفر محمد بن عبيد الله ، بعد قتله انتقلت عائلته الى دار محمد بن منجاب (٢) المداني فقام هو وحرمه بأمر هذه العائلة أتم قيام ، وجمع الصبيان من أيدي شرار بني الحرث ، ومن جملتهم موسى ومحمد وعبيد الله وعمره عشر سنين ، فأرسل ابن حميد في طلبه وأمر ابن منجاب ان يأتيه به ليقتله فانكر ابن منجاب وجوده وحلف على ذلك ، ثم أتى نفر من أهل نجران الى ابن حميد وطلبوا منه جثة محمد بن عبد الله فوهبها لهم فأخذوها وكفنوها وصلّوا عليها ، ودفنوها بالقرب من قرية الهجر في موضع يقال له البلاط.

وها نحن نسجل كلمات الشكر لأولئك الرّجال بعد مضي أكثر من عشرة قرون ونعد نفوسهم العالية من نوادر الطبيعة ، وأمثلة الابداع ، بذلك المجتمع الذي لا ترى فيه إلّا نفوسا متوحشة ، وضمائر منحرفة ، وطبائع ملتوية واتجاهات إلى غير غاية وبين تلك الأوشاب ، تظهر نفوسا تحلت بالرحمة ، وتجلت عليها آثار الرأفة وقلوبا مملوءة بالحنان ، وجنانا يحنو على البائس من بني الانسان ، فما أجدر تلك النّفوس بالشكر وأحقها بالثناء :

ما مات من نبل الرجال وفضلهم

يحيا لدى التأريخ وهو عظام

__________________

(١) انظرها في سيرة الهادي ص ١٩٨.

(٢) في مطبوعة السيرة سنجاب».

١٤١

وقد كان علي بن محمد أرسل إلى يام ووادعة ، يطلب منهم النصرة لأبيه ، فلم يجيبوه ، واعتذروا بفتنة بين عشائرهم ، وبينما هو كذلك إذ وافته الانباء بقتل والده فعاد إلى الحضن وهو أيأس من غريق (١) وله في ذلك قصيدة رثى بها والده وذكر تخاذل الأقوام عنه أولها (٢) :

منع الحزن مقلتيّ ان تناما

وذرا الدّمع من جفوني سجاما

يوم ناديت حي الاحلاف للنصر

على مذحج وناديت ياما

ودعونا للنصر بالوادعيين

فلم ينصروا الأمير (٣) الهماما

لا يجيبون صارخا قام يدعو

يا لهمدان انصروا الاسلاما

ومنها :

قتلت حارث بن كعب شريفا

خير من وحّد الاله وصاما

قتلوه فأفحشوا القتل فيه

حين اضحى لديهم مستظاما

إلى آخرها : وقد أجمل القول كاتب سيرة الإمام الهادي فيما كان بنجران بعد قتل محمد بن عبيد الله ، وأشار إلى أن آخر حروب الإمام كان بنجران ، وانه كان عليلا من علته التي توفي منها ، وان العدو هاجم الإمام إلى الحضن ، فخرجت خيوله ، وكان مريضا فلم يخرج ، ولما تراءت الخيلان كانت الحملة على أصحابه ، فولّوا مدبرين وقتل رجل من أصحابه يقال له يوسف بن حرب العبسي (٤) ، وهو آخر شهيد استشهد مع الإمام الهادي ، ولم يكن له بعد ذلك قتال حتى توفي عليه السلام ، ولعلك قد عرفت ايها المطلع فيما أسلفناه أن قتل محمد بن عبيد الله كان في سنة ٢٩٦ ، وسيمر بك قريبا خبر وفاة الإمام في سنة ٢٩٨ ، ولعله لم يغز نجران إلّا بعد

__________________

(١) مثل أورده الزمخشري في المستقصي ج ١ ص ٤٤٨ وكذا في الميداني.

(٢) القصيدة في السيرة ص ٣٨٣.

(٣) في السيرة الأمين.

(٤) في السيرة يوسف بن ابي حرب العبسي.

١٤٢

سنتين من الحادث ، وانها وافته المنيّة قبل بلوغ الامنيّة والله أعلم.

أخبار القرامطة واستيلاء الإمام على صنعاء

ودخلت سنة ٢٩٧ في صفر منها خرج الطاغية بن فضل من المذيخرة قاصدا زبيد فدخلها بعد قتال وفرّ صاحبها إلى المهجم فاستباحها وقتل من أهلها خلقا كثيرا وسبى نساءها ، وأقام بها سبعة أيام وعاد إلى المذيخرة ، وخلف بزبيد عاملا من قبله ولكنه لم يلبث بها إلّا يسيرا وطرده صاحبها المنهزم عنها وفيها أظهر (١) القرمطي نحلته الاباحية المجوسية ، وأباح شرب الخمرة وسائر المنكرات وصرف الناس عن الحج.

وفيها بعث الإمام علي بن محمد بن عبيد الله العلوي في جماعة إلى صنعاء وكتب إلى الدّعام ان يخرج معه ففعل وسارا حتى دخلا صنعاء يوم الخميس لأيام باقية من رجب وطردا عامل القرمطي وأصحابه واستقر علي بن محمد بها ، ثم ان الامام بعث ابنه ابا القاسم في جماعة من خولان وهمدان إلى صنعاء ولما وصلها ارسل الى مخلاف مقرا (٢) والهان (٣) وحراز وهوزن (٤) ، فدخلت جميعا في طاعته ، وقتلت من دعاة القرامطة جماعة وامنت البلاد وتآلفت الرعية وبلغ ابن كبالة الخير وهو بتهامة ، فقدم حتى صار بالهان فمال إليه خلق كثير من الناس ، رغبة في الفساد وأرسل الى حراز من أخرج أصحاب الإمام ، فكتب ابو القاسم بما كان إلى والده الإمام فأمره بمفارقة صنعاء لئلّا يجمع حرب القرامطة وابن كباله فخرج من صنعاء في شوال سنة ٢٩٧ وبادرت القرامطة من شبام ، فدخلوها وأقاموا بها أربعة عشر يوما ، ولم يجدوا بها أحدا ، وقدم جراح بن بشر من تهامة بعد خروج محمد بن الإمام

__________________

(١) هذه رواية صاحب سيرة الامام الهادي وهي الارجح عندي (ص).

(٢) هو الاسم القديم لمغرب عنس من ذمار.

(٣) جبل في آنس.

(٤) من حراز.

١٤٣

من صنعاء ودخول القرامطة إليها فدخل إلى ناحية منها ، وخرجت عنها القرامطة لقلتهم ، وقدم أيضا أسعد بن أبي يعفر فاستقر بصنعاء ، وإليه مخاليفها ومعه جراح بن بشر ، وابن كبالة أقام بذمار ، وإليه مخاليفها.

ودخلت سنة ٢٩٨ فيها في ربيع الأول منها خرج اسعد بن أبي يعفر لحرب القرامطة فكانت بينهم حرب شديدة على درب شبام كان النّصر فيها لأسعد فدخل شبام بعد هزيمة القرامطة وأقام بها أيّاما ، ثم أعادت القرامطة الكرة ونزلوا من بيت ذخار ، فانهزم أسعد ، وخرج من البلد ، وقتل عبد القاهر بن حمدان بن ابي يعفر ، وقدم ابن كبالة ممدّا لأسعد فدخلوا شبام ، وطردوا القرامطة عنها وطلعوا جبل ذخار ، وتم لهم طرد القرامطة عن الناحية ، وأقاما أيّاما ثم انصرف ابن كبالة وبقي اسعد بشبام يتتبع القرامطة في الجبل أيّاما ثم رجع إلى صنعاء وتخلى عن شبام من دون حرب ، ولا هزيمة ، فعادت إليها القرامطة وأخربوها.

وفاة الإمام الهادي إلى الحق عليه السلام

فيها مات الإمام الهادي بصعدة يوم الأحد لعشر بقين من ذي الحجة من السنة ودفن يوم الإثنين قبل الزّوال بمسجده المشهور بصعدة ، ومولده بالمدينة المنورة ، على صاحبها أفضل الصلاة والسلام سنة ٢٤٥ وقد قدمنا كثيرا من ترجمته وأحواله وهو بلا شك ، أكبر مصلح أرتفع اسمه في أفق التاريخ اليمني ، ونال من الاحترام والحب في قلوب اليمنيين مكانة لم يتبؤها احد بحيث أصبحت آثاره وأعماله وصفاته العالية قبلة الأبصار ومهوى الافئدة ، وقد مر بك آثاره العلمية فإنه كان بمكانة عليا ، من العلم والفضل والورع ومكارم الأخلاق والحلم والتواضع ، كثير الصفح والتجاوز عن سيئات النّاس وهفواتهم وفيما اسلفناه من الحوادث والماجريات المتعددة ما يشهد بصحة ذلك ، وناهيك بمعاملته لآل يعفر ومواليهم عند ما رحل من شبام وهم إذ ذاك في سجنه ، وكلمة واحدة منه تكفي لإلحاقهم بأمس الدابر ، وكان شجاعا مقداما

١٤٤

ثابت الجأش ماضي العزيمة :

يباشر في الحرب المنايا ولا يرى

لمن لم يباشرها من الموت مهربا

اخو غمرات ما يوزع جأشه

اذا الموت بالموت ارتدى وتعصّبا

دائم الحركة جم النشاط قوي الشكيمة عظيم الهمة مقدرا لمسؤولية الحكم شديد الشعور بواجب الزعامة :

على خير ما كان الرجال خلاله

وما الخير إلّا قسمة ونصيب

حريصا على مصالح الناس الدينية والدنيوية كثير العناية بشؤونهم الاجتماعية والاخلاقية كان يصلي بالناس الجماعة ثم يقعد للارشاد وفصل الخصومات ، ثم ينهض فيدور الأسواق والسكك فإن رأى جدارا مائلا أمر أهله باصلاحه ، أو طريقا فاسدا أو خلفا مظلما أمر أهله ان يضيئوا فيه للمار ، وان رأى امرأة أمرها بالحجاب ، وإن كانت من القواعد أمرها بالتستر ومن آثاره الاصلاحية إحداث البراقع للنساء باليمن ، وإلزامهن بذلك ، وكان يقف على أهل كل بضاعة ويحذرهم من الغش ويسعر لهم بضاعتهم ، وينهاهم عن التّظالم ، وكان يقول انما ورد النّهي عن التسعير على أهل الوفاء وأهل التّقوى فإذا ظهرت الظلامات ، وجب على أولياء الله ان ينهوا عن الفساد كله ويردوا الحق إلى مواضعه ، ويزيحوا الباطل من مكانه ويأخذوا على يدي الظالم فيه.

كان يتفقد السجون بنفسه ويسأل عن ذنوب المسجونين ، فمن كان في دين نظر في جدته أو إفلاسه ، ومن كان في ذنب تفقّد جرمه وأمره ، وفحص عن احوالهم ، وكان رحيما بالفقراء والأيتام ، قال كاتب مسيرته : رأيته يفتّ الطعام للأيتام ويثروه بالسمن ثم يقول ادخلوهم ثم ينظر فمن كان فيهم ضعيفا في المأكل قال : هذا مغبون فيأكل مع المساكين ، ثم يعزل له شيئا ، قال : وكان لا يأكل حتى يطعم منه المساكين وكان يأمر صاحب بيت المال أن يطعم الطوافين من المساكين على قدر ما في بيت مالهم ، وكان يأمر بالكسوة

١٤٥

لهم في كل وقت فيجعل للشتاء الصّوف ونحوه ولغير الشتاء ، ما يوافقه ، ويقول لكل زمان لباسا ، وكان يكسو الرجال والنساء والصبيان. وكان كثير الاهتمام بأهل الذّمة والعناية بهم. فكان يقول لهم : من آذاكم فأعلموني به ، ومن اطلع على محرمكم أو تعرض لكم احللت به ما أحل بمن نكث عهد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم انتهى.

وكان عليه السلام صدوقا ، لا يعرف شيئا من دهاء الساسة ومكرهم ولذلك اشتدت عليه المحن وتنوّعت الرزايا ، وأمّا صرامته في الحق وزهده وورعه فقد قدّمنا لك أمثلة منها وحسبك ما مرّ.

وفي الزحيف (١) ما لفظه : قال علماؤنا انه لما قرّر قواعد المذهب الشريف والدين الحنيف ، وقد كان في اليمن مذاهب مختلفة قرامطة وأباضية قوم من الخوارج ، وجبرية فاستأصل الله بحميد سعيه أكثر أهل تلك المذاهب الرديّة ، وأظهر مذهب العترة الزكية فامتلأت اليمن عدلا وتوحيدا وارشادا وتسديدا. انتهى.

قيام الإمام المرتضى محمد بن يحيى عليه السلام

بويع بالخلافة بوصيّة من الإمام الهادي في المحرم سنة ٢٩٩ وكان كثير العلم والعبادة زاهدا ورعا فكاتب العمّال يأمرهم بالتحرّي على العدل وحسن السيرة واشتغل بحرب القرامطة ، إلى شهر ذي القعدة من تلك السنة.

ثم انه جمع الجند وأعيان الناس وعاب عليهم أشياء انكرها وخطب فيهم خطبة بليغة ، وتخلّى عن الإمامة ورفع عماله من خولان وهمدان ونجران ، ولزم منزلة ، وأقام بعض بني عمه للنظر بين النّاس واستمرت الحال على ذلك إلى أن قدم أخوه احمد بن الهادي من الحجاز آخر ذي الحجة سنة ٣٠٠ فأقام مع

__________________

(١) يعني به كتاب مآثر الأسرار في تفصيل مجملات جواهر الأخبار شرح بسامة ابن الوزير تأليف العلامة محمد بن علي به يونس الزحيف المتوفي سنة ٩١٦.

١٤٦

أخيه إلى صفر سنة ٣٠١ ثم اجتمع عليه الناس وبايعوه كما سيأتي.

بقية أخبار القرامطة والحرب بين الطاغية ابن فضل ومنصور بن حسن

لما توفي الإمام الهادي عليه السلام جمع أسعد بن أبي يعفر من قدر عليه ونهض بهم لحرب القرامطة الذين بشبام فطردهم عن الشبام ، وأقام بها أياما حتى وافته الأنباء بحركة الطاغية من المذيخرة نحو صنعاء فكرّ راجعا ووصل ابن كبالة منهزما من ذمار ودخل صنعاء.

وفي اليوم العاشر من المحرم سنة ٢٩٩ دخل ابن فضل صنعاء فهرب منها أسعد ، فلم يقم الطاغية فيها بل ترك فيها من يحفظها ، وسار إلى شبام ، وطلع بيت ذخار ، وخلع طاعة صاحبه المهدي وأراد من منصور بن حسن أن يخلع طاعة المهدي ، وينضم إليه فعاتبه منصور ولامه على تلك النّزعة ، فأجابه الطاغية أن لي بأبي سعيد الجنّابي أسوة ، إذ قد دعا إلى نفسه ، فلم يساعده منصور وتعكر الصفو بينهما ، وكان ابن فضل متهورا سفاكا طاغية ، فتوعّد صاحبه وبادر لخضد شكوته وإهلاكه ، في جيش كثيف ، فتحصّن منه منصور بجبل مسور ، ودارت بينهما عدة معارك قتل فيها كثير من الناس وطالت مدّة الحرب والنزال إلى ثمانية أشهر ولم يظفر أحد منهما بصاحبه ، وقد شق بهما الحال ، فأرسل منصور في طلب الصلح ، فأجابه الطاغية بشرط أن يرسل منصور ولده إليه ليقال انما تركه تفضلا لا عجزا فقبل منصور وأرسل ولده إليه فطوّقه ابن فضل بطوق من ذهب ، وسار به إلى صنعاء ودخلها لسبع ليال خلت من رمضان من السنة ، ونزل بالجامع الكبير ، هو وأصحابه فذبحوا وشربوا الخمور ولم يتعرضوا لأحد من أهل صنعاء ، ثم كر راجعا إلى المذيخرة مبأة كفره ، وعش فجوره ، وكان أسعد قد ولّى علي بن الحسن الأقرعي على صنعاء ، وأقام بذمار ومعه ابن كبالة ، فاجتمعت إليه جماعة من مذحج وابن الروية المذحجي ووعدوه النصرة على القرامطة فبث اسعد عماله

١٤٧

على النواحي ، ومات ابن كبالة (١) بذمار ، في ربيع الأول من السنة ، وقال الخزرجي (٢) : إنّ اسعد وثب على ابن كبالة وقتله ، ثم انتقل الى كحلان لما بلغه ان بعض رجال من كحلان يكاتب القرامطة ، ثم ان ابن فضل كاتب اسعد بن أبي يعفر ، ولاطفه وولّاه على صنعاء ومخاليفها فدخلها أسعد ، وبثّ عماله على مخاليفها ، وخطب للطاغية ، وقطع خطبة بني عباس ، ولبس البياض وفيها قتل عبد الله ابن أبي الغارات المجيدي صاحب مخلاف المعافر ابن ذي الطوق القرمطي وهو من أكبر قواد الطاغية.

ودخلت سنة ٣٠٠ فيها عظم نشاط القرامطة لبثّ الدعوة وأرسل الطاغية بقائدين من قوّاده فأمسكهما عامل الحرمين الشريفين (٣) وضربهما بالسياط حتى هلكا.

وفيها تحرك ابن فضل لمناجزة ملاحظ بن عبد الله (٤) الرومي صاحب زبيد ، ولما قرب من زبيد ، خرج ملاحظ منها بجميع من معه ، وخرج أهل البلاد أيضا وتفرقوا في تهامة ، فدخلت القرامطة وليس بها أحد.

وفيها مال جراح بن بشر إلى القرامطة ، وكاتب ابن فضل فاستدعاه ابن فضل إليه وكان في بلاد الشرف فهرع لملاقاته ولما وصل وادي مور لقيه ملاحظ الرومي فقتله (ان الشقي وافد البراجم) ثم عاد ملاحظ إلى زبيد وقد فارقها الطاغية ورجع أدراجه.

وفيها انتثرت النجوم بكثرة حتى أشفق الناس ، وفيها بعث أسعد بن أبي

__________________

(١) سيرة الامام الهادي.

(٢) العسجد المسبوك ص ٤٢.

(٣) في غاية الأماني ص ٢٠٢ اسم هذا العامل عج بن ساج وفي سيرة الهادى ٤٠١ عج بن حاج.

(٤) سيرة الإمام الهادي ولم نقف على أول أمر هذا الرّومي وفي أنباء الزمن انه نائب ابن زياد ، وقد سبق ذكر الدولة الزّيادية ونوابها فارجع إليه فانك غير واجد هذا الاسم أو النائب فتأمل.

١٤٨

يعفر أخاه عبد الله إلى ثاه من بلاد رداع فقبضها.

وفيها ظهر المذهب الشافعي في بلاد اليمن وكان الدّاعي إليه في الجند ومخلاف جعفر عمر بن محمد الخراشي السكسكي ، وقيل إنه لم يظهر إلّا في المئة الرابعة (١).

خلافة الإمام الناصر احمد بن يحيى عليه السلام

ودخلت سنة ٣٠١ فيها بايع المرتضى ابو القاسم محمد بن الإمام الهادي أخاه الإمام الناصر ، وقد ذكرنا تنازل المرتضى عن الخلافة ، وقدوم الناصر من الحجاز ، فاجتمعت خولان وسألوه القيام وبذلوا له السمع والطاعة ، وبايعوه على ذلك ، وأقبلت إليه أيضا رجال همدان ونجران وبايعوه فبعث عماله على البلاد وشمّر لحرب القرامطة الساق فكانت له فيهم فتكات عابسة ، ووقعات هائلة كما سيأتي بيانه إن شاء الله ، ولما أخذ البيعة على من حضر ركب في ذلك اليوم إلى صعدة القديمة واجتمع معه خلق كثير ، قيل انهم ملؤا ما بين صعدة والغيل (٢) ، وانشده شاعره ابراهيم ابن محمد التميمي (٣) قصيدة أولها (٤) :

عادات قلبك يوم البين أن يجبا

وان تراجع فيه الشوق والطربا

وهي طويلة ، ثم شاور الإمام النّاصر خولان في نهوضه الى الحجاز ، فجدّدوا له البيعة على السمع والطاعة ما بقوا على الأرض ، وبايعه عظيم همدان احمد بن محمد بن الضحاك الحاشدي.

وفيها خالف أبناء الدعام أباهما وفارقاه ، ووثبا على غرق فبناها

__________________

(١) أنباء الزمن.

(٢) راجع اللآلىء المضيئة.

(٣) انظرها في ترجمة المذكور في مطلع البدور.

(٤) غرق بالتحريك سبف ذكرها وهي موضع بالجوف الاعلا.

١٤٩

وأخرباها ، وكان فيها (١) عاملا للإمام فاخرجاه إلى المراشي (٢) فنهض الإمام لتأديبهما في عسكر كثيف وطردهما إلى جبل نهم ، ثم اتجه إلى مراد لمطاردة الدّعام فالتجأ إلى ملح من بلاد نهم ، وبقي الإمام يتأثر آل الدّعام فشردهم إلى أطراف البلاد ، واستعمل على غرق علي بن محمد بن عبيد الله (٣) العلوي ، وعلى اثافت أخاه القاسم بن محمد بن عبيد الله ، وعلى نجران عبد الرحمن الأقرعي ، ثم ان ابني الدّعام راسلا الطاغية ابن فضل ، وأمدهما بمال فخرجا إلى مطرة من بلاد عذر ، وهي من أطراف بلاد الإمام وكان منهما ما سيأتي ، وفيها قتل محمد بن الدعام بغرق قتله ابن عمه (٤) ابراهيم بن ابراهيم.

ودخلت سنة ٣٠٢ فيها أغار عمّال الناصر على ابن الدّعام فهزموه إلى خيوان وسار ابراهيم ابن الحسن في أثره فوصل إلى مرهبه ونهم ثم عاد إلى الإمام.

ودخلت سنة ٣٠٣ فيها مات ملاحظ صاحب زبيد وولّى بعده عبد الله ابن ابي الغارات ، ولم تطل أيامه فولى إبراهيم بن محمد الحرملي (٥).

وفيها سار الإمام الناصر إلى نجران لتفقد شؤونها فأقام بها أياما وعاد إلى صعدة ولما استقر بها وافته الأنباء بظهور القرامطة في بلاد عذر والأهنوم وميل تلك القبائل إلى مذهبهم الخبيث ، وتظاهرهم بترك الصلاة وشرب الخمر ، وإتيان المنكرات جهرة ، فنهض الإمام إلى خيوان وأرسل أبا جعفر محمد بن

__________________

(١) في الأصل في.

(٢) المراشي : جبل مقابل نرط من جهة الشرق.

(٣) هو مصنف سيرة الإمام الهادي كما تقدم.

(٤) راجع سيرة الإمام الناصر ومع كذيل سيرة الإمام الهادي ولا ندري هل هي لمؤلف السيرة أم لغيره (ص) قلت سيرة الإمام الناصر من تأليف عبد الله بن عمر الهمداني وهو من الكتب المعقودة ينقل عنها الشرقي في اللآلىء المضيئة وابن ابي الرجال في مطلعه وغيرهما.

(٥) لم يذكر في سيرة الناصر من طرف من ولي اولئك ، وزاد صاحب انباء الزمن عند ذكر الحرملي به وكان من قواد السلطان.

١٥٠

الضحاك الهمداني ، إلى أصحابه من همدان ، وأهل عذر والأهنوم ، وظليمة ، وحجور ، لغمز قناتهم ومعرفة ما هم عليه فرجع ابو جعفر واخبره بتنكرهم ، فتحرك الإمام لمناجزتهم وسار إلى حجور ، ونزل بالبطنة فألقاه أهل عذر ، ثم تقدّم إلى السويق بجنود كثيرة وقابلته القرامطة فهزمهم وخضعت ظليمة والأهنوم ، وكان بين هاتين القبيلتين احقاد وحروب ، فأصلح الإمام بينهم واستأمن إليه من كان قرمطيا ، ثم سار إلى اثافت وأقام بها أياما وعاد إلى صعدة واستعمل على اثافت الحسن بن احمد البعداني.

وكان الإمام الناصر ، قد أرسل بكتب دعوته إلى كثير من بلدان اليمن ، ولما وصلت دعوته إلى بلاد حجة ، لم يقبلوا عليها ، ومزقها بعضهم فداهمتهم القرامطة ، ومزّقتهم كل ممزق ، وكان وصول القرامطة باستدعاء من أهل قدم لينصروهم على بني أعشب ، فهرعت القرامطة من جبل مسور ، ودخلوا حجة وقتلوا رئيسها عبد الله بن بديل الحجوري ، ونهبوها وعادوا أدراجهم بعد ان استعملوا رجلا منهم على حجة ، ولم يلبث أهل قدم أن تورطوا في خلاف جديد مع أهل بجير (١) فعاودوا الاستنجاد بالقرامطة فأنجدوهم ، ونشبت المعركة على حصن مدرج من بلاد الجبر ، فهزمت القرامطة أول الأمر ، ثم أعادت الكرة وعطفت على أهل الجبر فهزموهم ونهبوا بلادهم ، واخربوها ، وذبحوا الأطفال ، فاستنجدوا بالإمام الناصر وطلبوا منه العفو عما سبق فأنجدهم ، وكتب إلى أبي جعفر ابن الضحاك وأمره بالمسير معهم.

هلاك الطاغية علي بن الفضل القرمطي

وفيها هلك ابن فضل القرمطي مسموما وكان الذي سمه رجل غريب قدم من بغداد ، وقيل من الحجاز ، وكان جراحيا (٢) ماهرا اتصل بأسعد بن

__________________

(١) الحبر مقاطعة في مخلاف الشرف مربوطة بلواء حجة.

(٢) كذا في الأصل ولعله جرائحيا.

١٥١

أبي يعفر ، فرأى من خوفه وقلقه من الطّاغية المذكور ، ما حفزه على المغامرة بنفسه ، والتطويح بها في سبيل انقاذ المسلمين من كبول طغيان ابن فضل باغتياله ، ولما صمم على ما أعتزمه أخبر أسعد بذلك العزم فرغبه أسعد ووعده المشاطرة فيما يملك ، فرحل الشريف إلى المذخيرة واختلط برجال الدولة ، ووضع لهم الأشربة ، وركب الأدوية ، ووصف لهم العقاقير ونحوها مما (١) تستدعيه حالة الترف ورغد العيش طبعا ، ومكث يعاني هذه الصنعة بمهارة فائقة ، حتى نال شهرة عند رجال الدّولة ورفع خبره إلى الطاغية ، وكان قد اضطر إلى الفصد فطلبه ليقوم بعملية الفصد فافترص فرصة الاتصال بفريسته ودسّ له السّم في مشرطه ، وما هو إلّا ان فرغ من مهمته حتى ادرك الطاغية سرّ عمله ، وأحسّ بمفعول السم يجري لطرد روحه الشريرة من جسده الخبيث ، جريان النار في يابس الهشيم فأمر بطلب الشريف فأسرعت الجنود في البحث عنه ، وكان قد بارح تلك القرية الظالم أهلها ، فأسرعوا في طلبه في الجهات الأربع ، وأدركه بعضهم بوادي السحول (٢) ، فحاولوا القبض عليه فدافع عن نفسه حتى قتل رحمه الله وشالت نعامة (٣) الطاغية ، عقيب ذلك منتصف ربيع الآخر سنة ٣٠٣ ودفن بالمذيخرة.

ونقل الزحيف عن كتاب كشف الأسرار وهتك الاستار عن محجوب الكفار للسيد يحيى بن القاسم (٤) الحمزي إن سبب موته كان على يد السيد الشهيد

__________________

(١) في الأصل منما.

(٢) وله مشهد هناك يعرف بغرمات اسم الرجل.

(٣) يقال في المثل سالت نعامتهم : اي تفرقوا وذهبوا لأن النعامة موصوفة بالخفة وسرعة الذهاب والهرب ومنه قول صخر الفي :

دعاه صاحباه حين شاك

نعامتهم وقد صفر القلوب

(٤) كذا ينسب المؤلف رحمه الله كتاب كشف الأسرار الى يحيى بن القاسم الحمزي المتوفي سنة ٦٦٦ (ترجمته في مطلع البدور) والمعروف ان هذا الكتاب من تأليف الفقيه محمد بن لمك الحمادي المتوفي نحو سنة ٤٧٠ وهو في كشف فصائح الباطنية وقد طبع عدة مرات. ولعل الذي أوقعه في هذا السهو مصدره الذي ينقل عنه وهو كتاب مآثر الأبرار للزحيف.

١٥٢

علي بن محمد الحسني رحمه الله ، فإنه باع نفسه من الله لما رأى أفعال عدو الله فأعمل الحيلة وتهيأ بهيئة طبيب عارف ، وأوهمه أن به علّة ان لم يفعل فيها ما يأمره هلك فأمره بفصد عزفين في رجله وفصده بمبضع مسموم بسم قاتل. فما مضى عليه إلّا القليل حتى بلغ الألم شغاف قلبه ، وهرب السيد بعد فصده حتى بلغ نقيل صيد فقتل هناك شهيدا ثم مات ابن فضل عقيب ذلك يوم الأربعاء للنصف من ربيع الآخر سنة ٣٠٣ انتهى.

وفي تتمة سيرة الإمام الهادي عليه السلام ، ما لفظه : وأصاب ابن فضل لعنه الله مرض في بدنه فتفجر من اسفل بطنه ، وأماته الله على اسوأ حال لعنه الله. ولم يذكر ما أشار إليه غيره من مؤرخي اليمن (١) ، ان قتله بالسم على يد الشريف ، وقد أشار إلى ذلك أبو الحسن علي بن منصور الحلبي المعروف بابن القارح في رسالته التي كتبها إلى أبي العلاء المعري وضمنها عيوب الملاحدة ومذامهم جاء فيها : والصناديقي (٢) في اليمن ، فكانت جيوشه بالمذيخرة وسفهنة (٣) وخوطب بالربوبية (٤) ، وكوتب بها فكانت له دار إفاضة ، يجمع إليها نساء البلدة كلها ، ويدخل الرجال عليهن ليلا قال من يوثق بخبره : دخلت إليها لأنظر ، فسمعت امرأة تقول : يا بني فقال يا أمه نريد أن نمضي أمر وليّ الله فينا ، وكان يقول إذا فعلتم هذا لم يتميّز مال من مال ، ولا ولد من ولد ، فتكونون كنفس (٥) واحدة فغزاه الحسني من صنعاء

__________________

(١) راجع تاريخ عمارة والجندي والخزرجي وقرة العيون وأنباء الزمن (ص).

(٢) تسمية ابن فضل بالصناديقي لم نجده في غير رسالة ابن القارح (ص).

(٣) سفهنة قرية من أعمال الجند وهي سهفنة بتقديم الفاء الموحدة على الهاء لا كما رسمها ابن القارح ، وتعرف الآن بالسفنة باسقاط الهاء الأولى (ص).

(٤) قال الخزرجي ان الطاغية كان يكتب عنوان كتابه إذا كتبه من باسط الأرض وداحيها ومزلزل الجبال ومرسيها علي بن الفضل إلى عبده فلان انتهى. ولكن رواية الثقة التي استند إليها ابن القارح عن الذي دخل دار الافاضة وسمع الخطاب الذي دار بين الولد وأمه يخالف ما ذكره فتأمل (ص).

(٥) هذه عين الاشتراكية الشيوعية الروسية الآن (ص).

١٥٣

فهزمه ، وتحصّن منه في حصن هناك ، فانفذ إليه الحسني طبيبا بمبضغ مسموم ، ففصده به فقتله انتهى.

ولقد غلط ابن القارح كما ترى ، فظن الحسني ملك صنعاء وانه لمّا عجز عن القرمطي دسّ إليه السّم بواسطة الطّبيب ، ولما كانت هذه الرسالة قد طبعت ونشرت ، وهي مشهورة اضطررنا إلى الإشارة إليها صونا للحقيقة التأريخية من التشويه.

وقال الأستاذ المعاصر عبد الله بن علي القصيمي في كتابه «الصراع بين الاسلام والوثنية» : ان هلاك الطاغية المذكور كان بصنعاء والصحيح ما قدمناه.

استئصال القرامطة وخراب المذيخرة

لما هلك الطاغية وبلغ أسعد بن أبي يعفر بادر بالنّهوض من صنعاء وجمع الجموع لاستئصال شافة القرامطة ، وقطع دابرهم ، وكان قد انتصب بعد الطاغية ولده الفأفأ ، فأساء السيرة في أصحاب والده ، وقتل منهم كثيرا ، وما عثم أسعد بن أبي يعفر أن أناخ بجموعه على جبل ثومان ، وقد وافته القبائل اليمنية من كل صوب وحدب فشنّ بهم الغارات على مخلاف جعفر ، وأغار على الحصون ، وكلما خرج عليهم عسكر من المذيخرة كسرهم المسلمون حتى وهنت قوة القرامطة ، وغارت عزائمهم ، وأسعد يشدّد عليهم الحصار ويبالغ في التضييق إلى أن عجزوا عن المقاومة ، ودخل اسعد المذيخرة قهرا بالسيف يوم الخميس ، لسبع ليال بقين من رجب سنة ٣٠٤ فكانت مدة الحصار والمنازلة سنة كاملة ، قال الجندي (١) : (قيل انه لم ينزع اسعد فيها درعه ، ولم يزل متقلدا لسيفه ، وانقطعت دولة القرامطة من مخلاف جعفر ولم تزل المذيخرة خرابا الى عصرنا).

__________________

(١) السلوك ج ١ ص ٢٤٥.

١٥٤

ولما دخلها اسعد نهب ما فيها وسبى جميع أهلها ، وقتل الفأفأ ابن علي بن فضل ، وجميع من ظفر به من خواصه وأهله ومن دخل في مذهبه ، ومن جملة السبي بنات الطاغية الثلاث أعطى إحداهن ابن أخيه قحطان بن عبد الله بن أبي يعفر ، فولدت له عبد الله بن قحطان الآتي ذكره ، وبقيّتهن لإثنتين من رؤساء أصحابه ، وقال في أنباء الزمن : ان اسعد أسر ابن علي بن فضل ، وأمر بضرب عنقه ومن معه من الأسرى ، وكانوا نيّفا وعشرين رجلا ، وبعث بالرؤوس إلى بغداد في شهر القعدة من هذه السنة واستخلف على أهل تلك الجهة إبراهيم بن اسماعيل بن العباس.

بقية أخبار الإمام الناصر

ودخلت سنة ٣٠٥ في المحرم منها نهض الإمام الناصر بعساكر كثيرة إلى حوث (١) لمناجزة القرامطة الذين بشظب ، وهم جموع كثيرة فوجّه الإمام لحربهم الغطريف بن أحمد الصائدي ومعه حمدان ، فانهزمت القرامطة من غير قتال وانتهب الجيش تلك الجهة ، وغنموا ما فيها من المغانم الواسعة ورجعوا إلى الإمام ، فعادت القرامطة تارة أخرى ، ودخلوا قرن الناعي وكان ابراهيم بن الضحاك في جبل شظب (٢) فحاربهم ثم كانت مهادنة بينهم وبين ابن الضحّاك.

وقعة نغاش

ودخلت سنة ٣٠٧ ، فيها كانت وقعة نغاش (٣) المشهورة قال في اللآلى المضيئة ما خلاصته : كانت آخر الوقعات وأهمّها وقعة نغاش ، وكان قد أجتمع من القرامطة خلق كثير من المغارب وناحية تهامة ، وقائدهم يومئذ عبد الحميد بن محمد بن الحجاج صاحب مسور ، وندب الامام قواده وهم

__________________

(١) حوث : بلدة مشهورة من حاشد.

(٢) شظب : جبل واسع يطل على مركز السودة.

(٣) نغاش : بلدة في جبل عيال يزيد شمال عمران.

١٥٥

ابراهيم ابن المحسّن العلوي ، وابو جعفر احمد بن محمد بن الضحاك وعبد الله بن عمر الهمداني (١) وعبد الله بن محمد السعدي في ألف وسبعمائة مقاتل ، وكان ابتدأ القتال لليلتين من شهر شعبان سنة ٣٠٧ بموضع يقال له بيت الورد (٢) فدامت المعركة ، من صلاة الظهر إلى غروب الشمس ، ثم ولّت القرامطة الأدبار ، فنهض عسكر الإمام إلى قصر محمودي بالقرب من نغاش ، وكان الغطريف الصائدي يرتجز ويقول (٣) :

سيدنا الناصر باد علمه

مثل الهلال زينته انجمه

همدان في كل مغار تقدمه

طرّا وخولان جميعا تخدمه

لا بد من حصن اللّعين نهدمه

ونستحل ماله ونعيمه

وفي غد نبصر مالا نعلمه

من أخد مال بالقران نقسمه (٤)

والحق فينا لا يجور قلمه

وأمسى جند الناصر على ماء الحمودي ليلة الثلاثاء وفي ذلك يقول راجز خولان :

نحن حميناكم وحزنا القطر

ما الحمودي يضرب قسرا (٥)

ومنه تقدموا الى نغاش ، وهناك التقى الجمعان واصطدم الفريقان ، وحمى الوطيس وقطفت الرؤوس ، ودارت بالحتوف الكؤوس فاستحر القتل في القرامطة ، وهبّت ريح النّصر مع أصحاب الإمام ، وكان قد انتظم في الجيش القرمطي ، جلّ قبائل بلاد حجة وحجور وحفاش وملحان والضلع ومسور ، وغيرهم ، ورئسهم عبد الحميد المذكور فصار الجميع جزرا

__________________

(١) هو مؤلف سيرة الإمام الناصر.

(٢) قرية في عزلة الاشمور من فضاء عمران.

(٣) الرجز في الحدائق الوردية ج ١ ص ٥٠.

(٤) في الحدائق القرار وهي نسخة خطية مصورة.

(٥) انظره مع تمامه في الحدائق ص ٥٠.

١٥٦

لأصحاب الإمام ، وباء الباقون بهزيمة فاضحة ، قطعت دابرهم وأخمدت نيران طغيانهم ، قيل ان عدد القتلى منهم تزيد على خمسة آلاف قتيل ، وفقد من دعاتهم واهل الرّياسة منهم ثمانية وأربعون داعيا ، وقال السيد صارم الدين في بسّامته :

وكان يوم نغاش منه ملحمة

على القرامط لم تبق ولم تذر

وعدّ سبعة آلاف مضوا عجلا

حصائدا بين مرمي ومجتزر

وبالمصانع أخرى منه تشبهها

حلّت عرى الشرك من كوني ومن قدر (١)

ولم يقتل من أصحاب الإمام سوى رجل واحد ، وافلت عبد الحميد بن محمد وفرّ إلى حلملم (٢) واستقر بها ، وتفرق فلول عسكره شذرا مذر ، وفي ذلك يقول عبد الله بن احمد التميمي (٣) في أرجوزته (٤) : التي أولها (عوجا خليلي أوان الموسم) ومنها :

القرمطي ذي الضلال المجرم

عبد الحميد ذي الفعال المؤثم

إذ فرّ لا يقصر عن حلملم

وخلّف الدعاة لحم الوضم

فكتبوا الى الإمام بخبر هذه الوقعة وبما جازوه من النّصر العظيم ، فعاد جوابه بالحثّ على متابعة القرامطة ، وترسم آثارهم ومطاردتهم فنهض الجند الإمامي ، فهرب عبد الحميد ومن معه إلى جبل موتك (٥) فدخل جند الإمام حلملم ، فأحرقوها واستولوا على ما فيها ، وطلع عبد الحميد إلى جبل مدع

__________________

(١) تقدم الكلام على كوني واما قدري فلم نجد في النحلة الديصانية معناه ، ولعلّه من خرافات القرامطة ان المراد به قدري نسبه إلى القدر ولكنه بعيد (ص).

(٢) حلملم : قرية من عزلة الأشحور السابق ذكرها.

(٣) من الشعراء العلماء كان معاصرا للهادي وولده الناصر وله شعر اورده ابن ابي الرجال في مطلع البدور (خ).

(٤) انظرها كاملة في الحدائق ج ٢ ص ٥١.

(٥) قال صاحب الحدائق الوردية موتك ويعرف الآن بميتك : وسيأتي في هذا التاريخ ان المراد به جبل مسور.

١٥٧

ثم نهض جند الإمام إلى المصانع وفيها كانت المعركة الثانية ، وفر منهم عبد الحميد إلى مسور ولم يزالوا في مطاردته ومحاربته والنصر حليفهم في كل معركة إلى ان داهمتهم الجنود الواصلة لنجدة عبد الحميد من حكومة زبيد وكان قد استغاث بهم ومنّاهم الأماني. قال في أنباء الزمن في حوادث سنة ٣٠٦ : ان الجند الإمامي قتلوا من هذه الفرقة الظالمة أمّة لا يحصرها العدد ، ولا ينتهي صاحبها إلى أمد واستولت العساكر الإمامية على ما أجلبت به تلك الفرقة الغوية من سلاح وغيره ، وانهزم بقيتهم إلى سور بالخط الآخر ، فتبعهم جند الإمام وحاصروهم ، حتى روى ان الدماء سالت وسمع لها دوي كدوي السيل حتى أيقنوا بالهلاك ففزعوا إلى صاحب (١) زبيد ، وطلبوا منه النصرة فلم يغن عنهم شيئا غير أن الناصر عليه السلام رأى من المصلحة رفع المحطة عنهم وبهذه الوقعة انحلت عروة القرامطة ، وكسرت شوكتهم ، وخمدت نار فتنتهم والحمد لله رب العالمين ، وقال في تتمة سيرة الإمام الهادي : انه لما تضايقوا بالحصار ، كاتبوا الحرملي صاحب زبيد وارسلوا اليه بمال ، فارسل عسكرا في نصرتهم ، فلما بلغ ذلك احمد بن يحيى عليهما السلام كره حربه لئلّا يقع عند السلطان انه يحارب قائده ، فينقطع الموسم عما في بلاده من التجار) انتهى.

ثم قال في أنباء الزمن (٢) بعد كلامه المتقدم : ودخلت سنة ٣٠٧.

وذكر وقعة نغاش في حوادث سنة ٣٠٦ ، وقد مر بك ما نقلناه عن اللآلىء المضيئة ، وفي سيرة الإمام الناصر ان انصراف جند الناصر من محاصرة مسور سنة ثمان وهو يؤيّد ما ذكرناه ، وفي الحدائق الورديّة (٣) : ان وقعة نغاش سنة سبع ، وصرح أيضا في انباء الزمن ان الإمام الناصر اشترك بنفسه في هذه

__________________

(١) تأمّل كيف اجمل العبارة صاحب أنباء الزمن ولم يصرح من هو صاحب زبيد كأنه لخط الأشكال المتقدم فلم يقطع بأنه ابن زياد ولا غيره.

(٢) غاية الأماني (مختصر أنباء الزمن) ص ٢١١ وقد أوردها في حوادث سنة ٤٠٦.

(٣) الحدائق الوردية ص ٥١.

١٥٨

الحرب ، وهو غير صحيح ، والظاهر صحّة ما ذكرناه اعتمادا على ما في سيرته :

ولم يذكر صاحب أنباء الزمن ولا غيره شيئا من الحوادث التي من بعد وقعة نغاش إلى سنة عشر.

وفاة الإمام المرتضى محمد بن يحيى عليه السلام

ودخلت سنة ٣١٠ في المحرم منها مات الإمام الزّاهد الورع أبو القاسم محمد بن الإمام الهادي إلى الحق عليهما السلام ، ودفن بجنب والده وله إثنتان وثلاثون سنة وكان في الزهد والورع والعلم والعمل بمكانة عالية ، وله عدة مؤلفات منها كتاب الأصول في العدل والتّوحيد وكتاب الإرادة والمشيئة ، وكتاب التوبة ، وكتاب الردّ على الروافض ، وكتاب فضائل أمير المؤمنين علي عليه السلام وكتاب الرد على القرامطة وغيرها.

وله من الولد أبو محمد القاسم واسماعيل وابراهيم وعلي وعبد الله وموسى ويحيى ابو الحسين الخارج بالدّيلم الملقب بالهادي ، الذي روى عن عمّه كتاب الأحكام والمنتخب (١) والحسن والحسين ، والعقب للمرتضى في جهات اليمن من ذرية عبد الله بن المرتضى ، ومن في العراق من ذرّية يحيى وهو ابو الحسين الخارج بالديلم (٢).

قال في أنباء الزمن ، بعد ذكر وفاة المرتضى ما لفظه : ولم يزل أخوه الناصر مجاهدا للظالمين منابذا للمعاندين ، واستولى على كثير من البلاد وسار إلى عدن (٣) فدخلها في ثمانين ألفا نصفهم اهل قسي ، ودانت له أهل تلك

__________________

(١) الجدّة الهادي يحيى بن الحسين.

(٢) اللّالىء المضيئة.

(٣) وقد أطلت البحث في جميع المصادر المرجوة بأيدينا عما أشار إليه السيد صارم الدين بقوله عند ذكر الإمام الناصر في البسامة : ـ

ودوخ اليمن الاقصى الى

عدن مع الجبال كبعدان وكالشّعر

فلم نجد عن تفاصيل هاتيك الملاحم ما يستحق التّصدير ، وغاية ما هنالك ما رواه صاحب أنباء الزمن في حوادث سنة ٣١٠ الكلام المتقدم ، وكذلك الخزرجي والديبع في قرة العيون والشرفي اللآلىء والزحيف في شرحه والكبسي وغيره كلهم يشير بكلمة اجمالية ، كما فعل صاحب أنباء الزمن ، أما في سيرته فلم يتكلم عنها. ويقول الشرفي في وقعة نغاش انها كانت آخر الوقعات وأهمها ، ويقول عن الجيش الذي جمعه الإمام ، انه ألف وسبعمائة ولا شك ان تلك الوقعة من أكبر الوقعات ، وأما انها آخر فمشكل لما ذكره صاحب البسامة وأنباء الزمن وغيرهما ، والشرفي ذكر دخوله عدن في شرح بيت البسامة بكلمة لجملة وذكر ان وقعة نغاش آخر الوقعات وأهمها ، عند ذكر نغاش فتأمّل.

١٥٩

النّاحية ، وخضعت له الرّقاب العاصية ، وفي هذه السّنة وقع حرب بين دهمة واختها وائلة بني شاكر قتل فيها ثلثمائة رجل بسبب جار لوائلة قتلته دهمة.

ودخلت سنة ٣١١ لم يتفق فيها ما ينبغي ذكره عن اليمن وذكر كذلك عدة سنين الى سنة ٣٢٢ قال وفيها مات الإمام الناصر.

ودخلت سنة ٣٢٢ فيها وقعت فتنة بين الاكيليين والبرسميين والصنعانيين بصعدة ومال أهل صنعاء الى الاكيليين ، فلزم احمد بن يحيى عليه السلام منزله ومال عليه العشيون واليرسميون ، وكاتبوا حسّان بن عثمان بن أحمد بن يعفر. وكان مقيما بغرق ، واستدعوه فصار إلى برط وأعطاهم مالا كان معه وسار الى بني الحرث بنجران في شهر ربيع الآخر من هذه السنة ، وأتى جماعة من خولان ممن لا يعامله إلى أحمد بن يحيى فسألوه القيام وعاتبوه على ما كان منهم فبايعوه وحلفوا له ، ووصلت كتب من همدان والأحلاف يستدعونه فنهض إليهم يوم الأربعاء لثلاث عشرة خلت من جمادى الأولى من هذه السنة فصار إلى الأحلاف ونزل براحة واعتلّ علة شديدة (١).

__________________

(١) خبر فتنة الاكيليين وغيرهم منقولة من الملحق بسيرة الامام الهادي ، وقد نقلناها باللفظ تقريبا ، ولم نقف على كيفية وصول حسان بن عثمان إلى غرق والحال انها من بلاد الإمام ، وقد ذكرنا ان مصنف سيرة الإمام الهادي تعملّ للإمام الناصر عليها.

١٦٠