تاريخ بغداد أو مدينة السّلام - ج ١

أبي بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي

تاريخ بغداد أو مدينة السّلام - ج ١

المؤلف:

أبي بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي


المحقق: مصطفى عبد القادر عطا
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٦٢

٨٧ ـ رياض الأنس إلى حضائر القدس. (١)

وفاة الخطيب البغدادي :

لما عاد الخطيب من رحلته إلى الحجاز استقر في حجرة بباب المراتب في درب السلسلة بجوار المدرسة النظامية ، وأخذ يلقى دروسه في حلقته بجامع المنصور ، وفي حجرته أحيانا.

وقد مرض الخطيب في رمضان سنة ٤٦٣ ه‍ ، فأوصى بتفريق ثروته ، ووقف كتبه على المسلمين وسلمها إلى أبي الفضل بن خيرون ليعيرها لمن يطلبها.

وفي يوم الاثنين سابع ذى الحجة سنة ٤٦٣ ه‍ ، توفى الخطيب البغدادي ، وشيعت جنازته وحضرها العلماء والكبراء ، ودفن في مقبرة باب حرب في جوار بشر الحافى. (٢)

***

__________________

(١) الظاهرية ، تفسير ١٢٢ (١٤٤).

(٢) الوافي بالوفيات ٧ / ١٩٢. ومعجم الأدباء ١ / ٢٥٩. والمنتظم ، لابن الجوزي

٢١

كتاب تاريخ بغداد

أهميته ـ منهجه ـ وترتيبه

أهميته :

يعد «تاريخ بغداد» من أهم وأكبر مؤلفات الخطيب البغدادي ، إذ يضم الكتاب ٧٨٣١ ترجمة للمحدثين وأرباب العلوم الأخرى ورجالات المجتمع والدولة ، فهو تاريخ النخبة وهم أصحاب الكفاءات والمبرزين في المجتمع.

ولقد استبطن الخطيب البغدادي في كتابه بعض الكتب التي ألفت في تاريخ بغداد وفقدت ، فحفظها لنا الخطيب في تاريخه ، وخاصة التي انفرد بها أو يكاد.

وتظهر أهمية «تاريخ بغداد» من ناحية الحياة الثقافية في أنه يكشف عن طرق التدريس ومناهج العلماء ومقاييسهم وعلاقتهم مع تلاميذهم ، والتعريف بالمدارس التي انتشرت في القرنين الرابع والخامس ، وكذلك الحلقات العلمية ومجالس العلماء في المساجد للتحديث والتدريس. (١)

كما يعكس «تاريخ بغداد» نشاط العلماء ومدى اتصال الحركة الفكرية في المدن الإسلامية ببعضها البعض ، وذلك عن طريق ذكره رحلة العلماء في طلب العلم ، إما تصريحا أو بواسطة ذكر نسبتهم إلى أكثر من مدينة مما يدل على دخولهم إلى مدن عديدة ، وبالتالى يعكس مدى الصلات الفكرية بين تلك المدن. (٢)

ولا شك أن الأهمية العظمى للكتاب «تاريخ بغداد» تكمن في مجال الحديث ، حيث ترجم الخطيب البغدادي لحوالى خمسة آلاف ترجمة هم من رجال الحديث من إجمالى ٧٨٣١ ترجمة هم عدد تراجم الكتاب.

ولقد استخدم الخطيب البغدادي الإسناد بدقة عند سرد الروايات سواء كانت تتصل بالحديث ورجاله أو بالتاريخ أو بالأدب ، وبذلك أعان على الكشف عن موارده ، ونظرا لفقدان معظم المصنفات التي اقتبس منها ، بل إن بعضها لم تشر إليها الكتب المختصة بأسماء المؤلفات ، فإن لاقتباساته عنها بأسانيده إليها أهمية عظيمة في التعريف بكثير من المؤلفات المفقودة ، وخاصة في الحديث والتاريخ مما له أهمية كبيرة في دراسة تاريخ التأريخ وتأريخ الحديث. (٣)

__________________

(١) موارد الخطيب ، ص ٨٧ ـ ٨٨.

(٢) موارد الخطيب ، ص ٨٨ ـ ٨٩.

(٣) موارد الخطيب ، ص ٨٩ ـ ٩٠.

٢٢

ولا بد من التنويه بأهمية «تاريخ بغداد» في ذكر أسماء العديد من المصنفات ، وقد بلغت ٤٤٦ كتابا ألفت جميعا خلال القرون الثالث والرابع والخامس ، وهي في موضوعات شتى هي : علوم القرآن والقراءات (٥٧ كتابا) والتفسير (٢٤ كتابا) والحديث (٧٣ كتابا) وعلوم الحديث وشرحه (٢١ كتابا) والفقه (٢١ كتابا) وأصول الفقه (٣ كتب) والعقائد والفرق (١٢ كتابا) والرقائق والتصوف (٦ كتب) والمنطق وعلم الكلام (٣ كتب) والسيرة النبوية (٩ كتب) والفضائل والمناقب (٤ كتب) والتراجم (٨ كتب) وعلم الرجال (٥٦ كتابا) والتاريخ (١٠ كتب) والأخبار (١٢ كتابا) والنسب (١١ كتابا) والمبتدأ (٣ كتب) والأدب ودواوين الشعر (٣٧ كتابا) واللغة (٣٠ كتابا) والنحو والصرف (٣١ كتابا) والجغرافية (كتابان) وكتب أخرى متفرقات (١٣ كتابا). وعند مقارنة هذه القائمة بكتاب الفهرست لابن النديم تبين أن الخطيب البغدادي ذكر ٢٩٨ كتابا لم يذكرها ابن النديم ، مما يدل على أهمية الإضافة التي قدمها الخطيب البغدادي بسبب ذكره مصنفات أصحاب التراجم أحيانا ، رغم أنه أهمل الإشارة إلى كثير من المصنفات الأخرى التي صنفها أصحاب التراجم الذين تناولهم كتابه. (١)

ويلاحظ أن الخطيب أهمل تخريج تراجم الرياضيين والفلكيين والفلاسفة ، ولم يستوعب تراجم رجالات السياسة والإدارة والحرب ولا الأدباء والشعراء والمغنين ، بل لم يستوعب تراجم غير المحدثين الذين فاته ذكر بعضهم فاستدركهم عليه ابن النجار وغيره من أصحاب الذيول على «تاريخ بغداد»

كما لم يقدم الخطيب في تاريخه معلومات مفصلة عن التاريخ السياسى والعسكري ولا عن الإدارة والنواحي الاقتصادية ، ومن ثم فإن «تاريخ بغداد» ليس تاريخا شاملا رغم غناه ووفرة مادته عن الحياة الثقافية. (٢)

ولعل ما يبرز أهمية «تاريخ بغداد» أيضا هو اقتباس المؤلفات التي أرخت للفترة التي تناولها ونقل مؤلفيها عن «تاريخ بغداد» ومن أبرز المؤلفين الذين أكثروا النقل عنه : على بن هبة الله بن ماكولا (٤٧٥ ه‍ في كتابه «الإكمال».

أبو سعد عبد الكريم بن محمد السمعاني (٥٦٢ هفي كتابه «الأنساب».

__________________

(١) موارد الخطيب ، ص ٩٠ ـ ٩١.

(٢) موارد الخطيب ، ص ٩١.

٢٣

ابن أبى يعلى (ت ٥٢٦ ه‍ في «طبقات الحنابلة».

أبو الفرج عبد الرحمن بن على بن الجوزي (٥٩٧ هفي كتابيه «المنتظم في تاريخ الملوك والأمم» و «المصباح المضيء في أخبار المستضيء».

وياقوت الحموي (٦٢٦ هفي كتابيه «معجم البلدان» و «إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب»

وأبو العباس شمس الدين أحمد بن محمد بن خلكان (٦٨١ ه‍ في كتابه «وفيات الأعيان»

وابن الفوطي (٧٢٣ ه‍ في «تلخيص مجمع الآداب في معجم الألقاب».

والحافظ شمس الدين محمد بن أحمد الذهبي (٧٤٨ هفي كتبه : «تذكرة الحفاظ» و «ميزان الاعتدال» و «سير أعلام النبلاء» و «تاريخ الإسلام» وفي غيرها من مؤلفاته الكثيرة.

وابن نقطة في كتابه «التقييد في رواة السنن والمسانيد».

وابن فرحون في : الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب».

وتاج الدين عبد الوهاب بن على السبكى (٧٧١ هفي كتابه «طبقات الشافعية الكبرى».

والحافظ ابن حجر العسقلاني في «تهذيب التهذيب».

والسيوطي في «بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة». (١)

والداودي في «طبقات المفسرين» ، وغيرهم الكثير.

ويرجع ذلك إلى ثقة هؤلاء في مادة «تاريخ بغداد» واعتمادهم عليه وشهرته.

منهج الخطيب في تاريخه :

حاول الخطيب أن يترجم لسائر العلماء الذين عاشوا ببغداد أو زاروها منذ إنشائها حتى عصره ، فاعتمد على المصنفات التي سبقته ومنها كتب في تراجم المحدثين وأخرى في تراجم الخلفاء أو الأدباء أو الشعراء ومنها كتب الحوليات.

كما اهتم بتخريج أحاديث للمترجمين فاستخدم كتب الحديث ومعاجم الشيوخ

__________________

(١) موارد الخطيب ٨٢ ـ ٩٣.

٢٤

ومنتخبات وأجزاء حديثية يختلط فيها الحديث والضعيف ، وقد تعقب الخطيب بعضها وانتقدها ، ولكنه لم يفعل ذلك دائما ، ولتعقيبات الخطيب على الأحاديث أهمية كبيرة لتضلعه في الحديث وعلومه. (١)

وهكذا فإن الخطيب استفاد من المؤلفات التي سبقته في تأليف كتابه ، حتى إن ما اقتبسه يكوّن حوالى ثلاثة أرباح مادة كتابه.

ولا شك أن الخطيب وجد أمامه مكتبه هائلة في التراجم والتاريخ والأدب انتقى منها مصادره ، ثم انتقى من مصادره الروايات التي ضمنها «تاريخ بغداد» فمعلوماته عن صاحب الترجمة قد تكون أوسع بكثير مما كتبه عنه ، وقد صرح الخطيب بذلك في أحد المواضع.

وعملية الانتقاء هذه ضرورية في مصنفه لعدة أسباب : منها الحذر من تضخم كتابه فهو مع اقتضابه في معظم التراجم جاء بحجم كبير. ومنها تكرر المعلومات بسبب تماثل الروايات عن صاحب الترجمة في الكتب المختلفة.

وقد حاول الخطيب أن يقدم ترجمة متكاملة تحتوى على التعريف بصاحب الترجمة بذكر اسمه ونسبه وكنيته وشيوخه وتلاميذه ، وأحيانا يسرد بعض أخباره الدالة على أخلاقه ومكانته ، ثم أقوال النقاد في بيان حاله من الجرح والتعديل ، ثم تاريخ وفاته ، وربما موضع قبره.

وهذا قد يضطره أحيانا إلى أن يقتطع أجزاء من النصوص المقتبسة ليمنع تكرر المعلومات وليؤلف بينها في محاولة تكوين عناصر الترجمة الضرورية ؛ لكن المقارنات مع الأصول التي اقتبس منها تدل على عدم تصرفه بأسلوب المصنفين الذين نقل عنهم ، بل كان مثالا للأمانة العلمية والدقة. (٢)

والخطيب عالم ناقد متفحص ، وتظهر سعة اطلاعه وقابليته على النقد والتمحيص في بيان أوهام العلماء والمصنفين السابقين وتصحيحها ، وفي الكشف عن الروايات الشاذة التي خالفت ما اتفق عليه العلماء ، وفي الترجيح بين الروايات المتعارضة.

فأما بيان أوهام العلماء والمصنفين السابقين فقد كشف الخطيب في مواضع كثيرة

__________________

(١) موارد الخطيب ، ص ٩٧ ، ٨٩.

(٢) موارد الخطيب ، ٩٨.

٢٥

عن أوهام وأخطاء وقع فيها علماء كبار ثم صححها ، وهي تتعلق إما بتواريخ الوفيات أو بتواريخ الموالد ، أو في التعريف بمدن ومواطن الرواة ، أو في اعتبار عدد من الرواة إخوة وليسوا كذلك ، أو في عدم تمييز المتشابه من الأسماء. (١)

وأبرز الأعلام الذين استدرك عليهم أخطاءهم هم : شعبة بن حجاج ، ويحيى بن معين ، وأحمد بن حنبل ، وأبو عبيد القاسم بن سلام ، ويعقوب بن سفيان الفسوي ، وابن أبى حاتم الرازي ، ومحمد بن عبد الله بن عمار ، والجوزجاني ، ومحمد بن إسماعيل البخاري ، ومحمد بن مخلد الدوري ، وابن قانع البغدادي ، وأبو سعيد بن يونس ، وأبو الحسين بن المنادى ، والدار قطني ، ومحمد بن يعقوب الأصم ، وزكريا بن يحيى الساجي ، وأبو زكريا الأزدى ، وهلال بن المحسن الصابي ، ويوسف القواس ، ووكيع القاضي ، وعبد الله بن محمد البغوي ، وأبو القاسم الطبرانيّ.

أما من طبقة شيوخه فقد استدرك على كل من أبى نعيم الأصبهانى ، وأبى العلاء محمد بن على الواسطي ، وهبة الله بن الحسن الطبري ، وأبى على الحسن بن أبى بكر ابن شاذان ، ومحمد بن أحمد بن رزق ، ومحمد بن أحمد العتيقى ، وأبى بكر البرقاني ، وأبى القاسم الأزهرى.

وسائر هؤلاء الأعلام من المتضلعين إما في الحديث والرجال أو في التاريخ والأخبار ، وبالطبع فلن يقدح فيهم أن يخطئوا فحسبهم أن أخطاءهم أمكن حصرها وعدها عليهم ، لكن مما يعلى من شأن الخطيب وعلمه أن يتفطن لهذه الأخطاء ويصححها رغم فواتها على الأكابر ، وإن كان لهم فضل السبق مع أنهم لم يتيسر لهم ما تيسر للخطيب من المصنفات الكثيرة في علم الرجال والحديث والتاريخ التي شاعت في عصره. (٢)

وأما ما يتعلق بكشفه عن الروايات الشاذة فإنه يدل على سعة اطلاع لأن معرفة ذلك يقتضى الإحاطة بسائر الروايات ومعرفة الإجماع لأن الشاذ ما خالفه.

وقد ضبط الخطيب على كبار المصنفين ما شذوا فيه من روايات خالفوا بها ما اتفق عليه العلماء ، ولعلهم في الغالب جانبوا الصواب فيها ، إذ الاحتمال ضعيف في أن يكون المصنف قد انفرد بذكر ما هو صواب ومن سواه اتفقوا على ما هو خطأ. (٣)

__________________

(١) موارد الخطيب ، ٩٨ ، ٩٩.

(٢) موارد الخطيب ، ص ١٠٠.

(٣) موارد الخطيب ، ص ١٠٠.

٢٦

وقد سجل الخطيب هذه المخالفات أو الروايات الشاذة ، وهي إما مخالفة في أسماء الرواة ، أو التوهم فيها ، أو تصحيفها ، أو قلبها ، أو في جعل الاثنين واحدا ، أو الخطأ في الكنى أو الأنساب ، أو في تحديد طبقة الرجل أو موضع قبره ، أو وقوع التصحيف في ألفاظ الأحاديث ، أو النقص في أسانيدها.

ويكتفى الخطيب بإظهار شكه في بعض الروايات عند ما لا يمكنه القطع بصحتها أو زيفها ، كما أنه يرد بعض هذه الأخطاء إلى النقلة.

وأما ترجيح الخطيب بين الروايات المتعارضة فيقع خاصة في سنى الوفيات وأحيانا في سنى الموالد ، أو في الأسماء أو المتفق والمفترق ، وقد يكتفى بحكاية الاختلاف بين العلماء في الأسماء ، أو النسبة أو الكنى ، أو الأنساب ، أو في مدينة صاحب الترجمة. (١)

والخطيب يدقق ويحقق ، فإذا لم يتم له التحقق من الخبر حكاه بصيغة التمريض ، وقد تقوم بعض القرائن عنده على أن اثنين ممن ترجمت لهم الكتب المتقدمة على كتابه هما واحد ، لكن القرائن لا تكفى للبت بذلك فيحتاط ويترجم لاثنين.

وقد ترجم مرة لشخص مختلق لينبه على ذلك ، وهو يتوقف أمام أسماء بعض الرواة الذين لا تتوافر له معلومات كافية للتعريف بهم فيذكر الاحتمالات دون أن يجازف ودون أن يقصر بترك التعقيب عليهم.

كذلك هو يتوقف فيما يشتبه عليه متجنبا المجازفة في العلم ، وعند ما يروى بعض أخبار الصوفية العجيبة فإنه يعبر بلفظ «يحكى عن» وصرح مرة ببراءته من عهدة هذه الأخبار لأنه مجرد ناقل. وهذا لا يعنى أن الخطيب انتقد سائر الروايات التي تظهر فيها المبالغة بل سكت عن بعضها. (٢)

ترتيب تاريخ بغداد :

رتب الخطيب البغدادي تراجم كتابه على أساس الحروف بصفة عامة ، ولكنه لم يلتزم الترتيب المعجمى داخل الحرف الواحد ، لكنه يبدو أنه قد راعى نظام الطبقات أحيانا داخل الحرف الواحد والاسم الواحد ، ولم يلتزم ذلك أيضا ولم يصرح به. ولكن نستطيع القول بأنه كان يقدم تراجم المتقدمين على المتأخرين دائما.

__________________

(١) موارد الخطيب ، ص ١٠١ ، ١٠٢.

(٢) موارد الخطيب ، ص ١٠٢.

٢٧

وعلى الرغم من أن تراجم الكتاب مترتبة طبقا لترتيب الحروف إلا أنه قد تكررت بعض التراجم ، ويرجع ذلك إلى أن الخطيب كان يورد ترجمة الرجل في ترتيبها حسب الحروف ، ثم إن كانت له كنية أو لقب يشتهر به ، أو كان هناك اختلاف بين المصنفين المتقدمين في اسم صاحب الترجمة ، أعاده مرة أخرى ، ولكن بصورة مختصرة ويشير إلى أنها قد سبقت.

أما بالنسبة لتكرار الروايات فإن الخطيب كان يتفادى ذلك بالإحالة إلى موضع الرواية التي سبق إيرادها إن هو احتاج إليها في ترجمة أخرى ، بل كان يحيل إلى مؤلفاته كالجامع ، وموضح أوهام الجمع والتفريق ، ومناقب أحمد إن احتاج الأمر للتفصيل.

المختصرات والذيول على تاريخ بغداد :

لقد ذيل الكثيرون على «تاريخ بغداد» للخطيب باعتباره أصلا ، وكذلك اختصروه لتسهيل الاستفادة منه.

فبالنسبة للمختصرات فهناك مختصر لابن مكرم وآخر للحافظ الذهبي. (١) وكذلك اختصره مسعود بن محمد بن أحمد بن حامد البخاري ، (٢) وليحيى بن عبيد الله الحكيم البغدادي مصنف سماه «المختار من مختصر تاريخ بغداد لأبى بكر الخطيب البغدادي» (٣)

أما الذيول فسوف نرجئ الكلام عنها عند تناولنا للذيول بالتحقيق ، إن شاء الله.

***

__________________

(١) الإعلان بالتوبيخ ، للسخاوى ، ص ٦٢٢ ـ ٦٢٣.

(٢) المجلد الأول منه في برلين ٩٨٥٠ يقع في ١٦٥ ورقة نسخت منه ٥٨٤٦

(٣) منه نسخة في رئيس الكتاب تحت رقم ٦٩٢ بتركيا تحتوى على الجزء الثاني في ١٥٩ ورقة نسخت سنة ٦٠٩ ه‍.

٢٨

منهج التحقيق

اعتمدنا في تحقيق «تاريخ بغداد» على مخطوطة دار الكتب المصرية تحت رقم (تاريخ ٣١٩٦) بالإضافة للمطبوعة الوحيدة للكتاب في ١٤ مجلدا والتي اعتمد في طبعها على أجزاء متفرقة من مكتبات عديدة ذكرت في حواشيها وكان عملنا في الكتاب ما يلي :

١ ـ مقارنة المطبوعة بمخطوطة دار الكتب المصرية مع إثبات الاختلافات في أغلب الأحيان ، وكذلك إثبات الاختلافات مع النسخ الأخرى واستخلاص نسخة صحيحة بقدر المستطاع ، ثم مقارنة النصوص الواردة بالكتاب بمصادرها التي نقلت منها كلما أمكن ذلك.

٢ ـ كتابة النص طبقا للقواعد الإملائية الحديثة وإثبات علامات الترقيم وبدايات السطور.

٣ ـ ضبط أغلب النص بالشكل وخاصة الأعلام والأنساب وغيرها مما يلتبس الأمر فيه على الباحث.

٤ ـ تخريج الأحاديث النبوية الشريفة على كتب السنة بقدر الإمكان ، وكذلك الآيات القرآنية على المصحف الشريف.

٥ ـ تخريج التراجم الواردة بالكتاب على كتب التاريخ والتراجم كلما أمكن ذلك.

٦ ـ التعليق على بعض الكلمات وكذلك الأنساب والروايات وبخاصة الروايات التي وردت في ترجمة أبي حنيفة.

٧ ـ عمل مقدمة للكتاب شملت التعريف بالمؤلف والترجمة له بترجمة وافية ، ثم التعريف بالكتاب من حيث أهميته ومنهجه وترتيبه ومختصراته وذيوله.

٨ ـ ذكرنا في النهاية المراجع التي تم الرجوع إليها والاعتماد عليها في التحقيق.

وبعد ، فعساني أكون قد قدمت عملا يضاف إلى المكتبة الإسلامية ويخدم طلبة العلم والباحثين ، راجيا من القارئ أن يتجاوز عما يكون في هذا العمل من خطأ غير مقصود ، وأن يدعو الله لنا بالعفو والعافية إنه قريب مجيب ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

المحقق

مصطفى عبد القادر عطا

الأهرام في : ليلة النصف من شعبان سنة ١٤١٦ ه

٢٩

٣٠

٣١

٣٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مقدمة المصنف

الحمد لله الذي خلق السموات والأرض ، وجعل الظلمات والنور ، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ، لا يحصى عدد نعمته العادّون ، ولا يؤدي حق شكره المتحمّدون ، ولا يبلغ مدى عظمته الواصفون ، بديع السموات والأرض ، وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون.

أحمده على الآلاء ، وأشكره على النعماء ، وأستعين به في الشدة والرخاء ، وأتوكل عليه فيما أجراه من القدر والقضاء ؛ وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأعتقد أن لا رب إلا إياه ، شهادة من لا يرتاب في شهادته ، واعتقاد من لا يستنكف عن عبادته.

وأشهد أن محمّدا عبده الأمين ، ورسوله المكين ، حسّن الله به اليقين ، وأرسله إلى الخلق أجمعين ، بلسان عربي مبين ؛ بلغ الرسالة ، وأظهر المقالة ، ونصح الأمة ، وكشف الغمة ، وجاهد في سبيل الله المشركين ، وعبد ربه حتى أتاه اليقين ؛ فصلى الله على محمّد سيد المرسلين ، وعلى أهل بيته الطّيّبين ، وأصحابه المنتخبين ، وأزواجه الطّاهرات أمهات المؤمنين ، وتابعيهم بالإحسان إلى يوم الدين.

هذا كتاب «تاريخ مدينة السّلام وخبر بنائها ، وذكر كبراء نزّالها ، وذكر وارديها وتسمية علمائها». ذكرت من ذلك ما بلغني علمه ، وانتهت إليّ معرفته ؛ مستعينا على ما يعرض من جميع الأمور بالله الكريم ، فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

أخبرنا عبد العزيز بن أبي الحسن القرميسيني قال : سمعت عمر بن أحمد بن عثمان يقول : سمعت أبا بكر النّيسابوريّ يقول : سمعت يونس بن عبد الأعلى يقول قال لي الشّافعيّ : يا يونس دخلت بغداد؟ قال : قلت : لا. قال : ما رأيت الدّنيا (١).

***

__________________

(١) انظر الخبر في : المنتظم لابن الجوزي ٨ / ٨٤.

٣٣

باب القول في حكم بلد بغداد وغلته

 وما جاء في جواز بيع أرضه وكراهته

أول ما نبدأ في كتابنا هذا : ذكر أقوال العلماء في أرض بغداد وحكمها وما حفظ عنهم من الجواز والكراهة لبيعها ؛ فذكر عن غير واحد منهم أن بغداد دار غصب لا تشترى مساكنها ولاتباع. ورأى بعضهم نزولها باستئجار ؛ فإن تطاولت الأيام فمات صاحب منزل أو حانوت أو غير ذلك من الأبنية لم يجيزوا بيع الموروث ؛ بل رأوا أن تباع الأنقاض دون الأرض ، لأن الأنقاض ملك لأصحابها وأما الأرض فلا حق لهم فيها إذ كانت غصبا.

أنبأنا أبو القاسم الأزهري ، أنبأنا أحمد بن محمّد بن موسى القرشيّ ، وأنبأنا أبو محمّد الحسن بن على الجوهريّ ، أنبأنا محمّد بن العبّاس الخزّاز. قالا : أنبأنا أحمد بن محمّد بن جعفر أبو الحسين ، حدّثني أبو الفضل جعفر بن محمّد المؤدّب : أن أباه لما مات أرادت والدته أن تبيع دارا ورثاها. فقالت لي : يا بني امض إلى أحمد بن حنبل وإلى بشر بن الحارث فسلهما عن ذلك ؛ فإني لا أحب أن أقطع أمرا دونهما ، وأعلمهما أن بنا حاجة إلى بيعها. قال : فسألتهما عن ذلك ، فاتفق قولاهما على بيع الأنقاض دون الأرض ، فرجعت إلى والدتي فأخبرتها بذلك فلم تبعها. ومنع جماعة من العلماء من بيع أرض بغداد لكونها من أرض السواد ؛ وأرض السواد عندهم موقوفة لا يصح بيعها. وأجازت طائفة بيعها ؛ واحتجت بأن عمر بن الخطّاب أقر السواد في أيدي أهله ، وجعل أخذ الخراج منهم عوضا عن ذلك.

وكان غير واحد من السلف يكره سكنى بغداد والمقام بها ، ويحث على الخروج منها.

وقيل : إن الفضيل بن عياض كان لا يرى الصلاة في شيء من بغداد لأجل أنها عنده غصب.

أخبرنا أبو القاسم الأزهري ، أخبرنا أحمد بن محمّد بن موسى القرشيّ ، وأخبرنا الحسن بن على الجوهري ، أخبرنا محمّد بن العبّاس الخزّاز ، قال : أخبرنا أحمد بن جعفر بن محمّد بن عبيد الله المنادي نبّأ أبو العبّاس أحمد بن محمّد بن بكر بن خالد النّيسابوريّ المعروف بابن القصير ، نبّأ عمر بن أيّوب ، قال : سألت الفضيل بن عياض عن المقام ببغداد. فقال لي : لا تقم بها واخرج عنها فإن أخبثهم مؤذنوهم.

٣٤

أنبأ أبو نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق الحافظ بأصبهان نبأ أحمد بن بندار بن إسحاق أنبأنا محمّد بن يحيى بن مندة ، قال : أن إبراهيم بن يزداد البغداديّ بأصبهان ، قال : نبأنا محمّد بن يحيى الأزديّ ، قال : قلت لعبد الله بن داود ، إن لي خالة ببغداد ، قال : اقطعها قطع القثاء.

حدّثني أبو محمّد الحسن بن محمّد بن الحسن الخلّال وأبو طالب عمر بن إبراهيم ابن سعيد الفقيه. قال : نبأنا يوسف بن عمر القوّاس نبأنا محمّد بن إسحاق المقري حدّثني أبو عبد الله أحمد بن يوسف بن الضّحاك ، قال : سمعت أبي يقول : سمعت بشر بن الحارث يقول : بغداد ضيقة على المتقين لا ينبغي لمؤمن أن يقيم فيها. قلت له : فهذا أحمد بن حنبل فما تقول؟ قال : دفعتنا الضرورة إلى المقام بها كما دفعت الضرورة المضطر إلى أكل الميتة.

أنبأنا أبو الحسن أحمد بن أبي جعفر القطيعي قال نبأنا عبيد الله بن عبد الرّحمن قال حدّثنا أبو عبد الرّحمن بن محمّد الزّهريّ قال نبأنا محمّد بن إبراهيم بن جناد قال سمعت أبا عمران الجصاص قال قلت لأحمد بن حنبل : يا أبا عبد الله هذه أربعة دراهم : درهم من تجارة برة ، ودرهم من صلة الإخوان ، ودرهم من التعليم ، ودرهم من غلة بغداد. فقال : ما منها شيء أحبّ إليّ من التجارة ، ولا فيها شيء أكره عندي من صلة الإخوان ؛ وأما التعليم فإني أرجو أن لا يكون به بأس لمن احتاج إليه ، وأما غلة بغداد فأنت تعرفها أيش (١) تسألني عنها.

حدّثني عبد العزيز بن على الورّاق قال حدّثنا على بن عبد الله الهمداني بمكة قال أنبأنا الخالدي قال حدّثني أحمد بن عبد الله بن خالد ، قال : سأل أحمد بن محمّد بن حنبل عن مسألة في الورع. فقال : أنا أستغفر الله ، لا يحل لي أن أتكلم في الورع ؛ أنا آكل من غلة بغداد. لو كان بشر بن الحارث صلح أن يجيبك عنه ؛ فإنه كان لا يأكل من غلة بغداد ولا من طعام السواد ؛ فهو يصلح أن يتكلم في الورع.

نبأنا أبو القاسم الأزهري أنبأنا أحمد بن محمّد بن موسى وأنبأنا الحسن بن على الجوهريّ قال أنبأنا محمّد بن العبّاس. قالا : أنبأنا أحمد بن جعفر بن محمد ، قال : وكان مما بقي في كتابي غير مسموع عن أبي الحسن على بن إسماعيل البزار المعروف بعلوية ، قال : نبأنا يحيى بن الصامت ، قال : سأل رجل عبد الله بن المبارك : تري لي أن

__________________

(١) أيش : معناها أي شيء.

٣٥

أنزل من بغداد متى ما دخلتها؟ قال : إن ابتليت بذلك فانزل نهر الدجاج فإنه في أيدي أربابه لم يغصبوا عليه أحدا.

أخبرني عبيد الله بن أبي الفتح الفارسيّ قال حدّثنا على بن محمّد بن إبراهيم الجوهريّ نبأنا أبو الحسن طلحة بن أحمد بن حفص الصّفّار نبأنا العبّاس بن يوسف نبأنا أبو الطّيّب الذام قال سمعت ابن المبارك يقول :

الزم الثغر والتعبّد فيه

ليس بغداد مسكن الزهاد

إن بغداد للملوك محل

ومناخ للقارئ الصياد

أخبرنا أبو محمّد عبد الله بن أحمد بن عبد الله الأصبهانيّ أنبأنا جعفر بن محمّد ابن نصير الخلدي أنبأنا مفضل بن محمّد الجندي أنبأنا يونس بن محمّد نبأنا يزيد بن أبي حكيم. قال : سمعت سفيان الثوري يقول : المتعبّد ببغداد كالمتعبّد في الكنيف.

نبأنا الأزهري قال أنبأنا أحمد بن محمّد بن موسى ، وأنبأنا الجوهريّ أنبأنا محمّد ابن العبّاس. قالا : أنبأنا أحمد بن جعفر قال حدّثني جدي محمّد بن عبيد الله المنادي.

قال : قال لي أحمد بن حنبل : أنا أزرع هذه الدار التي أسكنها فأخرج الزكاة عنها في كل سنة أذهب في ذلك في قول عمر بن الخطّاب في أرض السواد.

أنبأنا أبو الحسين محمّد بن على بن محمّد بن مخلد الورّاق وأبو الحسين أحمد بن على بن الحسين التوزي. قالا : أنبأنا أبو الحسن محمّد بن جعفر بن هارون النّحويّ الكوفيّ نبأنا أبو القاسم الحسن بن محمّد السكوني. قال : قال أبو بكر محمّد بن خلف ـ وهو وكيع القاضي ـ : لم تزل بغداد مثل أرض السواد إلى سنة خمس وأربعين ومائة.

قال الخطيب : يعني أنها كانت تمسح ويؤخذ عنها الخراج ؛ حتى بناها أبو جعفر المنصور ومصّرها ونزلها وأنزلها الناس معه.

باب الخبر عن السواد وفعل عمر فيه ولأى علة

 ترك قسمته بين مفتتحيه

أنبأنا أبو على الحسن بن أحمد بن إبراهيم بن شاذان البزّاز أنبأنا دعلج بن أحمد ابن دعلج المعدّل أنبأنا محمّد بن على بن يزيد الصائغ قال نبأنا سعيد بن منصور نبأنا هشيم قال أنبأنا العوام بن حوشب أنا إبراهيم التّميميّ. قال : لما افتتح المسلمون

٣٦

السواد قالوا لعمر بن الخطّاب : أقسمه بيننا فأبى. فقالوا : إنا افتتحناها عنوة قال : فما لمن جاء بعدكم من المسلمين؟ فأخاف أن تفاسدوا بينكم في المياه ، وأخاف أن تقتتلوا.فأقر أهل السواد في أرضهم وضرب على رءوسهم الضرائب ـ يعني الجزية ـ وعلى أرضهم الطّسق (١) ـ يعني الخراج ـ ولم يقسمها بينهم.

أنبأنا القاضي أبو عمر القاسم بن جعفر بن عبد الواحد الهاشميّ بالبصرة أنا أبو على محمّد بن أحمد بن عمرو اللؤلؤي قال أنا أبو داود سليمان بن الأشعث قال حدّثنا أحمد بن حنبل قال أنا عبد الرّحمن ـ يعني ابن مهديّ ـ عن مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر. قال : لو لا آخر المسلمين ما فتحت قرية إلا قسمتها كما قسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خيبر.

أخبرنا القاضي أبو بكر أحمد بن الحسن بن أحمد بن الحسن بن أحمد الخريبيّ بنيسابور قال أنبأنا أبو العبّاس محمّد بن يعقوب الأصم قال أنبأنا محمّد بن عبد الله ابن عبد الحكم قال أنبأنا ابن وهب قال أنبأنا هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبيه. قال سمعت عمر بن الخطّاب يقول : لو لا أني أترك الناس بيّانا لا شيء لهم ، ما فتحت قرية إلا قسمناها كما قسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خيبر.

أخبرنا أبو بكر أحمد بن محمّد بن أحمد بن غالب الخوارزميّ قال أنبأنا عمر بن نوح البجليّ قال أنبأنا أبو خليفة قال حدّثنا محمّد بن كثير قال أنبأنا سفيان عن أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب. قال : أراد عمر أن يقسم السواد ؛ فعدوهم فأصاب كل رجل ثلاثة من الفلاحين ؛ فاستشار عمر فيهم أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقالوا : للناس نائبة ولا يبقى لمن بعدهم شيء فتركهم.

أخبرنا أبو الحسن على بن محمّد بن عبد الله بن بشران المعدّل قال أنبأنا أبو على إسماعيل بن محمّد الصّفّار قال أنا الحسن بن على بن عفان قال أنا يحيى بن آدم قال أنا ابن المبارك عن ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب. قال : كتب عمر إلى سعد حين افتتح العراق :

أما بعد ، فقد بلغني كتابك تذكر أن الناس سألوك أن تقسم بينهم مغانمهم وما أفاء الله عليهم ؛ فإذا أتاك كتابي هذا فانظر ما أجلب الناس به عليك إلى العسكر من كراع

__________________

(١) الطسق : ما يوضع من الوظيفة على الجربان من الخراج المقرر على الأرض ، فارسي معرب.وفي التهذيب : الطسق شبه الخراج له مقدار معلوم ، وليس بعربي خالص. والطسق : مكيال.معروف.

٣٧

أو مال واقسمه بين من حضر من المسلمين واترك الأرضين والأنهار لعمالها ليكون ذلك في أعطيات المسلمين ؛ فإنك إن قسمتها بين من حضر لم يكن لمن بقي بعدهم شيء (١).

اختلف الفقهاء في الأرض التي يغنمها المسلمون ويقهرون العدو عليها. فذهب بعضهم : إلى أن الإمام بالخيار بين أن يقسمها على خمسة أسهم فيعزل منهم السهم الذي ذكره الله تعالى في آية الغنيمة فقال : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) [الأنفال ٤١] الآية. ويقسم السهام الأربعة الباقية بين الذين افتتحوها ؛ فإن لم يختر ذلك وقف جميعها كما فعل عمر بن الخطّاب في أرض السواد.

وممن ذهب إلى هذا القول : أبو حنيفة النعمان بن ثابت وسفيان بن سعيد الثوري.

وقال مالك بن أنس : تصير الأرض وقفا بنفس الاغتنام ولا خيار فيها للإمام.

وقال محمّد بن إدريس الشّافعيّ : ليس للإمام إيقافها وإنما يلزمه قسمتها ؛ فإن اتفق المسلمون على إيقافها ورضوا ألا تقسم جاز ذلك. واحتج من ذهب إلى هذا القول بما روى أن عمر بن الخطّاب قسم أرض السواد بين غانميها وحازوها ؛ ثم استنزلهم بعد ذلك عنها واسترضاهم منها ووقفها.

فأما الأحاديث التي تقدمت بأن عمر لم يقسمها فإنها محمولة على أنه امتنع من إمضاء القسم واستدامته بأن انتزع الأرض من أيديهم ، أو أنه لم يقسم بعض السواد وقسم بعضه ثم رجع فيه.

أخبرنا أبو محمّد عبد الله بن يحيى بن عبد الجبّار السكري قال أنبأنا إسماعيل بن محمّد الصّفّار قال نبأنا الحسن بن على بن عفان قال نبأنا يحيى بن آدم قال نبأنا ابن أبي زيدة عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم. قال : كنا ربع الناس يوم القادسيّة فأعطانا عمر ربع السواد فأخذناه ثلاث سنين ، ثم وفد جرير إلى عمر بعد ذلك. فقال : أما والله ، لو لا أني قاسم مسئول لكنتم على ما قسم لكم ، فأرى أن تردوا على المسلمين ؛ ففعل. وأجازه بثمانين دينارا (٢).

أخبرنا الحسن بن أبي بكر قال أنبأنا عبد الله بن إسحاق بن إبراهيم البغويّ قال

__________________

(١) انظر الخبر في : كتاب الخراج ، ليحيى بن آدم ص ٢٧ ، ٢٨.

(٢) انظر الخبر في كتاب الخراج ليحيى بن آدم ص ٤٥.

٣٨

أنبأنا على بن عبد العزيز قال نبأنا أبو عبيد القاسم بن سلّام قال نبأنا هشيم عن إسماعيل عن قيس. قال : قالت امرأة من بجيلة ـ يقال لها أم كرز ـ لعمر : يا أمير المؤمنين إن أبي هلك وسهمه ثابت في السواد وإني لم أسلّمه فقال لها : يا أم كرز ، إن قومك قد صنعوا ما قد علمت. قالت : إن كانوا صنعوا ما صنعوا فإني لست أسلم حتى تحملني على ناقة ذلول عليها قطيفة حمراء وتملأ كفي ذهبا. قال : ففعل عمر ذلك.

قال أبو عبيد : فاحتج قوم بفعل عمر هذا. وقالوا : ألا تراه قد أرضي جريرا والبجليّة وعوضهما. وإنما وجه ذلك عندي : أن عمر كان قد نفل جريرا وقومه ذلك نفلا قبل القتال ، وقبل خروجه إلى العراق ، فأمضى له نفله. ولو لم يكن نفلا ما خصه وقومه بالقسمة خاصة دون الناس ؛ وإنما استطاب أنفسهم خاصة لأنهم قد كانوا أحرزوا ذلك وملكوه بالنفل. فلا حجة في هذا لمن يزعم أنه لا بد للإمام من استرضائهم (١).

قال الخطيب : ثم إن عمر رضي‌الله‌عنه أقر أهل السواد فيه وضرب عليهم الخراج بعد أن سلم إليهم الأرض يعملون فيها وينتفعون بها ، وبعث عماله لمساحتها وقبض الواجب عنها.

فأخبرنا الحسن بن أبي بكر قال أنبأنا عبد الله بن إسحاق البغويّ قال أنبأنا على بن عبد العزيز قال نبأنا أبو عبيد قال نبأنا الأنصاريّ محمّد بن عبد الله. ولا أعلم إسماعيل بن إبراهيم إلّا قد حدّثناه أيضا عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أبي مجلز أن عمر بن الخطّاب بعث عمّار بن ياسر إلى أهل الكوفة على صلاتهم وجيوشهم ، وعبد الله بن مسعود على قضائهم وبيت مالهم ، وعثمان بن حنيف على مساحة الأرض. ثم فرض لهم في كل يوم شاة. أو قال : جعل لهم كل يوم شاة ، شطرها وسواقطها لعمّار ، والشطر الآخر بين هذين. ثم قال : ما أرى قرية يؤخذ منها كل يوم شاة إلا سريعا في خرابها. قال فمسح عثمان بن حنيف الأرض فجعل على جريب الكرم عشرة دراهم وعلى جريب النخل خمسة دراهم ، وعلى جريب القضب (٢) ستة دراهم ، وعلى جريب البر أربعة دراهم ، وعلى جريب الشعير درهمين (٣).

__________________

(١) انظر الخبر في : كتاب الأموال لأبي عبيد ص ٨٧ ، ٨٨.

(٢) القضب : كل شجرة طالت وبسطت أغصانها.

(٣) انظر الخبر في : الأموال ، لأبي عبيد ص ٩٨ ، ١٠٣.

٣٩

أخبرنا على بن محمّد بن عبد الله القرشيّ قال أنبأنا إسماعيل بن محمّد الصّفّار قال نا سعدان بن نصر قال أنا وكيع عن ابن أبي ليلى عن الحكم : أن عمر بن الخطّاب بعث عثمان بن حنيف فمسح السواد ، فوضع على كل جريب عامر أو غامر ـ حيث يناله الماء ـ قفيزا ودرهما. قال وكيع : يعني الحنطة والشعير ـ ووضع على جريب الكرم عشرة دراهم ، وعلى جريب الرطاب (١) : خمسة دراهم.

أخبرنا الحسن بن أبي بكر قال أنبأنا عبد الله بن إسحاق قال أنبأنا على بن عبد العزيز قال أنا أبو عبيد قال أنا إسماعيل بن مجالد عن أبيه مجالد بن سعيد عن الشعبي : أن عمر بعث عثمان بن حنيف مسح السواد فوجده ستة وثلاثين ألف ألف جريب فوضع على كل جريب درهما وقفيزا. قال أبو عبيد : أرى حديث مجالد عن الشعبي هو المحفوظ. ويقال : إن حد السواد الذي وقعت عليه المساحة من لدن تخوم الموصل مادّا مع الماء إلى ساحل البحر ببلاد عبّادان من شرقي دجلة ، هذا طوله. وأما عرضه : فحده منقطع الجبل من أرض حلوان إلى منتهى طرف القادسيّة المتصل بالعذيب من أرض العرب. فهذا حدود السواد وعليها وقع الخراج.

أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن شجاع الصّوفيّ قال أنبأنا أبو على محمّد بن أحمد ابن الحسن الصّوّاف قال أنا محمّد بن عبدوس بن كامل ومحمّد بن عثمان بن أبي شيبة قال : أنا أبو بكر بن أبي شيبة قال أنا حميد بن عبد الرّحمن عن حصين عن مطرف قال : ما فوق حلوان فهو ذمة ، وما دون حلوان من السواد فهو فيء ، وسوادنا هذا فيء.

أنبأنا أبو نعيم أحمد بن عبد الله الحافظ قال ثنا أبو بكر محمّد بن جعفر بن أحمد ابن الليث الواسطي قال ثنا أسلم بن سهل قال ثنا محمّد بن صالح قال نبأنا هشام بن محمّد بن السائب قال سمعت أبي يقول : إنما سمي السواد سوادا لأن العرب حين جاءوا نظروا إلى مثل الليل من النخل والشجر والماء فسموه سوادا.

أخبرنا أبو الحسين أحمد بن محمّد بن الحسين الأصبهانيّ بها قال أنبأنا أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيّوب الطبراني قال أنبأنا على بن عبد العزيز قال قال أبو عبيد : كان الأصمعي يتأول في سواد العراق إنما سمي به للكثرة ؛ وإنما أنا فأحسبه سمي

__________________

(١) الرطبة : روضة الفصفصة ما دامت خضراء ، وقيل : هي الفصفصة نفسها ، وجمعها رطاب (لسان العرب : رطب).

٤٠