تاريخ اليمن الإسلامي

أحمد بن أحمد بن محمّد المطاع

تاريخ اليمن الإسلامي

المؤلف:

أحمد بن أحمد بن محمّد المطاع


المحقق: عبد الله محمّد الحبشي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: شركة دار التنوير للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٨

رجل الإمام جملان كانا مثقلين لا يطيقان السير ، فأخذوهما ، ولما وصل البون عارضه أهل البون ، فحمل عليهم ابو القاسم ، وفلّ جمعهم ، وبات الإمام ومن معه في ريدة ، وانتقل اليوم الثاني إلى بيت زود ووجّه بالحرم الى درب بني صريم ، وعاد إلى ريدة ، وفي اليوم الثالث باغت الإمام ، ومن معه أبو زبا (١) مولى آل طريف ، وصعصعة بن جعفر في جيش كثيف ، فدخلوا القرية ولزموها من كل جهة ، ففشل جند الإمام ، وفرّوا على وجوههم ، لا يلوون على شيء ، وبقي الإمام في نفر يسير حمل بهم على المغيرين ، وأصدقوهم الطّعن والضرب ، حتى أخرجوهم من القرية مدبرين والبواتر تعمل في أقفيتهم ، قال السيد العباسي : وكان مع الإمام عليه السلام ، في ذلك اليوم ذو الفقار سيف علي بن أبي طالب عليه السلام ، وبه كان يقاتلهم وفي ذلك يقول : (٢)

الخيل تشهد لي وكل مثقف

بالصبر والابلاء والإقدام

حقا ويشهد ذو الفقار بأنني

ارويت حدّيه نجيع طغام

نهلا وعلا في المواقف كلها

طلبا بثار الدّين والإسلام

حتى تذكر (٣) ذو الفقار مواقفا

من ذي المعالي السيد القمقام

جدّي علي ذو الفضائل والنهى

سيف الإله وكاسر الأصنام

صنو الرسول وخير من وطى

الثرى بعد النبي إمام كل إمام

وفر ابو زبا ، وصعصعة إلى قرية يقال لها الغيل من قرى البون فتعقّبهم الإمام وقاتلهم بالغيل قتالا شديدا ، حتى أمسى ثم انصرف الى ريدة سالما ، لم يقتل من أصحابه أحد قال مصنف سيرته (٤) : فلما كان في بعض الطريق

__________________

(١) في مطبوعة السيرة ابو زياد.

(٢) سيرة الهادي ص ٢٢٣.

(٣) في السيرة تذكروا.

(٤) السيرة ص ٢٢٤.

١٠١

لقيه أصحابه الذين كانوا انهزموا عنه وخلوه فانصرف بهم ، فبات بريدة فلما أصبح أمر بقطع رؤوس المقبلين فقطعت ، ثم أمر بها فحملت إلى صعدة ونجران.

عودة الإمام إلى صنعاء المرة الثانية

ثم انه جمع جموعه وقصد صنعاء ومعه أخوه عبد الله بن الحسين على اثر عودته من الحجاز ، فلما علم آل يعفر وآل طريف بمقدمه تجمعوا من صنعاء وشبام وضهر ، وخرجوا في جيش عظيم لمقاتلته فالتقى الجيشان خارج صنعاء وكانت ملحمة عظيمة ، انهزم فيها آل يعفر ومن معهم ودخل الإمام صنعاء وكان قد أرسل إلى الدّعام يستنجده فتخاذل ولم يجب خوفا من آل يعفر ، وكان دخول الإمام صنعاء يوم الجمعة آخر رجب سنة ٢٨٨ ولم يخسر من جنده سوى نفر واحد وكان أهل صنعاء في خوف شديد لما يتوقعّونه من عقوبة الإمام لما سبق منهم من اخراج عامله علي بن سليمان وما أحدثوه ، فلما دخل صنعاء لم يعاقب أحدا قال في سيرته (١) ، ولما كانت الجمعة الثانية من دخوله صنعاء خرج إلى المسجد ، ووعظ الناس ، ثم قال : أيها النّاس ما نقمتم عليّ إلا ما حكى الله سبحانه عن قوم لوط في قولهم : («أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ)(٢) ، ولكني أقول لكم كما قال عمّي يوسف صلى الله عليه وسلم (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ»)(٣) واستمرت الحرب بين الإمام وآل يعفر وآل طريف سجالا من تاريخ دخوله صنعاء إلى جمادي الآخرة سنة ٢٨٩ تسع وثمانين ومائتين ملئت هذه الفترة بحروب ومعارك قتل فيها عدة من خيار أصحاب الإمام كأبي العتاهية ، وعلي بن سليمان وغيرهم ،

__________________

(١) السيرة ص ٢٢٦.

(٢) الآية ٢٧ سورة النمل.

(٣) الآية ١٢ سورة يوسف ٩٢.

١٠٢

وأصيب فيها الإمام بجراحات عظيمة ولم يتمكن من التوسع في البلاد ، بل ظلّ شبه محصور ، فلم تطمئن به الحال ، وكانت صنعاء وجبل مقم ، وحدّة ، وسناع ، وبيت بوس وحدين ، وعصر (١) ، ميادين النّزال فاضطر والحالة كذلك إلى مغادرة صنعاء تفاديا من عواقب الفتن المستمرة والغارات الدائمة ، أضف إلى ذلك ضعف المالية فقد طلب من أهل صنعاء القرض أو المعونة ، فلم يسعفوه بشيء ، فخرج من صنعاء إلى صعدة في جمادي الآخرة من السنة المذكورة.

إنتقاض أهل نجران ومسير الإمام لتأديبهم

في أثناء هذه المدة وصلت الإمام كتب عامله بنجران بانتقاض قبائلها واجتماعهم على الفساد وإخراجهم العامل من قرية الهجر ، مركز ولايته إلى الحضن ، فلما وصل الإمام صعدة بادر بالخروج إلى نجران لتأديب الثائرين ، فلقيه أبو جعفر محمد بن عبيد الله وابنه علي بن محمد وأخوه القاسم بن محمد في جماعة من همدان ، ولما علمت بنو الحرث بمقدمه البلد ، لا بسهم من الخوف والوجل ، ما أفقدهم القرار ، فأتوه طائعين مستسلمين ، يلتمسون منه الصفح والتجاوز عما أحدثوه فأجابهم إلى ما طلبوا ، وشرط عليهم إرجاع ما أخذوه على الناس من الحقوق ، فامتثلوا لأمره ، وانصاعوا إلى إشارته ، ودخل الإمام مع عامله قرية الهجر وعادت المياه إلى مجاريها ، وبعد أن مكث بها أيّاما رجع إلى صعدة واستقر العامل بموضعه.

ودخلت سنة ٢٩٠ فيها تحرك الإمام لمطاردة ابن عياد الأكيلي ، وكان ابن عياد بعد فشله وهزيمته في حركته التي أشرنا إليها سابقا ، عزم إلى آل طريف ، والتمس منهم المدد لمحاربة الإمام فأمدّوه ، وكانت الحرب بينه وبين الإمام بموضع يقال له الحدائق ، وبأول معركة انهزم ابن عباد ، واستولى

__________________

(١) قرى تحت صنعاء.

١٠٣

الإمام على حصنه حصن علاف ، وأمر بقطع أعنابه ، وهدم منازله ، ولما فرغ من أمر ابن عباد تحول بجيشه إلى بلد وائلة ، وكانت قد أحدثت في طريق نجران أحداثا أيام كان الإمام بصنعاء قال مصنف سيرته (١) : فغدا حتى وصل موضعا يقال له كتاف من بلد وائلة ، وكان موضع المحدثين فنهب العسكر ما وجدوا فيه من مال وغيره وقطع أعنابهم وخربها ، ثم تقدم إلى موضع آخر يقال له المطلاع ففعل به كما فعل بكتاف ، ثم أقبلت إليه وائلة بسمعهم وطاعتهم وطلبوا منه الأمان ، فأمنهم ، وضمن بعضهم بعضا ، وأخذ منهم جماعة من المحدثين ، ورجع إلى صعدة.

الخلاف بين آل يعفر وعبيدهم واستقدامهم الإمام وما كان من الأحداث

وفي هذه السنة وقع الخلاف بين آل يعفر وعبيدهم فكتب آل يعفر إلى الإمام يستنجدون به ويستنهضونه فتثاقل لما يعرفه منهم من الغدر وقلة الوفاء بعد التجربة والإختبار (ان المعافى غير مخدوع) وكان الدّعام هو المضطلع بأعباء هذه الوساطة حيث جعله أبناء يعفر الواسطة بينهم وبين الإمام ، وتكررت الكتب منهم فلم يسعفهم الإمام بما راموه ، ولا التفت إلى ما أملوه وكان الدّعام يرغب في نهوض الإمام ولكنه لما عرف تثاقله عزم إليه بنفسه ، ورغبه في الوثوب على صنعاء لملاءمة الظّروف ومواتاة الأحوال ، وقال له قد استوت لك الأمور واستوثقت لك من القوم ، ولم يبق غير النّهوض ، فانخدع الإمام بذلك ، وخرج من صعدة ، وبرفقة الدّعام ، ولسان الحال منه تنشد :

طورا يمان إذا لاقيت ذا يمن

وإن لقيت معديّا فعدنان

وكأنه وقد أخطأه المجد من طريق المغالبة والمصاولة يريده الآن من

__________________

(١) السيرة ص ٢٤٤.

١٠٤

جهة الانتهاز والاستغلال فطوّح بالإمام على حساب أمله المزعوم ، ولم يبال بما كان.

ولما وصل الإمام إلى خيوان مكث بها مدة وكان بها ابن الضحاك (١) من قبل آل طريف ففر من وجه الإمام ثم إن الإمام أرسل الدعام لأخذ العهود والمواثيق من آل يعفر ، فكتب إليهم الدّعام لملاقاته إلى البون ، ففعلوا وأخذ عليهم العهود والمواثيق ، واتفقوا على الاشتراك في العمل لفتح صنعاء فمضى الإمام مشرق خولان ، حتى نزل ببيت حاضر (٢) ، وخرج لقتاله من صنعاء إبراهيم بن خلف ، ودارت بينهما عدة معارك ، لم يتمكن فيها الإمام من التغلّب على قوّة عدوه ، واستمرت الحال كذلك ، حتى عرف الإمام في جيشه الضّعف ، فانتقل من بيت حاضر ، إلى موضع يقال له مدر (٣) ، وعند ما حطّ رحله بهذه القرية ، استأذنه أصحابه من خولان وهمدان ونجران ، في الانصراف فأذن لهم ، وبقي في عدد قليل فبلغ آل طريف قلة من معه فانتهزوا الفرصة ، وأرادوا القضاء عليه ، ونهضوا لحربه في جموع كثيرة ، ونزلوا بالقرب منه ، فانتقل من مدر إلى موضع يقال له إتوه (٤) ، وأرسل الصّوارخ في همدان تستنفرهم للقتال ، فلم يجبه أحد ، وكان كلما وصلت رسله قرية من قرى همدان نهض أهلها إلى آل طريف وصار واليا عليه وحربا له :

ورها تخذل من يقوم بنصرها

وتظل تنصر دونه الخذ الا

واذا أهاب بها الهداة رأيتها

تعصي الهداة وتتبع الضلالا

__________________

(١) هذا أول ذكر لابن الضحاك ولد فيما سيأتي أخبار كثيرة ولم يبن اسمه العلم في سيرة الامام ولا في غيرها (ص). قلت وفي صفة جزيرة العرب تحقيق القاضي العلامة محمد بن علي الأكوع اسم المذكور هو احمد بن محمد بن الضحاك الحاشد ثار على الامام الهادي واسر ابنه محمد. ٣٠ ـ ٣١.

(٢) بيت حاضر قرية أثرية في (وادي الأجبار) وادي التناغم من بلاد سنحان.

(٣) مدينة اثرية في ارحب بالشمال من صنعاء.

(٤) اتوه بكسر الهمزة وسكون التاء جبل وقرية في ارحب بالشمال من صنعاء.

١٠٥

وفي أول يوم من شهر رجب من السنة ، تحرك جند آل طريف ، وقصد الإمام إلى موضعه بالقرية المذكورة فلم يجبن الإمام عن عدوه ولا بالى بقوة عدوه ، وقلة عدده ، وعدده ، بل كان أملك ما يكون لنفسه وأضبط لشعوره ثبت في جماعة قليلة من الطبريين والعلويّين ، كأنهم حقيقة بين أغلاط لا ترهبهم الأهوال في مواقف القتال ، فكافحوا كفاح الأبطال ، وصبروا لعدوهم وقد أحاط بهم إحاطة السوار بالمعصم :

لقي الرجل الحادثات بصبرهم

حتى انجلت غمم لها وغبار

لانوالها في شدّة وصلابة

لين الحديد مشت عليه النار

وما زالوا يقاتلون حتى قتل أكثرهم ، وأسر محمد بن الامام (١) بعد أن أصيب بجراحات سقط منها عن فرسه مغشيّا عليه ، فلحقه القوم ، وكان فيهم ابن الضحاك الخيواني ، فحال بين القوم وبين إصابته ، ومضوا به إلى ابن خلف ، ومعه جماعة من أصحابه ، وخرج الإمام من هذه المعمعة في نفر يسير ، وسار حتى نزل بورور ، وقد كان لما (التقت حلقتا البطان) و (وقعت بقرّ) (٢) أرسل ابنه أحمد إلى الدّعام يسأله المصير إليه فيمن معه ، فكره الدّعام ذلك ، وتثاقل ، وكان من ردّه عليه أن قل لأبيك ينجو بنفسه ، فليس هذا وقت قتال :

ولم يزل الإمام يكرر استصراخ همدان ويجيل قداح الرّجاء في تلك الأنحاء علّه أن يجد المطلوب ، لاستئناف المقارعة ، حتى يحكم الله بينه وبين عدوّه ، فلم يظفر بما يريد (إذا عظم المطلوب قلّ المساعد) فقد صمّت

__________________

(١) انظر خبر اسر المذكور في سيرة الهادي ص ٢٤٩ ط سهيل زكار وعنه يلخص المؤلف الحوادث هنا.

(٢) يقال حبابت بقراي نزل الأمر بقرارة وصابت من الصوب وهو النزول ويروى وقعت بقر مثل بضرب للشدة وكذلك ما قبله.

١٠٦

عنه همدان آذانها وجاهره الناس بالخلاف ، فكتب إلى الجعفري (١) يسأله أن يوجه إليه معونة من المال يستعين بها على حرب القوم ، فثقل عن ذلك فثبت الإمام مكانه والدّعام يكاتب ابن خلف في الصّلح والخلاص لمن عنده ، فلم يجبه ابن خلف إلى ما طلب ، وبعد لأي أسعد ابن خلف بشرط ، أن ينصرف الإمام من ورور فإذا وصل صعدة أطلق ابن خلف محمد بن الإمام وأصحابه ، وأخذ على ذلك الدّعام العهد والميثاق ، فأبى الإمام أن ينتقل ، وبينما هو يرجو ويؤمّل ان تساعده الأيّام ، وينقاد له الحرون ، إذ وافته الأنباء بوصول علي بن الحسين جفتم ، عامل المكتفي على اليمن إلى مكة فخشي الإمام على ما خلفه ، وبادر باسراج جواد الأوبة ، وعاد إلى صعدة ، ولبث بها قليلا ثم خرج منها إلى بلد وائلة ، وكانت هذه القبيلة ، قد أظهرت الفساد ، وخرجت عن الطاعة ، فنهض لتأديبها في عساكر كثيرة وذلك في النصف الأخير من ذي الحجة عام تسعين ومائتين (٢٩٠).

ولما وصل بلاد وائلة أذاقهم كأسا مترعة بالبطش والتنكيل جزاء لما استمرؤوه من المرتع الوبيل :

هو دان الرباب اذ كرهوا الدي

ـن دراكا بغزوة وصيال

قال السيد العباسي (٢) : ومضى العسكر كله حتى قرية أملح (٣) ونهبوا ما وجدوا فيها وأقاموا بها أياما يخربون المنازل والآبار ، ويقطعون النخيل والاعناب ، والقوم في ذلك يطلبون الأمان وهو كاره لذلك ، لما يعلم من شرارهم وقلة وفائهم ، وما زال ينتقل في قراهم ويخربها قرية قرية ، حتى طرحوا عليه بأنفسهم فأمنهم ، ورجع إلى صعدة بعد النكاية الشديدة بهم :

__________________

(١) الجعفري المراد به جعفر بن احمد المناخي وقد اطلق عليه في سيرة الامام اسم الجعفري فقط وانما استفدنا من هو من غير هذا الموضع من المصدر نفسه (ص).

(٢) سيرة الهادي ٢٥٠

(٣) املح : واد مشهور من أودية شاكر في صعدة.

١٠٧

دخول علي بن الحسين جفتم صنعاء وخروج أبي القاسم محمد بن الإمام من السجن ، وما كان من الأحداث

في شهر شوال من هذا العام ، وصل علي بن الحسين جفتم عامل حكومة بغداد (١) على اليمن إلى مخلاف بني شهاب وأقام بقرية ارتل (٢) ستة أيام ، وفي صنعاء إبراهيم بن خلف متغلّبا عليها ، وفي اليوم السابع خرج ابن خلف في جماعة من أصحابه كالمسّلمين على جفتم ، ثم انهم قبضوه وحبسوه في بيت بوس (٣) ، فلم يلبث أن احتال وهرب من السّجن ، وقصد صنعاء ولما دخلها انضم إليه أصحابه والجند الذي بها ، فانتشرت الأمور على ابن خلف وارتبكت أحواله فهرب منها إلى تهامة ، وخرج أبو القاسم محمد بن الإمام في أثناء من حبس بيت بوس ودخل صنعاء في اليوم الذي دخل فيه جفتم صنعاء وقد مكث في سجن آل طريف في صنعاء وبيت بوس ، مقيّدا (٤) بالحديد بعد أن طافوا به في أسواق صنعاء عند إدخاله إليها مقدار ستة أشهر ، ولد في محبسه ومحنته عدة قصائد كتبها إلى والده الإمام منها قوله (٥) :

امير المؤمنين تعزّ عني

ولا تحفل ببعدي واغترابي (٦)

وهبني كنت في القتلى صريعا

بأطراف الأسنة والحراب

وقم لله مجتهدا مجدّا

فمثلك لا يعلّم بالصواب

وكيف وأنت أفضل من عليها

وابصر بالعلوم وبالكتاب

__________________

(١) هذه الولاية هي المرة الثانية وقد سبق ذكر الولاية الأولى (ص).

(٢) ارتل : من قرى بلاد البستان (بني مطر).

(٣) بيت بوس : قرية من ناحية البستان قرب صنعاء.

(٤) في الأصل مقديدا سبق قلم.

(٥) أوردها في السيرة ص ٢٦١.

(٦) في مطبوعة السيرة اقترابي.

١٠٨

وكان أسعد بن أبي يعفر وابن عمه عثمان بن أبي الخير قد وثبا على صنعاء بعد فرار ابراهيم بن خلف ، فأحسنا إلى أبي القاسم محمد بن الإمام وسيّراه الى شبام وكانا يغدوان على جفتم كل يوم فارادهما على تسليم الأمر إليه فاستنظراه وعرف انهما يماطلانه ، ويراوغان ، فكبسهما وأرادا أن يهربا فلم يتمكنّا فخرجا في مواليهما ، ومن أنضم إليهما من أهل صنعاء وحاربا جفتما وقتلاه وجماعة من أصحابه ومال الجيش إليهما ، ويقال أن بعض أهل صنعاء أكل من لحم جفتم تشفّيا وانتقاما لما كان يرتكبه أصحابه من المنكرات والقبائح (١) ثم ان أسعد بن أبي يعفر وثب على ابن عمه عثمان بن ابي الخير فحبسه واستبد بالأمر وحده إلى سنة ٢٩٣ كما سيأتي.

ولما قتل جفتم حاذر أبو القاسم محمد بن الإمام أن يبدو لآل يعفر في أمره ما لا يحمد ، وعزم على الخروج من شبام خلسة تحت جلباب الظلام فاتفق مع رجلين من خولان ، وتواعدوا لليلة معينة ، ينتظرانه الخولانيان بفرس معدّ خارج البلد في موضع معين ، وفي تلك الليلة بادر ابو القاسم (٢) فتدلّى من السور ، وتبعه أصحابه وقصدوا المحل الذي تم الإتّفاق على إنتظار الخولانيين فيه ، وكان اللّيل قد تولج ، والنجم قد تبلج ، ولم يجدوا السروجي ولا المسرج (٣) ، وبينما هم كذلك إذ ظهر أمرهم على الحامية التي في الطريق ، فأمسكوهم ، وأرجعوهم إلى شبام ، وعلم بما كان الأمير عبد القاهر ابن ابي الخير الحوالي فجرى بينه وبين أبي القاسم كلام ، وأمر باعادتهم إلى المنزل الذي كانوا فيه ، فكتب أبو القاسم إلى أسعد وعثمان كتابا يشكو طول مقامه وضجره ، بموضعه ، فأرسلا إليه بدواب وخلع وسيف ونقود ، وكتبا يعتذران إليه وكتبا أيضا إلى علي بن الحسين الأقرعي ليرافقه في الطريق وسيراه معزّزا مكرما ، ولما وصل ريدة تلقته عمال الدعام فصرف رفيقه

__________________

(١) يعني به محمد بن الإمام الهادي وهذه الرواية انظرها في السيرة ص ٢٧٣.

(١) يعني به محمد بن الإمام الهادي وهذه الرواية انظرها في السيرة ص ٢٧٣.

(٢) من عبارة مقامات الحريري.

١٠٩

الأقرعي ورافقوه إلى غرق ، فأقام هنالك أياما ثم صحبه ابن الدّعام إلى حضرة والده الإمام لأيام مضت من المحرم سنة ٢٩١.

وقد يجمع الله الشتيتين بعد ما

يظنان كل الظن ألا تلاقيا

وفي هذه السنة اشتد القحط وعمّ الجوع عموم اليمن ، حتى أكل الناس بعضهم بعضا ، قال أبو القاسم محمد بن الإمام ، انه لما دخل صنعاء في السنة الماضية ، كان السّعر بها خمسة مكاكي (١) بدينار ، فلم يزل ينقص حتى خرج وهو على مكوك بدينار والنّاس قد هلك عامتهم هولا.

خلاف أهل نجران

ولما اشتدت أزمة القحط وتعاظم الهول على أهل نجران ، تحرك أهل الشر والفساد من يام وبني الحرث واضطربت البلاد واختل الأمن ، وساءت الأحوال ، فقابل العامل محمد بن عبيد الله تلك الحركة بالحزم واليقظة ، وتتبع الأشرار قبل استفحال شرّهم ، وضرب على أيديهم ، وطهّر البلاد بتشريدهم ، وإخراجهم منها إلى صعدة وحظر على الناس حمل السلاح من أعلى الوادي إلى أسفله ، فلم يحمل أحد سلاحا فهدأت الأمور ، وأمن النّاس ، ولم يكن معه إلّا خدم له ، ستة وعشرون رجلا ، بهذا العدد القليل ضبط البلاد ، وحفظ الأمن إلى شهر جمادي الأولى سنة ٢٩٢ اثنتين وتسعين ومائتين ، ورجعوا عودا على بدء وتنادوا من كل مكان شاحط (٢) ، لاستئناف الثّورة ، وتحالفوا على الفساد والانتقاض ، وكان ذلك إبّان حضور الثمرة ، والمتولي كبر هذه الأحداث الهوج ابن حميد وبنو الحرث ، منيع الشر ومادته وارسلوا إلى أبي جعفر محمد بن عبيد الله يؤذنونه الحرب فكتب أبو جعفر إلى

__________________

(١) التغير ثمانية مكاكيك والمكوك صاع ونصف صاع ، أفاده الجاحظ في كتابه البيان والتبيين (ص).

(٢) بعيد.

١١٠

الإمام ، فأجاب الإمام بكتاب طويل كله تهديد ووعيد ، وزجر وتنديد ، وذيله بقصيدتين حماسيتين ، ولما وصل هذا الكتاب إلى المفسدين أجمع رأيهم على مناجزة العامل ، والقضا عليه ، فبادروا من ساعتهم عقيب قراءة الكتاب بالوثوب عليه إلى قرية الهجر ، وتبادلوا معه القتال إلى الليل ، وكان معه ابن بسطام ، ولما عرف إجتماعهم عليه وامتناع المقاومة بتلك المدرة (١) ، أشار عليه بالانتقال معه إلى حصن (ميناس) وهو في الظاهر معه ولكن هواه مع ابن حميد وبني الحرث ، غير أن ميله لم يظهر جليّا لأبي جعفر إلّا بعد أن صار معه بميناس ، وحين عرف القوم بتحوله إلى ميناس ، انقضّوا عليه كالسّباع الضارية ، فصمد لهم صمود الشوس اللهاميم (٢) ، وبعد قتال عنيف ، قال له ابن بسطام : إني لا آمن عليك هنا ولا آمن على نفسي ، فإن رأيت ان تصير في حمدان ، وأكون لك عينا على بني الحرث ، فذلك رأيي ، وإن رأيت غير ذلك فافعل ، فلم يسعد غير التّحول والإنتقال إلى (وادعة) وأقام فيهم حتى قدم الإمام في رجب من السنة المذكورة ، وكانت قبيلة شاكر وثقيف قد انضمتا إلى وادعة وتحالفوا على نصرته.

وصول الإمام عليه السلام الى نجران

لما وصل الإمام أعلى الوادي لقيه أبو جعفر محمد بن عبيد الله في جماعة من الوادعيين ، فسار إلى الحضر ، وبات به ولما أصبح أتته الأحلاف ومن كان يسكن بنجران من يام يعتذرون من اجتماعهم مع بني الحرث على عامله ، لأنهم استرهبوهم فعذرهم الإمام ، وصفح عنهم ، وأقام ذلك اليوم بالحضن ، ثم سار إلى قرية الهجر ، فكان القتال بينه وبين بني الحرث ، فقتل منهم ثمانية رجال ، واستشهد أربعة من أصحابه فحملهم إلى الحضن ، ودفنهم هنالك ، ثم انتقل إلى قرقر قريبا من الهجر ، وأمر بنهب جميع أسواق

__________________

(١) اي القرية.

(٢) الدهاة.

١١١

بني الحرث وخرابها ، فكانت العسكر تفسد واخماصا وتروح بطانا ، واستمر يضيّق الخناق على من بالقرية يغاديهم القتال ويراوحهم النكال ، بقطع نخيلهم ، وهدم صياصيهم ، فاستأ من إليه ابن بسطام ومن معه من بني ربيعة ، وذلك آخر رجب.

ولما رأى ذلك ابن حميد ، تحول من ميناس إلى الهجر لتلافي الخطر ، وتأييد من بقي ، فشدد الإمام عليهم وأصدقهم القتال ، وأمر بقطع نخيل بني حثيمة (١) أصحاب ابن حميد ، ولم يكن قطع عليهم قبل ذلك اليوم فلم يطيقوا عند ذلك صبرا ، وأسرعوا في طلب الأمان بعد التأبّي والامتناع واستماحوه العفو ، فعفا عنهم ، وخرجوا من القرية ، ودخلها الإمام ، في النصف الأخير من شعبان ، وأقام بها إلى آخر رمضان ، ثم وافته الأنباء بأن ابن حميد يستميل أعرابا من يام وبني الحرث ويحثهم على التّمرد والعصيان ، فبادر الإمام بالخروج ، لخضد شوكته والقضاء على بذرته فلم يجده بالمكان ، الذي قيل انه فيه ، فأمر بقطع نخيله ،

فجاءت بنو الحرث ترجوه أن يكفّ عن القطع يومه ، ريثما تجتمع بابن حميد فاسعدهم الإمام ، ورجع إلى الهجر.

وفي اليوم الثاني أقبل أولاد ابن حميد ، وطلبوا لأبيهم الأمان فوهبهم النّخل ، وأجاب أني لا أؤمنه حتى يطأ بساطي ، وسأطلب نفسه وإبله ، فإن ظفرت بشيء من ذلك فلا لوم لكم عليّ ، وبلغ ذلك ابن حميد ، فسار من ساعته إلى البادية يجوس خلال ديار شعب (٢) ثائر صعب المقادة (٣) ، نزاع إلى الشّر على استعداد تام وأهبة كاملة للعيث والانتقاض ، فلا يحتاج إلى مداورة وطول عناء لإثارتها ، داحسية (٤) شعوى ، تضطر الإمام إلى مواصلة الزحف

__________________

(١) في سيرة الهادي بنو خثيمة بالخاء المعجمة.

(٢) اي بعيدة.

(٣) اي الانقياد.

(٤) نسبة الى حرب داحس معروفة.

١١٢

وسوق الجيوش ، وتكبّد المشاق ، ثم لا يقف سيل هذه الفتنة ، حتى يجترف عامل الإمام ويقضي عليه القضاء الأخير كما سيمر بك قريبا ولله القائل :

إن الذئاب قد اخضرّت براثنها

وليس يؤمن ذئب مسّه ضرر

ورب هيجا خير من موادعة

ورب سلم هو السم الذي ذكروا

وأقام الإمام بنجران وقد ذلّت له الرقاب وتضاءلت له النفوس ، واستأمنت إليه جميع القبائل يام وبني الحرث وغيرهم ، ولم يبق غير ابن حميد كما مرّ ، ثم رجع الإمام إلى صعدة لسبع مضت من ذي القعدة.

نزول الإمام إلى تهامة وعزم ابي القاسم محمد بن الإمام لحرب القرامطة

فيها وصلت الإمام كتب من الغطريف الحكمي (١) وإبراهيم بن علي الحكمي يسألانه المصير إليهما وإنهما سيسلمان إليه ما في أيديهما من مال وعسكر ، ومخلاف وأعطيا على ذلك العهود الغليظة والمواثيق الأكيدة ، فلم

__________________

(١) بنو الحكمي هم سلاطين المخلاف السليماني ونسبهم في الحكم بن سعد العشيرة ، وقد نسب المخلاف إليهم فيقال مخلاف حكم قال القاضي العلامة الحسن بن احمد عاكش الضمدي في كتابه (التاج الخسرواني) : واعلم ان هذا المخلاف من أحسن مخاليف اليمن ونسبته الى السّلطان سليمان بن طرف الحكمي كما ذكره الديبع ، وغيره من المؤرخين ، وقد تسلطن في هذا المخلاف وكان رجلا عظيم الشأن ، ونسبة المخلاف إليه قبل سكون الأشراف فيه كما ذكره الوالد العلامة علي بن محمد النعمان رحمه الله في شرح الصادح والباغم وحدوده من حلي ، الى شرجة حرض ، كما قاله الديبع : وكان استيلاء الاشراف آل موسى الجون على المخلاف السليماني عام ثلاث وتسعين وثلثمائة ، وكان سلاطينه قبل ذلك الحكميين ، وهو مشتمل على أودية عظيمة ، ومحاريث جسيمة ، ومدن وقرى كثيرة ، والساكون فيه من الأشراف أمم كثيرة ، الخواجيون ، والذروات والأمرة وبنو النعمي وبنو المعانا والحوازمة والمهادية ، وقد تفرعوا الى بطون كثيرة ، وفخوذ واسعة وهم معروفون ، وتدريج أنسابهم مدون بأيديهم وأيدي العلماء من أهل جهتهم انتهى ، وتجد الكلام على الأشراف والمخلاف في القسم الذي بعد هذا في حوادث سنة ١٠٤٥ فراجعه.

١١٣

يثق الإمام بما بذلا حتى أرسلا جماعة من ثقاتهما إليه ، ليوجبوا عليه الحجّة وسألوه أن يرسل إليهم من ثقاته من يستحلفهم على ما أعطوه ، فوجه إليهم نفرا من أصحابه لذلك ، وبعد أن أخذوا عليهم العهود والمواثيق ، عادوا إليه ، ولما صحّ له ما أعطوه من أنفسهم أرسل الصوارخ في خولان فاجتمع إليه منهم عسكر كثير.

ووجه ابنه أبا القاسم إلى خيوان ، وأمره أن يكون على أهبة ، فإذا جاءته كتب من زبيد سار لحرب القرامطة ، إلى صنعاء بهمدان ، ومن قدر على جمعه من غيرهم ، وعزم الإمام بمن معه نحو تهامة حتى وصل إلى شرس (١) ، فكتب إليه الحكمي أن يصير إلى محل يقال له طرطر (٢) ، وبذلك المحل تلقّته رسل الحكمي بالغنم والبقر والطعام والعلف ونحو ذلك ، نزلا له ولأصحابه ، وبلغه ان جميع ذلك اخذ على الرعية ، وانه كما قيل (جدح جوين من سويق غيره) (٣) فأرسل الإمام إلى أهل القرية ، ورد عليهم ما أخذ منهم وأخبرهم ان ذلك لا يحل له ولا يستجيزه ، ولما علم الحكمي بما كان سقط في يده وندم على استدعائه الإمام ، ورجع القهقرى ، وكشّر للإمام عن نابه وجمع جموعه لمحاربته فالتقى الفريقان ، والتحم القتال بينهما فكانت الدائرة على الحكمي ، وعلى الباغي تدور الدوائر (٤).

وفيها قتل ابراهيم بن خلف مولى آل طريف وقد ذكرنا هربه من صنعاء

__________________

(١) شرس : بلدة اسفل مدينة حجة.

(٢) واد قريب من حرش وصعدة (صفة جزير العربي ص ٢٣٥).

(٣) انظر هذا المثل في مجمع الأمثال للميداني ص ١٤٠ والمستقصي ج ٢ ص ٤٩.

(٤) الى هنا انتهت أنباء هذه الحادثة ولم نعثر على ما تم فيها بعد ، فإن المرجع الذي استقينا منه اخبار الإمام الهادي عليه السلام هو كتاب سيرته لمؤلفه علي بن محمد بن عبيد الله العباسي ، وقد جعل في النسخة التي لدينا بياضا ، وزعم أنه كذلك بالأم المنقول عنها ، ثم راجعنا عدة نسخ من السيرة ، فوجدناهن كذلك فعدلنا إلى انباء الزمن واللآلىء المضيئة ، فلم نجد ما يدل على انهما وجدا غير ما وجدناه باعتبار سياق الحوادث بعد حادث شرس فتأمل. (ص) انظر سيرة الهادي ص ٢٩٦.

١١٤

إلى تهامة وكان استقراره بالكدرا ثم إنه طلع منها هذه السنة وأراد الاستيلاء على جبل ذخار فقتله عبد لعدنان صاحب الجبل وبعث برأسه إلى مولاه.

كلمة عن القرامطة وما قيل في هذه النحلة الباطنية أو الإسماعيلية

في أواخر القرن الثالث للهجرة كانت الدولة العباسية ، قد كبرت وشاخت ، وأصبحت تعيش في ظلّ الأمراء والمتغلبين ، من فرس ، وترك ، وديلم ونحوهم ، وكانت الدّعاية لأهل البيت النبوي عليهم السلام والإنتصار للدّين تكأت كل ثائر ، وسلاح كل طامع ، وكان أهول الدعايات خطرا ، وأبعدها أثرا النحلة القرمطية ، تلك النحلة التي أحدثت أعظم زلزلة هزّت الإسلام ، وساقطت شرفاته ، وأحدثت اكبر انقلاب عرفه تاريخ المسلمين ، وكان مثير هذه الفتنة التي طال جثومها واشتدت غيومها ، وتلونت مكائدها ، وتعدّد مصائدها ، رجل قدم من خوزستان ، ونزل بسواد الكوفة ، فمرض ذات يوم فساعده رجل يدعى كرميته ، لحمرة في عينيه واللّفظة نبطية ومعناها ، حمرة العين فلما شفي شيخ القرامطة المذكور ، سمي باسم ذلك الرجل ، وخفف بعدئذ فسمي قرمط ، وقيل إنما لقب بقرمط لقرمطته أي تقريبه في خطه أو خطوه ، والقرمطة كلمة عربية معناها إخفاء الكتابة أي دقّتها ، وعدم إظهارها ، وكان ظهور هذه النحلة الضالة حوالي سنة ٢٧٨ (١) وأول من أظهرها أبو سعيد الجنّابي القرمطي ، وكان ورعا زاهدا متقشفا لا يأكل إلّا من كسبه كثير الصلاة والعبادة ، أقام على ذلك مدّة ، واعلم الناس انه يدعو إلى امام من أهل البيت عليهم السّلام ، فانتشر مذهبه في الشّام وسواد الكوفة ، وكثر أتباعه ، وخضعت لهم دمشق ، واستولوا على كثير من البلدان وأسّسوا دولة بالبحرين ، وامتذ نفوذهم إلى الحجاز واليمن كما سيأتي ، وغاية نحلتهم تعطيل الشّرائع

__________________

(١) راجع ابي الفداء (ص) قلت تاريخ الاسماعيلية متشعب الأطراف وقد كتب فيه كثير من الباحثين منهم الدكتور محمد حسين كامل وعارف تامر ومصطفى وهما من اهل النحلة وبرنار لوبيس من المستشرقين ومن القدامى الطبري وابن الجوزي وابن الاثير ونشر الدكتور سهيل زكار كتابا في اخبار القرامطة لسنان.

١١٥

وإنكار النّبوءات والبعث والجزاء ، وتحريف نصوص الكتاب والسنة بتأويلها إلى باطن وظاهر في أول الأمر والخروج إلى الإلحاد والتعطيل في النهاية ، قال المقريزي في خططه (١) (وكان ابتداء أمر قرمطة هذا في سنة ٢٦٤ أربع وستين ومائتين ، وكان ظهوره بسواد الكوفة فاشتهر مذهبه بالعراق ، وقام من القرامطة ببلاد الشام صاحب الحال ، والمدثر ، والمطوق ، وقام بالبحرين منهم أبو سعيد الجنّابي من أهل جنّابة (٢) ، وعظمت دولته ودولة بنيه من بعده ، حتى أوقعوا بعساكر بغداد ، واخافوا خلفاء بني العباس ، وفرضوا الأموال التي تحمل إليهم في كل سنة ، على أهل بغداد وخراسان والشام ومصر واليمن ، وغزوا بلاد الشام ومصر والحجاز ، وانتشرت دعاتهم بأقطار الأرض ، فدخل جماعات من الناس ، في دعوتهم ومالوا ، إلى قولهم ، الذي سمّوه علم الباطن ، وهو تأويل آيات القرآن ودعواهم فيها تأويلا بعيدا انتحلوا القول به بدعا ابتدعوها بأهوائهم فضلّوا ، وأضلوا كثيرا) انتهى.

وقد اختلف الناس في تسميتهم فمنهم من يسمّيهم بالقرامطة ، ومنهم من يطلق عليهم لقب الباطنية أو الإسماعيلية ، نسبة إلى إسماعيل بن جعفر الصادق عليه وعلى آبائه السلام ، ومذهب الإسماعيلية : أن الأئمة سبعة ، وهم علي عليه السلام والحسن والحسين وعلي بن الحسين ، ومحمد بن علي وجعفر بن محمد الصادق ، وهم مختلفون فيما بينهم ، فمنهم من يعد محمد بن اسماعيل بن جعفر ، ويسقط إسماعيل ، ومنهم من يعدّ إسماعيل ، ثم يعدّ بعده ابنه محمد ، وهذا مذهب خلفاء مصر (٣) ، ومذهب الإسماعيلية ، ومذهب الامامية متفق في المبدأ العام للتشيّع وهو أنه لا بدّ للناس من إمام

__________________

(١) صفحة ١٨٣ الجزء الراربع (ص).

(٢) جنّابة : بلدة صغيرة من سواحل فارس وقبالتها في وسط البحر جزيرة خارك من شماليها من جهة البصرة مهروبان وجنوبيّها سينيز (مراصد الاطلاع ص ٣٤٨).

(٣) راجع المقريزي.

١١٦

معصوم يبلغهم الشريعة عن الرسول الأعظم صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وأن الشريعة لا تؤخذ بالرأي ، ويتفقون منهم على إمامة الستة من علي بن أبي طالب إلى جعفر الصادق ، ومنه يبتدىء الخلاف فالإثنا عشرية ، ذهبوا إلى فرع موسى الكاظم ، والإسماعيلية ذهبوا إلى فرع إسماعيل (١) ولما كان الإمام ، هو حجة الله في ارضه على عباده ، ولا تبقى الأرض بغير إمام حجّة ، والإيمان بالإمام جزء من الإيمان وعبادة الله ، ومعرفته ، لا تتم إلّا بمعرفة الإمام ومن مات ، ولم يعرف إمامه ، مات ميتة كفر ونفاق ، ولم يقم احد من ولد إسماعيل ويظهر للناس ، قالوا : إن الإمام قد يكون مستورا مكتوما عن الناس خبره ، ولا بد له من نائب لتبليغ الدعوة وساقوا الإمامة إلى محمد بن اسماعيل ، ثم أولاده من بعده ، ولهم تعاليم يسترون كثيرا منها عن الناس ، ومن أجل ذلك يطلق عليهم اسم الباطنية : وبعضهم يقول : أن أصل هذه النحلة يرجع إلى النحلة الديصانية (٢) ، وأن عبد الله بن ميمون القداح وأبوه ميمون كانا ديصانيين ، وان عبيد الله المهدي رأس الدولة الفاطمية العبيدية ، من نسل هذا الرجل والخلاف في صحة هذا القول وعدمه مشهور ، وهو يدور حول نسب العبيدية وليس ذلك غرضنا الآن ، والذي يهمّنا من البحث معرفة الفرق بين الإسماعيلية والقرامطة والباطنية ، لعلاقة البحث بالتاريخ اليمني ، وهل الثلاثة الأسماء لمسمّى واحد أم لعدة مسمّيات ، قال في تاريخ الحركات الفكرية في الاسلام : ان أعظم مسألة وأكبر مشكلة

__________________

(١) محاضرات تأريخ الامم الاسلامية.

(٢) نسبة إلى ابن ديصان رجل فارسي ، ظهر قبل الاسلام ببلاد فارس ثم ظهر بعده ماني وخلاصة مذهب ماني وابن ديصان ومرقيون متقارب فهم يقولون بوجود أصلين قديمين هما النور والظلمة. وان كونا ثالثا هو الحياة وهو عيسى وزعمت طائفة ان عيسى رسول ذلك الكون الثالث إلى آخر ما زعموه وإلى هذه المزاعم الباطلة اشار صاحب البسامة السّيد صارم الدين في ذكر وقعات الإمام الناصر احمد بن الإمام الهادي عليهما السلام بالباطنية :

وبالمصانع اخرى منه تشبهها

حلت عرى الشرك من كوني ومن قدر

١١٧

عرفها التاريخ حركة الاسماعيلية ، فقد قدروا على توفيق ما لم يوفق من مصالح طبقات النّاس المتباينة وهذا تاريخ الإنسانية كله يشهد شهادة صادقة على أنه لم يقم حتى اليوم وأرجح انه لن يقوم في المستقبل ، حزب أو دين أو مذهب أو جميعة ، أو شركة تضم تحت لوائها الغالبين والمغلوبين ، وأصحاب الأفكار الدينية ، والمتعصبين للدّين من جميع الطوائف ، وتتخذ المؤمنين واسطة لنقل السلطة إلى الكافرين ، وتستعمل الغالبين آلة لهدم ما بنوه من الملك وتسليمه إلى غيرهم

ثم هي تؤلف حزبا كبيرا متلاحما مطيعا تستند عليه لوضع تاج الملك عند سنوح الفرصة إن لم يكن على رأس مؤسس ذلك المذهب فعلى رأس أحد خلفائه : هذه كانت غاية عبد الله بن ميمون القداح الأساسية وهذه كانت أفكاره ، وهي كما نرى أفكار غريبة مدهشة جريئة ، وقد ساعده على تحقيقها دهاؤه النادر ، ولياقته الغريبة ، ومعرفته العميقة لمصالح الناس ، فلو فتّشت صفوف الإسماعيلية لوجدت بينها ممثلي جميع الأمم الخاضعة يومئذ لخلفاء بغداد ، من عرب وعجم وكرد وترك غيرهم : وجميع الأحزاب السياسية والاجتماعية ، ولرأيت بينهم الفوضويين والشيوعيين على إختلاف نحلهم ومبادئهم ، وممثلى جميع الاديان والمذاهب ، من السنية والشيعة إلى الملحدين والدهريين ، وغاية الكل واحدة (١) ، وهدفهم الوصول إلى نتائج لم يصل إليها أحد قبلهم ، وهذا من غرائب الأمور ، ولهم أسرار لا يطّلع عليها إلّا من قطع مراتب ، أو مراحل التكرس المطلوبة ، واقسم القسم الغليظ أمام الداعي وهذه أسماء الدرجات :

التفرس التأنيس التشكيك التعليق الربط التدليس التأسيس : ولكل درجة من هذه الدرج علم يتلقاه المدعو (٢) في تلك الدّرجة ومن قواعد هذه

__________________

(١) اي الغاية السياسية.

(٢) وقد أشار إلى ذلك المقريزي في خططه.

١١٨

الفرقة أنه لا يحلف القسم المطلوب ولا يؤخذ الرتبة الرابعة (١) ، وما عداهم إلى هذه الرتبة لا يعرفون من سر الجمعية إلا مبادئها الدينية والأدبيّة فقط.

أما تعاليمها الاساسية والاجتماعية فلم يكن يكشف لهم عنها إلّا بعد الدرجة الرابعة ، والسّر في نجاح هذه الفرقة تغلبها على العصبيّة القومية التي لم يقدر عليها بنو أمية ولا بنو العباس فانهم أظهروا أن المسائل القومية لا تهمهم ، ولا هي من أغراضهم فسواء لديهم العربي والعجمي والنبطي والمسلم والكافر ، فقد كانوا ينشرون دعوتهم بين جميع الأمم الخاضعة للدّولة العباسية. وبين جميع الأحزاب والنحل لا يفرقون بين دين ودين ، ولا بين حزب وحزب انتهى.

فإذا عرفت ما تقدم وقدرت على درس كتبهم وعلى ما يلقونه من التشكيك والهذيان ، على المدعو الى نحلتهم والمجذوب إلى حظيرتهم ، من المفتريات الكاذبة والمزاعم الباطلة الموصلة إلى تعطيل الشرائع ، من أن لكل آية أو أثر معنيين ظاهر وباطن ، وان التّكاليف الشرعية أغلال ، المراد منها سياسة الإنسان غير المهذب ، عرفت سر تسميتهم بالباطنية هذه خلاصة ما قيل عن الفرق الثلاث ، أو الفرقة ذات الأسماء الثلاثة كما يؤدّيه ظاهر الكلام المتقدم.

وذهب الأستاذ محمد الخضري في محاضراته (٢) إلى أن النحلة الفاطمية نحلة سياسية الغرض منها تحطيم الدولة العباسية والقضاء عليها ، إلّا أنها شيبت بشيء من التعاليم لتكون مقدمة للدعوة وأساسا لها حتى لا يفجأ المدعو بالغرض السياسي لأول وهلة ، والتعاليم ، متى كانت سرّية حامت حولها الظنون ، وجعلتها الشكوك في ظلمات ، حتى لا تتميز حقيقتها وقد نشأ

__________________

(١) كتب المؤلف عند هذه الكلمة لفظة (سقط) ولكنه لم يدرج هذا السقط.

(٢) كتاب محاضرات في تاريخ الأمم الإسلامية للعلامة محمد الخضري المتوفي سنة ١٣٤٥ ه‍ من أقدم ما عرفه المثقفون اليمنيون من كتب عصرية لقدم طبعته وانتشارها.

١١٩

عن هذا المذهب قوتان كبريان ، احداهما منظمة معتدلة ومركزها قرية سلمية بقرب حمص ، وهي موّئل الدّولة ، الفاطمية العبيدية ، ومجمع أسرارها ، والثانية قوة ذات فوضى وجور ، ونكوب عن حسن السياسة ، ومركزها كان لأول ظهورها بالعراق ، وهي القرامطة وهذه أولاهما في الظهور ، فإنها ظهرت بوادر شرّها في عهد المعتمد على الله : وفي الأحداث الكائنة أيام الفاطمية ما يؤيد نظرية الأستاذ الخضري ، فقد كانت الحروب على أشدها بين الفاطميين والقرامطة ، وذلك على عهد المعز لدين الله أول من ملك مصر من العبيديين والقائد جوهر ، ولما هلك المعز ، وتولى بعده ابنه العزيز سنة ٣٦٥ أغارت القرامطة على دمشق وكان بها القائد جوهر ، ففر منهم إلى عسقلان فحصروه بها سبعة عشر شهرا حتى افتدى نفسه منهم بمال ، ثم قصدهم العزيز وقاتلهم (١) قتالا شديدا ، وانتصر عليهم ، بعد أن قتل من أصحابه نحوا من عشرين ألفا ، وهذه الأحداث وإن كانت تدل على العداء المستحكم والتباين بين الفريقين ، فإن في غيرها ما يدلّ على الإتصال الوثيق بين الطائفتين ، وذلك فيما رواه ابن الاثير وغيره ، عن أبي طاهر القرمطي ، لما أخذ الحجر الأسود وقتل الحاج ، وانتهك حرمة البيت الحرام ، كتب إليه المهدي عبيد الله الفاطمي من المغرب ينكر عليه ذلك ويلومه ويلعنه ، ويقول : قد حققت على شيعتنا ، ودعاة دولتنا اسم الكفر والإلحاد بما فعلت ، وإن لم ترد على أهل مكة ، وعلى الحجاج وغيرهم ما أخذت منهم وترد الحجر الأسود إلى مكانه ، وترد كسوة الكعبة فأنا بريء منك في الدنيا والآخرة ، ولما وصله هذا الكتاب أعاد الحجر الأسود إلى موضعه ، وقال : أخذناه بأمر ورددناه بأمر (٢).

وذكر المعري في رسالة الغفران : أن للقرامطة بالاحساء بيتا يزعمون أن

__________________

(١) في الأصل قتال سهوا من المؤلف رحمه الله.

(٢) وفي رواية اخرى ان الخليفة العباسي استفداه بمبلغ كبير فأعاده.

١٢٠