حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة - ج ٢

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي

حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة - ج ٢

المؤلف:

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨١
الجزء ١ الجزء ٢

ثمّ الصّلاة بعد هذا كلّه

على أجلّ خلقه ورسله

محمّد خير بني عدنان

ومن أتاه الوحي بالتّبيان

دامت عليه صلوات ربّه

ثمّ على عترته وصحبه

يا سائلي عن أمراء مصر

منذ حباها عمر لعمرو

خذ من جوابي ما يزيل اللّبسا

واحفظه حفظ ذاكر لا ينسى

أوّل من كان إليه الأمر

مفوّضا بعد الفتوح عمرو

وابن أبي سرح تولّى أمرها

وقيس ساس نفعها وضرّها

ثمّ تولّى النّخعيّ الأشتر

وابن أبي بكر كما قد ذكروا

ثمّ أعيدت بعده لعمرو

ثانية وعتبة في الإثر

وعقبة ثمّ الأمير مسلمه

وابن يزيد وهو نجل علقمه

ثمّ تولّى الأمر عبد الرّحمن

وبعده تأمّر ابن مروان

إذ كان ولّاها له أبوه

وهو بمصر حوله ذووه

ثمّ لعبد الله تعزى الإمره

وبعده نجل شريك قرّه

ثمّ تولى بعده عبد الملك

نقلا صحيحا غير نقل مؤتفك

وابن شرحبيل الأمير أيّوب

وبشر فالأمر إليه منسوب

ثمّ أخو بشر الأمير حنظلة

ثم غدا محمد والأمر له

والحرّ نجل يوسف وحفص

من بعده جاء بذاك النّصّ

ثمّ فتى رفاعة عبد الملك

ثمّ الوليد صنوه كلّ ملك

ثم ابن خالد بعد تاليه

ثمّ ابن صفوان تولّى ثانيه

وحفص قد عاد إليها واليا

وقام حسّان الأمير تاليا

ثمّ تولّى حفص وهي الثالثه

وابن سهيل جاء فيها وارثه

وابن عبيد واسمه المغيره

دبّر إقليما غدا أميره

ثمّ ابن مروان وليّ لخم

وكان للدولة أيّ ختم

وصالح أوّل من تولّى

ثمّ ابن عون وهو نعم المولى

ثمّ أبو عون لها أعيدا

ثانية وأدرك المقصودا

وجاء موسى بعده ابن كعب

محكّما في سلما والحرب

ثمّ أتى محمد بن الأشعث

فاسمع لما حدثته وحدّث

ثمّ حميد وهو ابن قحطبه

ثمّ يزيد نال أيضا منصبه

وقام عبد الله فيها يحمد

ثمّ أخوه بعده محمّد

ثمّ غدا الأمير موسى بن علي

وبعد عيسى بن لقمان ولي

٦١

وواضح وكان مولى المنصور

وبعد ذاك ابن يزيد منصور

وجاء يحيى بعده ابن ممدود

وسالم في الأمراء معدود

وبعده ابراهيم نجل صالح

ولم يزل ينظر في المصالح

وجاء موسى وهو نجل مصعب

وبعده أسامة بها حبي

والفضل نجل صالح أيضا ولي

وبعده نجل سليمان علي

ثمّ حوى موسى بن عيسى حرمه

ثمّ تولّاها ابن يحيى مسلمه

وابن زهير واسمه محمّد

وجاء داود وهذا مسند

وجاء موسى نجل عيسى ثانيه

ونال في إمرتها أمانيه

كذاك إبراهيم أيضا ولّي

فيها كما قد قيل بعد العزل

وحاز عبد الله منها الآفاق

وابن سليمان المسمّى إسحاق

ثمّ أتى هرثمة وهو الملك

وبعده ابن صالح عبد الملك

ثمّ عبيد الله نجل المهدي

وكان ربّ حلّها والعقد

وبعده موسى بن عيسى ثالثه

حتّى رأى من دهره حوادثه

ثمّ عبيد الله نجل المهدي

ثانية في حلّها والعقد

وجاء إسماعيل نجل صالح

يأمر في الغادي بها والرّائح

وبعده سميّه ابن عيسى

تحدو إليه القاصدون العيسا

ثمّ تولّى الليث نجل الفضل

وأحمد من بعده ذو الفضل

وجاء عبد الله يقفو جنده

ثمّ الحسين بن جميل بعده

ثمّ تولّى مالك ثمّ الحسن

كلاهما أوضح في العدل السّنن

ثمّ غدا الأمير فيها حاتم

وجابر بالأمر فيها قائم

ثمّ لعبّاد غدت تنتسب

وبعده أميرها المطّلب

ثمّ تولّى أمرها العبّاس

وفوّض الأمر إليه الناس

ثمّ أعيد الأمر للمطّلب

ثانية ثمّ السّريّ فاعجب

ثمّ سليمان له الأمر حصل

ثمّ السريّ بعد ما كان انفصل

ثمّ تولّى ابن السريّ الأمرا

وطالما ساء بها وسرّا

ثمّ عبيد الله وهو ابن السّري

وبعده ابن طاهر فحرّر

وبعده عيسى فتى يزيد

ثمّ عمير من بني الوليد

قد كان ولّاها له لمّا قدم

على البلاد ابن الرشيد المعتصم

وعاد عيسى وهو فيها والي

وعبدويه ذو المحلّ العالي

وقد تولّى بعده ابن منصور

عيسى وهذا الأمر أمر مشهور

٦٢

وعند ذاك قدم المأمون

لمصر والدّنيا له تدين

في سنة تعدّ سبع عشرة

ومائتين بعد عام الهجره

ثمّ تولّى ابن أبي العبّاس

موسى بلا شكّ ولا التباس

ومالك بن كيدر ثمّ علي

وبعده عيسى بن منصور ولي

وبعده هرثمة بن النّضر

وحاكم وكان ربّ الأمر

ثمّ عليّ نجل يحيى ثانيه

وحاء إسحاق بن يحيى تاليه

وبعده الأمير عبد الواحد

وهو ابن يحيى فارض بالفوائد

وبعده عنبسة بن اسحاق

ثم يزيد حاز منها الآفاق

ثمّ تولّى أمرها مزاحم

ثمّ ابنه أحمد فيها القائم

ونال أرجوز بها ما يقصد

ثمّ ابن طولون الأمير أحمد

ثمّ أبو الجيش ابنه من بعده

ثمّ أتى جيش وليّ عهده

ثمّ تولّى بعده هارون

وبعده من جدّه طولون

وبعده عيسى فتى محمّد

ثم تكين صار ربّ السّؤدد

ثمّ تولّاها ذكا الأعور

ثمّ تكين وهو وقت آخر

ثمّ هلال وهو ابن بدر

أصبح فيها وهو ربّ الأمر

ثمّ تولّى أحمد بن كيغلغ

ثمّ تكين إذ له الأمر بلغ

ثمّ أتى محمّد بن طغج

وأحمد ثانيه في النّهج

ثمّ تولّاها ابن طغج ثانيه

ثمّ أبو القاسم جاء تاليه

ثمّ أتى الإخشيد من بعد علي

وبعد ذاك الأمر كافور ولي

وبعد كافور تولّى أحمد

ثمّ أتى جوهر وهو أيد

ثمّ تولّاها المعزّ إذ أتى

ثمّ العزيز نجله خير فتى

ثمّ ابنه الحاكم ثم الظّاهر

وكلّهم في المأثرات باهر

ثمّ تولى أمرها المستنصر

وهو لعمري يقظ مستبصر

ثمّ تولّى أمرها المستعلي

وكان ربّ عقدها والحل

وبعد ذاك قد حواها الآمر

ولم تكد تعصى له أوامر

ثمّ تولّاها الإمام الحافظ

وهو على تدبيرها محافظ

وجاء إسماعيل وهو الظافر

ثمّ ابنه الفائز وهو الآخر

أعني بمن قلت الإمام العاضدا

محرّرا فاغتنم الفوائدا

وشيركوه مدّة يسيره

تناهز الشهرين منه السّيره

ثم تولاها الصلاح يوسف

ثم العزيز وابنه مستضعف

٦٣

ثمّ أتى الأفضل نور الدّين

وبعده العادل ذو التّمكين

ثمّ ابنه الكامل ثم العادل

كلاهما بالحكم فيها عادل

ثمّ أتى الصّالح وهو الأعظم

ثمّ تولّاها ابنه المعظّم

وبعده أمّ خليل ملكت

وطابت الأفعال فيها وزكت

والملك الأشرف كان طفلا

فلم يدبّر عقدها والحلّا

ثمّ استبدّ الملك المعزّ

ثم ابنه ووافقته الغزّ

ثم حواها الملك المطفّر

وحظّه من نصره موفّر

ثمّ حوى الأمر المليك الظاهر

لا زال للأعداء وهو قاهر!

[ذكر من قام بمصر من الخلفاء العباسيين]

كان لانقراض الخلافة ببغداد وما جرى على المسلمين بتلك البلاد مقدّمات نبّه عليها العلماء :

منها ، أنّه في يوم الثلاثاء ثامن عشر ربيع الآخر سنة أربع وأربعين وستّمائة هبّت ريح عاصفة شديدة بمكّة ، فألقت ستارة الكعبة المشرّفة ، فما سكنت الريح إلّا والكعبة عريانة ، قد زال عنها شعار السواد ، ومكثت إحدى وعشرين يوما ليس عليها كسوة.

وقال الحافظ عماد الدين بن كثير : وكان هذا فألا على زوال دولة بني العبّاس ؛ ومنذرا بما سيقع بعد هذا من كائنة التّتار ، لعنهم الله.

ومنها ، قال ابن كثير في حوادث سنة سبع وأربعين : طغى الماء ببغداد ، حتّى أتلف شيئا كثيرا من المحالّ والدّور الشهيرة ، وتعذّرت إقامة الجمعة بسبب ذلك.

وفي هذه السنة هجمت الفرنج على دمياط (١) ؛ فاستحوذوا عليها وقتلوا خلقا من المسلمين.

وفي سنة خمسين وقع حريق بحلب احترق بسببه ستّمائة دار ؛ فيقال : إنّ الفرنج لعنهم الله ألقوه فيها قصدا.

وفي سنة اثنتين وخمسين ، قال سبط ابن الجوزي في مرآة الزمان : وردت الأخبار من مكّة شرّفها الله ، بأنّ نارا ظهرت في أرض عدن (٢) في بعض جبالها ، بحيث أنه يطير شررها إلى البحر في الليل ، ويصعد منها دخان عظيم في أثناء النهار ، فتاب الناس وأقلعوا عمّا كانوا عليه من المظالم والفساد ، وشرعوا في أفعال الخير والصّدقات.

وفي سنة أربع وخمسين زادت دجلة زيادة مهولة ، فغرق خلق كثير من أهل

__________________

(١) في شذرات الذهب : ٥ / ٢٣٧ : في ربيع أول سنة سبع وأربعين وستمائة نازلت الفرنج دمياط برا وبحرا فهرب العسكر وملكها الفرنج بلا ضربة ولا طعنة ، فشنق السلطان ستين نفسا من أعيان أهلها.

(٢) شذرات الذهب : ٥ / ٢٥٥.

٦٤

بغداد ، ومات خلق تحت الهدم ، وركب النّاس في المراكب ، واستغاثوا بالله ، وعاينوا التّلف ، ودخل الماء من أسوار البلاد ، وانهدمت دار الوزير وثلثمائة وثمانون دارا ، وانهدم مخزن الخليفة ، وهلك شيء كثير من خزانة السلاح.

قال ابن السّبكي في الطبقات الكبرى : وكان ذلك من جملة الأمور ، التي هي مقدّمة لواقعة التّتار.

وفي هذه السنة ، في يوم الاثنين مستهلّ جمادى الآخرة ، وقع بالمدينة الشريفة صوت يشبه صوت الرّعد البعيد تارة وتارة ، وأقام على هذه الحالة يومين ، فلمّا كان ليلة الأربعاء تعقّب الصوت زلزلة عظيمة ، رجفت منها الأرض والحيطان ، واضطرب المنبر الشريف ، واستمرّت تزلزل ساعة بعد ساعة إلى يوم الجمعة خامس الشهر ، ظهر من الحرّة نار عظيمة ، وسالت أودية منها سيل الماء ، وسالت الجبال نارا ، وسارت نحو طريق الحاجّ العراقيّ ، فوقفت وأخذت تأكل الأرض أكلا (١) ، ولها كلّ يوم صوت عظيم من آخر الليل إلى الضحوة ، واستغاث النّاس بنبيّهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأقلعوا عن المعاصي ، واستمرّت النار فوق الشهر ، وخسف القمر ليلة الاثنين منتصف الشهر ، وكسفت الشمس في غدوة ، وبقيت أياما متغيّرة اللون ضعيفة النور ، واشتدّ فزع الناس ، وصعد علماء البلد إلى الأمير يعظونه ، فطرح المكوس ، وردّ على الناس ما كان تحت يده من أموالهم.

وقال سيف الدين عليّ بن (٢) عمر بن قذل المشدّ في هذه النار :

ألا سلّما عنّي على خير مرسل

ومن فضله كالسّيل ينحطّ من عل

وأشرف من شدّت إليه رحالنا

لتورد هيم الشّوق أعذب منهل

تحمّلن منّا كلّ أشعث أغبر

فيا عجبا من رحلها المتحمّل!

إلى سيّد جاءت بعالي محلّه

ومعجزه آي الكتاب المنزّل

نبيّ هدانا للهدى بأدلّة

فهمنا معانيها بحسن التأوّل

محمّد المبعوث ، والغيّ مظلم

فأصبح وجه الرّشد مثل السّجنجل (٣)

وقولا له : إنّي إليك لشيّق

عسى الله يدني من محلّك محملي

__________________

(١) شذرات الذهب : ٥ / ٢٦٣.

(٢) هو سيف الدين بن المشد سلطان الشعراء صاحب الديوان المشهور الأمير أبو الحسن علي بن عمر بن قزل التركماني ، ولد سنة ٦٠٢ ه‍ بمصر ، وكان فاضلا كثير الخير والصدقات ذا مروءة ، توفي في تاسع المحرم سنة ٦٥٦ ه‍ بدمشق ودفن بقاسيون. [شذرات الذهب : ٥ / ٢٨٠].

(٣) السجنجل : المرآة. (يونانية).

٦٥

فتخمد أشواقي وتسكن لوعتي

وأصبح عن كلّ الغرام بمعزل

ولمّا نفى عنّي الكرى خبر التي

أضاءت بإذن ثمّ رضوى ويذبل

ولاح سناها من جبال قريظة

لسكان تيما فاللّوى فالعقنقل

وأخبرت عنها في زمانك منذرا

بيوم عبوس قمطرير مطوّل

فقلت كلاما لا يدين لقائل

سواك ولا يسطيعه ربّ مقول :

ستظهر نار بالحجاز مضيئة

كأعناق عيس نحو بصرى لمخيّل

فكانت كما قد قلت حقّا بلا مرى

صدقت وكم كذبت كلّ معطّل

لها شرر كالبرق لكن شهيقها

فكالرّعد عند السامع المتأمّل

وأصبح وجه الشمس كالليل كاسفا

وبدر الدّجى في ظلمة ليس تنجلي

وغابت نجوم الجوّ قبل غروبها

وكدّرها دور الدخان المسلسل

وهبّت سموم كالحميم فأذبلت

من الباسقات الشّمّ كلّ مذلّل

وأبدت من الآيات كلّ عجيبة

وزلزلت الأرضون أيّ تزلزل

وأيقن كلّ النّاس أنّ عذابهم

تعجّل في الدّنيا بغير تمهّل

وأعولت الأطفال مع أمّهاتها

فيا نفس جودي ، يا مدامعي اهملي

جزعت فقام النّاس حولي وأقبلوا

يقولون : لا تهلك أسى وتجمّل

لعلّ إله الخلق يرحم ضعفهم

وما أظهروه من عظيم التذلّل

وتاب الورى واستغفروا لذنوبهم

ولاذوا بمنوال الكريم المبجّل

شفعت لهم عند الإله فأصبحوا

من النار في أمن وبر معجّل

أغاثهم الرحمن منك بنفحة

ألذّ وأشهى من جنى ومعسّل

طفى النار نور من ضريحك ساطع

فعادت سلاما لا تضرّ بمصطلي

وعاش رجاء الناس بعد مماتهم

فيا لك من يوم أغرّ محجّل!

فيا راحلا عن طيبة إنّ طيبة

هي الغاية القصوى لكلّ مؤمّل

قفا نبك ذكراها فإنّ الذي بها

أجلّ حبيب وهي أشرف منزل

دخلت إليها محرما وملبّيا

وأضربت عن سقط الدّخول فحومل

مواقف أمّا تربها فهي عنبر

وأمّا كلاها فهو نبت القرنفل

يفوح شذاها ثمّ يعقب نشرها

لما راوحتها من جنوب وشمأل

فيا خير مبعوث وأكرم شافع

وأنجح مأمول وأفضل موئل

عليك سلام الله بعد صلاته

كما شفع المسك العبيق بمندل (١)

__________________

(١) المندل : العود الطيب الرائحة.

٦٦

وقال بعضهم في ذلك :

يا كاشف الضرّ صفحا عن جرائمنا

لقد أحاطت بنا يا ربّ بأساء

نشكو إليك خطوبا لا نطيق لها

حملا ونحن بها حقّا أحقّاء

زلازلا تخشع الصّمّ الصّلاب لها

وكيف يقوى على الزلزال شمّاء

أقام سبعا ترجّ الأرض فانصدعت

عن منظر منه عين الشمس عشواء

بحر من النار تجري فوقه سفن

من الهضاب لها في الأرض إرساء

كأنّما فوقه الأجبال طافية

موج عليه لفرط الهيج وعثاء (١)

ترى لها شررا كالقصر طائشة

كأنّها ديمة تنصبّ هطلاء (٢)

تنشقّ منها قلوب الصخر إن زفرت

رعبا ، وترعد مثل السّعف أضواء

منها تكاثف في الجوّ الدّخان إلى

أن عادت الشمس منه وهي دهماء

قد أثّرت سفعة في البدر لفحتها

فليلة التّمّ بعد النّور ليلاء (٣)

وقال آخر في هذه النار ، وغرق بغداد :

سبحان من أصبحت مشيئته

جارية في الورى بمقدار

أغرق بغداد بالمياه كما

أحرق أرض الحجاز بالنار

قال أبو شامة : والصواب أن يقال :

في سنة أغرق العراق وقد

أحرق أرض الحجاز بالنّار

وذكر ابن الساعي أنّ النجاب لمّا جاء إلى بغداد بخبر هذه النار ، قال له الوزير : إلى أيّ الجهات ترمي شررها؟ قال : إلى جهة الشرق.

قال أبو شامة : وفي ليلة الجمعة مستهلّ رمضان من هذه السنة ، احترق المسجد الشريف النبويّ ، ابتدأ حريقه من زاويته الغربيّة من الشّمال ، وكان دخل أحد القومة (٤) إلى خزانة ثمّ ، ومعه نار فعلقت في الآلات ، واتّصلت بالسقف بسرعة ، ثمّ دبّت في السقوف ، فأعجلت النار عن قطعها ، فما كان إلّا ساعة حتّى احترقت سقوف المسجد أجمع ، ووقعت بعض أساطينه ، وذاب رصاصها ، وكلّ ذلك قبل أن ينام الناس ، واحترق سقف الحجرة النبويّة الشريفة (٥) ، واحترق المنبر الذي كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخطب عليه.

__________________

(١) الوعثاء : المشقة والتعب.

(٢) الديمة : مطر يدوم في سكون بلا رعد ولا برق.

(٣) السفعة : ما يغشى وجه الشمس من البقع السوداء.

(٤) أبو بكر المراغي. الشذرات : ٥ / ٢٦٣.

(٥) شذرات الذهب : ٥ / ٢٦٣.

٦٧

قال أبو شامة : وعدّ ما وقع من تلك النار الخارجة وحريق المسجد من الآيات ، وكأنّها كانت منذرة بما يعقبها في السنة الآتية من الكائنات.

قال أبو شامة في ذلك :

نار أرض الحجاز مع حرق الم

سجد مع تغريق دار السلام

بعد ستّ من المئين وخمسي

ن لدى أربع جرى في العام

ثمّ أخذ التتار بغداد في أوّ

ل عام من بعد ذاك وعام

لم يعن أهلها ، وللكفر أعوا

ن عليهم يا ضيعة الإسلام!

وانقضت دولة الخلافة منها

صار مستعصم بغير اعتصام

فحنانا على الحجاز ومصر

وسلاما على بلاد الشّآم

وفي تاريخ ابن كثير عن الشيخ عفيف الدّين يوسف بن البقّال أحد الزهاد ، قال : كنت بمصر ، فبلغني ما وقع ببغداد (١) من القتل الذريع ، فأنكرته بقلبي ، وقلت : يا ربّ كيف هذا وفيهم الأطفال ومن لا ذنب له؟! فرأيت في المنام رجلا وفي يده كتاب فأخذته فإذا فيه :

دع الاعتراض فما الأمر لك

ولا الحكم في حركات الفلك

ولا تسأل الله عن فعله

فن خاض لجّة بحر هلك

قلت أجرى الله تعالى عادته أنّ العامة إذا زاد فسادها وانتهكوا حرمات الله ، ولم تقم عليهم الحدود أرسل الله عليهم بية في إثر بية ، فإن لم ينجح ذلك فيهم أتاهم بعذاب من عنده ، وسلّط عليهم من لا يستطيعون له دفاعا ؛ وقد وقع في هذه السنين ما يشبه الآيات الواقعة في مقدّمات واقعة التّتار ، وأنا خائف من عقبى ذلك ، فاللهم سلّم سلّم! فأوّل ما وقع في سنة ثلاث وثمانين حصول قحط عظيم بأرض الحجاز.

وفي سنة خمس وثمانين لم يزد النّيل القدر الذي يحصل به الرّيّ ، ولا ثبت المدّة التي يحتاج إلى ثبوته فيها ، فأعقب ذلك غلاء الأسعار في كلّ شيء.

وفي سنة ستّ وثمانين في سابع عشر المحرم زلزلت مصر زلزلة منكرة لها دويّ شديد ، وقع بسببها قطعة من المدرسة الصالحية على قاضي الحنفيّة شمس الدين بن عيد ، وكان من خيار عباد الله فقتلته.

وفي ليلة ثالث عشر رمضان من هذه السنة ، نزلت صاعقة من السماء على

__________________

(١) شذرات الذهب : ٥ / ٢٦٤.

٦٨

المسجد الشريف النبويّ فأحرقته بأسره وما فيه من خزائن وكتب ، وأحرقت الحجرة الشريفة والمنبر والسّقوف ، ولم يبق سوى الجدران ، واحترقت فيه جماعة من أهل الفضل والخير ؛ وكان أمرا مهولا.

وفي هذه السّنة وقع بالغربيّة برد كبار بحيث قتل كثيرا من الطير ؛ وقيل إنّ وزن البردة سبعون درهما.

وفي سنة سبع وثمانين ورد الخبر بأن صاعقة نزلت بحلب ، وبأنّ الفناء وقع ببغداد وبلاد الشرق عظيما جدّا حتّى قيل إنّه عدّ ببغداد من تأخّر من الرجال ؛ فكانوا مائتين واثنين وأربعين نفسا.

وفي ذي الحجة وردت الأخبار بأنّه حصل بمكّة في يوم الأربعاء رابع عشر ذي القعدة سيل عظيم بحيث دخل البيت الشريف ، فكان فيه قامة ، وأخرب بيوتا كثيرة ، وهدم جملة من أساطين الحرم ، ووجد في المسجد من الغرقاء سبعين إنسانا وخارج المسجد خمسمائة نفس ، واستمرّ الماء في المسجد إلى يوم السبت ، ولم تصلّ الجمعة. وكتب القاضي برهان الدين بن ظهيرة إلى مصر كتابا بذلك يقول فيه : إنّ هذا السّيل لم يعهد مثله لا في جاهلية ولا في إسلام ، وإنّه ذرع موضع وصوله في المسجد ؛ فكان سبع أذرع وثلث ذراع ؛ وقد قلت في ذلك هذه الأبيات :

في عام ستّ أتى المدينة في ال

مسجد نارا أفنته بالحرق

وعام سبع أتى لمكّة في ال

مسجد سيل قد عمّ بالغرق

وقبلها القحط بالحجاز فشا

ومصر قد زلزلت من الفرق

وانهبط النيل غير منتفع

به وضاقت معايش الفرق

فهذه جملة أتت نذرا

مستوجبات للخوف والقلق

فليحذر الناس أن يحلّ بهم

ما حلّ بالأوّلين من حنق

ولما أخذ التتار بغداد ، وقتل الخليفة (١) ، وجرى ما جارى ، أقامت الدّنيا بلا خليفة ثلاث سنين ونصف سنة ؛ وذلك من يوم الأربعاء رابع عشر صفر سنة ستّ وخمسين ، وهو يوم قتل الخليفة المستعصم رحمه‌الله إلى أثناء سنة تسع وخمسمائة ؛

__________________

(١) الخليفة المستعصم بالله أبو أحمد عبد الله بن المستنصر بالله ، آخر الخلفاء العراقيين. [شذرات الذهب : ٥ / ٢٧٠].

٦٩

فلمّا كان في رجب من هذه السنة قدم أبو القاسم أحمد بن أمير المؤمنين الظّاهر بأمر الله وهو عمّ الخليفة المستعصم وأخو المستنصر ، وقد كان معتقلا ببغداد ثمّ أطلق ، فكان مع جماعة الأعراب بالعراق ، ثمّ قصد الملك الظاهر حين بلغه ملكه ، فقدم عليه الدّيار المصريّة صحبة جماعة من أمراء الأعراب عشرة ، منهم الأمير ناصر الدين مهنّا ـ وكان دخوله إلى القاهرة في ثاني رجب ـ فخرج السّلطان للقائه ، ومعه القاضي تاج الدين والوزير والعلماء والأعيان والشهود والمؤذنون فتلقّوه ، وكان يوما مشهودا ، وخرج اليهود بتوراتهم والنصارى بإنجيلهم ، ودخل من باب النّصر بأبّهة عظيمة.

فلمّا كان يوم الاثنين ثالث عشر رجب ، جلس السلطان والخليفة في الإيوان بقلعة الجبل والقاضي والوزير والأمراء على طبقاتهم ، وأثبت نسب الخليفة على القاضي تاج الدين ؛ فلمّا ثبت قام قاضي القضاة قائما ، وأشهد على نفسه بثبوت النسبة الشريفة. ثمّ كان أوّل من بايعه (١) شيخ الإسلام عزّ الدين بن عبد السلام ، ثمّ السلطان الملك الظاهر ، ثمّ القاضي تاج الدين ، ثمّ الأمراء والدولة ، وركب في دست الخلافة بمصر والأمراء بين يديه ، والنّاس حوله ، وشقّ القاهرة ، وكان يوما مشهودا ، ولقب المستنصر بالله بلقب أخيه ، وخطب له على المنابر ، وضرب اسمه على السّكة ، وكتبت بيعته إلى الآفاق ، وأنزل بقلعة الجبل هو وحشمه وخدمه ، فلمّا كان يوم الجمعة سابع عشر رجب ، ركب في أبهة السواد ، وجاء إلى الجامع بالقلعة فصعد المنبر ، وخطب خطبة ذكر فيها شرف بني العبّاس ، ودعا للسلطان ، ثمّ نزل فصلّى بالناس ، وكان وقتا حسنا ويوما مشهودا.

ثمّ في يوم الاثنين رابع شعبان ركب الخليفة والسلطان والقاضي والوزراء والأمراء وأهل الحلّ والعقد إلى خيمة عظيمة قد ضربت ظاهر القاهرة ؛ فألبس الخليفة السلطان بيده خلعة سوداء وعمامة سوداء ، وطوقا في عنقه من ذهب ، وقيدا من ذهب في رجليه. وفوّض إليه الأمور في البلاد الإسلامية وما سيفتحه من بلاد الكفر ، ولقّبه بقسم أمير المؤمنين ؛ وصعد فخر الدين بن لقمان رئيس الكتّاب منبرا ، فقرأ عليه تقليد السلطان ، وهو من إنشائه وصورته :

الحمد لله الذي أضفى على الإسلام ملابس الشّرف ، وأظهر بهجة درره ، وكانت خافية بما استحكم عليها من الصّدف ، وشيّد ما وهي من علائه حتّى أنسى به ذكر من سلف ، وقيّض لنصره ملوكا اتّفق عليهم من اختلف.

__________________

(١) شذرات الذهب : ٥ / ٢٩٧.

٧٠

أحمده على نعمه التي رتعت الأعين منها في الرّوض الأنف ، وألطافه التي وقف الشاكر عليها فليس له عنها منصرف. وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، شهادة توجب من المخاوف أمنا ، وتسهّل من الأمور ما كان حزنا.

وأشهد أنّ سيّدنا محمدا عبده ورسوله الذي جبر من الدين وهنا ، والذي أظهر من المكارم فنونا لا فنّا ، صلّى الله عليه وعلى آله الذين أضحت مناقبهم باقية لا تفنى ، وأصحابه الّذين أحسنوا في الدين فاستحقّوا الزّيادة بالحسنى ، وبعد :

فإنّ أولى الأولياء بتقديم ذكره ، وأحقّهم أن يصبح القلم راكعا وساجدا في تسطير مناقبه وبرّه ، من سعى فأضحى سعيه للحمد متقدّما ، ودعا إلى طاعته فأجاب من كان منجدا ومتهما ، وما بدت يد في المكرمات إلّا كان لها زندا ومعصما ، ولا استباح بسيفه حمى وغى إلا أضرم منه نارا وأجرى منه دما.

ولمّا كانت هذه المناقب الشريفة مختصّة بالمقام العالي المولويّ السلطانيّ الملكيّ الظاهريّ الركنيّ شرّفه الله وأعلاه. ذكره الديوان العزيز النبويّ الإماميّ المستنصريّ أعز الله سلطانه تنويها بشريف قدره ، واعترافا بصنيعه الذي تنفد العبارة المسهبة ولا تقوم بشكره.

وكيف لا ، وقد أقام الدولة العباسيّة ، بعد أن أقعدتها زمانة (١) الزّمان ، وأذهبت ما كان لها من محاسن وإحسان ، وعتب دهرها المسيء لها فأعتب ، وأرضى عنها زمنها. وقد كان صال عليها صولة مغضب ، فأعاده لها سلما بعد أن كان عليها حربا ، وصرف إليها اهتمامه فرجع كلّ متضايق من أمورها واسعا رحبا.

ومنح أمير المؤمنين عند القدوم عليه حنوّا وعطفا ، وأظهر من الولاء رغبة في ثواب الله ما لا يخفى ، وأبدى من الاهتمام بأمر الشريعة والبيعة أمرا لو رامه غيره لا متنع عليه ، ولو تمسّك بحبله متمسّك لا نقطع به قبل وصوله إليه ، ولكنّ الله ادّخر هذه الحسنة ليثقل بها ميزان ثوابه ، ويخفّف بها يوم القيامة حسابه ، والسعيد من خفّف من حسابه. فهذه منقبة أبى الله إلا أن يخلّدها في صحيفة صنعه ، ومكرمة تضمّنت لهذا البيت الشريف بجمعه ، فعد أن حصل الإياس من جمعه. وأمير المؤمنين يشكر لك هذه الصنائع ؛ ويعترف أنّه لولا اهتمامك لا تّسع الخرق على الراقع وقد قلّدك الديار المصرية والبلاد الشاميّة ، والديار البكريّة والحجازيّة واليمنيّة والفراتيّة ، وما يتجدّد من الفتوحات

__________________

(١) الزمانة : العاهة.

٧١

غورا ونجدا ، وفوّض أمر جندها ورعاياها إليك حين أصبحت بالمكارم فردا ، ولا جعل منها بلدا من البلاد ولا حصنا من الحصون يستثنى ، ولا جهة من الجهات تعدّ في الأعلى ولا في الأدنى.

فلاحظ أمور الأمّة فقد أصبحت لها حاملا ، وخلّص نفسك من التّبعات اليوم ففي غد تكون مسئولا لا سائلا ، ودع الاغترار بأمر الدنيا فما نال أحد منها طائلا ، وما رآها أحد بعين الحقّ إلا رآها حائلا زائلا ؛ فالسعيد من قطع منها آماله الموصولة ، وقدّم لنفسه زاد التقوى ؛ فتقدمة غير التقوى مردودة لا مقبولة. وأبسط يدك بالإحسان والعدل فقد أمر الله بالعدل وحثّ على الإحسان ، وكرّر ذكره في مواضع القرآن ، وكفّر به عن المرء ذنوبا كتبت عليها وآثاما ، وجعل يوما واحدا منها كعبادة العابد ستّين عاما. وما سلك أحد سبيل العدل إلّا واجتنيت ثماره من أفنان ، ورجع الأمر به بعد تداعي أركانه وهو مشيّد الأركان ، وتحصّن به من حوادث زمانه ؛ والسعيد من تحصّن من حوادث الزمان.

وكانت أيّامه في الأيّام أبهى من الأعياد ، وأحسن في العيون من الغرر في أوجه الجياد ، وأحلى من العقود إذا حلّي بها عاطل الأجياد.

وهذه الأقاليم المنوطة بك تحتاج إلى نوّاب وحكّام ، وأصحاب رأي من أصحاب السيوف والأقلام ؛ فإذا استعنت بأحد منهم في أمورك فنقّب عليه تنقيبا ، واجعل عليه في تصرّفاته رقيبا ، واسأل عن أحواله ففي يوم القيامة تكون عنه مسئولا ، وبما اجترم (١) مطلوبا. ولا تولّ منهم إلّا من تكون مساعيه حسنات لك لا ذنوبا.

وأمرهم بالأناة في الأمور والرّفق ، ومخالفة الهوى إذا ظهرت أدلّة الحقّ ، وأن يقابلوا الضعفاء في حوائجهم بالثغر الباسم والوجه الطلق ؛ وألّا يعاملوا أحدا على الإحسان والإساءة إلا بما يستحقّ ، وأن يكونوا لمن تحت أيديهم من الرعايا إخوانا ، وأن يوسعوهم برّا وإحسانا ، وألّا يستحلّوا حرماتهم إذا استحلّ الزمان لهم حرمانا ، فالمسلم أخو المسلم ولو كان أميرا عليه وسلطانا. والسعيد من نسج ولاته في الخير على منواله ، واستنّوا بسنّته في تصرّفاته وأحواله ، وتحمّلوا عنه ما تعجز قدرته عن حمل أثقاله ؛ ومما يؤمرون به أن يمحى ما أحدث من سيّىء السّنن ، وجدّد من المظالم التي هي من أعظم المحن ، وأن يشترى بإبطالها المحامد ، فإنّ المحامد رخيصة بأغلى ثمن. ومهما جبي منها من الأموال فإنّما هي باقية في الدم حاصلة ، وأجياد الخزائن وإن

__________________

(١) اجترم : أذنب.

٧٢

أضحت بها حالية ؛ فإنّما هي على الحقيقة منها عاطلة ؛ وهل أشقى ممّن احتقب (١) إثما ، واكتسب بالمساعي الذميمة ذمّا ، وجعل السّواد الأعظم له يوم القيامة خصما ، وتحمّل ظلم الناس فيما صدر عنه من أعماله ، وقد خاب من حمل ظلما! وحقيق بالمقام الشريف المولويّ السلطان الملكيّ الظاهريّ الركنيّ أن تكون ظلامات الأنام مردودة بعدله ، وعزائمه تخفّف ثقلا لا طاقة له بحمله ؛ فقد أضحى على الإحسان قادرا ، وصنعت له الأيّام ما لم تصنعه لغيره ممّن تقدم من الملوك وإن جاء آخرا.

فاحمد الله على أن وصل إلى جانبك إمام هدى أوجب لك مزيّة التعظيم ، ونبّه الخلائق على ما فضّل الله به من هذا الفضل العظيم. وهذه أمور يجب أن تلاحظ وترعى ، وأن يوالى عليها حمد الله ؛ فإنّ الحمد يجب عليها عقلا وشرعا ، وقد تبيّن أنّك صرت في الأمور أصلا وصار غيرك فرعا. وممّا يجب أيضا تقديم ذكره أمر الجهاد الذي أضحى على الأمّة فرضا ، وهو العمل الذي يرجع به مسوّد الصحائف مبيضا.

وقد وعد الله المجاهدين بالأجر العظيم ، وأعدّ لهم عنده المقام الكريم ، وخصّهم بالجنّة التي لا لغو فيها ولا تأثيم.

وقد تقدّمت لك في الجهاد يد بيضاء أسرعت في سواد الجهاد ، وعرفت منك عزيمة هي أمضى ممّا تجنّه ضمائر الأغماد ، وأشهى إلى القلوب من الأعياد ، وبك صان الله حمى الإسلام من أن يبتذل ، وبعزمك حفظ على المسلمين نظام هذه الدول ؛ وسيفك أثّر في قلوب الكافرين قروحا لا تندمل ، وبك يرجى أن يرجع من الخلافة ما كان عليه في الأيّام الأول.

فأيقظ لنصرة الإسلام جفنا ما كان غافيا ولا هاجعا ، وكن في مجاهدة أعداء الله إماما متبوعا لا تابعا ، وأيّد كلمة التوحيد فما تجد في تأييدها إلّا مطيعا سامعا ، ولا تخل الثّغور من اهتمام بأمرها تبسم لك الثغور ، واحتفال يبدّل ما دجى من ظلماتها بالنور ، واجعل أمرها على الأمور مقدّما ، وشيّد منها كلّ ما غادره العدوّ منهدما ؛ فهذه حصون بها يحصل الانتفاع ، وهي على العدوّ داعية الافتراق والاجتماع ، وأولاها بالاهتمام ما كان البحر له مجاورا ، والعدوّ له ملتفتا ناظرا ؛ لا سيما ثغور الديار المصريّة ، فإنّ العدوّ وصل إليها وأتى وراح خاسرا ، واستأصلهم الله فيها حتّى ما أقال منها عاثرا. وكذلك أمر الأسطول الذي تزجى خيله كالأهلّة ، وركائب سائقه بغير سائق مستقلّة ، وهو أخو الجيش السّليمانيّ فإنّ ذاك غدت الرياح له حاملة ، وهذا تكفّلت بحمله المياه السائلة.

__________________

(١) احتقب الإثم : احتمله.

٧٣

وإذا لحظها جارية في البحر كانت كالأعلام ، وإذا شبّهها قال : هذه ليال تقلع بالأيام. وقد ساق الله لك من السعادة كلّ مطلب ، وآتاك من أصالة الرّأي الذي يريك المغيّب ، وبسط بعد القبض منك الأمل ، ونشّط بالسعادة ما كان من كسل. وهداك إلى مناهج الحقّ وما زلت مهتديا إليها ، وألزمك المراشد ولا تحتاج إلى تنبيه عليها. والله يمدّك بأسباب نصره ، ويوزعك شكر نعمه ، فإنّ النعمة تستتمّ بشكره!

ثمّ ركب السلطان بهذه الأبّهة والقيد في رجليه ، والطوق في عنقه ، والوزير بين يديه ، على رأسه التقليد ، والأمراء والدّولة مشاة سوى القاضي والوزير. فشقّ القاهرة وقد زيّنت له ؛ وكان يوما عظيما.

ثمّ طلب الخليفة من السلطان أن يجهّزه إلى بغداد ، فرتّب له جندا ، وأقام له كلّ ما يحتاج إليه ، وعزم عليه ألف ألف دينار. وسار السلطان صحبته إلى دمشق ، فدخلاها يوم الاثنين سابع ذي القعدة ، وصلّيا فيها الجمعة. ثمّ رجع السلطان إلى مصر وسار الخليفة ومعه ملوك الشرق ، ففتح الحديثة (١) ثم هيت ، (٢) فجاءه عسكر من التّتار فتصافّوا ، فقتل من المسلمين جماعة وعدم الخليفة ، فلا يدرى : أقتل أم هرب! وذلك في ثالث المحرّم سنة ستّين. فكانت خلافته دون ستّة أشهر.

وكان ممّن شهد الوقعة معه وهرب فيمن هرب أبو العبّاس أحمد بن الأمير أبي علي الحسن القبّي بن الأمير عليّ بن الأمير أبي بكر بن أمير المؤمنين المسترشد بالله فقصد الرّحبة (٣) ، وجاء إلى عيسى بن مهنّا ، فكاتب فيه الملك الظاهر فطلبه ، فقدم القاهرة ومعه ولده وجماعة ، فدخلها في سابع عشري ربيع الآخر فتلقّاه السلطان ، وأظهر السرور به ، وأنزله بقلعة الجبل ، وأغدق عليه ، واستمرّ بقيّة العام بلا مبايعة ، والسّكة تضرب باسم المستنصر المقتول أوّل العام.

فلما كان يوم الخميس ثامن المحرم سنة إحدى وستّين جلس السّلطان (٤) مجلسا عاما ، وجاء أبو العبّاس المذكور راكبا إلى الإيوان الكبير ، وجلس مع السلطان ، وذلك بعد ثبوت نسبه ، فقرىء نسبه على الناس ، ثمّ أقبل عليه السلطان (٥) وبايعه بإمرة

__________________

(١) في معجم البلدان : الحديثة : هناك بلدة بهذا الاسم تقع على دجلة تسمى حديثة الموصل ، وأخرى على الفرات على فراسخ من الأنبار.

(٢) في معجم البلدان : هيت : هي بلدة على الفرات من نواحي بغداد فوق الأنبار.

(٣) في معجم البلدان : الرحبة : رحبة مالك بن طوق بين الرقة وبغداد على شاطىء الفرات أسفل من قرقيسيا.

(٤) شذرات الذهب : ٥ / ٣٠٤.

(٥) السلطان الظاهر بيبرس البندقداري.

٧٤

المؤمنين. ثمّ أقبل هو على السلطان ، وقلّده الأمور ، ثمّ بايعه الناس على طبقاتهم ، ولقّب الحاكم بأمر الله وكان يوما مشهودا.

فلمّا كان من الغد يوم الجمعة خطب الخليفة بالناس ، فقال في خطبته :

الحمد لله الذي أقام لآل العبّاس ركنا وظهيرا ، وجعل لهم من لدنه سلطانا نصيرا. أحمده على السرّاء والضرّاء ، وأستعينه على شكر ما أسبغ من النّعماء ، وأستنصره على الأعداء ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأنّ محمدا عبده ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعلى آله وصحبه نجوم الاهتداء ، وأئمة الاقتداء لا سيما الأربعة الخلفاء ، وعلى العبّاس عمّه ، وكاشف غمّه ، وعلى السّادة الخلفاء الراشدين ، والأئمة المهديّين ، وعلى بقيّة الصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أيّها الناس ، اعلموا أنّ الإمامة فرض من فروض الإسلام ، والجهاد محتوم على جميع الأنام ، ولا يقوم علم الجهاد ، إلا باجتماع كلمة العباد ، ولا سبيت الحرم إلا بانتهاك المحارم ، ولا سفكت الدّماء إلّا بارتكاب المآثم ، فلو شاهدتم أعداء الإسلام حين دخلوا دار السّلام ، واستباحوا الدماء والأموال ، وقتلوا الرّجال والأطفال وسبوا الصبيان والبنات ، وأيتموهم من الآباء والأمهات ، وهتكوا حرم الخلافة والحريم ، وأذاقوا من استبقوا العذاب الأليم ؛ فارتفعت الأصوات بالبكاء والعويل ، وعلت الضجّات من هول ذلك اليوم الطويل ؛ فكم من شيخ خضّبت شيبته بدمائه ، وكم من طفل بكى فلم يرحم لبكائه! فشمّروا ساق الاجتهاد في إحياء فرض الجهاد.

(فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ، وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا ، وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر : ٩] ، فلم تبق معذرة في القعود عن أعداء الدين ، والمحاماة عن المسلمين.

وهذا السلطان الملك الظاهر ، السيّد الأجلّ العالم العادل المجاهد المؤيّد ، ركن الدنيا والدين ، قد قام بنصر الإمامة عند قلّة الأنصار ، وشرّد جيوش الكفر بعد أن جاسوا خلال الديار ، فأصبحت البيعة باهتمامه منتظمة العقود ، والدولة العباسيّة به متكاثرة الجنود.

فبادروا عباد الله إلى شكر هذه النعمة ، أخلصوا نيّاتكم تنصروا ، وقاتلوا أولياء الشيطان تظفروا ، ولا يرد عنكم ما جرى ؛ فالحرب سجال والعاقبة للمتّقين. والدهر يومان والآخر للمؤمنين ؛ جمع الله على التقوى أمركم ، وأعزّ بالإيمان نصركم ، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين. فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.

٧٥

ثمّ خطب الثانية ، ونزل فصلّى بالناس ، وكتب بيعته إلى الآفاق ليخطب له ، وتكتب السكّة باسمه.

قال أبو شامة : فخطب له بجامع دمشق وبسائر الجوامع يوم الجمعة سادس عشر المحرّم.

قال ابن فضل الله : ونقش اسمه على السّكّة ، وضرب بها الدينار والدرهم. قال : ثمّ خاف الظّاهر عاقبة أمره ، فأسكنه عنده في القلعة ، وعند حريمه وخدمه وغلمانه ، موسّعا عليه في النفقات والكساوى ، يتردّد إليه العلماء والقرّاء على أكمل ما يكون من أنواع الإكرام ، وملاحظة جانب الإجلال والمهابة ، ممنوعا من اجتماع أحد من أهل الدولة. ثمّ أسقط اسمه من سكّة النقود ، وأبقاه على المنابر.

ثمّ لاحظه الملك الأشرف خليل بن قلاوون (١) أتمّ من تلك الملاحظة ، ورعى لودّ نعمة الخلافة فيه حقّها ، من جميل المحافظة. انتهى.

قال غيره : وقد خطب بالقلعة مرّة ثانية يوم الجمعة رابع شوّال سنة تسعين بسؤال الملك الأشرف له في ذلك ، وذكر في خطبته توليته السّلطنة للأشرف. ثمّ خطب مرّة ثالثة بالمنصورية بحضرة السلطان والقضاة ، وحضّ على غزو التتار واستنقاذ بلاد العراق من أيديهم ؛ وذلك في ذي القعدة سنة تسعين (٢). ثمّ خطب مرّة رابعة في التاسع والعشرين من ربيع الأوّل سنة إحدى وتسعين ، وحثّ على الجهاد والنّفير ، وصلّى بالناس الجمعة ، وجهر بالبسملة.

قال الذهبي في العبر : آخر خليفة (٣) خطب يوم الجمعة الراضي بالله ، ولم يخطب بعده خليفة إلى الحاكم العبّاسيّ هذا ، فإنّه خطب في خلافته. انتهى.

قال ابن فضل الله : ثمّ لمّا ملك المنصور (٤) لاجين زاد في إكرامه وصرفه في

__________________

(١) استلم السلطنة يوم الأحد سابع ذي القعدة سنة تسع وثمانين وستمائة. [الخطط المقريزية : ٢ / ٢٣٨].

(٢) فيها سار الملك الأشرف خليل لفتح عكا. [الخطط المقريزية : ٢ / ٢٣٨].

(٣) وبقي في الخلافة أربعين سنة وأشهرا ، وهو التاسع والثلاثون من بني العباس. [شذرات الذهب : ٥ / ٣٠٥].

(٤) السلطان الملك المنصور حسام الدين لاجين المنصوري أحد مماليك المنصور قلاوون. وجلس على التخت بقلعة الجبل وتلقب بالملك المنصور في يوم الاثنين ثامن عشري المحرم سنة ست وتسعين وستمائة. [الخطط المقريزية : ٢ / ٢٣٩].

٧٦

الركوب والنزول ، فبرز إلى قصر الكبش (١) ، وسكن به. ثمّ إنه حجّ في سنة سبع وتسعين ، فأعطاه المنصور لاجين سبعمائة ألف درهم ، ورجع من الحجّ ، فأقام بمنزله إلى أن مات ليلة الجمعة ثامن عشر جمادى الأولى سنة إحدى وسبعمائة (٢) ، ودفن بجوار السيدة نفيسة في قبّة بنيت له ؛ وهو أوّل خليفة مات بها من بني العباس. وأرسل نائب السلطنة الأمير سلار (٣) خلف كلّ من في البلد من الأمراء والقضاة والعلماء والصّوفيّة ومشايخ الزوايا والرّبط وغيرهم ؛ حتّى حضروا الصلاة عليه.

وولي الخلافة بعده بعهد منه ولده أبو الربيع سليمان ، ولقّب المستكفي بالله ، وخطب له على المنابر بالبلاد المصريّة والشاميّة وسارت البشارة بذلك إلى جميع الأقطار والممالك الإسلامية.

قال ابن كثير : قدم البريد من القاهرة سادس جمادى الآخرة ، فأخبر بوفاة أمير المؤمنين الحاكم ومبايعة المستكفي ، وأنّه حضر جنازته الناس كلّهم مشاة.

فخطب يوم الجمعة تاسع جمادى الآخرة للخليفة المستكفي بجامع دمشق ، وكتب له تقليد بالخلافة ، وقرىء بحضرة السلطان والدولة يوم الأحد العشرين من ذي الحجّة ، ولم يكن السلطان أمضى له عهد والده ؛ حتّى سأل الشيخ تقيّ الدين بن دقيق العيد ـ وهو قاضي القضاة يومئذ ـ : هل يصلح للخلافة أم لا؟ فقال الشيخ تقيّ الدين : نعم يصلح ، وإنّما احتيج إلى ذلك لأنّه كان صغير السنّ ، لم يبلغ عشرين سنة ، فإنّ مولده في أربع وثمانين وستّمائة ، وكان له ابن أخ أسنّ منه ، فكان ينازعه الأمر ، فلمّا أشار الشيخ باستخلافه ، أمضى عهد والده ، وهذه صورة العهد :

الحمد لله الذي رفع المستكفى به لمّا انتصب بشريف همّته للمحلّ الأسمى ، ومنح الأمّة به ربيع خفض العيش ، وجزم أمرهم على الصّلاح والتوفيق جزما ، وأدام الأئمة من قريش ونظم لآلىء حكم أحكامهم في جيد الزمان نظما ، وجعل النّاس تبعا لهم في هذا الأمر ، فغيرهم بالخلافة المعظّمة لا يدعى ولا يسمّى ، فالحاكم الحسن المسترشد المستظهر بذخيرة الدّين القائم بأمر الله القادر المقتدر المعتضد الموفّق المتوكّل المعتصم الرشيد المهدي الكامل. من اقتفى لسنن سنّتهم رسما ، استودع

__________________

(١) الخطط المقريزية : ٢ / ١٣٣.

(٢) شذرات الذهب : ٦ / ٢.

(٣) نائب السلطان ، قتل سنة تسع وسبعمائة. [شذرات الذهب : ٦ / ١٩].

٧٧

الخلافة في بني العباس الّذي كان لنبيّه الكريم عمّا ، وفرّج عنه ليلة العقبة بمبايعة الأنصار كربة وغمّا ، فبشّره بأنّ الخلافة في عقبه فعمّه بالسرور عمّا. فلمّا انتهى ذلك السرّ في العوالم إلى الحاكم قيل وقد أمسكت هيبة الخلافة عن معرفة حقوقها العظيمة من كلّ عظيم فما (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) [الأنبياء : ٧٩].

أحمده حمد من لم يثن عن طاعته وطاعة رسوله وأولي الأمر عزما ، ويورّثها من يشاء من خلقه اختيارا ورغما ، وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الّذي دعا إلى مودّة أولي القربى ومن أفضل من قرابته زكاة وأقرب رحما ، صلى‌الله‌عليه‌وآله وصحبه وخلفائه وعترته ، الذين هم أعدل البريّة حكما ، وبعد :

فإنّ الملك السّلام منذ أسجد لآدم ملائكته الكرام في سالف الزمان قدما ، جعل طاعة خلفائه في بلاده على سائر عباده حتما ، كيف لا وبهم يعمر الوجود ، وتقام الحدود وتهدّم أركان الجحود هدما! فبحياتهم تأمن البلاد ، وربّما صادف قرب وفاتهم أن لبس القمر ليلة التّمّ حلّة السّواد وأخفى جرما. ولمّا كان سنّة من تقدّم من الأئمة الخلفاء إذا خاف أن يهجم عليه الحمام (١) هجما ، أو تهدى إليه الأيّام ألما وسقما ، تفويض الأمر بولاية العهد على الخلق لخير ذويه وبنيه نجدة وحزما ، أشهد على نفسه الشريفة مولانا الإمام الحاكم ـ والحاكم عليه تقواه ـ المراقب لله في سرّه ونجواه ، الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين وخليفة رب العالمين ، ابن عمّ سيّد المرسلين ، وارث الخلفاء الراشدين ، أبو العبّاس أحمد بن الأمير الحسن بن الأمير أبي بكر بن الأمير علي القبّي بن أمير المؤمنين الرّاشد بالله بن أمير المؤمنين المسترشد بالله أبي منصور الفضل ابن أمير المؤمنين المستظهر بالله أبي العباس أحمد بن أمير المؤمنين أبي القاسم عبد الله ابن المرحوم الذّخيرة للدّين وليّ عهد المسلمين محمد بن الإمام القائم بأمر الله أبي عبد الله محمد بن القادر بالله أبي العباس أحمد بن أمير المؤمنين أبي الفضل جعفر المقتدر بالله بن أمير المؤمنين المعتضد بالله أبي العباس بن الأمير محمد الموفّق بالله أبي طلحة وليّ عهد المسلمين بن أمير المؤمنين جعفر المتوكّل بن أمير المؤمنين أبي إسحاق محمد المعتصم بن أمير المؤمنين هارون الرّشيد بن أمير المؤمنين محمد المهديّ بن أمير المؤمنين عبد الله بن المنصور بن محمد الكامل بن عليّ السجّاد بن عبد الله حبر الأمّة ابن العبّاس بن عبد المطلب عمّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أعزّ الله به الدين ، وأمتع ببقاء نسله الشريف الإسلام والمسلمين ؛ وهو في حالة يسوغ معها الشهادة عليه ، ويرجع في الأمور المنوطة للخلافة الشريفة إليه :

__________________

(١) الحمام : الموت.

٧٨

أنّه عهد إلى ولده لصلبه الإمام المستكفي بالله أبي الربيع سليمان ، شيّد الله به أركان الإيمان ، ونصر ببركة سلفه العصابة المحمديّة على أهل الكفر والطغيان ، وجعله وليّ عهد ، واستخلفه ، من بعده ، لما علمه من أهليّته وعدالته وكفالته ، وصلاحه لذلك وكفايته ، وشخصه لشهود هذا المكتوب الشريف ، ونبّه على استحقاقه لذلك ومحلّه العالي المنيف ، عهدا صحيحا شرعيّا ، معتبرا تاما مرعيّا ، وفوّض إليه أمر الخلافة المعظّمة تفويضا شرعيّا صريحا ، وعقد له ولاية العهد على الأمّة عقدا صحيحا ، وقبل ذلك منه القبول الشرعيّ المعتبر المرضيّ ، فالله تعالى يجمع به كلمة الإسلام ، ويصحبه في خلافته الشريفة رأيا موفّقا ، ويقمع ببركة سلفه الكرام أهل الطغيان ، ويهيّئ له من أمره مرفقا ؛ بمنّه وكرمه آمين.

والحمد لله ربّ العالمين ، وصلاته على سيّد المرسلين نبيّه وآله وصحبه أجمعين. وبه شهد في اليوم المبارك السابع عشر من جمادى الأولى سنة إحدى وسبعمائة ، أحسن الله العقبى في ختامها ، وأجرى الخيرات فيما بقي من شهورها وأيامها ، وشهد عليه بذلك أربعة شهود ، ورسموا خطوطهم تحت نسخة العهد بما نصّه :

أشهدني مولانا الإمام جامع كلمة الإيمان ، ناظم شمل الإسلام ، سيّد الخلفاء الأعلام ، إمام المسلمين ، والمناضل عن شريعة سيّد المرسلين ـ الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين ، أعزّ الله به الدّين ، وأمتع ببقائه الإسلام والمسلمين ، على نفسه الزكيّة الشريفة ، وهو على الحالة التي يسوغ معها تحمّل الشهادة عليه بما نسب إليه أعلاه وشخّص ، إلى مولانا وسيّدنا الإمام المستكفي بالله أمير المؤمنين في التاريخ المذكور فيه ، وثبت هذا العهد على قاضي القضاة شمس الدين الحنفيّ.

وكتب صورة الإسجال بما نصّه :

ثبت إشهاد مولانا الإمام الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين ، سليل الأئمة المهديّين ، بركة الإسلام والمسلمين ، المنتظم به عقد جواهر زواهر أحكام الدين ، ابن عمّ سيّد المرسلين ، أبي العباس بن أحمد الرّاقي بهمّة شرفه أعالي الدّرجات ، المنقول برحمة الله ومنّه وحسن سيرته إلى روضات الجنّات ، المشار إليه بأعاليه ، قرن الله بمن خلّفه خلفه تأييدا وتسديدا وتوفيقا ، وقرّب له إلى مشاهدة ابن عمّه والخلفاء الراشدين في دار كرامته طريقا ، مع الذين أنعم عليهم من النبيّين والصدّيقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.

وإشهاد ولده لصلبه وليّ عهده المختار للخلافة الشريفة المعظّمة من بعده مولانا الإمام المستكفي بالله أبي الربيع سليمان ، ثبت الله به أركان الإيمان ، وسلك به مسالك الخلفاء الراشدين وآبائه الطاهرين التابعين له بإحسان ، وبارك للأمّة المحمّدية فيه ،

٧٩

ونصرهم ببركة سلفه على أهل الطغيان ، على أنفسهما الشريفة المكرّمة ، الطاهرة الزاكية المعظّمة ، بجميع ما نسب إليهما في كتاب العهد الشريف المسطّر بأعاليه ، على ما نصّ وشرح فيه المؤرّخ بالسابع عشر من جمادى الأولى سنة تارخ هذا الإسجال ، ثبوتا صحيحا شرعيّا ، معتبرا تامّا مرعيّا ، عند سيدنا ومولانا العبد الفقير إلى الله تعالى الكريم ، الحامد فيض فضله العميم ، قاضي القضاة ، حاكم الحكّام ، مفتي الأنام ، حجّة الإسلام ، عمدة العلماء الأعلام ، شمس الدين ، خالصة أمير المؤمنين ، أبي العباس أحمد بن الشيخ الصالح الورع الزاهد برهان الدين أبي إسحاق إبراهيم بن عبد الغني الحنفيّ ، عامله الله بلطفه الخفيّ ، الناظر في الحكم بالقاهرة ومصر المحروستين ، وسائر أعمال الديار المصريّة بالتولية الصحيحة الشرعية. أدام الله أيّامه الزاهرة ، وجمع له بين خيري الدنيا والآخرة ؛ وذلك بشهادة الشهود المعلم لهم بالأداء أعلاه ، بعد أن أقام كلّ واحد منهم شهادته بذلك بشروط الأداء المعتبرة ، وذلك أنّه شهد على مولانا الإمام الحاكم بأمر الله المشار إليه ، تغمّده الله بالرحمة والرضوان ، وأسكنه فسيح الجنان ؛ وهو على الحالة التي تسوغ معها الشهادة عليه أحسن الله في آخرته إليه. فقبل ذلك منه ، وأعلم له ما جرت به العادة من علامة الأداء والقبول على الرسم المعهود في مثله. وحكم مولانا قاضي القضاة شمس الدين الحاكم المذكور ، وقاه الله كلّ محظور ، بذلك كلّه الحكم الشرعيّ ، المعتبر المرعيّ ، وأجاز ذلك وأمضاه ، واختاره وارتضاه ، وألزم ما اقتضاه مقتضاه ، بسؤال من جازت مسألته ، وسوّغت في الشريعة المطهّرة إجابته ، وذلك بعد استيفاء الشرائط الشرعيّة ، والقواعد المحرّرة المرعيّة ، وتقدّم الدعوى المعتبرة المرضيّة. وتقدّم هذا الحاكم وفّقه الله لمراضيه ، وأعانه على ما هو متولّيه ، بكتابة هذا الإسجال ، فكتب عن إذنه الكريم على هذا المنوال ، بعد قراءته وقراءة ما يحتاج إلى قراءته من كتابه العهد الشريف المسطّر أعلاه ، على شهود هذا الإسجال ، وهو وهم يستمعون لذلك في اليوم المبارك من العشر الأخير من جمادى الأولى سنة إحدى وسبعمائة ، أحسن الله تقضّيها في خير وعافية.

وبايعه السلطان والقضاة والأعيان ، وألبس جبّة سوداء وطرحة (١) سوداء ، وخلع على أولاد أخيه خلع الأمراء ، وأشهد عليه أنه ولّى الملك الناصر (٢) جميع ما ولّاه والده ، وفوّضه إليه.

__________________

(١) الطرحة : الطيلسان ، أو غطاء الرأس.

(٢) الملك الناصر محمد بن قلاوون الذي أعيد إلى السلطنة مرّة ثانية يوم الاثنين سادس جمادى الأول سنة ثمان تسعين وستمائة. [الخطط المقريزية : ٢ / ٢٣٩].

٨٠