تاريخ بغداد أو مدينة السّلام - ج ١

أبي بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي

تاريخ بغداد أو مدينة السّلام - ج ١

المؤلف:

أبي بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي


المحقق: مصطفى عبد القادر عطا
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٦٢

أخبرنا عبد الله بن على بن حمويه الهمذاني بها قال أنبأنا أحمد بن عبد الرّحمن الشّيرازيّ قال أنبأنا أبو عبد الرّحمن بن عتيك قال نبأنا يحيى بن ساسويه قال نبأنا أبو عبد الرّحمن أحمد بن محمّد بن حميد بن سليمان بن حفص بن عبد الله بن أبي جهم بن حذيفة العدوي المدني قال حدّثني أسمر بن سورة المجاشعي الدارمي من أهل فارس قال حدّثني كرماني بن عمرو الأزديّ أخو معاوية بن عمرو صاحب زايدة قال سمعت عبد الله بن المبارك يقول : لا يقال بغداذ بالذال فإن بغ شيطان وداذ عطيته ، وإنها شرك. ولكن تقول بغداد ؛ وبغدان كما تقول العرب.

أخبرنا ابن أبي على المعدّل قال أنبأنا محمّد بن عبد الرّحيم المازني قال أنبأنا عبيد الله بن أحمد بن بكير التّميميّ قال أنبأنا عبد الله بن مسلم بن قتيبة قال : كان الأصمعي لا يقول بغداذ ؛ وينهى عن ذاك ويقول مدينة السّلام ، لأنه سمع في الحديث أن بغ صنم وداذ عطيته بالفارسيّة كأنها عطيّة الصنم.

أخبرنا أبو الحسين محمّد بن الحسين بن الفضل القطّان قال نبأنا أبو سهل أحمد ابن محمّد بن عبد الله بن زياد قال قال المبرد قال الثوري عن أبي عبيدة وأبي زيد وأشك في الأصمعي يقال : بغداذ ، وبغداد ، ومغدان ، وبغدان.

أخبرنا الأزهري قال أنبأنا أحمد بن محمّد بن موسى وأخبرنا الجوهريّ قال أنبأنا محمّد بن العبّاس قال أنبأنا أحمد بن جعفر بن محمّد أبو الحسين قال حدّثني أبو جعفر محمّد بن فرج النّحويّ البغداديّ قال أنبأنا سلمة بن عاصم عن أبي زكريّا يحيى بن زياد الفراء مولي بني عبس قال ، يقال : بغداد بالباء والدال. ويقال بغدان أيضا بالباء في أولها والنون في آخرها ، ومغدان بالميم أولا وبالنون آخرا. قال أبو الحسين : وذلك كله راجع إلى ما فسره بن أبي داود : أنه عطيّة الصنم ، وربما قيل عطيّة الملك.

أخبرنا على بن أبي على البصريّ قال أنبأنا إسماعيل بن سعيد بن سويد المعدّل قال نبأنا أبو بكر محمّد بن القاسم الأنباريّ. قال وقوله : هذه بغداد أصل هذا الاسم للأعاجم ، والعرب تختلف في لفظه إذا لم يكن أصله من كلامهم ، ولا اشتقاقه من لغاتها. وبعض الأعاجم يزعم : أن تفسيره بالعربية بستان رجل ، فبغ بستان ، وداذ رجل ، وبعضهم يقول : بغ اسم صنم كان لبعض الفرس يعبده ، وداذ رجل ، ولذلك

٨١

كره جماعة من الفقهاء أن تسمى هذه المدينة بغداذ لعله اسم الصنم وسميت مدينة السّلام لمقاربتها دجلة. وكانت دجلة تسمى قصر السّلام ، فمن العرب من يقول : بغدان بالباء والنون ، وبعضهم يقول : بغداد بالباء والدالين ، وهاتان اللغتان هما السائرتان في العرب المشهورتان.

أنشدنا أبو بكر المخزوميّ في مجلس أبي العبّاس ـ يعني ثعلبا :

قل للشمال التي هبت مزعزعة

تذري مع الليل شفانا بصرّاد

اقرأ سلاما على نجد وساكنه

وحاضر باللوى إن كان أو بادي

سلام مغترب بغداد منزله

إن أنجد الناس لم يهمهم بإنجاد

قال أبو بكر بن الأنباريّ : وأنشدنا أبو شعيب قال أنشدنا يعقوب بن السكيت :

لعمرك لو لا هاشم ما تفرقت

ببغداد في نوغايه (١) القدمان

قال وقال الآخر :

يا ليلة حرس الدجاج طويلة

ببغداد ما كادت عن الصبح تنجلي

قال وقال الآخر :

ألا يا غراب البين ما لك واقفا

ببغدان لا تجلو وأنت صحيح

فقال غراب البين وانهلّ دمعه

نقضي لبانات لنا ونروح

ألا إنما بغدان سجن إقالة

أراحك من سجن العذاب مريح

قال أبو بكر وأنشدني أبي قال أنشدني أبو عكرمة :

ترحل فما بغداد دار إقامة

ولا عند من أضحى ببغداد طائل

محل ملوك سمنهم في أديمهم

فكلّهم من حلية المجد عاطل

زادني القاضي أبو الحسين محمّد بن على بن محمّد بن المهتدي بالله هاهنا بيتا ذكر لي أن أبا الفضل محمّد بن الحسن بن المأمون أخبرهم به عن ابن الأنباريّ هو :

سوى معشر قلوا وجلّ قليلهم

يضاف إلى بذل الندا وهو باخل

ثم رجعنا إلى رواية ابن سويد :

ولا غرو إن شلّت يد المجد والعلا

وقل سماح من رجال ونائل

إذا غضغض البحر الغطامط ماءه

فليس عجيبا أن تغيض الجداول

__________________

(١) هكذا في الأصل.

٨٢

أخبرنا أبو الحسين على بن محمّد بن عبد الله بن بشران قال أنبأنا أبو الحسين إسحاق بن أحمد بن محمّد بن إبراهيم الكاذي (١) الزاهد قال أنشدنا أحمد بن يحيى ـ يعني ثعلبا :

ترحل فما بغداذ دار إقامة

ولا عند من أضحى ببغداذ طائل

قال الشيخ أبو بكر : هكذا في أصل كتابي عن ابن بشران بغداذ بالذال المعجمة في الموضعين ثم ساق بقية الأبيات مثل ما تقدم عن ابن سويد.

أخبرنا على بن أبي على قال أنبأنا إسماعيل بن سعيد قال نبأنا أبو بكر بن الأنباريّ قال أخبرني أبي قال أنبأنا الطوسي وابن الحكم عن اللحياني قال يقال : بغدان ، ومغدان ، للمجانسة التي بين الباء والميم كما يقال : باسمك وماسمك ، وعذاب لازم ولازب في حروف كثيرة ، وبعضهم يقول : بغداذ بالذال وهي أشد اللغات وأقلها.

قال أبو بكر : وأنشدني أبي قال أنشدنا الطوسي وابن الحكم عن اللّحياني لأعرابي يمدح الكسائي :

وما لي صديق ناصح أغتدي له

ببغداذ إلا أنت برّ موافق

قال وقال الآخر :

بغداد سقيا لك من بلاد

يا دار دار الأنس والإسعاد

بدّلت منك وحشة البوادي

وقطع واد وورود واد

قال أبو بكر بن الأنباريّ : وبغداد في جميع اللغات تذكر وتؤنث. فيقال : هذه بغدان وهذا بغدان.

أخبرنا أبو الفتح محمّد بن عبيد الله الصّيرفيّ قال نبأنا عبيد الله بن أحمد بن يعقوب المقرئ قال نبأنا أبو القاسم المظفر بن عاصم بن أبي الأغر قال : دخلت إلى بغداد وهي أجمة ليس فيها إلا كوخ واحد وفيه رجل من الأولين ينظر مبقلة له ، فلما أن جاء المنصور ووضع الأساس. قال : ما اسم هذا الموضع؟ قالوا : لا ندري ، هاهنا رجل من الأولين سله ، فبعث إليه فقال له : ما اسمك؟ فقال : اسمي داذ ، فقال له : وما يقال لهذا الموضع؟ فقال : هذا باغ لي ـ يعني البستان. فقال : سموه باغ لداذ ، فسميت بغداذ.

__________________

(١) الكاذي : نسبة إلى كاذة ، وهي قرية من قرى بغداد (الأنساب ١٠ / ٣١٢ ، ٣١٣).

٨٣

قال الشيخ أبو بكر : والمحفوظ أن هذا الاسم كان يعرف به الموضع قديما قبل أبي جعفر المنصور ، وقول ابن أبي الأغر هذا : أن المنصور هو الذي سمي الموضع بغداذ لم يتابعه عليه أحد ، والله أعلم.

***

باب من أخبار أمير لمؤمنين أبي جعفر المنصور (١)

أخبرنا القاضي أبو عمر القاسم بن جعفر بن عبد الواحد الهاشميّ قال نبأنا أبو الحسن على بن إسحاق بن محمّد البختري المادرائي قال نبأنا أبو قلابة الرقاشي.

وأخبرنا أبو الحسن على بن أحمد بن محمّد بن داود الرّزّاز قال أنبأنا أحمد بن سلمان النّجّاد قال أنبأنا أبو قلابة الرقاشي قراءة عليه قال نبأنا أبو ربيعة قال نبأنا عوانة عن الأعمش عن الضّحاك عن ابن عبّاس قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «منا السفاح ، ومنا المنصور ، ومنا المهديّ (٢)». قال النّجّاد : هكذا قرأه علينا أبو قلابة مرفوعا.

قال الشيخ أبو بكر : وكذلك رواه يحيى بن غيلان عن أبي عوانة.

أخبرنا الحسن بن أبي بكر قال نبأنا أبو سهل أحمد بن محمّد بن عبد الله بن زياد القطّان قال : نبأنا محمد بن الفرج الأزرق قال نبأنا يحيى بن غيلان قال نبأنا أبو عوانة عن الأعمش عن الضّحاك بن مزاحم عن عبد الله بن عبّاس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «منا السفاح والمنصور والمهديّ (٣)».

حدّثني الحسن بن أبي طالب قال حدّثنا عمر بن أحمد الواعظ قال نبأنا عبد الله بن سليمان بن الأشعث ومحمّد بن على بن سهل الزعفراني ومحمّد بن الحسين بن حميد بن الرّبيع الخزّاز.

وأخبرنا أبو القاسم الأزهري قال نبأنا محمّد بن المظفر الحافظ قال نبأنا أبو سهل محمّد بن على الزعفراني قالوا : نبأنا أحمد بن راشد الهلالي قال نبأنا سعيد بن خيثم عن حنظلة عن طاوس عن ابن عبّاس قال : حدّثتني أم الفضل بنت الحارث الهلالية ، قالت مررت بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو في الحجر فقال : «يا أم الفضل إنك حامل بغلام». قالت :

__________________

(١) وانظر أخبار أبى جعفر المنصور في الجزء العاشر أيضا.

(٢) انظر الحديث في : العلل المتناهية ١ / ٢٩٠. وكنز العمال ٢٧٣١٧ ، ٣٨٦٨٧.

(٣) انظر الحديث في : المنتظم ٧ / ٣٣٥ ، وكذلك التخريج السابق.

٨٤

يا رسول الله ، كيف وقد تحالف الفريقان أن لا يأتوا النساء؟ قال : «هو ما أقول لك ، فإذا وضعتيه فائتيني به». قالت : فلما وضعته أتيت به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأذن في أذنه اليمني وأقام في أذنه اليسرى. وقال : «اذهبي بأبي الخلفاء». قالت : فأتيت العبّاس فأعلمته فكان رجلا جميلا لباسا فأتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما رآه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قام إليه فقبل بين عينيه ثم أقعده عن يمينه. ثم قال : «هذا عمي فمن شاء فليباه بعمه» قال : يا رسول الله بعض هذا القول. فقال : «يا عبّاس لم لا أقول هذا القول؟ وأنت عمي وصنو أبي وخير من أخلف بعدي من أهلي». فقلت : يا رسول الله ما شيء أخبرتني به أم الفضل عن مولودنا هذا؟ قال : «نعم! يا عبّاس ، إذا كانت سنة خمس وثلاثين ومائة فهي لك ولولدك ؛ منهم السفاح ، ومنهم المنصور ، ومنهم المهديّ» (١) ـ لفظ حديث الحسن.

أخبرنا أبو نعيم أحمد بن عبد الله الحافظ قال نبأنا سليمان بن أحمد الطبراني قال نبأنا أبو زيد عبد الرّحمن بن حاتم المرادي قال نبأنا نعيم بن حمّاد قال نبأنا الوليد بن مسلم عن شيخ عن يزيد بن الوليد الخزاعيّ عن كعب. قال : المنصور والمهديّ والسفاح من ولد العبّاس.

أخبرني على بن أحمد الرّزّاز قال أنبأنا أحمد بن سلمان الفقيه قال نبأنا أبو قلابة الرقاشي قال نبأنا على بن الجعد قال أنبأنا زهير بن معاوية عن ميسرة ـ يعني ابن حبيب ـ عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير. قال : كنا عند ابن عبّاس فذكرنا المهديّ وكان منضجعا ، فاستوى جالسا فقال : منا السفاح ، ومنا المنصور ، ومنا المهديّ.

أخبرنا القاضي أبو العلاء محمّد بن على بن يعقوب الواسطيّ قال نبأنا أبو الحسين على بن عمر بن أحمد الحافظ قال نبأنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصّمد بن موسى الهاشميّ قال حدّثني أبي عبد الصّمد قال حدّثني أبي موسى بن محمّد بن إبراهيم الإمام عن أبيه محمّد بن إبراهيم. قال : قال المنصور يوما ونحن جلوس عنده : أتذكرون رؤيا كنت رأيتها ونحن بالشراة (٢).

فقالوا : يا أمير المؤمنين ما نذكرها. فغضب من ذلك. وقال : كان ينبغي لكم أن

__________________

(١) انظر الحديث في : تنزيه الشريعة ٢ / ٢٥. والعلل المتناهية ١ / ٢٩١. ومجمع الزوائد ٥ / ١٨٧.

(٢) في المطبوعة : «بالشراء».

٨٥

تثبتوها في ألواح الذهب وتعلقوها في أعناق الصبيان. فقال عيسى بن على : إن كنا قصرنا في ذلك فنستغفر الله يا أمير المؤمنين ، فليحدّثنا أمير المؤمنين بها. قال : نعم : رأيت كأني في المسجد الحرام ، وكأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الكعبة وبابها مفتوح ، والدرجة موضوعة ، وما أفقد أحدا من الهاشميّين ولا من القرشيّين ، إذا مناد ينادي : أين عبد الله؟ فقام أخي العبّاس يتخطى الناس حتى صار على الدرجة ، فأخذ بيده فأدخل البيت فما لبث أن خرج علينا ومعه قناة عليها لواء قدر أربع أذرع أو أرجح ، فرجع حتى خرج من باب المسجد. ثم نودي أين عبد الله؟ فقمت أنا وعبد الله بن على نستبق حتى صرنا إلى الدرجة فجلس ، وأخذ بيدي فأصعدت فأدخلت الكعبة ، وإذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جالس ومعه أبو بكر وعمر وبلال. فعقد لي وأوصاني بأمته وعممني ، فكان كورها ثلاثة وعشرين كورا. وقال : خذها إليك أبا الخلفاء إلى يوم القيامة (١).

أخبرنا أبو الحسن على بن أحمد بن عمر المقرئ قال أنبأنا على بن أحمد بن أبي قيس الرفاء قال نبأنا أبو بكر عبد الله بن محمّد بن أبي الدّنيا قال حدّثني محمّد بن صالح قال حدّثني أبو مسعود الرياحي قال حدّثني عبيد الله بن العبّاس. قال : ولد أبو جعفر سنة خمس وتسعين.

وقال ابن أبي الدّنيا : حدّثني حمدون بن سعد المؤذن. قال : رأيت أبا جعفر يخطب على المنبر معرق الوجه ، يخضب بالسواد ، وكان أسمر طويلا نحيفا خفيف العارضين ، وأمه أم ولد يقال لها سلامة (٢).

أخبرنا محمّد بن على الورّاق قال أنبأنا أحمد بن محمّد بن عمران قال أنبأنا أبو بكر محمّد بن يحيى بن عبد الله بن العبّاس بن محمّد بن صول الصولي النديم. قال : توفي المنصور بمكة وكان حاجّا في سنة ثمان وخمسين ومائة ، ودفن بين الحجون وبئر ميمون بن الحضرمي ، وله يوم توفي أربع وستون سنة.

قال : الصولي : ويروى أنه ولد سنة خمس وتسعين في اليوم الذي مات فيه الحجّاج.

حدّثني الحسن بن محمّد الخلّال قال نا عمر بن محمّد بن الزّيّات إملاء قال نا عبد الله بن محمّد بن عبد العزيز.

__________________

(١) انظر الخبر في : المنتظم ٧ / ٣٣٦ ، ٣٣٧.

(٢) انظر الخبر في المنتظم ، ٧ / ٣٣٥.

٨٦

وأخبرنا أبو عبد الله محمّد بن عبد الواحد البزّار ـ واللفظ له ـ قال أنبأنا محمّد بن المظفر الحافظ قال نبأنا محمّد بن أحمد بن إبراهيم قال نا الحارث بن محمّد. قالا نبأنا منصور بن أبي مزاحم قال حدّثني أبو سهل الحاسب قال حدّثني طيفور مولى أمير المؤمنين. قال : حدّثتني سلامة أم أمير المؤمنين قالت : لما حملت بأبي جعفر ، رأيت كأنه خرج من فرجي أسد فزأر ثم أقعى فاجتمعت حوله الأسد ، فكلما انتهى إليه أسد سجد له (١).

أخبرنا الحسن بن أبي طالب قال أنبأنا أحمد بن محمّد بن عروة بن الجرّاح قال نبأنا أبو بكر الصولي قال قال رجل من ولد الرّبيع : لما أراد أبو جعفر أن يبني لنفسه ، كان يؤتى من كل مدينة بتراب فيعفنه فيصير عقارب وهو امّ ، حتى أتى بتربة بغداد فخرج صرّارات ، وأتى الخلد فنظر إلى دجلة والفرات فأعجبه ، فرآه راهب كان هناك وهو يقدّر بناءها. فقال : لا تتم ؛ فبلغه فأتاه. فقال : نعم : نجد في كتبنا أن الذي يبنيها ملك يقال له مقلاص (٢). قال أبو جعفر : كانت والله أمي تلقبني في صغري مقلاصا.

***

باب ذكر خبر بناء مدينة السّلام (٣)

أخبرنا (٤) على بن أبي على المعدّل [التّنوخيّ] (٥) قال أنبأنا طلحة بن محمّد بن جعفر قال أخبرني محمّد بن جرير إجازة : أن أبا جعفر المنصور بويع له سنة ست وثلاثين ومائة ، وأنه ابتدأ أساس المدينة سنة خمس وأربعين ومائة ، واستتم البناء سنة ست وأربعين ومائة ، وسماها مدينة السّلام (٦).

قال الشيخ أبو بكر [الخطيب (٧)] وبلغني أن المنصور لما عزم على بنائها ، أحضر المهندسين وأهل المعرفة بالبناء والعلم بالذرع والمساحة وقسمة الأرضين ، فمثّل لهم

__________________

(١) انظر الخبر في : المنتظم ٧ / ٣٣٤.

(٢) في الأصل : «نقلاص» في الموضعين ، وما أثبتناه عن رواية سبقت للمؤلف ، وعن المنتظم ، والطبري.

(٣) انظر الخبر في : المنتظم ، ١ / ٧٤.

(٤) انظر في ذلك : المنتظم ، ٨ / ٦٩ ـ ٨٨ ، والكامل لابن الأثير ، ٥ / ١٦٥ ـ ١٦٨ ، ١٧٧ ـ ١٧٨. وتاريخ الطبري.

من هنا يبدأ المقابلة بالجزء المطبوع بباريس ، سنة ١٩٠٤ م ، بمنطقة برطرند ـ براتراند ـ بسالون ، وسوف ننبه على ذلك عند انتهاء الجزء المطبوع بها.

(٥) ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل وأضفناه من مطبوعة باريس.

(٦) انظر الخبر في : المنتظم ٨ / ٧٤.

(٧) ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل وأضفناه من مطبوعة باريس.

٨٧

صفتها التي في نفسه ، ثم أحضر الفعلة والصّنّاع من النجارين والحفّارين والحدّادين وغيرهم ، فأجرى عليهم الأرزاق ؛ وكتب إلى كل بلد في حمل من فيه ممن يفهم شيئا من أمر البناء ، ولم يبتدئ في البناء حتى تكامل بحضرته من أهل المهن والصناعات ألوف كثيرة ، ثم اختطها وجعلها مدوّرة. ويقال : لا يعرف في أقطار الدّنيا كلها مدينة مدورة سواها ، ووضع أساسها في وقت اختاره له نوبخت المنجّم (١).

أخبرنا محمّد بن على الورّاق وأحمد بن على المحتسب قالا : أنبأنا محمّد بن جعفر النّحويّ قال نبأنا الحسن بن محمّد السكوني قال قال محمّد بن خلف أنبأني محمّد بن موسى القيسي عن محمّد بن موسى الخوارزميّ الحاسب : أن أبا جعفر تحول من الهاشميّة إلى بغداد ، وأمر ببنائها ثم رجع إلى الكوفة بعد مائة سنة وأربع وأربعين سنة وأربعة أشهر وخمسة أيام من الهجرة. قال : وفرغ أبو جعفر من بنائها ونزلها مع جنده وسماها مدينة السّلام بعد مائة سنة وخمس وأربعين سنة وأربعة أشهر وثمانية أيام من الهجرة.

قال محمّد بن خلف قال الخوارزميّ : واستتم حائط بغداد وجميع عملها بعد مائة سنة وثمان وأربعين سنة وستة أشهر وأربعة أيام من الهجرة.

أخبرنا محمّد بن الحسين بن الفضل القطّان قال أنبأنا عبد الله بن جعفر بن درستويه النّحويّ قال نبأنا يعقوب بن سفيان قال : سنة ست وأربعين ومائة ، فيها فرغ أبو جعفر من بناء مدينة السّلام ونزوله إياها ، ونقل الخزائن وبيوت الأموال والدواوين إليها (٢).

أخبرنا أبو القاسم الأزهري قال أنبأنا أحمد (٣) بن إبراهيم بن الحسن قال نبأنا أبو عبد الله إبراهيم بن محمّد بن عرفة الأزديّ قال : حكى عن بعض المنجمين قال : قال لي المنصور ـ لما فرغ من مدينة السّلام : خذ الطالع. فنظرت في طالعها وكان المشتري في القوس ، فأخبرته بما تدل عليه النجوم من طول زمانها وكثرة عمارتها وانصباب الدّنيا إليها ، وفقر الناس إلى ما فيها ، ثم قلت له : وأبشّرك يا أمير المؤمنين أكرمك الله بخلة أخرى من دلائل النجوم ، لا يموت فيها خليفة من الخلفاء أبدا : فرأيته تبسم لذلك

__________________

(١) انظر الخبر في : المنتظم ٨ / ٧٤.

(٢) انظر في الخبر : تاريخ الفسوي ق ٦.

(٣) في مطبوعة باريس : «محمد بن إبراهيم بن الحسن».

٨٨

ثم قال : الحمد لله ، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. فلذلك قال عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير بن الخطفي عند تحوّل الخلفاء من بغداد :

أعاينت في طول من الأرض والعرض

كبغداد دارا إنها جنّة الأرض

صفا العيش في بغداد واخضرّ عوده

وعيش سواها غير صاف ولا غضّ

تطول بها الأعمار إنّ غذاءها

مريء وبعض الأرض أمرأ من بعض

قضى ربها أن لا يموت خليفة

بها إنه ما شاء في خلقه يقضي

تنام بها عين الغريب ولن ترى

غريبا بأرض الشام يطمع في غمض

فإن خربت بغداد منهم بقرضها

فما أسلفت إلا الجميل من القرض

وإن رميت بالهجر منهم وبالقلى

فما أصبحت أهلا لهجر ولا بغض

وقد رويت هذه الأبيات لمنصور النمري ، والله أعلم.

أخبرنا أبو عبد الله أحمد بن محمّد بن عبد لله الكاتب قال أنبأنا أبو جعفر محمّد ابن محمّد مولى بني هاشم ـ يعرف بابن متيّم ـ قال نا أحمد بن عبيد الله بن عمّار. قال قال أبو عبد الله محمّد بن داود بن الجرّاح : ولم يمت بمدينة السّلام خليفة مذ بنيت إلّا محمّد الأمين ، فإنه قتل في شارع باب الأنبار وحمل رأسه إلى طاهر بن الحسين وهو في معسكره بين بطاطيا وباب الأنبار. فأما المنصور : وهو الذي بناها فمات حاجّا وقد دخل الحرم ، ومات المهديّ بماسبذان ، ومات الهادي بعيساباذ ، ومات هارون بطوس ، ومات المأمون بالبذندون من بلاد الروم وحمل فيما قيل إلى طرطوس فدفن بها ؛ ومات المعتصم بسرّ من رأى. وكل من ولي الخلافة بعده من ولده وولد ولده إلا المعتمد والمعتضد والمكتفي فإنهم ماتوا بالقصور من الزّندورد فحمل المعتمد ميتا إلى سرّ من رأى ، ودفن المعتضد في موضع من دار محمّد بن عبد الله بن طاهر ، ودفن المكتفي في موضع من دار ابن طاهر.

قال الشيخ أبو بكر : ذكرت هذا الخبر للقاضي أبي القاسم على بن المحسن التّنوخيّ رحمه‌الله. فقال : محمّد الأمين أيضا لم يقتل في المدينة ، وإنما كان قد نزل في سفينة إلى دجلة ليتنزه فقبض عليه وسط دجلة وقتل هناك ، ذكر ذلك الصولي وغيره.وقال أحمد بن أبي يعقوب الكاتب : قتل الأمين خارج باب الأنبار عند بستان طاهر.قال الشيخ : عدنا إلى خبر بناء مدينة السّلام.

***

٨٩

ذكر خط مدينة المنصور وتحديدها

ومن جعل إليه النظر في ترتيبها

أخبرنا أبو عمر الحسن بن عثمان بن أحمد بن الفلو الواعظ قال أنبأنا جعفر بن محمّد بن أحمد بن الحكم الواسطيّ قال حدّثني أبو الفضل العبّاس بن أحمد الحدّاد ، قال سمعت أحمد [ابن (١)] البربري يقول : مدينة أبي جعفر ثلاثون ومائة جريب ، خنادقها وسورها ثلاثون جريبا ، وأنفق عليها ثمانية عشر ألف ألف ، وبنيت في سنة خمس وأربعين ومائة (٢).

وقال أبو الفضل حدّثني أبو الطّيّب البزّار قال قال لي خالي ـ وكان قيم بدر ـ قال لنا بدر غلام المعتضد : قال أمير المؤمنين : انظروا كم هي مدينة أبي جعفر؟ فنظرنا وحسبنا فإذا هي ميلين مكسر في ميلين (٣).

قال الشيخ أبو بكر : ورأيت في بعض الكتب أن أبا جعفر المنصور أنفق على مدينته وجامعها وقصر الذهب فيها والأبواب والأسواق إلى أن فرغ من بنائها أربعة آلاف (٤) وثمانمائة وثلاثة وثمانين درهما ، مبلغها من الفلوس مائة ألف فلس وثلاثة وعشرون ألف فلس. وذلك أن الأستاذ من الصناع كان يعمل يومه بقيراط إلى خمس حبات ، والروز جاري يعمل بحبتين إلى ثلاث حبات (٥).

قال أبو بكر الخطيب : وهذا خلاف ما تقدم ذكره من مبلغ النفقة على المدينة ، وأرى بين القولين تفاوتا كثيرا ، والله أعلم (٦).

أخبرنا أبو الحسن محمّد بن أحمد بن رزق البزّار قال نبأنا جعفر المخلدي إملاء قال نبأنا الفضل بن مخلد الدّقّاق قال سمعت داود بن صعير بن شبيب بن رستم البخاريّ ، يقول : رأيت في زمن أبي جعفر كبشا بدرهم ، وحملا بأربعة دوانق ، والتمر ستين رطلا بدرهم ، والزيت ستة عشر رطلا بدرهم ، والسمن ثمانية أرطال بدرهم ، والرجل يعمل بالروزجار في السور كل يوم بخمس حبات.

__________________

(١) ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل ، وأضفناه من مطبوعة باريس.

(٢) انظر الخبر في : المنتظم ٨ / ٧٥.

(٣) انظر الخبر في : المنتظم ٨ / ٧٥.

(٤) في مطبوعة باريس : «أربعة آلاف ألف وثلاثمائة وثلاثة وثمانين». وما أثبتناه من الأصل ، والمنتظم ، ويؤيده تعليق المصنف بقوله : «وأرى بين القولين تفاوتا كثيرا» يعني في الروايتين.

(٥) انظر الخبر في : المنتظم ٨ / ٧٥.

(٦) انظر قول الخطيب في : المنتظم ٨ / ٧٥.

٩٠

قال الشيخ أبو بكر : وشبيه بهذا الخبر.

ما أخبرنا الحسن بن أبي بكر قال أنبأنا عثمان بن أحمد الدّقّاق قال نبأنا الحسن ابن سلّام السواق قال سمعت أبا نعيم الفضل بن دكين. يقول : كان ينادي على لحم البقر في جبّانة كندة تسعين رطلا بدرهم ، ولحم الغنم ستين رطلا بدرهم ، ثم ذكر العسل. فقال : عشرة أرطال ، والسمن اثنا عشر رطلا. قال الحسن بن سلّام : فقدمت بغداد فحدّثت به عفان فقال : كانت في تكتي قطعة فسقطت على ظهر قدمي فأحسست بها ؛ فاشتريت بها ستة مكاكيك دقيق الأرزّ.

أخبرنا محمّد بن على الورّاق وأحمد بن على المحتسب. قالا : أنبأنا محمّد بن جعفر النّحويّ قال نا الحسن بن محمّد السكوني قال نا محمّد بن خلف قال : قال يحيى بن الحسن بن عبد الخالق : خط المدينة ميل في ميل ، ولبنها ذراع في ذراع (١).

قال محمّد بن خلف : وزعم أحمد بن محمود الشرودي أن الذي تولى الوقوف على خط بغداد ، الحجّاج بن أرطأة وجماعة من أهل الكوفة. وزعم أبو النصر المروزيّ أنه سمع أحمد بن حنبل يقول : بغداد من الصّراة إلى باب التبن.

قال الشيخ أبو بكر : عني أحمد بهذا القول مدينة المنصور وما لاصقها واتصل ببنائها خاصة ، لأن أعلى البلد قطيعة أم جعفر دونها الخندق ، يقطع بينها وبين البناء المتصل بالمدينة ، وكذلك إلى أسفل البلد من محال الكرخ وما يتصل به يقطع بينه وبين المدينة الصّراة ، وهذا حد المدينة وما اتصل بها طولا. فأما حد ذلك عرضا فمن شاطئ دجلة إلى الموضع المعروف بالكبش والأسد ، وكل ذلك كان متصل الأبنية متلاصق الدور والمساكن ، والكبش والأسد الآن صحراء مزروعة ، وهي على مسافة من البلد ، وقد رأيت ذلك الموضع مرة واحدة خرجت فيها لزيارة قبر إبراهيم الحربيّ وهو مدفون هناك ؛ فرأيت في الموضع أبياتا كهيئة القرية يسكنها المزارعون والحطّابون ، وعدت إلى الموضع بعد ذلك فلم أر فيه أثر المسكن.

وقال لي أبو الحسين هلال بن المحسن الكاتب : حدّثني أبو الحسن بشر بن على ابن عبيد النصراني الكاتب قال : كنت أجتاز بالكبش والأسد مع والدي ، فلا أتخلص في أسواقها من كثرة الزحمة.

__________________

(١) انظر الخبر في : المنتظم ٨ / ٧٥.

٩١

بلغني عن محمّد بن خلف ـ وكيع : أن أبا حنيفة النعمان بن ثابت ، كان يتولى القيام بضرب لبن المدينة وعدده حتى فرغ من استتمام بناء حائط المدينة مما يلي الخندق. وكان أبو حنيفة يعدّ اللبن بالقصب ، وهو أول من فعل ذلك فاستفاده الناس منه (١).

وذكر محمّد بن إسحاق البغويّ : أن رباحا البناء حدثه ـ وكان ممن تولى بناء سور مدينة المنصور ـ قال : وكان بين كل باب من أبواب المدينة إلى الباب الآخر ميل ، وفي كل ساف من أسواف البناء مائة ألف لبنة واثنتان وستون ألف لبنة من اللبن الجعفري ، فلما بنينا الثلث من السور لقطناه ، فصيرنا في الساف مائة ألف لبنة وخمسين ألف لبنة ، فلما جاوزنا الثلثين لقطناه ، فصيرنا في الساف مائة ألف لبنة وأربعين ألف لبنة إلى أعلاه (٢).

أخبرنا محمّد بن على الورّاق وأحمد بن على المحتسب. قالا : أنبأنا محمّد بن جعفر النّحويّ قال نا الحسن بن محمّد السكوني قال نا محمّد بن خلف قال قال ابن الشروي : هدمنا من السور الذي يلي باب المحوّل قطعة ، فوجدنا فيها لبنة مكتوب عليها بمغرة وزنها مائة وسبعة عشر رطلا. قال : فوزناها فوجدناها كذلك (٣).

قال محمّد بن خلف. قالوا : وبنى المنصور مدينته وبنى لها أربعة أبواب ؛ فإذا جاء أحد من الحجاز دخل من باب الكوفة ، وإذا جاء أحد من المغرب دخل من باب الشام ، وإذا جاء أحد من الأهواز والبصرة وواسط واليمامة والبحرين دخل من باب البصرة ، وإذا جاء الجائي من المشرق دخل من باب خراسان. وذكر باب خراسان كان قد سقط من الكتاب فلم يذكره محمّد بن جعفر عن السكوني وإنما استدركناه من رواية غيره.

وجعل ـ يعني المنصور ـ كل باب مقابلا للقصر وبنى على كل باب قبة ، وجعل بين كل بابين ثمانية وعشرين برجا ، إلا بين باب البصرة وباب الكوفة فإنه يزيد

__________________

(١) انظر الخبر في : المنتظم ٨ / ٧٥.

وقال ابن الجوزي في المنتظم : وقد روي في حديث آخر أن المنصور أراد أبا حنيفة على القضاء فامتنع ، فحلف لا بد أن يتولى له ، فولاه القيام ببناء المدينة وضرب اللبن ليخرج من يمينه ، فتولى ذلك. (المنتظم ٨ / ٧٦).

(٢) انظر الخبر في : المنتظم ٨ / ٧٦.

(٣) انظر الخبر في المنتظم ٨ / ٧٥.

٩٢

واحدا ، وجعل الطول من باب خراسان إلى باب الكوفة ثمانمائة ذراع ، ومن باب الشام إلى باب البصرة ستمائة ذراع ، ومن أول باب المدينة إلى الباب الذي يشرع إلى الرحبة خمسة أبواب حديد.

وذكر وكيع فيما بلغني عنه : أن أبا جعفر بنى المدينة مدوّرة لأن المدوّرة لها معان سوى المربعة ، وذلك أن المربعة إذا كان الملك في وسطها كان بعضها أقرب إليه من بعض ، والمدور من حيث قسم كان مستويا لا يزيد هذا على هذا ولا هذا على هذا ، وبنى لها أربعة أبواب ، وعمل عليها الخنادق وعمل لها سورين وفصيلين بين كل بابين فصيلان ، والسور الداخل أطول من الخارج. وأمر ألا يسكن تحت السور الطويل الداخل أحد ولا يبنى منزلا ، وأمر أن يبنى في الفصيل الثاني مع السور النازل لأنه أحصن للسور ، ثم بنى القصر والمسجد الجامع.

وكان في صدر قصر المنصور : إيوان طوله ثلاثون ذراعا ، وعرضه عشرون ذراعا ؛ وفي /* ـ +صدر الإيوان مجلس عشرون ذراعا في عشرين ذراعا ، وسمكه عشرون ذراعا ؛ وسقفه قبة وعليه مجلس مثله فوقه القبة الخضراء ؛ وسمكه إلى أول حد عقد القبة عشرون ذراعا ؛ فصار من الأرض إلى رأس القبة الخضراء ثمانين ذراعا ، وعلى رأس القبة تمثال فرس عليه فارس. وكانت القبة الخضراء ترى من أطراف بغداد.

حدّثني القاضي أبو القاسم التّنوخيّ قال : سمعت جماعة من شيوخنا يذكرون أن القبة الخضراء كان على رأسها صنم على صورة فارس في يده رمح ، فكان السلطان إذا رأى أن ذلك الصنم قد استقبل بعض الجهات ومد الرمح نحوها ، علم أن بعض الخوارج يظهر من تلك الجهة فلا يطول الوقت حتى ترد عليه الأخبار بأن خارجيّا قد نجم من تلك الجهة ، أو كما قال.

أنبأنا إبراهيم بن مخلد القاضي قال أنبأنا إسماعيل بن عسلي الخطبيّ قال : سقط رأس القبة الخضراء خضراء أبي جعفر المنصور التي في قصره بمدينته يوم الثلاثاء لسبع خلون من جمادى الآخرة سنة تسع وعشرين وثلاثمائة ، وكان ليلتئذ مطر عظيم ورعد هائل وبرق شديد ، وكانت هذه القبة تاج بغداد وعلم البلد ومأثرة من مآثر بني العبّاس عظيمة ، بنيت أول ملكهم وبقيت إلى هذا الوقت [إلى آخر أمر الواثق] (١). فكان بين بنائها وسقوطها مائة ونيف وثمانون سنة.

__________________

(١) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل ، وأضفناه من مطبوعة باريس.

٩٣

قال وكيع فيما بلغني عنه : أن المدينة مدورة عليها سور مدور ، قطرها من باب خراسان إلى باب الكوفة ألفا ذراع ومائتا ذراع ، ومن باب البصرة إلى باب الشام ألفا ذراع ومائتا ذراع ، وسمك ارتفاع هذا السور الداخل وهو سور المدينة في السماء خمسة وثلاثون ذراعا ؛ وعليه أبرجة سمك كل برج منها فوق السور خمسة أذرع ، وعلى السور شرف. وعرض السور من أسفله نحو عشرين ذراعا. ثم الفصيل بين السورين وعرضه ستون ذراعا ، ثم السور الأول وهو سور الفصيل ودونه خندق ، وللمدينة أربعة أبواب : شرقي وغربي وقبلي وشمالي لكل باب منها بابان ، باب دون باب ، بينهما دهليز ورحبة يدخل إلى الفصيل الدائر بين السورين ، فالأول باب الفصيل ، والثاني باب المدينة ، فإذا دخل الداخل من باب خراسان الأول عطف على يساره في دهليز أزج معقود بالآجر والجص ، عرضه عشرون ذراعا وطوله ثلاثون ذراعا ، المدخل إليه في عرضه والمخرج منه من طوله يخرج إلى رحبة مادّة إلى الباب الثاني طولها ستون ذراعا وعرضها أربعون ذراعا ، ولها في جنبتيها حائطان من الباب الأول إلى الباب الثاني ، في صدر هذه الرحبة في طولها الباب الثاني وهو باب المدينة ، وعن يمينه وشماله في جنبتي هذه الرحبة بابان إلى [الفصيلين (١)] فالأيمن يؤدي إلى فصيل باب الشام ، والأيسر يؤدي إلى فصيل باب البصرة ، ثم يدور من باب البصرة إلى باب الكوفة ، ويدور الذي انتهى إلى باب الشام إلى باب الكوفة ، على نعت واحد وحكاية واحدة ، والأبواب الأربعة على صورة واحدة ، في الأبواب والفصلان والرحاب والطاقات. ثم الباب الثاني وهو باب المدينة وعليه السور الكبير الذي وصفنا ، فيدخل من الباب الكبير إلى دهليز أزج معقود بالآجر والجص طوله عشرون ذراعا ، وعرضه اثنا عشر ذراعا ، وكذلك سائر الأبواب الأربعة ، وعلى كل أزج من آزاج هذه الأبواب مجلس له درجة على السور يرتقي إليه منها ، على هذا المجلس قبة عظيمة ذاهبة في السماء سمكها خمسون ذراعا مزخرفة ، وعلى رأس كل قبة منها تمثال تديره الريح لا يشبه نظائره.

وكانت هذه القبة مجلس المنصور إذا أحب النظر إلى الماء وإلى من يقبل من ناحية خراسان. وقبة على باب الشام كانت مجلس المنصور إذا أحب النظر إلى الأرباض وما والاها. وقبة على باب البصرة كانت مجلسه إذا أحب النظر إلى الكرخ ومن أقبل من

__________________

(١) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل ، وأضفناه من مطبوعة باريس.

٩٤

تلك الناحية. وقبة على باب الكوفة كانت مجلسه إذا أحب النظر إلى البساتين والضياع. وعلى كل باب من أبواب المدينة الأوائل والثواني باب حديد عظيم جليل المقدار كل باب منها فردان (١).

أخبرنا محمّد بن على الورّاق وأحمد بن على المحتسب. قالا : أنبأنا محمّد بن جعفر قال نبأنا الحسن بن محمّد السكوني قال نبأنا محمّد بن خلف قال قال أحمد ابن الحارث عن العتابيّ : أن أبا جعفر نقل الأبواب من واسط ، وهي أبواب الحجّاج.وأن الحجّاج وجدها على مدينة كان بناها سليمان بن داود عليهما‌السلام بإزاء واسط ، كانت تعرف بزندورد ، وكانت خمسة. وأقام على باب خراسان بابا جيء به من الشام من عمل الفراعنة ، وعلى باب الكوفة الخارج بابا جيء به من الكوفة من عمل [خالد (٢)] القسري ، وعمل هو لباب الشام بابا فهو أضعفها. وابتنى قصره الذي يسمى الخلد على دجلة ، وتولى ذلك أبان بن صدقة والرّبيع ، وأمر أن يعقد الجسر عند باب الشعير ، وأقطع أصحابه خمسين في خمسين.

قال الشيخ أبو بكر : إنما سمي قصر المنصور الخلد تشبيها له بجنّة الخلد ، وما يحويه من كل منظر رائق ، ومطلب فائق ، وغرض غريب ، ومراد عجيب. وكان موضعه وراء باب خراسان ، وقد اندرس الآن فلا عين له ولا أثر.

وحدّثني القاضي أبو القاسم على بن المحسن التّنوخيّ قال حدّثني أبو الحسن على ابن عبيد الزجاج الشّاهد ـ وكان مولده في شهر رمضان من سنة أربع وتسعين ومائتين ـ قال : أذكر في سنة سبع وثلاثمائة ، وقد كسرت العامة الحبوس بمدينة المنصور ، فأفلت من كان فيها ، وكانت الأبواب الحديد التي للمدينة باقية ، فغلّقت وتتّبع أصحاب الشرط من أفلت من الحبوس ، فأخذوا جميعهم حتى لم يفتهم منهم أحد.

قال الشيخ أبو بكر : عدنا إلى كلام وكيع المتقدم.

قال : ثم يدخل من الدهليز الثاني إلى رحبة مربعة عشرون ذراعا في مثلها ، فعلى يمين الداخل إليها طريق وعلى يساره طريق ، فيؤدّي الأيمن إلى باب الشام والأيسر إلى باب البصرة. والرحبة كالرحبة التي وصفنا ، ثم يدور هذا الفصيل على سائر الأبواب

__________________

(١) انظر الخبر في : المنتظم ٨ / ٧٦ ، ٧٧.

(٢) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل ، وأضفناه من مطبوعة باريس.

٩٥

بهذه الصورة ، وتشرع في هذا الفصيل أبواب السكك ، وهو فصيل مادّ مع السور ، وعرض كل فصيل من هذه الفصلان من السور إلى أفواه السكك خمس وعشرون ذراعا ، ثم يدخل من الرحبة التي وصفنا إلى الطاقات ، وهي ثلاثة وخمسون طاقا سوى طاق المدخل إليها من هذه الرحبة ، وعليه باب ساج كبير فردين ، وعرض الطاقات خمس عشرة ذراعا ، وطولها من أولها إلى الرحبة التي بين هذه الطاقات والطاقات الصغرى مائتا ذراع ، وفي جنبتي الطاقات بين كل طاقين منها غرف كانت للمرابطة ، وكذلك لسائر الأبواب الباقية ، فعلى هذه الصفة سواء ، ثم يخرج من الطاقات إلى رحبة مربعة عشرون ذراعا في عشرين ذراعا ، فعن يمينك طريق يؤدي إلى نظيرتها من باب الشام ، ثم تدور إلى نظيرتها من باب الكوفة ، ثم إلى نظيرتها من باب البصرة.

ثم نعود إلى وصفنا لباب خراسان : كل واحدة منهن نظيرة لصواحباتها ، وفي هذا الفصيل تشرع أبواب لبعض السكك وتجاهك الطاقات الصغرى التي تلي دهليز المدينة الذي منه يخرج إلى الرحبة الدائرة حول القصر والمسجد.

حدّثني على بن المحسن قال قال لي القاضي أبو بكر بن أبي موسى الهاشميّ : انبثق البثق من قبتين وجاء الماء الأسود فهدم طاقات باب الكوفة ، ودخل المدينة فهدم دورنا فخرجنا إلى الموصل وذلك في سني نيف وثلاثين وثلاثمائة ، وأقمنا بالموصل سنين عدة ثم عدنا إلى بغداد فسكنّا طاق العكّيّ.

قال الخطيب الحافظ : بلغني عن أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ. قال : قد رأيت المدن العظام ، والمذكورة بالإتقان والإحكام ، بالشامات وبلاد الروم وفي غيرهما من البلدان ، فلم أر مدينة قط أرفع سمكا ، ولا أجود استدارة ، ولا أنبل نبلا ، ولا أوسع أبوابا ، ولا أجود فصيلا ، من الزوراء. وهي مدينة أبي جعفر المنصور. كأنما صبت في قالب وكأنما أفرغت إفراغا ، والدليل على أن اسمها الزوراء قول سلم الخاسر :

أين ربّ الزوراء إذ قلّدته ال

ملك عشرين حجة واثنتان

أخبرنا الحسين بن محمّد المؤدّب قال أخبرني إبراهيم بن عبد الله الشطّي قال نبأنا أبو إسحاق الهجيمي قال نبأنا محمّد بن القاسم أبو العيناء قال قال الرّبيع : قال لي المنصور : يا ربيع هل تعلم في بنائي هذا موضعا إن أخذني فيه الحصار خرجت خارجا منه على فرسخين؟ قال قلت : لا قال : بلى ، قال : في بنائي هذا ما إن أخذني فيه الحصار خرجت خارجا منه على فرسخين.

٩٦

حدّثت عن أبي عبيد الله محمّد بن عمران بن موسى المرزبانيّ. قال : دفع إلى العبّاس بن العبّاس بن محمّد بن عبد الله بن المغيرة الجوهريّ كتابا ذكر أنه بخط عبد الله بن أبي سعد الورّاق فكان فيه : حدّثنا عبد الله بن محمّد بن عياش التّميميّ المروروذي قال سمعت جدي عياش بن القاسم يقول : كان على أبواب المدينة مما يلي الرحاب ستور وحجاب ، وعلى كل باب قائد. فكان على باب الشام سليمان بن مجالد في ألف ، وعلى باب البصرة أبو الأزهر التّميميّ في ألف ، وعلى باب الكوفة خالد العكي في ألف ، وعلى باب خراسان مسلمة بن صهيب الغسّاني في ألف. وكان لا يدخل أحد من عمومته ـ يعني عمومة المنصور ـ ولا غيرهم من هذه الأبواب إلا راجلا ، إلا داود بن على عمه فإنه كان منقرسا ، فكان يحمل في محفة. ومحمّد المهديّ ابنه ، وتكنس الرحاب ، في كل يوم يكنسها الفراشون ، ويحمل التراب إلى خارج المدينة ، فقال له عمه عبد الصّمد : يا أمير المؤمنين أنا شيخ كبير فلو أذنت لي أن أنزل داخل الأبواب فلم يأذن له. فقال : يا أمير المؤمنين عدّني بعض بغال الرّوايا التي تصل إلى الرحاب. فقال : يا ربيع : بغال الرّوايا تصل إلى رحابي؟ فقال : نعم يا أمير المؤمنين. فقال : تتخذ الساعة قني بالساج من باب خراسان حتى تجيء إلى قصري ففعل (١).

أخبرنا الحسين بن محمّد بن الحسن المؤدّب قال أخبرني إبراهيم بن عبد الله بن إبراهيم الشطّي بجرجان قال نبأنا أبو إسحاق الهجيمي قال قال أبو العيناء : بلغني أن المنصور جلس يوما فقال للربيع : انظر من بالباب من وفود الملوك فأدخله؟ قال : قلت وافد من قبل ملك الروم. قال : أدخله. فدخل فبينا هو جالس عند أمير المؤمنين ، إذ سمع المنصور صرخة كادت تقلع القصر. فقال : يا ربيع ، ينظر ما هذا؟ قال : ثم سمع صرخة هي أشد من الأولى. فقال : يا ربيع ، ينظر ما هذا؟ قال : ثم سمع صرخة هي أشد من الأوليين. فقال : يا ربيع اخرج بنفسك. قال فخرج ربيع ثم دخل. فقال : يا أمير المؤمنين بقرة قربت لتذبح فغلبت الجازر وخرجت تدور في الأسواق ، فأصغى الرومي إلى الرّبيع يتفهّم ما قال ، ففطن المنصور لإصغاء الرومي. فقال : يا ربيع أفهمه. قال : فأفهمه. فقال الرومي : يا أمير المؤمنين ، إنك بنيت بناء لم يبنه أحد كان قبلك ، وفيه ثلاثة عيوب. قال : وما هي؟ قال : أما أول عيب فيه فبعده عن الماء ولا بد للناس

__________________

(١) انظر الخبر في : المنتظم ، ٨ / ٧٧.

٩٧

من الماء لشفاههم ، وأما العيب الثاني فإن العين خضرة وتشتاق إلى الخضرة وليس في بنائك هذا بستان ، وأما العيب الثالث فإن رعيتك معك في بنائك وإذا كانت الرعية مع الملك في بنائه فشا سره. قال : فتجلد عليه المنصور. فقال له : أما قولك في الماء فحسبنا من الماء ما بل شفاهنا ، وأما العيب الثاني فإنا لم نخلق للهو واللعب ، وأما قولك في سري فما لي سر دون رعيتي (١). قال : ثم عرف الصواب فوجه بشميس وخلّاد ـ وخلاد ، هو جد أبي العيناء ـ فقال : مدّا لي قناتين من دجلة ، واغرسوا لي العبّاسية ، وانقلوا الناس إلى الكرخ(٢).

قال الشيخ أبو بكر : مدّ المنصور قناة من نهر دجيل الآخذ من دجلة ، وقناة من نهر كرخايا الآخذ من الفرات ، وجرّهما إلى مدينته في عقود وثيقة من أسفلها ، محكمة بالصاروج والآجر من أعلاها ، وكانت كل قناة منهما تدخل المدينة وتنفذ في الشوارع والدروب والأرباض ، وتجري صيفا وشتاء لا ينقطع ماؤها في وقت ، وجر لأهل الكرخ وما اتصل به (٣) [نهرا يقال له : نهر الدجاج ، وإنما سمي بذلك لأن أصحاب الدجاج كانوا يقفون عنده ، ونهرا يقال له نهر القلاءين حدّثنا من أدركه جاريا يلتقي في دجلة تحت الفرضة ، ونهرا يسمى نهر طابق ، ونهرا يقال له نهر البزّازين فسمعت من يذكر أنه توضأ منه ، ونهرا في مسجد الأنباريّين رأيته لا ماء فيه ، وقد تعطلت هذه الأنهار ودرس أكثرها حتى لا يوجد له أثر] (٤). وأنهارا نذكرها بعد إن شاء الله تعالى.

***

خبر بناء الكرخ (٥)

أخبرنا محمّد بن الحسين القطّان قال أنبأنا عبد الله بن جعفر بن درستويه قال نبأنا يعقوب بن سفيان قال : سنة سبع وخمسين ومائة فيها نقل أبو جعفر الأسواق من المدينة ومدينة الشرقية إلى باب الكرخ وباب الشعير والمحول ، وهي السوق التي تعرف

__________________

(١) انظر الخبر في : المنتظم ٨ / ٧٨ ، ٧٩. والروض المعطار ـ للحيري ، ص ١١٢.

(٢) المنتظم : ٨ / ٧٩.

(٣) انظر الخبر في المنتظم : ٨ / ٧٩.

(٤) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل ، وأضفناه من مطبوعة باريس.

(٥) انظر في ذلك : الروض المعطار للحميري ، ص ٤٩١. والمنتظم لابن الجوزي ٨ / ١٩٤.

٩٨

بالكرخ وأمر ببنائها من ماله على يدي الرّبيع مولاه ، وفيها وسع طرق المدينة وأرباضها ووضعها على مقدار أربعين ذراعا ، وأمر بهدم ما شاع من الدور عن ذلك القدر (١).

أخبرنا أبو القاسم الأزهري قال أنبأنا محمّد بن إبراهيم بن الحسن قال نا إبراهيم ابن الحسن قال نا إبراهيم بن محمّد بن عرفة الأزديّ. قال : فلما دخلت سنة سبع وخمسين ، وكان أبو جعفر قد ولّى الحسبة يحيى بن زكريّا ، فاستغوى العامة ، وزيّن لهم الجموح فقتله أبو جعفر بباب الذهب ، وحول أسواق المدينة إلى باب الكرخ وباب الشعير وباب المحوّل ، وأمر ببناء الأسواق على يد الرّبيع ، وأوسع الطرق بمدينة السّلام وجعلها على أربعين ذراعا وأمر بهدم ما شخص من الدور عن ذلك المقدار. وفي سنة ثمان وخمسين بنى المنصور قصره على دجلة وسماه الخلد (٢).

أخبرنا محمّد بن على الورّاق وأحمد بن على المحتسب. قالا : نا محمّد بن جعفر النّحويّ قال نبأنا الحسن بن محمّد السكوني قال قال محمّد بن خلف قال الخوارزميّ ـ يعني محمّد بن موسى : وحول أبو جعفر الأسواق إلى الكرخ وبناها من ماله بعد مائة سنة وستّ وخمسين سنة وخمسة أشهر وعشرين يوما ؛ ثم بدأ بعد ذلك في بناء قصر الخلد على شاطئ دجلة بعد شهر وأحد عشر يوما.

قال محمّد بن خلف : وأخبرني الحارث بن أبي أسامة قال : لما فرغ أبو جعفر المنصور من مدينة السّلام ، وصيّر الأسواق في طاقات مدينته من كل جانب ؛ قدم عليه وفد ملك الروم ، فأمر أن يطاف بهم في المدينة ثم دعاهم. فقال للبطريق : كيف رأيت في هذه المدينة؟ قال : رأيت أمرها كاملا إلا في خلة واحدة. قال : ما هي؟ قال : عدوك يخترقها متى يشاء وأنت لا تعلم ؛ وأخبارك مبثوثة في الآفاق لا يمكنك سترها.قال : كيف؟ قال : الأسواق غير ممنوع منها أحد فيدخل العدو كأنه يريد أن يتسوّق ؛ وأما التجار فإنها ترد الآفاق فيتحدّثون بأخبارك ، قال : فزعموا أنه أمر المنصور حينئذ بإخراج الأسواق من المدينة إلى الكرخ ، وأن يبنى ما بين الصراة إلى نهر عيسى ، وولى ذلك محمّد بن حبيش الكاتب ، ودعا المنصور بثوب واسع فحدّ فيه الأسواق ، ورتب كل صنف منها في موضعه. وقال : اجعلوا سوق القصّابين في آخر الأسواق ؛ فإنهم

__________________

(١) انظر الخبر في : المنتظم ١ / ١٩٣. وتاريخ الفسوي ق ١٠.

(٢) انظر الخبر في : المنتظم ٨ / ١٩٣ ، ١٩٤.

٩٩

سفهاء وفي أيديهم الحديد القاطع. ثم أمر أن يبنى لأهل الأسواق مسجد يجتمعون فيه يوم الجمعة لا يدخلون المدينة ويفرد لهم ذلك ، وقلد ذلك رجلا يقال له الوضاح بن شبا فبنى القصر الذي يقال له : قصر الوضاح والمسجد فيه ، وسميت الشرقية لأنها شرقي الصراة ، ولم يضع المنصور على الأسواق غلّة حتى مات. فلما استخلف المهديّ أشار عليه أبو عبيد الله بذلك ، فأمر فوضع على الحوانيت الخراج وولى ذلك سعيد الخرسي سنة سبع وستين ومائة(١).

أخبرنا محمّد بن على وأحمد بن على. قالا : أنبأنا محمّد بن جعفر النّحويّ قال نبأنا الحسن بن محمّد السكوني قال قال محمّد بن خلف : كانت سوق دار البطيخ قبل أن تنقل إلى الكرخ في درب يعرف بدرب الأساكفة ، ودرب يعرف بدرب الزيت ، ودرب يعرف بدرب العاج ، فنقلت السوق إلى داخل الكرخ في أيام المهديّ ، ودخل أكثر الدروب في الدور التي اشتراها أحمد بن محمّد الطائي ، وكانت القطائع التي من جانب الصراة مما يلي باب المحوّل لعقبة بن جعفر بن محمّد بن الأشعث من ولد أهبان بن صيفي مكلم الذئب إقطاعا من المنصور ، ثم خرج عقبة على المأمون فنهبت داره ، ثم أقطعها المأمون ولد عيسى بن جعفر. وكانت الدور التي بين الخندق مما يلي باب البصرة وشط الصراة وإزاء دور الصحابة للأشاعثة ، وهي دور آل حمّاد ابن زيد اليوم. وكانت دار جعفر بن محمّد بن الأشعث الكندي مما يلي باب المحول ثم صارت للعبّاس ابنه.

حدّثني الحسن بن أبي طالب قال نا أبو عمر محمّد بن العبّاس الخزّاز قال نا أبو عبيد الناقد قال نا محمّد بن غالب قال سمعت عبد الرّحمن بن يونس أبا مسلم يذكر عن الواقدي. قال : الكرخ مفيض السفل.

قال الشيخ أبو بكر : إنما عنى الواقدي بقوله هذا مواضع من الكرخ مخصوصة يسكنها الرافضة دون غيرهم ، ولم يرد سائر نواحي الكرخ ، والله أعلم.

أنشدنا الحسن بن بكر بن شاذان قال أنشدنا أبي قال أنشدنا أبو عبد الله إبراهيم ابن محمّد بن عرفة نفطويه لنفسه :

سقى أربع الكرخ الغوادي بديمة

وكلّ ملثّ دائم الهطل مسبل

منازل فيها كل حسن وبهجة

وتلك لها فضل على كل منزل

***

__________________

(١) انظر الخبر في : المنتظم ٨ / ١٩٤ ، ١٩٥.

١٠٠