تاريخ بغداد أو مدينة السّلام - ج ١

أبي بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي

تاريخ بغداد أو مدينة السّلام - ج ١

المؤلف:

أبي بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي


المحقق: مصطفى عبد القادر عطا
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٦٢

السبكتكيني أذرعا ليجعله بستانا ، ويردّ بدل التراب رملا ويطرح الترب تحت الروشن على دجلة. وقد ابتاع دورا كثيرة كبارا وصغارا ونقضها ورمى حيطانها بالفيلة تخفيفا للمئونة ، وأضاف عرصاتها إلى الميدان ، وكانت مثل الميدان دفعتين ، وبنى على الجميع مسناة ، فقال لي في هذا اليوم ـ وقد شاهد ما شاهد مما عمل وقدّر ما قدّر لما يعمل : تدري أيها القاضي كم أنفق على قلع ما قلع من التراب إلى هذه الغاية وبناء هذه المسنّاة السخيفة مع ثمن ما ابتيع من الدور واستضيف؟ قلت : أظنه شيئا كثيرا.فقال : هو إلى وقتنا هذا تسعمائة ألف درهم صحاحا ، ونحتاج إلى مثلها دفعة أو دفعتين حتى يتكامل قلع التراب ويحصل موضعه الرمل موازيا لوجه البستان ، فلما فرغ من ذلك وصار البستان أرضا بيضاء لا شيء فيها من غرس ولا نبات. قال : قد أنفق على هذا حتى صار كذا أكثر من ألفي ألف درهم صحاحا ، ثم فكّر في أن يجعل شرب البستان من دواليب ينصبها على دجلة ، وعلم أنّ الدواليب لا تكفي ، فأخرج المهندسين إلى الأنهار التي في ظاهر الجانب الشرقي من مدينة السّلام ليستخرجوا منها نهرا يسيح ماؤه إلى داره ، فلم يجدوا ما أرادوه إلا في نهر الخالص فعلّى الأرض بين البلد وبينه تعلية أمكن معها أن يجري الماء على قدر من غير أن يحدث به ضرر. وعمل تلين عظيمين يساويان سطح ماء الخالص ، ويرتفعان عن أرض الصحراء أذرعا ، وشقّ في وسطهما نهرا جعل له خورين من جانبيه ، وداس الجميع بالفيلة دوسا كثيرا حتى قوي واشتد وصلب وتلبّد ، فلما بلغ إلى منازل البلد وأراد سوق النهر إلى داره ، عمد إلى درب السلسلة فدكّ أرضه دكّا قويّا ، ورفع أبواب الدور وأوثقها وبنى جوانب النهر طول البلد بالآجرّ والكلس والنورة ، حتى وصل الماء إلى الدار وسقى البستان.قال أبي : وبلغت النفقة على عمل البستان وسوق الماء إليه على ما سمعته من حواشي عضد الدولة خمسة آلاف ألف درهم ، ولعله قد أنفق على أبنية الدار على ما أظن مثل ذلك ، وكان عضد الدولة عازما على أن يهدم الدور التي بين داره وبين الزاهر.ويصل الدار بالزاهر فمات قبل ذلك.

***

١٢١

ذكر تسمية مساجد الجانبين المخصوصة

 بصلاة الجمعة والعيدين

كان أبو جعفر المنصور : جعل المسجد الجامع بالمدينة ملاصق قصره المعروف بقصر الذهب : وهو الصحن العتيق ، وبناه باللبن والطين.

ومساحته على ما أخبرنا محمّد بن على الورّاق وأحمد بن على المحتسب قالا : أنبأنا محمّد بن جعفر النّحويّ قال نا الحسن بن محمّد السكوني قال نا محمّد بن خلف قال : وكانت مساحة قصر المنصور أربعمائة ذراع في أربعمائة ذراع ، ومساحة المسجد الأول مائتين في مائتين ، وأساطين الخشب في المسجد ، يعني كل أسطوانة قطعتين معقّبتين بالعقب والغرى وضباب الحديد ، إلا خمسا أو ستّا عند المنارة فإن في كل أسطوانة قطعا ملفقة مدورة من خشب الأساطين (١) ، قال محمّد بن خلف وقال ابن الأعرابي : تحتاج القبلة [إلى (٢)] أن تحرف إلى باب البصرة قليلا ، وإن قبلة الرصافة أصوب منها. فلم يزل المسجد الجامع بالمدينة على حاله إلى وقت هارون الرشيد ، فأمر هارون بنقضه وإعادة بنائه بالآجر والجصّ ففعل ذلك ، وكتب عليه اسم الرشيد.وذكر أمره ببنائه وتسمية البنّاء والنجّار وتاريخ ذلك ؛ وهو ظاهر على الجدار خارج المسجد مما يلي باب خراسان إلى وقتنا هذا.

أنبأنا إبراهيم بن مخلد قال أنبأنا إسماعيل بن على الخطّبي قال : وهدم مسجد أبي جعفر المنصور وزيد في نواحيه وجدّد بناؤه وأحكم ؛ وكان الابتداء به في سنة اثنتين وتسعين ، والفراغ منه في سنة ثلاث وتسعين ، وكانت الصلاة في الصحن العتيق الذي هو الجامع حتى زيد فيه الدار المعروفة بالقطّان ، وكانت قديما ديوانا للمنصور. فأمر مفلح التركيّ ببنائها على يد صاحبه القطّان فنسبت إليه ، وجعلت مصلّى للناس ، وذلك في سنة ستين أو إحدى وستين ومائتين ، ثم زاد المعتضد بالله الصحن الأول وهو قصر المنصور ، ووصله بالجامع ؛ وفتح بين القصر والجامع العتيق في الجدار سبعة عشر طاقا ؛ منها إلى الصحن ثلاثة عشر ، وإلى الأروقة أربعة ، وحوّل المنبر والمحراب والمقصورة إلى المسجد الجديد.

وأنبأنا إبراهيم بن مخلد قال أنبأنا إسماعيل بن على قال : وأخبر أمير المؤمنين

__________________

(١) انظر الخبر في : المنتظم ٨ / ٧٧ ، ٧٨.

(٢) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل ، وأضيف من مطبوعة باريس.

١٢٢

المعتضد بالله بضيق المسجد الجامع بالجانب الغربي من مدينة السّلام في مدينة المنصور ، وأن الناس يضطرهم الضيق إلى أن يصلوا في المواضع التي لا تجوز في مثلها الصلاة ، فأمر بزيادة فيه من قصر أمير المؤمنين المنصور ، فبنى مسجد على مثال المسجد الأول في مقداره أو نحوه ، ثم فتح في صدر المسجد العتيق ووصل به فاتسع به الناس. وكان الفراغ من بنائه والصلاة فيه سنة ثمانين ومائتين.

قال الشيخ أبو بكر : وزاد بدر مولى المعتضد من قصر المنصور المسقطات المعروفة بالبدرية في ذلك الوقت ، وأما المسجد الجامع بالرصافة فإن المهديّ بناه في أول خلافته.

أخبرنا بذلك محمّد بن الحسين [بن الفضل (١)] القطّان قال : أنبأنا عبد الله بن جعفر بن درستويه قال نبأنا يعقوب بن سفيان قال : سنة تسع وخمسين ومائة فيها بنى المهديّ المسجد الذي بالرصافة ، فلم تكن صلاة الجمعة تقام بمدينة السّلام إلا في مسجدي المدينة بالرصافة إلى وقت خلافة المعتضد ، فلما استخلف المعتضد أمر بعمارة القصر المعروف بالحسنىّ على دجلة في سنة ثمانين ومائتين وأنفق عليه مالا عظيما. وهو القصر المرسوم بدار الخلافة ، وأمر ببناء مطامير في القصر رسمها هو للصنّاع ، فبنيت بناء لم ير مثله على غاية ما يكون من الإحكام والضيق ، وجعلها محابس للأعداء. وكان الناس يصلون الجمعة في الدار ، وليس هناك رسم لمسجد ، وإنما يؤذن للناس في الدخول وقت الصلاة ويخرجون عند انقضائها ، فلما استخلف المكتفي في سنة تسع وثمانين ومائتين ، ترك القصر وأمر بهدم المطامير التي كان المعتضد بناها ، وأمر أن يجعل موضعها مسجد جامع في داره يصلي فيه الناس ، فعمل ذلك وصار الناس يبكّرون إلى المسجد الجامع في الدار يوم الجمعة فلا يمنعون من دخوله ، ويقيمون فيه إلى آخر النهار. وحصل ذلك رسما باقيا إلى الآن ، واستقرت صلاة الجمعة ببغداد في المساجد الثلاثة التي ذكرناها إلى وقت خلافة المتّقي. كان في الموضع المعروف ببراثا مسجد يجتمع فيه قوم ممن ينسب إلى التشيّع ويقصدونه للصلاة والجلوس فيه ، فرفع إلى المقتدر بالله أن الرافضة يجتمعون في ذلك المسجد لسب الصحابة والخروج عن الطاعة ، فأمر بكبسه يوم جمعة وقت الصلاة ، فكبس وأخذ من وجد فيه فعوقبوا ، وحبسوا حبسا طويلا ، وهدم المسجد حتى سوّي بالأرض وعفى رسمه ووصل

__________________

(١) ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل ، وأضيف من مطبوعة باريس.

١٢٣

بالمقبرة التي تليه ، ومكث خرابا إلى سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة ، فأمر الأمير بجكم بإعادة بنائه وتوسعته وإحكامه ، فبني بالجصّ والآجرّ وسقف بالساج المنقوش ، ووسّع فيه ببعض ما يليه مما ابتيع له من أملاك الناس ، وكتب في صدره اسم الراضي بالله ، وكان الناس ينتابونه للصلاة فيه والتبرك به ، ثم أمر المتقي بالله بعد بنصب منبر فيه كان بمسجد مدينة المنصور معطّلا مخبوّا في خزانة لمسجد عليه اسم هارون الرشيد ، فنصب في قبلة المسجد ، وتقدم إلى أحمد بن الفضل بن عبد الملك الهاشميّ ، وكان الإمام في جامع الرصافة بالخروج إليه والصلاة بالناس فيه يوم الجمعة ، فخرج وخرج الناس من جانبي مدينة السّلام حتى حضروا في هذا المسجد ، وكثر الجمع هناك وحضر صاحب الشرطة. فأقيمت صلاة الجمعة فيه يوم الجمعة لثنتي عشرة ليلة خلت من جمادى الأولى سنة تسع وعشرين وثلاثمائة ، وتوالت صلاة الجمعة فيه وصار أحد مساجد الحضرة ، وأفرد أبو الحسن أحمد بن الفضل الهاشميّ بإمامته ، وأخرجت الصلاة بمسجد جامع الرصافة عن يده.

قال الشيخ أبو بكر : ذكر معنى جميع ما أوردته إسماعيل بن على الخطبي فيما.

أنبأنا إبراهيم بن مخلد أنه سمعه منه. وحدّثني أبو الحسين هلال بن المحسن الكاتب أن الناس تحدّثوا في ذي الحجة من سنة تسع وسبعين وثلاثمائة ، بأن امرأة من أهل الجانب الشرقي رأت في منامها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كأنه يخبرها بأنها تموت من غد عصرا ، وأنه صلى في مسجد بقطيعة أم جعفر من الجانب الغربي في القلاءين (١) ، ووضع كفه في حائط القبلة ، وأنها فسرت هذه الرؤيا عند انتباهها من نومها ، فقصد الموضع ووجد أثر كف ، وماتت المرأة في ذلك الوقت ، وعمر المسجد ووسّعه أبو أحمد الموسوي بعد ذلك وكبّره وبناه وعمّره واستأذن الطائع لله في أن يجعله مسجدا يصلي فيه أيام الجمعات ؛ واحتج بأنه من وراء خندق يقطع بينه وبين البلد ، ويصير به ذلك الصّقع بلدا آخر ، فأذن في ذلك وصار جامعا يصلى فيه الجمعات.

وذكر لي هلال بن المحسن أيضا : أن أبا بكر محمّد بن المحسن بن عبد العزيز الهاشميّ : كان بنى مسجدا بالحربيّة في أيام المطيع لله ليكون جامعا يخطب فيه ؛ فمنع المطيع من ذلك ومكث المسجد على تلك الحال حتى استخلف القادر بالله فاستفتى الفقهاء في أمره ، فأجمعوا على وجوب الصلاة فيه : فرسم أن يعمّر ويكسى وينصب

__________________

(١) في الأصل : «القافلايين».

١٢٤

فيه منبر ، ورتب إماما يصلي فيه الجمعة ، وذلك في شهر ربيع الآخر من سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة ؛ فأدركت صلاة الجمعة وهي تقام ببغداد : في مسجد المدينة ، ومسجد الرصافة ، ومسجد دار الخلافة ، ومسجد براثا ، ومسجد قطيعة أم جعفر ـ وعرف بقطيعة الدقيق (١) ومسجد الحربيّة. ولم تزل على هذا إلى أن خرجت من بغداد في سنة إحدى وخمسين وأربعمائة ، ثم تعطلت في مسجد براثا فلم تكن تصلي فيه.

***

باب ذكر أنهار بغداد الجارية [التي (٢)] كانت بين الدور والمساكن

وتسمية ما كانت تنتهي إليه من المواضع والأماكن

أما الأنهار التي كانت تجري بمدينة المنصور والكرخ من الجانب الغربي وتتخرق بين المحال والدور ، فأكثرها كان يأخذ من نهر عيسى بن على : ونهر عيسى يحمل من الفرات ، وكان عند فوهته قنطرة يقال لها قنطرة دممّا ، يمر النهر جاريا فيسقي طسّوج فيروز سابور ، وعلى جانبيه قرى وضياع حتى إذا انتهى إلى المحوّل تفرع منه الأنهار التي كانت تتخرق مدينة السّلام ، ثم يمر إلى قرية الياسرية وعليه هناك قنطرة ، ثم يمر إلى الرومية وعليه هناك قنطرة تعرف بالرومية ، ثم يفضي إلى الزّياتين وعليه هناك قنطرة تعرف بقنطرة الزيّاتين ، ثم يمر إلى موضع باعة الأشنان ، وعليه هناك قنطرة تعرف بقنطرة الأشنان ، ثم ينتهي [إلى (٣)] موضع باعة الشوك وعليه هناك قنطرة تعرف بقنطرة الشوك ، ثم يصير إلى موضع باعة الرمان ، ثم يصير إلى قنطرة المفيض والمفيض ثمّ وعنده الأرحاء ، ثم يمر إلى قنطرة البستان ، ثم إلى قنطرة المعبدي ثم يصير إلى قنطرة بني رزيق ؛ ثم يصب في دجلة أسفل قصر عيسى.

فحدّثني عبد الله بن محمّد بن على البغداديّ بأطرابلس عن بعض متقدمي العلماء ـ وذكر أنهار بغداد ـ فقال : منها الصراة ، وهو نهر يأخذ من نهر عيسى فوق المحوّل ؛ ويسقي ضياع بادوريا وبساتينها ويتفرع منه أنهار كثيرة إلى أن يصل إلى بغداد ، فيمر بقنطرة العبّاس ، ثم يمر إلى قنطرة الصينيات ثم إلى قنطرة رحا البطريق وهي قنطرة الزبد. ثم يمر إلى القنطرة العتيقة ؛ ثم [يمر (٤)] إلى القنطرة الجديدة. ثم يصب في

__________________

(١) في مطبوعة باريس : «بقطيعة الرقيق».

(٢) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل ، وأضيف من مطبوعة باريس.

(٣) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل ، وأضيف من مطبوعة باريس.

(٤) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل ، وأضيف من مطبوعة باريس.

١٢٥

دجلة. قال : ويحمل من الصّراة نهر يقال له خندق طاهر أوله أسفل من فوّهة الصراة بفرسخ. يمر فيسقي الضياع ويدور حول سور مدينة السّلام ممّا يلي الحربية إلى أن يصل إلى باب الأنبار ، وهناك عليه قنطرة ، ثم يمر إلى باب الجديد وعليه هناك أيضا قنطرة ، ويمر إلى باب حرب وعليه هناك قنطرة ؛ ثم يمر إلى باب قطربّل وعليه هناك قنطرة ؛ ثم يمر في وسط قطيعة أم جعفر ويصب في دجلة فوق دار [إبراهيم بن (١)] إسحاق بن إبراهيم الطّاهري. قال : ويحمل من نهر عيسى نهر يقال له كرخايا أوله تحت المحوّل يمر في وسط طسوج بادوريا ؛ ويتفرع منه أنهار تنبثّ في ضياع على جانبيه إلى أن يدخل بغداد من موضع يقال له باب أبي قبيصة ، ويمر إلى قنطرة قطيعة اليهود ثم إلى قنطرة درب الحجارة ؛ وقنطرة البيمارستان وباب محوّل ، ويتفرع منه أنهار الكرخ كلها. من ذلك يقال له : نهر رزين يأخذ في ربض حميد فيدور معه ثم ينتهي إلى سويقة أبي الورد. ثم يمر إلى بركة زلزل فيدور فيها ثم يمضي إلى باب طاق الحرّاني ثم يصب في الصراة أسفل من القنطرة الجديدة. وإذا صار نهر رزين بباب سويقة أبي الورد ؛ يحمل منه نهر يعبر في عبّارة على قنطرة العتيقة ؛ ويمر إلى شارع باب الكوفة ؛ فيدخل من هناك إلى مدينة المنصور. ويمر النهر من باب الكوفة إلى شارع القحاطبة ؛ ثم إلى باب الشام ؛ ويمر في شارع الجسر إلى الزّبيديّة ويفنى هناك.ثم يمر كرخايا من قنطرة البيمارستان فإذا صار إلى الدرّابات سمّي هناك العمود ؛ وهو الذي تتفرع منه أنهار الكرخ الداخلة فيمر النهر من هناك إلى موضع يعرف بالواسطيّين ثم [يمر (٢)] إلى موضع يسمى الخفقة فيحمل منه هناك نهر البزّازين يعطف فيخرج في شارع المنصور (٣) ثم يمر إلى دار كعب ثم يخرج إلى باب الكرخ. ثم يدخل البزّازين ، ثم يمر إلى الخزّازين ويدخل في أصحاب الصابون ، ثم يصب في دجلة. ثم يمر النهر الكبير من الخفقة إلى طرف مربعة الزّيّات فيعطف منه هناك نهر يقال له نهر الدجاج ، فيأخذ إلى أصحاب القضب ؛ وشارع القبّارين ، ثم يصب في دجلة عند سوق الطعام ، ويمر النهر الكبير من مربعة الزّيّات إلى دوّارة الحمار فيعطف منه هناك نهر يقال له : نهر قطيعة الكلاب مادّا حتى يصب تحت قنطرة الشوك في نهر عيسى ،

__________________

(١) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل ، وأضيف من مطبوعة باريس.

(٢) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل ، وأضيف من مطبوعة باريس.

(٣) في مطبوعة باريس : «في شارع المصور».

١٢٦

ويمر النهر الكبير من دوارة الحمار إلى موضع يقال له مربعة صالح فيعطف [منها (١)] هناك نهر يقال له القلّائي ، يمر إلى السواقين ثم إلى أصحاب القضب ويصب في نهر الدجاج فيصيران نهرا واحدا ؛ ويمر النهر الكبير من مربعة صالح إلى موضع يعرف بنهر طابق ؛ ثم يصب في نهر عيسى بحضرة دار البطيخ. فهذه أنهار الكرخ.

قال : فأما أنهار الحربيّة فمنها نهر يحمل من دجيل يقال له نهر بطاطيا أوله أسفل فوهة دجيل بست فراسخ يسقي ضياعا وقرى كثيرة في وسط مسكن ويفنى فيها ويحمل منه نهر أوله أسفل جسر بطاطيا بشيء يسير يجيء نحو مدينة السّلام فيمر على عبارة قنطرة باب الأنبار ثم يدخل بغداد فيمر في شارع باب الأنبار ويمر إلى شارع الكبش ويفنى هناك ؛ ويحمل من نهر بطاطيا نهر أسفل من النهر الأول يجيء نحو بغداد فيمر على عبارة يقال لها [عبّارة (٢)] الكرخ بين باب حرب وباب الحديد ، يمر فيدخل بغداد من هناك ويمر في شارع دجيل إلى مربعة الفرس فيحمل منه هناك نهر يمر إلى دكان الأبناء ويفنى هناك ، ويمر النهر الكبير من مربعة الفرس إلى قنطرة أبي الجوز فيحمل منه من هناك نهر يمرّ إلى كتّاب اليتامى وإلى مربّعة شبيب ويصب في نهر الشارع ، ويمر النهر الكبير من قنطرة أبي الجوز إلى شارع قصر هانئ ، ثم إلى بستان أليس. ويصب في النهر الذي يمر في شارع القحاطبة ، ويحمل من نهر بطاطيا نهر أوله أسفل من قناة الكرخ ، يجيء نحو بغداد ويمر على عبارة قنطرة باب حرب ، ويدخل من هناك في وسط شارع باب حرب ، ثم يجيء إلى مربّعة شبيب فيصب فيه النهر الذي ذكرناه ، ثم يمر إلى باب الشام فيصب في نهر باب الشام. قال : وهذه الأنهار كلها مكشوفة إلا التي في الحربية فإنها قنوات تحت الأرض ، وأوائلها مكشوف. قال : وفي الجانب الشرقي نهر موسى ، يأخذ من نهر بين إلى أن يصل إلى قصر المعتضد بالله المعروف بالثريا فيدخل القصر ويدور فيه ويخرج منه ويصير إلى موضع يقال له مقسم الماء. فينقسم هناك ثلاثة أنهار ، يمر الأول منها إلى باب سوق الدواب ثم إلى دار البانوقة ويفنى هناك ، ويدخل بعضه باب سوق الدواب ويمر إلى العلّافين فيصب في نهر كان المعتضد حفره ، ويمر شيء منه إلى باب سوق الغنم ثم إلى خندق العبّاس بباب المخرّم ويبزّ في دجلة ويمر نهر موسى أيضا إلى قنطرة الأنصار ، فيحمل منه هناك ثلاثة أنهار يصب أحدها في حوض الأنصار ، والثاني في حوض هيلانة ،

__________________

(١) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل ، وأضيف من مطبوعة باريس.

(٢) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل ، وأضيف من مطبوعة باريس.

١٢٧

والثالث في حوض داود. ويمر نهر موسى أيضا إلى قصر المعتصم بالله فيحمل منه هناك نهر يمر إلى سوق العطش في وسط شارع كرم المعرّش. ويصب في دار على بن محمّد بن الفرات الوزير. ويفنى هناك. ويمر نهر موسى أيضا ملاصقا لقصر المعتصم إلى أن يخرج إلى شارع عمرو الرومي. ثم يدخل بستان الزاهر فيسقيه ويصب في دجلة أسفل البستان. ثم يمر النهر الثاني من المقسم إلى باب بيبرز (١) فيدخل البلد من هناك ويسمّى نهر معلّى ، ويمر بين الدور إلى باب سوق الثلاثاء ثم يدخل قصر الخلافة المسمى بالفردوس ، فيدور فيه ويصب في دجلة ، ويمر النهر الثالث من المقسم إلى باب قطيعة موشجير. ثم يدخل إلى القصر الحسني فيدور فيه ثم يصب في دجلة.قال : ويحمل من نهر الخالص نهر يقال له نهر الفضل إلى أن ينتهي إلى باب الشمّاسيّة ، فيؤخذ منه نهر يقال له نهر المهديّ ، ويدخل المدينة في الشارع المعروف بشارع المهديّ. ثم يجيء إلى قنطرة البردان ويدخل دار الروميين ويخرج إلى سويقة نصر بن مالك ، ثم يدخل الرصافة ويمر في المسجد الجامع إلى بستان حفص ، ويصب في بركة جوف قصر الرصافة ، ويحمل من هذا النهر نهر أوله في سويقة نصر ، ثم يمر في وسط شارع باب خراسان إلى أن يصب في نهر الفضل بباب خراسان ، فهذه أنهار الجانب الشرقي (٢).

***

ذكر عدد جسور مدينة السّلام التي كانت بها على قديم الأيام

أخبرنا محمّد بن الحسين [بن الفضل (٣)] القطّان قال أنبأنا عبد الله بن جعفر بن درستويه قال نبأنا يعقوب بن سفيان قال : سنة سبع وخمسين ومائة ، فيها ابتنى أبو جعفر قصره الذي يعرف بالخلد ، وفيها عقد الجسر عند باب الشعير (٤).

أخبرنا محمّد بن على الورّاق وأحمد بن على المحتسب قالا : أنبأنا محمّد بن جعفر النّحويّ قال نبأنا الحسن بن محمّد السكوني قال نبأنا محمّد بن خلف قال قال أحمد بن الخليل بن مالك عن أبيه. قال : كان المنصور قد أمر بعقد ثلاثة جسور

__________________

(١) من مطبوعة باريس : «بيبرز».

(٢) انظر الخبر في : المنتظم ٨ / ٨٠ ـ ٨١.

(٣) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل ، وأضيف من مطبوعة باريس.

(٤) انظر الخبر في : تاريخ الفسوي ق ١٠.

١٢٨

أحدها للنساء ، ثم عقد لنفسه وحشمه جسرين بباب البستان. وكان بالزّندورد جسران عقدهما محمّد ، وكان الرشيد قد عقد عند باب الشماسيّة جسرين ، وكان لأبي جعفر جسر عند سويقة قاطوطا ؛ فلم تزل هذه الجسور إلى أن قتل محمّد. ثم عطّلت وبقي منها ثلاثة أيام المأمون ، ثم عطل واحد.

(١)] سمعت أبا على بن شاذان يقول : أدركت ببغداد ثلاثة جسور : أحدها محاذي سوق الثلاثاء ، وآخر بباب الطاق ، والثالث في أعلى البلد عند الدار المعزية محاذي الميدان. فذكر لي غير ابن شاذان أن الجسر الذي كان محاذي الميدان نقل إلى الفرضة بباب الطاق ، فصار هناك جسران يمضي الناس على أحدهما ويرجعون على الآخر.

وقال لي هلال بن المحسن : عقد جسر بمشرعة القطّانين في سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة ، فمكث مدة ثم تعطل ؛ ولم يبق ببغداد بعد ذلك سوى جسر واحد بباب الطاق ، إلى أن حوّل في سنة ثماني وأربعين وأربعمائة ، فعقد بين مشرعة الروايا من الجانب الغربي ؛ وبين مشرعة الحطّابين من الجانب الشرقي ؛ ثم عطّل في سنة خمسين وأربعمائة ؛ ثم نصب بمشرعة القطّانين.

قال الشيخ أبو بكر : ولم أزل أسمع أن جسر بغداد طرازها. أنشدني على بن الحسن بن الصقر أبو الحسن قال أنشدنا على بن الفرج الفقيه الشّافعيّ لنفسه :

أيا حبّذا جسر على متن دجلة

بإتقان تأسيس وحسن ورونق

جمال وفخر للعراق ونزهة

وسلوة من أضناه فرط التشوّق

تراه إذا ما جئته متأملا

كسطر عبير خطّ في وسط مهرق (٢)

أو العاج فيه الآبنوس مرقّش

مثال فيول تحتها أرض زئبق

أنشدنا على بن المحسن قال أنشدني أبي لنفسه :

يوم سرقنا العيش فيه خلسة

في مجلس بفناء دجلة مفرد

رقّ الهواء برقّة قدّامه

فغدوت رقّا للزّمان المسعد

فكأن دجلة طيلسان أبيض

والجسر فيها كالطّراز الأسود

حدّثني هلال بن المحسن. قال : ذكر أنه أحصيت السّميريّات المعبرانيّات بدجلة في

__________________

(١) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل ، وأضيف من مطبوعة باريس في الموضوعين.

(٢) في مطبوعة باريس : «مفرق». والمهرق : الصحيفة.

١٢٩

أيام النّاصر لدين الله وهو أبو أحمد [طلحة (١)] الموفق : فكانت ثلاثين ألفا ؛ قدّر من كسب ملاحيها في كل يوم تسعون ألف درهم.

***

ذكر مقدار ذرع جانبي بغداد

 طولا وعرضا ومبلغ مساحة أرضها وعدد مساجدها وحمّاماتها

أخبرنا محمد بن علي الوراق ، قال : أنبأنا أبو الحسن أحمد بن محمّد بن عمران قال نبأنا أبو بكر محمّد بن يحيى النديم. قال : ذكر أحمد بن أبي طاهر في كتاب بغداد : أن ذرع بغداد الجانبين ، ثلاثة وخمسون ألف جريب وسبعمائة وخمسون جريبا ، منها الجانب الشرقي ، ستة وعشرون ألف جريب وسبعمائة وخمسون جريبا ؛ والغربي سبعة وعشرون ألف جريب(٢).

قال أبو الحسن : ورأيت في نسخة أخرى غير نسخة محمّد بن يحيى : أن ذرع بغداد ثلاثة وأربعون ألف جريب وسبعمائة جريب وخمسون جريبا ، منها الجانب الشرقي ستة عشر ألف جريب وسبعمائة وخمسون جريبا والجانب الغربي سبعة وعشرون ألف جريب.

رجع إلى حديث محمّد بن يحيى : وأن عدد الحمامات كانت في ذلك الوقت ببغداد ستين ألف حمّام. وقال : أقل ما يكون في كل حمام خمسة نفر : حمامي وقيّم وزبّال ووقّاد وسقّاء. يكون ذلك ثلاثمائة ألف رجل ، وذكر أنه يكون بإزاء كل حمّام خمسة مساجد يكون ذلك ثلاثمائة ألف مسجد ، وتقدير ذلك أن يكون أقل ما يكون في كل مسجد خمسة أنفس ، يكون ذلك ألف ألف وخمسمائة ألف إنسان ، يحتاج كل إنسان من هؤلاء في ليلة العيد إلى رطل صابون ، يكون ذلك ألف ألف وخمسمائة ألف رطل صابون ، يكون ذلك ـ حساب الجرّة مائة وثلاثين رطلا ـ : ألف جرّة ومائة جرّة وخمسين جرّة وثمانية أجرار ونصفا. يكون ذلك زيتا ـ حساب الجرّة ستين رطلا ـ ستمائة ألف رطل وتسعة آلاف رطل وخمسمائة رطل وعشرة أرطال (٣).

حدّثني هلال بن المحسن قال : كنت يوما بحضرة جدي أبي إسحاق إبراهيم بن

__________________

(١) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل ، وأضيف من مطبوعة باريس.

(٢) انظر الخبر في : المنتظم ٨ / ٨١.

(٣) انظر الخبر في : المنتظم ٨ / ٨١ ـ ٨٢.

١٣٠

هلال الصابي في سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة ، إذ دخل عليه أحد التجار الذين كانوا يغشونه ويخدمونه. فقال له في عرض حديث حدّثه به : قال لي أحد التجار أن ببغداد اليوم ثلاثة آلاف حمّام. فقال له جدي : سبحان الله : هذا سدس ما كنّا عددناه وحصرناه. فقال له : كيف ذاك؟ فقال جدي : أذكر وقد كتب ركن الدولة أبو على الحسن بن بويه إلى الوزير أبي محمّد المهلبي بما قال فيه : ذكر لنا كثرة المساجد والحمامات ببغداد ، واختلفت علينا فيها الأقاويل ، وأحببنا أن نعرفها على حقيقة وتحصيل ، فتعرفنا الصحيح من ذلك. قال جدي : وأعطاني أبو محمد الكتاب. وقال لي : امض إلى الأمير معز الدولة فاعرضه عليه واستأذنه فيه ، ففعلت. فقال له الأمير :استعلم ذلك وعرّفنيه ؛ فتقدّم أبو محمّد المهلّبي إلى أبي الحسن البادغجي (١) ـ وهو صاحب المعونة ـ بعدّ المساجد والحمّامات. قال جدي : فأما المساجد فلا أذكر ما قيل فيها كثرة ، أما الحمّامات فكانت بضعة عشر ألف حمّام. وعدت إلى معز الدولة وعرفته ذلك. فقال : اكتبوا في الحمّامات بأنها أربعة آلاف ، واستدللنا من قوله على إشفاقه وحسده أباه على بلد هذا عظمه وكبره. وأخذ أبو محمّد وأخذنا نتعجب من كون الحمّامات هذا القدر ، وقد أحصيت في أيام المقتدر بالله فكانت سبعة وعشرين ألف حمام ، وليس بين الوقتين من التباعد ما يقتضي هذا التفاوت. قال هلال : وقيل : أنها كانت في أيام عضد الدولة خمسة آلاف حمّام وكسرا (٢).

قال الشيخ أبو بكر : لم يكن ببغداد في الدّنيا نظير في جلالة قدرها ، وفخامة أمرها ، وكثرة علمائها وأعلامها ، وتميّز خواصها وعوامها ، وعظم أقطارها وسعة أطرارها (٣). وكثرة دورها ومنازلها ، ودروبها وشعوبها ، ومحالها وأسواقها ، وسككها وأزقتها ، ومساجدها وحماماتها ، وطرزها وخاناتها ، وطيب هوائها ، وعذوبة مائها ، وبرد ظلالها وأفيائها ، واعتدال صيفها وشتائها ، وصحة ربيعها وخريفها ، وزيادة ما حصر من عدة سكانها. وأكثر ما كانت عمارة وأهلا في أيام الرشيد ، إذ الدّنيا قارّة المضاجع ، ودارّة المراضع ، خصيبة المراتع ، مورودة المشارع. ثم حدثت بها الفتن ، وتتابعت على أهلها المحن ، فخرب عمرانها ، وانتقل قطانها ؛ إلا أنها كانت

__________________

(١) في مطبوعة باريس : «البازغجي».

(٢) انظر الخبر في : المنتظم ٨ / ٨٢.

(٣) في الأصل : «أطرازها» وما أثبتناه من مطبوعة باريس ، وهو الموافق للمعنى. والأطرار : جمع طر ، وهو شفير النهر والوادي ، وطرف كل شيء وحرفه.

١٣١

قبل وقتنا ؛ والسابق لعصرنا على ما بها من الاختلال والتناقص في جميع الأحوال ، مباينة لجميع الأمصار ، ومخالفة لسائر الديار.

ولقد حدّثني القاضي أبو القاسم التّنوخيّ قال أخبرني أبي قال : نبأنا أبو الحسن محمّد بن صالح الهاشميّ في سنة ستين وثلاثمائة قال : أخبرني رجل يبيع سويق الحمص منفردا به وأسماه لي وأنسيته ؛ أنه حصر ما يعمل في سويقه من هذا السويق كل سنة ؛ فكان مائة وأربعين كرّا ، يكون حمصا مائتين وثمانين كرّا ، يخرج في كل سنة حتى لا يبقى منه شيء. ويستأنف عمل ذلك للسنة الأخرى. قال : وسويق الحمص غير طيب ، وإنما يأكله المتحملون والضعفاء شهرين أو ثلاثة عند عدم الفواكه ؛ ومن لا يأكله من الناس أكثر (١).

قال الشيخ أبو بكر : لو طلب من هذا السويق اليوم في جانبي بغداد مكّوك واحد ما وجد.

أخبرنا محمّد بن على الورّاق وأحمد بن على المحتسب قالا : أنبأنا محمّد بن جعفر النّحويّ قال نبأنا الحسن بن محمّد السكوني قال نبأنا محمّد بن خلف قال قال أبو الفضل أحمد بن أبي طاهر : أخذ الطول من الجانب الشرقي من بغداد لأبي أحمد ـ يعني الموفق بالله ـ عند دخوله مدينة السّلام ؛ فوجد مائتي حبل وخمسين حبلا أيضا وعرضه مائة وخمسة أحبل فتكون ستة وعشرين ألف جريب ومائتين وخمسين جريبا ؛ ووجد الجانب الغربي ـ طوله ـ مائتين وخمسين حبلا وعرضه سبعون حبلا.يكون ذلك سبعة عشر ألف جريب وخمسمائة جريب. فالجميع من ذلك ثلاثة وأربعون ألف جريب وسبعمائة وخمسون جريبا ، من ذلك مقابر أربعة وسبعون جريبا.

***

باب ما ذكر في مقابر بغداد المخصوصة بالعلماء والزهاد

بالجانب الغربي في أعلى المدينة ـ مقابر قريش دفن بها موسى بن جعفر بن محمّد ابن على بن الحسين بن على بن أبي طالب ، وجماعة من الأفاضل معه.

أخبرنا القاضي أبو محمّد بن الحسن بن الحسين بن محمّد بن رامين الأستراباذي

__________________

(١) انظر الخبر في : المنتظم ٨ / ٨٢. ونشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة ١ / ٦٦.

١٣٢

قال أنبأنا أحمد بن جعفر بن حمدان القطيعي قال سمعت الحسن بن إبراهيم أبا على الخلّال يقول : ما همني أمر فقصدت قبر موسى بن جعفر فتوسّلت به إلا سهل الله تعالى لي ما أحب.

أخبرنا محمّد بن على الورّاق وأحمد بن على المحتسب قالا : أنبأنا محمّد بن جعفر قال نا السكوني قال نبأنا محمّد بن خلف قال : وكان أول من دفن في مقابر قريش جعفر الأكبر بن المنصور وأول من دفن في مقابر باب الشام عبد الله بن على ، سنة سبع وأربعين ومائة ، وهو ابن اثنتين وخمسين سنة بمقبرة باب الشام أقدم مقابر بغداد ، ودفن بها جماعة من العلماء والمحدثين والفقهاء ، وكذلك مقبرة ـ باب التّبن وهي على الخندق بإزاء قطيعة أم جعفر.

حدّثني أبو يعلى محمّد بن الحسين بن محمّد بن الفراء الحنبليّ قال حدّثني أبو طاهر بن أبي بكر قال : حكى لي والدي عن رجل كان يختلف إلى أبي بكر بن مالك أنه قيل له : أين تحب أن تدفن إذا مت؟ فقال : بالقطيعة ، وإن عبد الله بن أحمد بن حنبل مدفون بالقطيعة ، وقيل له ـ يعني لعبد الله ـ في ذلك قال : وأظنه كان أوصى بأن يدفن هناك. وقال : قد صح عندي أن بالقطيعة نبيّا مدفونا ، وأن أكون في جوار نبي أحب إلىّ من أن أكون في جوار أبي ، ومقبرة ـ باب حرب ، خارج المدينة وراء الخندق مما يلي طريق قطربّل. معروفة بأهل الصلاح والخير ، وفيها قبر أحمد بن محمّد بن حنبل ، وبشر بن الحارث. وينسب باب حرب إلى حرب بن عبد الله أحد صحابة أبي جعفر المنصور ؛ وإليه تنسب أيضا المحلة المعروفة بالحربيّة.

أخبرنا أبو عبد الرّحمن إسماعيل بن أحمد الحيري الضّرير قال أنبأنا أبو عبد الرّحمن محمّد بن الحسين السلمي بنيسابور قال سمعت أبا بكر الراذي يقول سمعت عبد الله بن موسى الطلحي يقول سمعت أحمد بن العبّاس يقول : خرجت من بغداد فاستقبلني رجل عليه أثر العبادة. فقال لي : من أين خرجت؟ قلت : من بغداد ، هربت منها لما رأيت فيها من الفساد ؛ خفت أن يخسف بأهلها. فقال : ارجع ولا تخف ؛ فإن فيها قبور أربعة من أولياء الله هم حصن لهم من جميع البلايا. قلت : من هم؟ قال : ثمّ الإمام أحمد بن حنبل ومعروف الكرخي. وبشر الحافي. ومنصور بن عمّار. فرجعت وزرت القبور. ولم أخرج تلك السنة.

قال الشيخ أبو بكر : أما قبر معروف فهو في مقبرة باب الدّير. وأما الثلاثة الآخرون فقبورهم بباب حرب.

١٣٣

حدّثني الحسن بن أبي طالب قال نا يوسف بن عمر القوّاس قال نا أبو مقاتل محمّد بن شجاع قال نا أبو بكر بن أبي الدّنيا قال حدّثني أبو يوسف بن بختان ـ وكان من خيار المسلمين ـ قال : لما مات أحمد بن حنبل رأى رجل في منامه كأنّ على كل قبر قنديلا. فقال : ما هذا؟ فقيل له : أما علمت أنه نوّر لأهل القبور قبورهم بنزول هذا الرجل بين أظهرهم. قد كان فيهم من يعذّب فرحم.

أخبرنا أبو الفرج الحسين بن على بن عبيد الله الطّناجيريّ قال نا محمّد بن على ابن سويد المؤدّب قال نا عثمان بن إسماعيل بن أبي بكر السكري قال سمعت أبي يقول سمعت أحمد بن الدّورقي يقول : مات جار لي فرأيته في الليل وعليه حلّتان قد كسي فقلت : أيش قصتك؟ ما هذا؟ قال : دفن في مقبرتنا بشر بن الحارث فكسي أهل المقبرة حلّتين حلّتين.

[قال الخطيب (١)] : وبنواحي الكرخ ، مقابر عدة ، منها مقبرة ـ باب الكناس مما يلي براثا ، دفن فيها جماعة من كبراء أصحاب الحديث. ومقبرة ـ الشونيزي ، فيها قبر سريّ السّقطي وغيره من الزهاد ، وهي وراء المحلة المعروفة بالتوثة بالقرب من نهر عيسى بن على الهاشميّ.

سمعت بعض شيوخنا يقول : مقابر قريش كانت قديما تعرف بمقبرة الشونيزي الصغير ، والمقبرة التي وراء التوثة تعرف بمقبرة الشونيزي الكبير ، وكان أخوان يقال لكل واحد منهما الشونيزي فدفن كل واحد منهما في إحدى هاتين المقبرتين ونسبت المقبرة إليه ، ومقبرة ـ باب الدير وهي التي فيها قبر معروف الكرخي.

أخبرنا إسماعيل بن أحمد الحيري قال أنبأنا محمّد بن الحسين السّلمي قال سمعت أبا الحسن بن مقسم يقول سمعت أبا على الصفّار يقول سمعت إبراهيم الحربيّ يقول : قبر معروف الترياق المجرّب.

أخبرني أبو إسحاق إبراهيم بن عمر البرمكي قال نبأنا أبو الفضل عبيد الله بن عبد الرّحمن بن محمّد الزّهريّ قال سمعت أبي يقول : قبر معروف الكرخي مجرّب لقضاء الحوائج. ويقال : إنه من قرأ عنده مائة مرة (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) وسأل الله تعالى ما يريد قضى الله [له (٢)] حاجته.

__________________

(١) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل ، وأثبتناه من مطبوعة باريس.

(٢) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل ، وأثبتناه من مطبوعة باريس.

١٣٤

حدّثنا أبو عبد الله محمّد بن على بن عبد الله الصوري قال سمعت أبا الحسين محمّد بن أحمد بن جميع يقول سمعت أبا عبد الله بن المحامليّ يقول : أعرف قبر معروف الكرخي منذ سبعين سنة ما قصده مهموم إلا فرج الله همّه. وبالجانب الشرقي مقبرة ـ الخيزران ، فيها قبر محمّد بن إسحاق بن يسار صاحب السيرة ، وقبر أبي حنيفة النعمان بن ثابت إمام أصحاب الرأي.

أخبرنا القاضي أبو عبد الله الحسين بن على بن محمّد الصيمري قال أنبأنا عمر بن إبراهيم قال نبأنا على بن ميمون قال : سمعت الشّافعيّ يقول : إني لأتبرّك بأبي حنيفة وأجيء إلى قبره في كل يوم ـ يعني زائرا ـ فإذا عرضت لي حاجة صليت ركعتين وجئت إلى قبره وسألت الله تعالى الحاجة عنده ، فما تبعد عني حتى تقضى. ومقبرة عبد الله بن مالك ، دفن بها خلق كثير من الفقهاء والمحدثين والزهاد والصّالحين ، وتعرف بالمالكيّة. ومقبرة باب البردان فيها أيضا جماعة من أهل الفضل ، وعند المصلى المرسوم بصلاة العيد كان قبر يعرف بقبر النّذور. ويقال : إن المدفون فيه رجل من ولد على بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه يتبرك الناس بزيارته ، ويقصده ذو الحاجة منهم لقضاء حاجته.

حدّثني القاضي أبو القاسم على بن المحسن التّنوخيّ قال حدّثني أبي قال : كنت جالسا بحضرة عضد الدولة ونحن مخيمون بالقرب من مصلّى الأعياد في الجانب الشرقي [من (١)] مدينة السّلام ، نريد الخروج معه إلى همدان في أول يوم نزل المعسكر ، فوقع طرفه على البناء الذي على قبر النذور. فقال لي : ما هذا البناء؟ فقلت : هذا مشهد النذور ، ولم أقل قبر لعلمي بطيرته من دون هذا ، واستحسن اللفظة. وقال : قد علمت أنه قبر النذور ، وإنما أردت شرح أمره. فقلت : هذا يقال إنه قبر عبيد الله بن محمّد بن عمر بن على بن الحسين بن على بن أبي طالب. ويقال إنه قبر عبيد الله بن محمّد بن عمر بن على بن أبي طالب (٢). وإن بعض الخلفاء أراد قتله خفيّا ، فجعلت له هناك زبية وسيّر عليها وهو لا يعلم ، فوقع فيها وهيل عليه التراب حيّا ، وإنما شهر بقبر النذور لأنه ما يكاد ينذر له نذر إلا صحّ ، وبلغ الناذر ما يريد ولزمه الوفاء بالنذور ، وأنا أحد من نذر له مرارا لا أحصيها كثرة ، نذورا على

__________________

(١) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل ، وأثبتناه من مطبوعة باريس.

(٢) «ويقال أنه قبر عبيد الله بن محمد بن عمر بن على بن أبى طالب» ساقط من مطبوعة باريس.

١٣٥

أمور متعذّرة فبلغتها ولزمني النذر فوفيت به. فلم يتقبل هذا القول ، وتكلم بما دل أن هذا إنما يقع منه اليسير اتفاقا فيتسوّق العوامّ بأضعافه ، ويسيّرون الأحاديث الباطلة فيه. فأمسكت. فلما كان بعد أيام يسيرة ونحن معسكرون في موضعنا ، استدعاني في غدوة يوم ، وقال : اركب معي إلى مشهد النذور ، فركبت وركب في نفر من حاشيته إلى أن جئت به إلى الموضع ، فدخله وزار القبر ، وصلى عنده ركعتين سجد بعدهما سجدة أطال فيها المناجاة بما لم يسمعه أحد. ثم ركبنا معه إلى خيمته وأقمنا أياما ، ثم رحل ورحلنا معه يريد همذان ، فبلغناها وأقمنا فيها معه شهورا ، فلما كان بعد ذلك استدعاني. وقال لي : ألست تذكر ما حدّثتني به في أمر مشهد النذور ببغداد؟ فقلت : بلى ، فقال : إني خاطبتك في معناه بدون ما كان في نفسي اعتمادا لإحسان عشرتك ، والذي كان في نفسي في الحقيقة أن جميع يقال فيه كذب. فلما كان بعد ذلك بمديدة. طرقني أمر خشيت أن يقع ويتمّ وأعملت فكري في الاحتيال لزواله ولو بجميع ما في بيوت أموالي وسائر عساكري ، فلم أجد لذلك فيه مذهبا ، فذكرت ما أخبرتني به في النذر لمقبرة النذور. فقلت : لم لا أجرّب ذلك؟ فنذرت إن كفاني الله تعالى ذلك الأمر أن أحمل إلى صندوق هذا المشهد عشرة آلاف درهم صحاحا ، فلما كان اليوم جاءتني الأخبار بكفايتي ذلك الأمر ، فتقدّمت إلى أبي القاسم عبد العزيز بن يوسف ـ يعني كاتبه ـ أن يكتب إلى أبي الرّيّان ـ وكان خليفته ببغداد ـ يحملها إلى المشهد. ثم التفت إلى عبد العزيز ـ وكان حاضرا ـ فقال له عبد العزيز : قد كتبت بذلك ونفذ الكتاب.

أخبرني على بن أبي على المعدّل قال حدّثني أحمد بن عبد الله أبو بكر الدوري الورّاق قال أنبأنا أبو على محمّد بن همّام بن سهيل الكاتب الشيعي قال نبأنا محمّد ابن موسى بن حمّاد البربري قال نبأنا سليمان بن أبي شيخ ، وقلت له : هذا الذي بقبر النذور يقال أنه عبيد الله بن محمّد بن عمر بن على بن الحسين بن على بن أبي طالب ، وعبيد الله بن محمّد بن عمر بن على بن أبي طالب ، مدفون في ضيعة له بناحية الكوفة يقال لها لبيّا.

وقال أبو بكر الدوري قال لي أبو محمّد الحسن بن محمّد بن أخي طاهر العلوي : عبيد الله بن محمّد بن عمر بن على بن أبي طالب مدفون في ضيعة له بناحية الكوفة

١٣٦

قال لها البيّ ، وقبر النذور إنما هو قبر عبيد الله بن محمّد بن عمر بن على بن الحسين ابن على بن أبي طالب ؛ وأقدم المقابر التي بالجانب الشرقي مقبرة الخيزران.

فأخبرني أبو القاسم الأزهري قال أنبأنا أحمد بن إبراهيم قال نبأنا إبراهيم بن محمّد بن عرفة قال : وأما مقابر الخيزران ؛ فمنسوبة إلى الخيزران أم موسى وهارون ـ يعني ابني المهديّ : وهي أقدم المقابر ، فيها قبر أبي حنيفة ، وقبر محمّد بن إسحاق صاحب المغازي.

أخبرنا محمّد بن على الورّاق وأحمد بن على المحتسب قالا : أنبأنا محمّد بن جعفر قال نبأنا السكوني قال نبأنا محمّد بن خلف قال قال بعض الناس : إن موضع مقابر الخيزران كان مقابر المجوس قبل بناء بغداد ؛ وأول من دفن فيها البانوقة بنت المهديّ ؛ ثم الخيزران ؛ ودفن فيها محمّد بن إسحاق صاحب المغازي ؛ والحسن بن زيد ؛ والنعمان بن ثابت ؛ وقيل هشام بن عروة.

قال الشيخ أبو بكر : كان المشهور عندنا أن قبر هشام بن عروة في الجانب الغربي وراء الخندق أعلى مقابر باب حرب ، وهو ظاهر معروف هناك ، وعليه لوح منقوش فيه أنه قبر هشام. مع ما.

أخبرنا به الحسن بن على الجوهريّ قال أنبأنا محمّد بن العبّاس الخزّاز. وأخبرنا الأزهري قال أنبأنا أحمد بن محمّد بن موسى قال نا أبو الحسين بن المنادي قال : أبو المنذر : هشام بن عروة بن الزبير بن العوام القرشيّ ، مات أيام خلافة أبي جعفر في سنة ست وأربعين ومائة ، ودفن بالجانب الغربي خارج السور نحو باب قطربل.

فحدّثني أبو طاهر حمزة بن محمّد بن طاهر الدّقّاق ـ وكان من أهل الفهم وله قدم في العلم ـ أنه سمع أبا الحسين أحمد بن عبد الله بن الخضر : ينكر أن يكون قبر هشام ابن عروة بن الزبير ، هو المشهور بالجانب الغربي. وقال : هذا قبر هشام بن عروة المروزيّ صاحب ابن المبارك ، وإنما قبر هشام بن عروة بن الزبير بالخيزرانية من الجانب الشرقي.

ثم أخبرنا أبو بكر البرقانيّ قال أنبأنا عبد الرّحمن بن عمر الخلّال قال نا محمّد بن أحمد بن يعقوب بن شيبة قال نا جدي. قال : هشام بن عروة يكنى أبا المنذر ، توفي ببغداد سنة ست وأربعين ومائة. وقد قيل : إن قبره في مقابر الخيزران.

١٣٧

وأخبرنا الحسن بن الحسين بن العبّاس قال أنبأنا جدي لأمّي إسحاق بن محمّد النعالي قال أنبأنا عبد الله بن إسحاق المدائني قال نبأنا قعنب بن المحرز ـ أبو عمرو الباهلي ـ قال : مات عبد الملك بن أبي سليمان ، وهشام بن عروة ببغداد سنة خمس وأربعين ومائة ، ودفنا بسوق يحيى. ومقبرة الخيزران بالقرب من سوق يحيى ، وإليها أشار قعنب بن المحرز. ونرى أن قول أحمد بن عبد الله بن الخضر هو الصواب ، إلا أنا لا نعرف في أصحاب بن المبارك من يسمى هشام بن عروة ، ولا نعلم أيضا روى العلم عن أحد سمي هشاما واسم أبيه عروة ، سوى هشام بن عروة بن الزبير بن العوام. والله أعلم. وبالقرب من القبر المنسوب إلى هشام بالجانب الغربي : قبور جماعة تعرف بقبور الشهداء ، ولم أزل أسمع العامة تذكر أنها قبور قوم من أصحاب أمير المؤمنين على بن أبي طالب ، كانوا شهدوا معه قتال الخوارج بالنهروان وارتثوا في الوقعة ، ثم لما رجعوا أدركهم الموت في ذلك الموضع فدفنهم على هناك. وقيل : إن فيهم من له صحبة ، وقد كان حمزة بن محمّد بن طاهر ينكر أيضا ما اشتهر عند العامة من ذلك ، وسمعته يزعم أنه لا أصل له ، والله أعلم.

***

ذكر خبر المدائن على الاختصار

وتسمية من وردها من الصحابة الأبرار

قال الشيخ الإمام الحافظ أبو بكر أحمد بن على بن ثابت : إنما أوردنا ذكر المدائن في كتابنا لقربها من مدينتنا ، وذلك أن المسافة إليها بعض يوم فكانت في القرب منا كالمتصلة بنا ، سنورد في هذا الكتاب أسماء من كان من أهل العلم بالنواحي القريبة من بغداد ، كالنهروان ، وعكبرا ، والأنبار ، وسرّ من رأى. وما أشبه ذلك عند وصولنا إلى ذكرها إن شاء الله ، فأما تقديمنا ذكر المدائن فإنما فعلنا ذلك تبرّكا بأسماء الصحابة الذين وردوها ، والسادة الأفاضل الذين نزلوها ، وقد قبر بالمدائن غير واحد من الصحابة والتابعين رحمة الله عليهم (١).

أخبرنا القاضي أبو بكر أحمد بن الحسن بن أحمد الحرشي بنيسابور قال نا أبو العبّاس محمّد بن يعقوب الأصم.

وأخبرنا على بن محمّد بن عبد الله المعدّل قال أنبأنا محمّد بن عمرو بن البختري الرّزّاز.

__________________

(١) من أول الفقرة حتى هنا ساقطة من متن الأصل وأثبتت علي هامش الأصل.

١٣٨

وأخبرنا عبد الرّحمن بن عبيد الله الحربيّ قال نبأنا حمزة بن محمّد بن العبّاس.

وأخبرنا الحسن بن أبي بكر بن شاذان قال أنبأنا مكرم بن أحمد القاضي قالوا : نبأنا محمّد بن عيسى بن حيّان المدائني قال نبأنا محمّد بن الفضل ـ هو ابن عطيّة ـ قال نبأنا عبد الله بن مسلم عن ابن بريدة عن أبيه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال : «من مات من أصحابي بأرض كان نورهم وقائدهم يوم القيامة (١)».

وقيل : إنما سميت المدائن لكثرة ما بنى بها الملوك والأكاسرة ، وأثروا فيها من الآثار. وهي على جانبي دجلة شرقا وغربا ، ودجلة تشق بينهما ، وتسمى : المدينة الشرقية العتيقة وفيها القصر الأبيض القديم الذي لا يدري من بناه ، ويتصل بالمدينة التي كانت الملوك تنزلها. وفيها الإيوان ، وتعرف ـ بأسبانبر ـ وأما المدينة الغربية فتسمى بهر سير ، وكان الإسكندر أجل ملوك الأرض [نزلها (٢)] وقيل إنه ذو القرنين الذي ذكره الله تعالى في كتابه فقال : إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً فَأَتْبَعَ سَبَباً) [الكهف ٨٤]. وبلغ مشارق الأرض ومغاربها ، وله في كل إقليم أثر ، فبنى بالمغرب الإسكندرية ، وبنى بخراسان العليا على ما يقال سمرقند ومدينة الصّغد ، وبنى بخراسان السفلى مرو وهراة ، وبنى بناحية الجبل جيّ مدينة أصبهان ، وبنى مدنا أخر كثيرة من نواحي الأرض وأطرافها وجول الدّنيا كلها ووطئها ، فلم يختر منها منزلا سوى المدائن فنزلها. وبنى بها مدينة عظيمة وجعل عليها سورا أثره باق إلى وقتنا هذا موجود بالأثر ، وهي المدينة التي تسمى الرومية في جانب دجلة الشرقي ، وأقام الإسكندر بها راغبا عن بقاع الأرض جميعا وعن بلاده ووطنه. وذكر بعض أهل العلم : إنها لم تزل مستقرة بعد أن دخلها حتى مات بها. وحمل منها فدفن بالإسكندرية لمكان والدته فإنها كانت باقية هناك. وقد كان ملوك الفرس لهم حسن التدبير والسياسة والنظر في الممالك ، واختيار المنازل ، فكلهم اختار المدائن وما جاورها لصحة تربتها وطيب

هوائها ، واجتماع مصبّ دجلة والفرات بها ، ويذكر عن الحكماء أنهم يقولون : إذا أقام الغريب على دجلة من بلاد الموصل تبيّن في بدنه قوة. وإذا أقام بين دجلة والفرات بأرض بابل تبيّن في فطنته ذكاء وحدّة وفي عقله زيادة وشدة. وذلك الذي أورث أهل بغداد الاختصاص بحسن الأخلاق والتفرّد

__________________

(١) انظر الحديث في : تاريخ بن عساكر ١ / ٢٦٥. وكنز العمال ١٦ / ٣٢٥. وكشف الخفا ٢ / ٣٨٧.

(٢) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل ، وأثبتناه من مطبوعة باريس.

١٣٩

بجميل الأوصاف ، وقلّ ما اجتمع اثنان متشاكلان وكان أحدهما بغداديّا إلا كان المقدم في لطف الفطنة ، وحسن الحيلة ، وحلاوة القول ، وسهولة البذل ؛ ووجد ألينهما معاملة ، وأجملهما معاشرة ، وكان حكم المدائن إذ كانت عامرة آهلة هذا الحكم.ولم تزل دار مملكة الأكاسرة ؛ محل كبار الأساورة ، ولهم بها آثار عظيمة ، وأبنية قديمة. منها الإيوان العجيب الشأن ، لم أر في معناه أحسن منه صنعة ، ولا أعجب منه عملا ؛ وقد وصفه أبو عبادة الوليد بن عبيد البحتري في قصيدته التي أولها :

صنت نفسي عمّا يدنّس نفسي

وترفعت عن جدا كل جبس

إلى أن قال :

وكأنّ الإيوان من عجب الصّن

عة جوب في جنب أرعن جلس

يتظنّى من الكآبة إذ يب

دو لعيني مصبح أو ممسي

مزعجا بالفراق عن أنس إلف

عزّ أو مرهقا بتطليق عرس

عكست حظّه الليالي وبات ال

مشترى فيه وهو كوكب نحس

فهو يبدي تجلّدا وعليه

كلكل من كلاكل الدهر مرسي

لم يعبه أن بزّ من بسط الدي

باج واستلّ من ستور الدّمقس

مشمخرّ تعلو له شرفات

رفعت في رءوس رضوى وقدس

لابسات من البياض فما تب

صر منها إلا سبائخ (١) برس

ليس يدرى أصنع إنس لجنّ

سكنوه أم صنع جنّ لإنس

غير أني أراه يشهد أن لم

يك بانيه في الملوك بنكس

أنشدني الحسن بن محمّد بن القاسم العلوي قال أنشدنا أحمد بن على البتي قال أنشدنا أبو سهل أحمد بن محمّد بن عبد الله القطّان قال أنشدنا البحتريّ لنفسه قال :

صنت نفسي عمّا يدنّس نفسي

وذكر القصيدة بطولها.

أخبرني على بن أيّوب القمي قال أنبأنا محمّد بن عمران الكاتب قال : أخبرني الصولي قال : سمعت عبد الله بن المعتز يقول : لو لم يكن للبحتري من الشعر غير قصيدته السينية في وصف إيوان كسرى ـ فليس للعرب سينية مثلها ـ وقصيدته في

__________________

(١) في ديوان البحتري : «إلا فلائل».

١٤٠