تاريخ اليمن الإسلامي

أحمد بن أحمد بن محمّد المطاع

تاريخ اليمن الإسلامي

المؤلف:

أحمد بن أحمد بن محمّد المطاع


المحقق: عبد الله محمّد الحبشي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: شركة دار التنوير للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٨

إمامهم يخرج منه ويقيمون على باب ذلك البيت فرسا بسرج ولجام ويقولون للطغام هذه الفرس لركاب المهدي يركبه متى ظهر ، وإنما غرضهم بذلك خدع وتعليل وتوصّل إلى المملكة وتضليل ، ومن أعجب ما سمعت أن بعض رؤساء القرامطة في الدّهر القديم ، لما حضرته المنيّة جمع أصحابه ، وجعل يقول لهم لما أحسّ بالموت (إني قد عزمت على النقلة ، وقد بعثت موسى وعيسى ومحمدا ، ولا بد لي أن أبعث غير هؤلاء : فعليه اللعنة لقد كفر أعظم الكفر في الساعة التي يؤمن فيها الكافر ، ويؤوب إلى آخرته المسافر) انتهى.

والذي يمكن الجزم به أن هذه الطائفة المتذبذبة الملحدة توافق الإسماعيلية في المبدأ والغاية ، مبدأ التّشيع والدعوة إلى الامام المزعوم ، والغاية التغلب والاستيلاء على الملك والكيد للدّول الاسلامية ، ولذلك تصافحوا أول الأمر ، واتفقوا على الكيد والغدر وتنابذوا في النهاية على الملك والفساد في الأرض ، والله لا يصلح عمل المفسدين.

اليمن وحظّه من الدعايات الثلاث منصور اليمن وابن خليع علي بن فضل

عرف أهل اليمن من قديم الزمان بالحبّ لأهل البيت النّبوي عليهم السلام ، وعلى الخصوص قبيلة همدان المشهورة بما كان لها يوم صفّين مع الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام ولم تزل رجالات همدان تتقرب من الإمام علي كرم الله وجهه بمناصرته ، ولزوم جماعته حتى أثنى عليها بقوله :

ولو كنت بوابا على باب جنة

لقلت لهمدان ادخلوا بسلام (١)

وفي هذا البيت من عاطفة الحب والإحترام ما لا يفتقر إلى مزيد بيان ، ولما قتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان ، وكان ما كان من المحن والرزايا ،

__________________

(١) هذا البيت من قصيدة طويلة لأمير المؤمنين علي عليه السلام تقدمت بكمالها في القسم الأول من هذا التاريخ في الكلام على همدان.

١٢١

أصاب اليمن ، رذاذ من سبيل الفتنة الجارف ، فظهر بعض رجال في اليمن بالتّعصّب (١) لعثمان وراسلوا معاوية بن أبي سفيان ، فانتهز معاوية الفرصة ، وأرسل بسر بن أرطاة العامري ، فدخل بسر اليمن وأظهر من القسوة والجبروت ، والخبث المتناهي في معاملته لأصحاب علي عليه السلام وشيعته ، ما ينكره الدين ، ويمقت مرتكبه وتشمئز منه الإنسانية والحق والفضيلة ، حتى أفضت به الحال في تجاوز الحد إلى قتل قثم وعبد الرحمن ابني عبيد الله بن العباس ، عامل أمير المؤمنين على اليمن ، وهما صبيّان لم تخضر مآزرهما (٢) فانحازت همدان إلى جبل شبام همدان ، وهو ذمرمر وتحصنت فيه من طغيان بشر المذكور (٣).

ولم تزل تحتفظ بحبها للإمام علي وأولاده عليهم السلام ، حتى تكوّنت من ذلك الحب فكرة سياسية ، وقام بتمثيل هذه الفكرة رجال خبراء بطرق الاستغلال ، ومن جملتهم أحمد بن عبد الله بن خليع بعدن لاعه وكان خبيرا برجال الشيعة ، ومن ينتمي إليهم وكانت نحلة الاثنا عشرية ، وشقيقاتها ، في طور الاكتمال والنمو ، فكان ابن خليع يوهم أتباعه باقتراب ظهور المهدي ، ويبث فيهم سمومه الفتاكة ، ويقول قيام المهدي في العام الذي يدخل فيه منصور اليمن ، وهو يدخل في هذا العام ، وجعل يعدّ عدته من سلاح ومال (٤) ونحوه فاتصل بنا ذلك الدّاعية ، وما يقوم به من الخدمات لجمعيته السرّية ، بملك صنعاء ابن أبي يعفر ، فأمر من أتاه به وسجنه حتى مات في سجنه ، وكان رئيس الجمعية علم بما كان فأوفد إلى اليمن من قبله الحسن بن فرج بن

__________________

(١) راجع شرح نهج البلاغة لا بن ابي الحديد.

(٢) نباتهما أي شعرهما.

(٣) تاريخ الداعي ادريس بن الالف.

(٤) المصدر نفسه (ص) قلت : وهذا الكتاب طبع بتحقيق مصطفى غالب وهي طبعة رديئة مليئة بالأخطاء انتهى منه الى السبع الخامس.

١٢٢

حوشب ويعرف بمنصور اليمن للدّعوة إلى المهدي ، وأمره أن يقصد عدن لاعه (١) ، فانتهى به السير إلى عدن ابين فوجد هنالك من رجال مذهبه من دلّه على عدن لاعه ، فسار إليها ووجد بها انصاره الذين قد تسمّمت عقولهم بذلك المذهب ، فأكرموا وفادته ، واقترن بأبنة أحمد بن عبد الله (٢) الداعي قبله الهالك في سجن بن يعفر ، وقبض ما كان قد أعدّ ابن خليع من مال وسلاح ، وأظهر الدّعوة وأقام بنشر أفكاره الهدامة وابتنى بيت ريب بجبل مسور ، وملك الجبل المذكور ، وكوكبان ، وما بينهما من البلدان ، والتف حوله لفيف من همدان واستفحل شأنه ، إلى أن بعث الى السند داعية ابن أخيه المعروف بالهيثم ، وبعث إليه رئيس الجمعية بأبي عبد الله الحسين بن احمد بن زكريا الشيعي الصنعاني ، وأمره بامتثال أوامر منصور ، في المنشط والمكره ، وان يترسم خطاه ، ويحتذي أعماله ، وبعد ان يفهم الدرس ويجيد الدّس ، يذهب حيث أراد ففعل الشيعي ما أمر به ، وحذق الصنعة ، وسار إلى افريقية لبث الدّعوة بها ، وما زال ، دائبا عاملا ، حتى تغلبت الدعوة على القيروان ، وغيرها في إفريقية ، وأزالت ملك بني مدرار من المغرب ، وكان لهذه الدعوة بكتامة ، وبلاد البربر ما هو مشهور وخرج مع الحس بن فرج داعية أيضا علي بن الفضل اليافعي الخنفري (٣) ، ولكنه لم يقف عند رموز ذلك المذهب بل تجاوز الحدّ فأظهر الكفر والرّدة والإباحية جهارا بلا مواربة ولا توارى ، بل تجاوز ذلك وجاذب فرعون حبل كفره الملعون ، وتلك غاية السخف والطغيان ، وقد

__________________

(١) انظر عيون الأخبار للداعي اورس عماد الدين (السبع الخامس) ص ٣٦

(٢) يعني الخليع

(٣) قلت : علي بن الفضل ممن كثر الحديث حولهم ونادرا ما يخلو كتابا من كتب التاريخ اليمني من اشارة إليه وإلى دعوته شيء من الإنكار والتكفير وقد نقل مؤلفنا العلامة الشهيد احمد المطاع رحمه الله ما جاء في كتب تلك الكتب ونقد بعضها ، ومن الباحثين المعاصرين من يحسن الظن بابن فضل ويرى ان ما كتب عنه من تعصبات اهل المذاهب واهواء دينية وسياسية والله أعلم بالحقيقة.

١٢٣

فعل من العيث والتدمير والتخريب والتقتيل في الأمة اليمنية مالا يوصف ولا يحيط به البيان ، وسنأتي على أخباره تفصيلا ، وإنما سقنا هذه الجملة لبيان اصل هذا الداء ومن أين بدا وكيف ظهر ، وفوق كل ذي علم عليم.

قال الجندي في تاريخه (١) ، كان علي بن الفضل من عرب يقال لهم الاجدون ينسبون إلى ذي جدن ، وكان شيعيا على مذهب الاثنا عشرية (٢) ، فحج مكة ثم خرج مع ركب العراق لزيارة مشهد الحسين فلما وصله جعل يولول ويصيح ، ويقول ليت من كان حضرك يا ابن رسول الله حين جاءك جيش الفجرة ، وميمون (٣) القداح ملازم للضريح ومعه ولده عبيد الله يخدمه ، فحين رأيا ابن فضل على تلك الحالة طمعا في اصطياده ، ثم خلا به ميمون ، وعرفه انه لا بد لولده من دولة يتوارثها بنوه لكن لا تكون حتى تكون بدايتها من اليمن فقال إبن فضل ذلك يمكن في اليمن ، والناموس (٤) جائز عليهم فأمره بالتّثبيت والوقوف حتى ينظر ما في الأمر ، وكان ميمون في الأصل يهوديا قد حسد الإسلام ، واغتار على دينه فلم يجد حيلة غير العكوف على تربة الحسين بكربلاء وإظهار الإسلام وأصله من سلمية مدينة بالشام وانتسب إلى العلوية ، وأكثرهم ينكر صحة نسبه (٥). والله أعلم.

__________________

(١) انظر السوك للجندي ج ١ ص ٢٣١ طبعة وزارة الاعلام وتحقيق الاستاذ محمد بن علي الأكوع.

(٢) فيه دلالة على ما سبقت الاشارة إليه من ظهور مذهب الإمامية في اليمن واعتناق بعض رجال من اليمن ذلك المذهب قبل ظهور الاسماعيلية أو القرامطة ، فإن المذهب الجديد ، فاظهر على يد ابن فضل بعد عودته من العراق (ص).

(٣) هو عبد الله بن ميمون القداح المتوفي حوالي (٢٦١) وابوه يسمى أبا شاكر ميمون بن ديصان صاحب كتاب الميزان في نصرة الزندقة ، وأصله من بلده قرب الأهواز وسمي عبد الله القداح لأنه كان يعالج العيون ويقدحها ومن اتباعه حمدان قرمط ومحمد بن الحسين : انظر تاريخ الفلسفة في الاسلام ، وفهرس ابن النديم ، والكامل لا بن الاثير.

(٤) الناموس في الأصل صاحب السر وصاحب سر الوحي ومنه حديث ورقة بن نوفل.

(٥) راجع ما كتبه شيخ المؤرخين ابن خلدون في نسب العبيدين.

١٢٤

قال (١) وقطع ابن مالك بأنه يهودي ، وصحبه رجل من كربلاء يعرف بمنصور بن الحسن بن حوشب بن الفرج بن المبارك من ولد عقيل بن أبي طالب ، كان جده زادان (٢) اثنا عشري المذهب أحد أعيان الكوفة. وسكن أولاده على تربة الحسين فحين قدم ميمون تفرّس بمنصور النجابة والرياسة فاستماله وصحبه وكانت له دنيا يستمد منها ، وكان ذا علم بالفلك ، فأدرك ان له دولة وانه احد الدعاة إلى ولده ، فلما قدم ابن فضل وصحبه رأى انه قد تم له المراد وان ابن فضل من أهل اليمن خبير به ، وبأهله ، فقال ميمون لمنصور : يا أبا القاسم ان الدّين يمان والكعبة يمانية والركن يمان وكل امر يكون مبتدأه من قبل اليمن فهو ثابت لثبوت نجمه ، وقد رأيت ان تخرج انت وصاحبنا علي بن فضل إلى اليمن وتدعوان إلى ولدي فسيكون لكما شأن وسلطان ، وكان منصور قد عرف من ميمون إصابات كثيرة ، وبعد أن أوصاهما بالاتفاق وحذرهما من الافتراق أرسلهما وأمرهما بإخفاء أمرهما وأمر منصور ان يقصد عدن لاعة من بلاد حجة ، فلم يعرف منصور عدن لاعة ، وقصد عدن أبين ، ثم انه خرج من عدن أبين صحبة جماعة من التجار من تلك البلاد وما زال يظهر الورع والعبادة حتى استمالهم إليه ودعاهم إلى المهدي المنتظر ، وحلف منهم جماعة على القيام ، وصاروا يأتون إليه بزكاة أموالهم ، ثم انتقل بما معه من الأموال وبنى عين محرم وهو حصن كان لبني الفدعا (٣) وتبعه خمسمائة رجل ممن تابعه وعاهده (٤) فأظهر الدعوة علنا ، ومال إليه خلق كثير ، ولما أخذ جبل مسور استعمل الطبول والرايات ، بحيث كان له ثلاثون طبلا ، إذا أقبل من مكان سمعت الى مسافة بعيدة ، وكان للحوالي حصن

__________________

(١) يعني الجندي في السلوك ص ٢٣٢.

(٢) هذه رواية الجندي ولا أدري من أين جاء ، زادان وقد رفع نسبه إلى عقيل بن ابي طالب فتأمل.

(٣) في مطبوعة السلوك العرجا.

(٤) كذا لعل صوابه وعادهم وفي السلوك وعاهدوني.

١٢٥

بجبل مسور ، به وال انتزعه (١) منه ، وكتب إلى ميمون بخبره بقيام أمره وظهوره على من عانده ، وبعث له بهدايا وتحف جليلة وذلك عام (٢٩٠) ، ولما وصلته الهدايا قال لولده عبيد الله : هذه دولتك قد قامت لكن لا أحب ظهورها إلّا من المغرب ، وهذا عبيد الله هو الملقب بالمهدي جد ملوك المغرب ومصر وإليه ينتسبون :

وأما علي بن فضل فإنه قصد أول أمره بلد يافع ، وجعل يتعبّد في الأودية والشعاب حتى اغتر به أهل البلاد وانخدعوا بزوره وتمويهه ، وسألوه أن يطلع جبلهم فأبى أول الأمر ثم أجابهم على شرط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر :

جعلوا الحق لبغي سلّما

فهو كالبتار لهم والترس

وقديما باسمه قد ظلما

كل ذي مأذنة أو جرس

فسمعوا له وأطاعوا ، وأتوه بزكاة أموالهم ، وأخذ عليهم العهود بالسّمع والطاعة ، وأمرهم بعمارة حصن في ناحية السرو ففعلوا وانهبهم اطراف البلاد وأراهم ان ذلك جهاد في سبيل الله حتى يدخلوا في دين الله طوعا أو كرها ، وكان يومئذ في لحج وابين رجل يعرف بابن أبي العلاء من الأصابح مالكا لها فقصده ابن الفضل بمن معه من يافع وغيرهم ، فكانت الدائرة عليه وانهزم إلى صهيب (٢) واجتمع هنالك أصحابه فقال لهم : إني أرى رأيا صائبا قالوا : وما هو ، قال : اعلموا ان القوم قد امنوا منا وارى ان نهجم عليهم فانا نظفر بهم فأطاعوه وأعادوا الكرة على إبن ابي العلاء ، فظفروا به ، وقتلوه واستباح ما كان له ولأصحابه ، ووجد في خزائنه سبعين بدرة ، وبذلك طار ذكره وغلظ

__________________

(١) قال الشرفي في لآليه : ثم ان منصور شهر السيف فطلع جبل مسور واستنجد واسر العامل الذي كان فيه للأمير ابراهيم بن محمد بن أبي يعفر الحوالي ، وبني حصن مسور ونزل به وغلب على ملك الناحية :

(٢) صهيب : بلدة في الجنوب الشرقي من الضالع

١٢٦

أمره ، وقصد المذيخرة (١) سنة ٢٩١ ، وبها جعفر بن احمد المناخي وإليه ينسب مخلاف جعفر ، وكان ابن فضل ، قد كتب إلى المناخي : بلغني ما أنت عليه من ظلم المسلمين ، وأخذ أموالهم ، وإنما قمت لاقامة الحق وإماتة الباطل ، وكان جعفر قد قطع من أهل جهته على حجر (٢) بالمذيخرة ثلثمائة يد فاقترح عليه ابن فضل تسليم دية الأيدي المقطوعة ، ثم جمع جموعه وقصد المناخي ، ولما التقى الجمعان انهزم ابن فضل وعاد إلى بلد يافع ، وكانت الوقعة يوم الخميس لثمان خلون من رمضان من السنة المذكورة.

ودخلت سنة ٢٩٢ في صفر منها تجهز الطاغية لمنازلة جعفر المناخي وقصد المذيخرة فدخلها ، وأخذ حصن التعكر ففر المناخي إلى تهامة وبلغ القرتب من وادي زبيد فأمدّه صاحب زبيد بجيش كثيف ، فرجع يريد استرجاع المذيخرة فلقيه علي بن الفضل في جموعه ، وكانت بينهما ملحمة كبرى قتل فيها جعفر بن ابراهيم وابن عمه ابو الفتوح ، وحملت رؤوسهم إلى المذيخرة ، وتم للطاغية الاستيلاء على بلاد المناخي (٣) وجعلها مستقر طغيانه.

قال الجندي (٤) ولما ملك ابن فضل بلد الجعفري استباح البلد وسبى الحريم وجعل المذيخرة دار ملكه ، ثم ادّعى النبوءة ، وأحل لأصحابه شرب الخمر ، ونكاح البنات والأخوات ، ودخل الجند في موسمها أول خمس من رجب ، فصعد المنبر وقال الأبيات المشهورة وهي :

خذي الدف يا هذه والعبي

وغنّي هزارك ثم اطربي

تولى نبي بني هاشم

وهذا نبي بني يعرب

__________________

(١) مدينة اعلا جبل ثومان بالعدين.

(٢) العسجد المسبوك ص ٣٩.

(٣) ومدة دولة المناخي من سنة ٢٤٩ الى سنة ٢٩٢ ثلاث واربعين سنة ٤٣.

(٤) السلوك ص ٢٣٦.

١٢٧

لكل نبي مضى شرعة

وهذي شريعة هذا النبي

فقد حطّ عنا فروض الصلاة

وحط الصيام ولم يتعب

إذا الناس صلوا فلا تنهضي

وان صوّموا فكلي واشربي

ولا تطلبي السعي عند الصفا

ولا زورة القبر في يثرب

ولا تمنعي نفسك العرسين

من الأقربين مع الاجنبي

وهذه الأبيات الإباحية وإن كانت تمثل نزعة الطاغية واستهتاره فإنّا نستبعد ان يكون هو قائلها والأرجح ما رواه الشرفي في لآليه من انه قالها فيه بعض شعراء عصره (١).

ودخلت سنة ٢٩٣ فيها سار إلى بلاد يحصب ودخل منكث فأخربها ، ولما وصل ذمار وجد بها جيشا عظيما للأمير الحوالي بهران فكتب إلى والي هرّان ويقال له اليافعي كتب إليه يستميله فأجابه اليافعي ، ومال إلى نحلته ، ثم قصد ابن فضل صنعاء بجنود جرّارة فنزل ضبوة ، وخرج إليه امير صنعاء اسعد بن أبي يعفر فحاربه يومه وقتل من أصحاب الطاغية بن فضل أربعمائة رجل ، ورجع أسعد آخر ذلك اليوم إلى صنعاء فتعقّبه بن فضل ليلا ، ولم يتمكن من دخول المدينة ، فحط بجبل تقم ثلاثة ايام ، وفي اليوم الرابع هاجم صنعاء في خمسة آلاف مقاتل ، ودخلها من ناحية الشهابيين بسعاية مهلّب الشهابي فحاربه أسعد بن أبي يعفر إلى عصر ذلك اليوم ، وكان يوما عصيبا على أهل صنعاء ، وخرج منهم جماعة بأهلهم وأولادهم وتركوا منازلهم ، وامتعتهم ، فاستباح الطّاغية صنعاء قتلا ونهبا ، وأباح المحارم وفر ابن يعفر إلى شبام ، فحاربه القرمطي صاحب جبل ذخار ، فخرج ابن يعفر بأهله وأثقاله إلى بلاد الدعام (٢) قال في أنباء الزمن : ولما تمكن ابن فضل من

__________________

(١) وكذا في كشف اسرار الباطنية وهو أول من أوردها ونقلها عنه كل من اتى بعده وفي رسالة الغفران منسوبة إلى الصناديقي وسيأتي للمؤلف ان الصناديقي هو اسم لعلي بن الفضل.

(٢) سيرة الامام الهادي.

١٢٨

صنعاء لم يحسن فيها صنعا أظهر مذهبه الخبيث ، ودينه المشؤوم وارتكب محظورات الشرع وادعى النبوءة (١) ورقا منبر جامع صنعاء وخطب خطبة منكرة صرّح فيها بعقيدته الكفرية ، وحمل عليها من تابعه من تلك الفرقة الغوية ، وقد ذكر هذه الخطبة كثير من المؤرخين ، وإنما تركناها تنزيها لكتابنا عن كلام هذا المارق اللّعين ، وإن كانت شاهدة عليه بالكفر الصّريح ، غير أن في أعماله ما يغني عن التصريح ضاعف الله له العذاب ، في يوم الجزاء والحساب ، فإنه هدم أركان الاسلام ، وبالغ في دحض الشرائع الواردة عن سيد الأنام صلى الله عليه وعلى آله الكرام ، وأباح لتابعيه الخمور ، وإتيان الذكور ، وارتكاب المحرّمات من نكاح البنات والأمّهات ، وأسقط حج بيت الله الحرام ، ومن قبيح فعله أنه اتّخذ جامع صنعاء إصطبلا للخيل بعد تلاوة القرآن فيه بالنهار والليل (٢).

ولما علم منصور بن حسن بدخول الطاغية صنعاء تجهّز بالمسير إليه من مسور ، وحين اجتمع به لامه على ما فعل بصنعاء وأقاما اياما وابن فضل يعظم منصورا ويبجله ويقول : انما أنا سيف من سيوفك ، ويوهم أصحابه ان منصور بن حسن من جملة أتباعه ، وكان منصور يهاب ابن فضل لجرأته وفتكه ، فكان كل واحد منهما يضمر الشر للآخر ، ويتربص به ولسان الحال تنشدهما :

شقيان في خلق واحد

تؤلف بينهما الزندقة

كشقّي مقص تجمعتا

على غير شيء سوى التفرقة

__________________

(١) يستفاد من هذه الرواية ان خطبة الطاغية الاباحية كانت بجامع صنعاء الجندي يذكر انها كانت بجامع الجند ، ولا مانع من تكررها غير أن الظروف التي يمكن أن تقع فيها هي بصنعاء أقرب حيث قد اتسع نفوذه وتمكن سلطانه ، وسيأتي بعد هذا انه جعل الحج إلى الجرف والعمرة إلى التالبي ، وهما موضعان بالقرب من المذيخرة.

(٢) انظر العسجد ص ٣٩.

١٢٩

ولما عزم ابن فضل على قصد تهامة نهاه منصور بن حسن وقال له : الرأي ان تقف بصنعاء وانا بشبام سنة ، حتى نصلح البلاد التي استفتحناها ، وتتمكن فيها اليد ، فلم يسعد ابن فضل ، وسار في ثلاثين ألفا وجعل طريقه على بلاد المغارب ، ولما توسط مضايق البلاد ثارت عليه القبائل ، ولزموا الطّرق ، فلم يقدر على التخلص فانجده منصور وخلصه من أيدي الثائرين فسار ابن فضل لطيته (١) وكان مروره على ملحان ومنه توجه إلى المهجم ، فقتل صاحبها ، ثم سار إلى الكدرا ، فأخذها ، وتقدم إلى زبيد ففر منه اسحق بن ابراهيم بن زياد فنال منه ابن فضل ما يريد ، وملك زبيد ، وقتل من أهلها وسبأ من نسائها أربعة آلاف عذراء ، ثم خرج منها راجعا إلى المذيخرة ، ولما وصل بعض الطريق قال لأصحابه ان هؤلاء النساء شغلنكم عن الجهاد ، ونساء الحصيب فتنة فاذبحوا ما في أيديكم منهم فذبحوهن في ساعة واحدة ، فسمى ذلك الموضع الذي ذبحن فيه المشاحيط ، ولعمري ان القلم ليتعثّر خجلا من تسطير تهافت هذا الطاغية واستهتاره لو لا أنها حقائق تاريخية ، وكيفما كان فإن ذلك لا يمنعنا من إرسال اللّعنات على مرتكب تلك المخازي والمقت العظيم ، لتلك الدعاية التي عبدت الطرق لملحد مستهتر يستبيح المدن ومن فيها ويقتل أربعة آلاف عذراء في ساعة واحدة لا قوة إلّا بالله.

أحوال صنعاء بعد عزم الطاغية عنها ورجوع الإمام الهادي إليها

في هذا العام بعد رحيل ابن فضل عن صنعاء وثب بها ابن كبالة (٢) فاستولى عليها وقتل من بها من فلول القرامطة وكتب بذلك إلى الدعام لينجده

__________________

(١) كذا في الأصل وفي العسجد ص ٤٠ صنعاء.

(٢) الحسن بن كبالة من موالي آل يعفر (ص) وفي العسجد كالة وفي سيرة الهادي ابن كيالة بالياء المثناة.

١٣٠

فارسل الدعام ولده الحسين في عسكر إلى صنعاء وكتبا إلى الامام الهادي عليه السلام يعلمانه بما كان ، ويدعوانه اليها فأجابهما الإمام ، وأرسل ابنه أبا القاسم ، فسار إلى صنعاء في جمادى الأولى ثم ان جماعة من أهل صنعاء ساروا إلى حضرة الإمام يستنهضونه ، فبادر إلى صنعاء ، ودخلها لأربع ليال من جمادى الآخرة من السنة ، ودخل معه آل يعفر والدعام ، وولده وابناء الروية وولد جعفر بن ابراهيم المناخي ، وغيرهم من رؤساء اليمن وسراته ، وكانت إقدام القرامطة قد تزعزعت وحاربهم ابن كباله في ضهر وشبام وطردهم عنها ، فبعث الإمام ابنه ابا القاسم إلى ذمار وولّى القضاء بصنعاء احمد بن يوسف الحداقي.

وكان ابن فضل يحارب اسحق بن ابراهيم بن زياد في زبيد ولما فتحها وفرّ صاحبها كما تقدم عاد إلى المذيخرة وقد قوي أمره وارتفع دخانه فأرسل عيسى اليافعي إلى ذمار فخرج منها أبو القاسم ولحق بالإمام إلى صنعاء وسار ابو العشيرة احمد بن محمد بن الروية إلى ثاه رداع فانحاز إليه كثير من عشيرته وأهل البلد فقصده اليافعي إلى رداع وقتله واستباح البلد (١).

ودخلت سنة ٢٩٤ فيها وثب ابن كبالة على الامام الهادي فندب الامام لحربه أهل صنعاء فتخاذلوا ، فخرج الإمام من صنعاء وعاد إلى صعدة في عاشر المحرم وكان أسعد بن أبي يعفر قد صار بهمدان ، وأقام بورور ، قبل أن يرتكب ابن كبالة جريمته ، فكتب إليه يستقدمه ، وكان جراح بن بشر بشبام فأخرجه القرمطي منها وعاد إلى صنعاء ووصل اسعد بن أبي يعفر وأقاموا جميعا بصنعاء واقرّوا احمد بن يوسف قاضي الإمام على القضاء.

وفيها عزم ابن ذي الطوق القرمطي وعيسى اليافعي الى بلاد المغرب ، فخرج لحربهما جراح وابن كبالة في أهل صنعاء وعسكرهما ، فقاتلوهم

__________________

(١) كل هذه الأنباء مستقاة من سيرة الإمام الهادي (ص).

١٣١

وانهزموا عنهم بعد أن قتل من أهل صنعاء وغيرهم أربعمائة قتيل ، وعادوا إلى صنعاء ثم ان ابن ذي الطوق القرمطي وثب على عيسى اليافعي القرمطي فقتله ، وجماعة من أصحابه غدرا فاستأمن بقية أصحاب اليافعي إلى صنعاء.

رجوع الطاغية إلى صنعاء

وفيها عزم الطاغية ابن فضل على قصد صنعاء ولما بلغ جزيز (١) خرج إليه أسعد بن أبي يعفر ومن معه فقاتله ، وقتل من أصحابه نحو ستين رجلا ، ولم يثبت له فدخل ابن فضل صنعاء أول يوم من رجب من هذه السنة واستباحها ، ونال من أهلها منالا عظيما ، وسار اسعد وابن كبالة إلى قدم ، ومكثت القرامطة تعيث وتفسد في صنعاء ونواحيها ثلاث سنين ، إلّا أحد عشر يوما وأصابتهم علة فمات منهم من لا يحصى والحمد لله ربّ العالمين (٢).

نجران وما كان به من الأحداث

وفيها ظهرت الدّعاية القرمطية بنجران على يد رجل من موالي بني أمية يقال له حسين بن حسين الحاشدي فتطاولت أعناق بني الحرث والياميين الى مساقط الفتنة ومراتع الضلال ، وهموا بما لم ينالوا ورئيسهم ابن حميد ومرزوق بن محمد المري ، وعلي بن الربيع المداني ، ولما عرف ابو جعفر ما يضمرونه من الشر والفساد ، كتب إلى الامام يستحثه على المسارعة لاخماد ذلك الفساد وكتب إليه قصيدة أولها (٣) :

دار لمية ما بها آثار

فالرّبع منها موحش مقفار

قد غيّرتها بعد ساكنها الصبا

وتقادم الأزمان والأمطار

ومحا مغانيها الدّهور فأصبحت

دار الأوانس ما بها سمار

__________________

(١) من قرى سنحان جنوبي صنعاء بمسافة ١٣ ك. م.

(٢) سيرة الامام (ص).

(٣) انظرها في سيرة الهادي ص ٣٣١.

١٣٢

وتنكرت عرصاتها وادرورست

فالدار من تلك الحسان بوار

من بعد ما كنا بها في لذة

اضحت خلاء ما بها عمّار

إلّا ثلاث في الرماد رواكد

سود ومسجوع (١) الجبين مطار

لما وقفت العيس في عرصاتها

أسل الديار فلم يجبني الدار

انهلّ دمعي عند ذاك لذكرهم

ومع غزير واكف مدرار

وذكرت ايام الشّباب وطيبها

اذ نحن فيها قاطنون صغار

نلهو نلعب في رياض نعيمها

لا تنقضي من طيبها الأوطار

ومنها في مخاطبة الإمام واستحثاثه وذكر القرامطة ومذهبهم الخبيث

يا خير من قاد الجياد ومن به

فخرت قريش كلها ونزار

يا خير من غمر الأنام بفضله

يا خير من ينتابه الزوار

ظهر الفساد بأرضنا وبلادنا

قامت بذاك قرامط أشرار

كفروا برب النّاس بابن محمد

والكفر شيمتهم فهم كفّار

قالوا إمامهم اله قادر

كذبوا عليهم لعنة وصغار

فانهض نصرت عليهم فابدهم

ان القرامط عاضدتها عار

فلما وصل الكتاب إلى الامام نهض مبادرا الى نجران لسبع بقين من رجب ، وأقام بنجران يتبع القرامطة ويقلم اظفار المفسدين في تلك الديار ، ويقيم الحدود على من ظهر منه انتهاكها من الاشرار ، فرجم امرأة ثبت لديه بالشهادة العادلة المعتبرة انها زنت بعد إحصان ، وقتل رجلا من العبيد كان يبيع الخمر ويجمع بين الرجال والنساء ، وبعد صلاح البلاد وزوال دواعي الشّرور والفساد ، عاد الى صعدة أول يوم من رمضان واستاق جماعة من القرامطة والياميين وعلي ابن الربيع وغيره وأودع الجميع سجن صعدة.

ولكن ذلك لم ينهنه اهل نجران عن الغدر ونقض العهود (وليس بغان

__________________

(١) في مطبوعة السيرة (مشجوح).

١٣٣

طيشهم والتقلب) فسرعان ما رجعوا إلى ما ألفوا فحرس العامل غفلته منهم ولم يطابق بين جفونه ، وأمعن في تتبع عوار أتباع الغي منهم حتى استقامت قناتهم وسكنت دهماؤهم ، وبينما هم كذلك إذ وردت أوامر الإمام قاضية بسحب الجنود من نجران وارسالها مددا لعبد الله بن الخطاب الحكمي ابن عم الغطريف الحكمي إلى تهامة ، فخرج محمد بن عبد الملك الوادعي إلى الامام وراجعه في اطلاق الياميين الذين استاقهم الامام من نجران وحبسهم بصعدة فأطلقهم بعد أن حمّلهم للوادعيين سبع عشرة دية ، عدد قتلاهم ، ولما وصلوا الى نجران طمع ابن بسطام في تخلية ابن الربيع فسار إلى الامام وسأله ذلك فكره الإمام إطلاقه ومراد ابن بسطام من إطلاق ابن الربيع التحزّب للفساد ، فلما أيس من إطلاقه ، راجع في القرامطة فاطلقهم الإمام ثم خرج محمد بن الهيثم ، وأحمد بن الأربد وكانا في الظاهر مع الإمام وطلبا منه إطلاق موسى الدهف العمري ، والحماسيين فأطلقهم وصاروا كلهم في وادي نجران وازدادوا حيفا على السلطان ، ولم يشكروا ما صنع لهم من الاحسان.

إذا انت اكرمت الكريم ملكته

وان أنت اكرمت اللئيم تمردا

ولما كان شهر الحجة قدم الحاج من مكة وأخبر أن المسود واصل من مكة الى صعدة فأجمع امرهم على الفتك بعامل الإمام. وبلغ ذلك العامل ، فكتب إلى الإمام باضطراب البلد وما أجمعت عليه الأشرار وذيل الكتاب بقصيدة أولها (١) :

لاح المشيب بمفرقي وبراسي

وبعارضي فعاد كالقرطاس

يابن الحسين تحالفت حار على

ان يقتلونا يا بني العباس

من ال خيثمة ومذحج (٢) كلها

والحي من يام وحي حماس

__________________

(١) سيرة الهادي ص ٣٤٨.

(٢) في مطبوعة السيرة مدمج.

١٣٤

وبني ربيعة من يحل بضاعن (١)

والقاطنين بحافتي ميناس

وهي طويلة ، ولما دخلت سنة ٢٩٥ بلغهم قدوم المسود (٢) إلى صعدة فكاتبوه يستنهضونه فحثهم على الفتك بالعامل ان كانوا صادقين ، فزاد طمعهم وهم كما ترى من أحوالهم يهطعون إلى كل بارقة تلوح ، ويفترون بكل سانحة تمر ، ويصيحون لكل صيحة ، ويهبّون مع كل ناعق ، دائمو الانتقاض والخروج والثوران والتمرّد ، لا سيما بني الحرث مهد الفتنة ومربع العصيان ، فصار ابن حميد يستطيل على عامل الإمام ، وتبدو منه بوادر الشر ، فكتب أبو جعفر محمد بن عبيد الله إلى الإمام وسأله ان يسبق القوم الى البلد ، قبل فوات الوقت ، وذيل الكتاب بهذين البيتين (٣) :

ارى خلل الرماد وميض نار

ويوشك ان يكون لها اضطرام

فان النار بالعودين تورى

وان الحرب أولها كلام

وارسل بالكتاب ولده علي بن محمد (٤) ، فلما وصل إلى الإمام وعرف الواقع بادر بالنجدة ، وتحرك على رأس قوة كبيرة من خيل ورجال ، ولما وصل الحضن تلقاه ابن بسطام معتذرا عن بني الحرث ، فلم يقبل منه الإمام قبل ان يتفق بعامله ويستفصل منه الواقع وبادر إلى قرية الهجر مقر العامل

__________________

(١) في المطبوعة بصاغر وضاعن بلد من جحور.

(٢) هكذا في سيرة الإمام ولم يظهر من المسود ولا وجدنا في جميع المصادر ما يدل على وصول عامل بغداد ، أيام الهادي عليه السلام الى صعدة ، ان يريد بالمسود عامل بن عباس فتأمّل.

(٣) البيتان لنصر بن سيار والى مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية انظر هامش سيرة الهادي ص ٢٥٣ للمحقق.

(٤) علي بن محمد هذا هو مؤلف سيرة الإمام الهادي مات في خلافة الإمام الناصر بن الهادي في الجوف ونقل إلى خيوان وقبر بها ورثاه الإمام الناصر بقوله :

قبر بخيوان حوى ماجدا

منتخب الآباء عباسي

من يطعن الطّعنة خوارة

كأنها طعنة حساس

قبر علي بن ابي جعفر

منجدل كالجبل الراسي

١٣٥

ومكث بها أياما ، ثم خرج منها غرة ذي القعدة من السنة الى موضع كانت بنو الحرث قد تحصّنت فيه بجبل يقال له اللواء فنازلهم الإمام وضايقهم حتى أجلاهم ، ثم تحول إلى حصن لبني الحرث يقال له بلاد حطّ بالقرب منه فأمر بهدمه وإحراقه ، وجعل يتتبع بني الحرث في السّهل والجبل ، ولما رأى ذلك ابن بسطام خاف الهلاك عليهم فصار الى ميناس ، وأرسل الى ابن حميد يأمره بالتغيّب ، فصار ابن حميد يصرخ بالناس في ارض زبيد ونهد ، وأرسل الى الجوف فلم يجبه أحد.

مقتل ابن بسطام

لما رأى ابن بسطام ما حل من الخذلان بني الحرث أتى إلى الإمام يستأمنه لجماعة منهم ، فأمنهم الإمام ، وما زال يستأمن بني الحرث قبيلة قبيلة ، والإمام يؤمنهم ، وكانت بين ابن بسطام وبين يام والأحلاف تراث وذحول فساءها نفوذ ابن بسطام ووجاهته عند الامام ، ودبّرت حيلة لاغتياله وقتلوه بقرية الهجر ولما علم الامام جمع الجنود وعزم على غزوهم للأخذ بثأر ابن بسطام ، فأرسلوا إليه وطلبوا منه التروي ، وقالوا انهم قتلوه بمن قتل منهم وكان ابن بسطام قد قتل ستة من الياميين والأحلاف ، فتوقف الإمام عن تأديبهم ومعاقبتهم لهذه الشبهة ، فاجتمعت بنو الحرث بميناس ، وزعموا ان ابن بسطام قتل بأمر الإمام وارادته ، وانه المطلوب به قبل غيره فأنكر الإمام هذه التهمة وتبرأ منها ، وحلف لبني الحرث وغيرهم ، فأقتنع البعض ، وتشكك آخرون ، ثم انه أخذ جماعة من يام والأحلاف ، وحبسهم وأمر عامله أن يتولّى حسم المادة بينهم ، ورجع إلى صعدة ، وقد كان أبو جعفر قبل قتل ابن بسطام ، طلب من الإمام أن يعفيه عن ولاية نجران ، لما يعلمه من غدرهم ومكرهم وتلوّنهم وصعوبة مقادتهم ، وانهم وان وضعوا السلاح عند الغلب ، لا يضعون الانتقام عند سنوح الفرصة ، فقال له الإمام : لا نحب أن نحمل عليك امرا تكرهه ، فاستخر الله في أمرك وانا نرجو ان لا تخالف ما أمرناك به إن شاء

١٣٦

الله فلما سمع جواب الإمام رجع عن فكرته ، ووطّن نفسه على الصبر حتى النهاية ، وكان يريد نقل حرمه وأولاده إلى الحضن فلما قتل ابن بسطام نهاه الإمام عن ذلك وقال له انه مما يوهن أمره ويطمع عدوّه فيه ، وأمره ان يترك عائلته في الدار التي كانوا فيها ، وقال له ان بني الحرث ان أرادت الحرب عليك فإنما يقصدون هذه الدّار اي التي كان فيها الإمام الهادي عليه السلام.

رجوع الإمام إلى صعدة وقتل عامله على نجران

تحرك الإمام من نجران في شهر ذي الحجة من سنة ٢٩٥ ، وترك من الجند ثلاثة وعشرين فارسا وخمسة وخمسين راجلا بمعية عامله لإخضاع من تحدّثه نفسه بالتمرّد ، وقد أخذ العهود والمواثيق من بني عبد المدان على السمع والطاعة لعامله ليقضي الله أمرا كان مفعولا.

ولما انقضت ايام عيد الأضحى ثار ابن حميد ومعه بنو الحرث ، وكان عند علي بن محمد أولاده الثلاثة علي وجعفر والقاسم ، فأمرهم بالمصير إلى الحضن (١) فكرهوا فراقه ، وسألوه ان يخرج معهم فانهم لا يثقون ببني عبد المدان عليه ولا عليهم فلم يصغ إلى مقترحهم ، وقال : انه قد أخذ عليهم العهود والمواثيق وهو يرجو الا يغدروا به :

والمرتجون من ابن الشر خيرهم

كمن يؤلف بين الذئب والضان

واقسم انه لا يخرج من القرية وفيه عرق ينبض بالحياة ، وأبت له نفسه العالية وشجاعته العلوية إلّا الثبات والدفاع عن الحق إلى آخر نفس من انفاس الحياة.

وقد صدقت فراسة أولاده في بني عبد المدان ، فإنّهم لما جد الجدّ وحزّبت الحوازب مالؤا العدو عليه ونسوا كل عهد واستخفّوا بكل ميثاق فقد

__________________

(١) يتردد ذكر الحضن كثيرا وهي بالتحريك والضاد المعجمة قرية وضياع زراعية من اعمال بيش (انظر المعجم الجغرافي للعقيلي ص ٨٧).

١٣٧

هاجم ابن حميد ومعه بنو الحرث قرية الهجر وغدر بنو عبد المدان وفي ذلك يقول ابو جعفر رحمه الله (١) :

غدرتم يا بني عبد المدان

وكان الغدر من شيم الجبان

حلفتم لي بإيمان غلاظ

تخرّ لها الصّخور مع القنان

بانكم على نصري حراص

غداة الرّوع في وهج الطعان

فلم توفوا بعهدكم وكنتم

شرارا يا بني عبد المدان

بقي ابو جعفر في نفر قليل من خلص انصاره بقلوب يغمرها الإيمان بالله والرّضا بحكمه ، وقد أحاط بهم العدو من كل جهة ، ولم يبق أمامهم غير الفرار أو الموت (وهما أمران أحلاهما مرّ).

أبوا أن يفرّوا والقنا في نحورهم

ولم يرتقوا من خشية الموت سلّما

ولو أنهم فرّوا لكانوا أعزة

ولكن رأوا صبرا على الموت أحزما

وقد أشار عليه بعض أصحابه بالرّكوب فقال لهم : ليس هذا الوقت وقت ركوب ، ولكن أنزلوا معنا نجالد القوم عن أنفسنا وحرمنا ، حتى يحكم الله بيننا وبين عدوّنا ، وهو خير الحاكمين. ومضى قدما بنفس هاشة ، ووجه طلق يهزأ بالخطوب ، ويحتقر الموت ولسان حاله تتمثل :

ردي حياض الرّدى يا نفس واتركي

حياض خوف الردى للشاء والنعم

ان لم اذرك على الأرماح سائلة

فلا دعيت ابن أم المجد والكرم

وبعد عراك شديد تحصن ومن بقي من أصحابه بالدار التي كان فيها الإمام الهادي ، وجعلوا يجالدون القوم ويدافعون دفاع الليوث عن اشبالها ، حتى اقتحموا عليهم الدار من جميع جهاتها ، ورموهم بالنار والحجارة فلم يؤثر ذلك في نفوسهم ، وجعلوا يبرزون للقوم الرجل بعد الرجل ، فاذا ما قتل الأول سد مسده الآخر ، حتى أفضت النوبة إلى أميرهم البطل الأروع ،

__________________

(١) الأبيات في سيرة الهادي ص ٣٧١.

١٣٨

فكانت معركة شديدة ثاروا عليه من كل جانب ، وهو ثابت كأنه خنذيذة (١) من جبل يفلّ شبأ عدوانهم ، بمن يرديه من أبطالهم فتلاءمت تلك الجموع وتلاحمت وقالت : انه الذّل والعار ، رجل واحد أشجاكم ، وبلغ مكروهكم وقتل رجالكم أجمعوا عليه ، ثم احملوا عليه حملة رجل واحد ، ففعلوا ، فلقيهم ذوي البيت ، ثم حمل عليهم وحملوا عليه ، ولم يزل يصاولهم حتى أعياهم ، فكمن له رجل وراء الباب وضربه في قفاه فسقط بينهم فحملوا عليه ووضعوا فيه سيوفهم فقطعوه واخذوا سلبه رحمه الله ورضي عنه :

فتى مات بين الضرب والطّعن ميتة

تقوم مقام النصر إن فاته النّصر

وما مات حتى مات مضرب سيفه

من الضرب واعتلت عليه القنا السمر

وقد كان قوت الموت سهلا فردّه

إليه الحفاظ المرّ والخلق الوعر

ثم احتزوا رأسه وكان يرتجز الذي اجتز رأسه ويقول (٢) :

شيخ لشيخ وصبي لصبي

شفيت نفسي منك يا نسل علي

فلا أبالي بعدها ما حلّ بي

من سخط الله ومن لعن النّبي

وطافوا به في بلدانهم وصلبوه على خشبة بقرية الهجر ، وأخذوا جثته وجثث أصحابه رحمهم الله ، والقوها في سطح الدّار التي قتلوا فيها ، وجعلوا يطؤونهم بحوافر خيولهم وعملوا بهم من ضروب التمثيل ما برهن عن تجردهم من كل عاطفة بشرية وانسلاخهم من كل معاني الانسانية ، ولم يكتفوا بما اجترموه من عار الغدر ونكث العهود وذل القسوة في التمثيل بقتلاهم ، حتى تجاوزوا ذلك واقترفوا أعظم جريمة ، وأشنع جريرة تتحاماها الجاهلية والاسلام ، وينكرها الخلق العربي والشمم اليعربي ، ومدوا أيديهم وشهروا سيوفهم القذرة على النساء والصبيان والأطفال فسلبوهن ، وأخذوا ما عليهن

__________________

(١) رأس الجبل.

(٢) هو ابو العوارم بن موسى القطين. انظر البيتين في سيرة الهادي ص ٣٧٨.

١٣٩

وتركوهن عوار لا يتوارين بقليل ولا كثير ، وما منهن إمرأة إلّا وقد نالها ضربة سيف ، أو رمية منهم ، وأخذوا صبيّا ابن ستة اشهر ليضربوا به الجدار فلحقته أمّه واستنقذته بعد ان جرّوه على الأرض وشجوه وأخذوا طفلة صغيرة لا يتجاوز عمرها أربعة أعوام فضربوها بالسّيف ضربتين ، وفعلوا أفعالا تنمّ عن روح جامحة متمرّدة تحفزها الذكريات ، الى دارس بال ، وعهود بالجما أيّام كعبة نجران ونشيد الرهبان (١) وقد قدمنا لك ايها القارىء ما فعله الإمام عند ما دخل نجران أول مرّة مع أهل الذّمة ، وهم من النصارى كما سيأتي بيانه عند الكلام على نجران أيّام الإمام القاسم بن علي العياني ، ولو أن قدماء المؤرخين نظروا إلى الحوادث نظر استنتاج ، ولا حظوا احوال البيئة والوسط الذي عاشت فيه هذه الطائفة والظّروف الداخلية والخارجية التي كان لها أثرها في تكوين طباعهم وتلوين مشاربهم لظهرت النتيجة معلنة بما كان لدعاة النصرانية ، من يد في تأريث تلك النار ، ولكنهم اكتفوا بالنظر السّطحي وتدوين الملاحم البشرية والمعارك الدموية ، فجاءت الثمرة ناقصة يعوزها النضوج ، والاكتمال ، وانظر إن شئت إلى هذه الحوادث الجلية (٢) ذات الشأن في تاريخ اليمن ، تجدها شغلت معظم أيام اكبر الأئمة وأعلاهم شأنا ، وأخرت سير اصلاحه الديني والمدني كثيرا ، وكادت تقضي على بنيانه لو لا عناية الله ، ومع ذلك فإنك لا تكاد تظفر بكلمة لكاتب يشير بها إلى السّبب الحقيقي (٣) ، والباعث الأول لوجود تلك المشاكل ، ومما يقوّي ما ذهبنا إليه من أن بعض قبائل نجران كانت تساق أو تتأثر بطقوس النّصرانية ودعاتها ما جاء في قصيدة للإمام الهادي قالها لما تآمرت عليه نجران وبعض

__________________

(١) توسع المؤلف في خبر مقتل محمد بن عبيد الله العباسي نقلا عن المصدر الذي ينقل عنه وهو سيرة الهادي وكان مؤلفه ابن القتيل كما ان مؤلف هذا الكتاب وهو الشهيد المطاع ينتمي في نسبه إلى العباسي المذكور فيعلم.

(٢) في الأصل الجلي.

(٣) في الأصل الحقيقي.

١٤٠