حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة - ج ٢

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي

حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة - ج ٢

المؤلف:

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨١
الجزء ١ الجزء ٢

وغدا الشرق يحسد الغرب للقو

م ومصر تزهو على بغداذ

ما حووها إلّا بعزم وحزم

وصليل الفؤاد في الفولاذ

لا كفرعون والعزيز ومن كا

ن بها كالخصيب والأستاذ

قال أبو شامة : يعني بالأستاذ كافور الإخشيديّ.

قال : وقد أفردت كتابا سمّيته : «كشف ما كان عليه بنو عبيد ، من الكفر والكذب والمكر والكيد». وكذا صنّف العلماء في الردّ عليهم كتبا كثيرة من أجلّها كتاب القاضي أبي بكر الباقلّانيّ الّذي سمّاه «كشف الأسرار وهتك الأستار».

صلاح الدين في مصر

ولما استقلّ السلطان صلاح الدين بأرض مصر ، أسقط عن أهلها المكوس والضرائب ، وقرأ المنشور بذلك على رؤوس الأشهاد يوم الجمعة بعد الصلاة ثالث صفر سنة سبع وستّمائة (١). واستولى على القصر وخزائنه وفيها من الأموال ما لا يحصى ؛ من ذلك سبعمائة يتيمة من الجوهر ، وقضيب زمرّد طوله أكثر من شبر (٢) وسمكه نحو الإبهام ، وعقد من ياقوت ، وإبريق عظيم من الحجر المائع إلى غير ذلك من التّحف ، ووجد خزانة كتب ليس في الإسلام لها نظير ، تشتمل على نحو ألفي ألف مجلّد منها بالخطوط المنسوبة مائة ألف مجلّد ، فأعطاها القاضي الفاضل. وأخذ السّلطان صلاح الدين في نصر السنّة وإشاعة الحقّ ، وإهانة المبتدعة والانتقام من الروافض ، وكانوا بمصر كثيرين.

صلاح الدين والفرنج

ثمّ تجرّدت همّته إلى الفرنج وغزوهم ؛ فكان من أمره معهم ما ضاقت به التواريخ ، واستردّ منهم ما كانوا استولوا عليه من بلاد الإسلام بالشام. من ذلك القدس الشريف ، فتحه ، بعد أن كان في يد الفرنج ... وأجلى ما بين الشام ومصر من الفرنج. ثمّ افتتح الحجاز واليمن من يد متغلّبيها وتسلّم دمشق بعد موت نور الدين ، فصار سلطان مصر والشام واليمن والحجاز.

قال ابن السبكي في الطبقات الكبرى : له من الفتوحات التي خلّصها من أيدي الفرنج قلعة أيلة ، طبريّة ، عكّا ، القدس ، الخليل ، الكرك ، الشّوبك ، نابلس ، عسقلان

__________________

(١) لعلّ الصواب : سبع وستين وخمسمائة. [الكامل لابن الأثير : ٩ / ١١١ ـ ١١٢].

(٢) في الكامل لابن الأثير : ٩ / ١١٢ : طوله أربع أصابع في عرض عقد كبير.

٤١

بيروت ، صيداء ، بيسان ، غزّة ، لدّ ، حيفا صفّوريه ، معليا ، الفولة ، الطّور ، إسكندرونة ، هفوس (١) ، يافا ، أرسوف ، قيساريّة ، جبل (٢) نبل (٣) معليكة (٤) ، عفربلا (٥) ، اللّجّون ، لستمة (٦) ، ياقون (٧) ، مجدل يابا ، تلّ الصافية ، بيت نوبا ، الطّرون (٨) ، الجيب ، البيرة ، بيت لحم ، ريحاء ، قرا (٩) واحصر ، الدّير (١٠) ، دمرا ، قلقيلية ، صرير (١١) ، الزّيت (١٢) ، الوعر (١٣) ، الهرمس (١٤) ، تفليسا (١٥) ، العازريّة ، تفرع (١٦) ، الكرك ، مجدل ، الحارغير (١٧) في جبل عاملة ، الشّقيف ، سبسطية ويقال : بها قبر زكرياء ، وجبيل ، وكوكب ، وأنطرطوس ، واللّاذقيّة ، وبكسرائيل (١٨) ، صهيون ، جبلة ، قلعة العبد (١٩) ، قلعة الجماهرية ، بلاطنس (٢٠) ، الشّغر ، بكاس ، وسمر سامية (٢١) ، برزية ، ودربساك ، وبغراس ، وصفد.

وله مصافّات يطول شرحها.

وافتتح كثيرا من بلاد النّوبة من يد النصاى ، وكانت مملكته من المغرب إلى تخوم العراق ومعها اليمن والحجاز ، فملك ديار مصر بأسرها مع ما انضمّ إليها من بلاد المغرب والشام بأسرها مع حلب وما والاها ، وأكثر ديار ربيعة وبكر والحجاز بأسره واليمن بأسره ، ونشر العدل في الرعيّة ، وحكم بالقسط بين البريّة ، وبنى المدارس والخوّانق ، وأجرى الأرزاق على العلماء والصّلحاء ، مع الدّين المتين والورع والزهد والعلم ، وكان يحفظ القرآن والتنبيه والحماسة. وهو الّذي ابتنى قلعة القاهرة على جبل

__________________

(١) غير موجود في معجم البلدان. (٢) غير موجود في معجم البلدان.

(٣) غير موجود في معجم البلدان. (٤) غير موجود في معجم البلدان.

(٥) عفربلا : بلد بغور الأردن قرب بيسان وطبرية. (٦) غير موجود في معجم البلدان.

(٧) في معجم البلدان : ياقين ، من قرى بيت المقدس.

(٨) في معجم البلدان : الطرون حصن بين بيت المقدس والرملة.

(٩) لعل المقصود : قرا حصار : في معجم البلدان : اسم لأماكن كثيرة ومدن جليلة غالبها في بلاد الروم ، منها قرا حصار على يوم من أنطاكية. ومنها قرا حصار قرب قيسارية [ولعلّها هي المقصودة].

(١٠) لعلّ المقصود : الداروم ، في معجم البلدان : قلعة بعد غزة للقاصد إلى مصر ، خرّبها صلاح الدين لما ملك الساحل سنة ٥٨٤ ه‍.

(١١) لعل المقصود : صرّين : في معجم البلدان : هو بلد بالشام.

(١٢) لعل المقصود : الزّيب : في معجم البلدان : قرية كبيرة على ساحل بحر الشام قرب عكا.

(١٣) لعل المقصود : الوعيرة : في معجم البلدان : حصن من جبال الشراة قرب وادي موسى.

(١٤) لعل المقصود : هرمز : في معجم البلدان : قلعة بوادي موسى بين القدس والكرك.

(١٥) غير موجود في معجم البلدان. (١٦) غير موجود في معجم البلدان.

(١٧) غير موجود في معجم البلدان.

(١٨) في معجم البلدان : بكسرائيل : حصن من سواحل حمص مقابل جبلة في الجبل.

(١٩) في الكامل لابن الأثير : ٩ / ١٩٢ : حصن العيد.

(٢٠) في معجم البلدان : بلاطنس حصن منيع بسواحل الشام مقابل اللاذقية من أعمال حلب.

(٢١) لعلّ الصواب : سرمينية. [انظر الكامل لابن الأثير : ٩ / ١٩٣].

٤٢

المقطّم التي هي الآن دار السلاطين ، ولم يكن السلاطين يسكنون قبلها إلا دار الوزارة بالقاهرة ، وفتح من بلاد المسلمين حرّان ، وسروج ، والرّها والرّقّة ، والبيرة ، وسنجار ، ونصيبين ، وآمد. وملك حلب ، والمواريخ وشهرز. وحاصر الموصل إلى أن دخل صاحبها تحت طاعته ، وفتح عسكره طرابلس الغرب وبرقة من بلاد المغرب ، وكسر عسكر تونس ، وخطب بها لبني العباس. ولو لم يقع الخلف بين عسكره الذين جهّزهم إلى المغرب لملك الغرب بأسره ، ولم يختلف عليه مع طول مدّته أحد من عسكره على كثرتهم. وكان النّاس يأمنون ظلمه لعدله. ويرجون رفده لكثرته ، ولم يكن لمبطل ولا لصاحب هزل عنده نصيب. وكان إذا قال صدق ، وإذا وعد وفى ، وإذا عاهد لم يخن.

صفات صلاح الدين ووفاته

كان رقيق القلب جدّا ، ورحل إلى الإسكندرية بولديه الأفضل والعزيز (١) لسماع الحديث من السّلفيّ (٢) ، ولم يعهد ذلك لملك بعد هارون الرشيد ، فإنّه رحل بولديه الأمين والمأمون إلى الإمام مالك لسماع الموطّأ. هذا كلّه كلام السبكي في الطبقات.

قال : ومن الكتب والمراسيم عنه في النّهي عن الخوض في الحرف والصوت ؛ وهو من إنشاء القاضي الفاضل : (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ...) [الأحزاب : ٦٠] ، الآية ، خرج أمرنا إلى كلّ قائم في صفّ ، أو قاعد في أمام وخلف ؛ ألّا نتكلم في الحرف بصوت ، ولا في الصّوت بحرف ، ومن تكلّم بعدها كان الجدير بالتّكليم ، (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) [النور : ٦٣] ، ويسأل النواب القبض على مخالفي هذا الخطاب ، وبسط العذاب ، ولا يسمع لمتفقّه في ذلك تحرير جواب ، ولا يقبل عن هذا الذنب متاب. ومن رجع إلى هذا الإيراد بعد الإعلان ؛ وليس الخبر كالعيان ، رجع أخسر من صفقة أبي غبشان (٣) ، وليعلن بقراءة هذا الأمر على المنابر ، وليعلم به الحاضر والبادي ليستوي فيه البادي والحاضر ، والله يقول الحقّ وهو يهدي السبيل.

ومن صنائع السلطان صلاح الدين أنّ أسقط المكوس والضرائب عن الحجّاج

__________________

(١) الأفضل نور الدين علي ، والعزيز عثمان. [الكامل لابن الأثير : ٩ / ٢٢٦].

(٢) في الخطط المقريزية : ٢ / ٦٢٣٤ وسمع بها موطأ الإمام مالك على الفقيه أبي طاهر بن عوف.

(٣) في الكامل لابن الأثير : ٢ / ١١ : فجعل حليل فتح باب الكعبة وإغلاقه إلى ابنه المحترش وهو أبو غبشان ، فاشترى قصيّ منه ولاية البيت بزقّ خمر وبعود ، فضربت به العرب المثل ، فقالت : أخسر صفقة من أبي غبشان.

٤٣

بمكّة ، وقد كان يؤخذ منهم شيء كثير ، ومن عجز عن أدائه حبس ، فربّما فاته الوقوف بعرفة ، وعوّض أميرها ثمال إقطاعا بديار مصر ، يحمل إليه منه في كلّ سنة ثمانية آلاف أردبّ غلّة ، لتكون عونا له ولأتباعه ، وقرّر للمجاورين أيضا غلّات تحمل إليهم وصلات ، فرحمة الله عليه في سائر الأوقات ، فلقد كان إماما عادلا ، وسلطانا كاملا لم بل مصر بعد الصّحابة مثله ، لا قبله ولا بعده!

وقد كان الخليفة المستضيء أرسل إليه في سنة أربع وسبعين خلعا سنيّة جدّا ، وزاد في ألقابه «معزّ أمير المؤمنين». ثمّ لمّا ولي الخليفة الناصر في سنة ستّ وسبعين أرسل إليه خلعة الاستمرار ، ثم أرسل إليه في سنة اثنتين وثمانين يعاتبه في تلقيبه بالملك الناصر ، مع أنّه لقب أمير المؤمنين ، فأرسل يعتذر إليه بأنّ ذلك كان من أيّام الخليفة المستضيء ، وأنّه إن لقّبه أمير المؤمنين بلقب ، فهو لا يعدل عنه ، وتأدّب مع الخليفة غاية الأدب.

قال العماد : وقد كان للمسلمين لصوص يدخلون إلى خيام الفرنج فيسرقون ، فاتّفق أنّ بعضهم أخذ صبيّا رضيعا من مهده ابن ثلاثة أشهر ، فوجدت عليه أمّه وجدا شديدا ، واشتكت إلى ملوكهم ؛ فقالوا لها : إنّ سلطان المسلمين رحيم القلب ، فاذهبي إليه ، فجاءت إلى السلطان صلاح الدين فبكت ، وشكت أمر ولدها ، فرقّ لها رقّة شديدة ، ودمعت عيناه ، فأمر بإحضار ولدها ، فإذا هو بيع في السوق ، فرسم بدفع ثمنه إلى المشتري ، ولم يزل واقفا حتّى جيء بالغلام ، فدفعه إلى أمّه ، وحملها على فرس إلى قومها مكرّمة.

واستمرّ السلطان صلاح الدين على طريقته العظيمة ؛ من مثابرة الجهاد للكفّار ، ونشر العدل ، وإبطال المكوس (١) والمظالم ، وإجراء البرّ والمعروف إلى أن أصيب به المسلمون ، وانتقل بالوفاة إلى رحمة الله تعالى ليلة الأربعاء سادس (٢) عشري صفر سنة تسع وثمانين وخمسمائة ، وله من العمر سبع وخمسون سنة. وعمل الشعراء فيه مراثي كثيرة ، من ذلك قصيدة للعماد الكاتب ، مائتان وثلاثون بيتا أوّلها :

شمل الهدى والملك عمّ شتاته

والدّهر ساء وأقلعت حسناته

بالله أين النّاصر الملك الّذي

لله خالصة صفت نيّاته؟

أين الّذي ما زال سلطانا لنا

يرجى نداه وتتّقى سطواته؟

__________________

(١) انظر الخطط المقريزية : ٢ / ٢٣٣.

(٢) في الخطط المقريزية : ٢ / ٢٣٥ : سابع عشري.

٤٤

أين الذي شرف الزمان بفضله

وسمت على الفضلاء تشريفاته؟

أين الّذي عنت الفرنج لبأسه

ذلّا ومنها أدركت ثاراته؟

أغلال أعناق العدا أسيافه

أطواق أجياد الورى منّاته

قال العماد وغيره : لم يترك في خزانته من الذهب سوى دينار واحد صوريّ وستة وثلاثين درهما ، ولم يترك دارا ولا عقارا ولا مزرعة ، ولا شيئا من أنواع الأملاك ، وترك سبعة عشر ولدا ذكرا وابنة واحدة.

وكان متدينا في مأكله ومشربه ومركبه وملبسه ، فلا يلبس إلا القطن والكتّان والصّوف ، وكان يواظب في الجماعة ، ويواظب سماع الحديث ، حتّى أنّه سمع في بعض المصافّات جزءا وهو بين الصّفين ويتبجّح بذلك ، وقال : هذا موقف لم يسمع فيه أحد حديثا.

وبالجملة فمناقبه الحميدة كثيرة لا تستقصى إلا في مجلّدات ، وقد أفرد سيرته بالتصنيف جماعة من العلماء والزّهاد والأدباء ، وكان به عرج في رجله ، فقال فيه ابن عنّين الشاعر :

سلطاننا أعرج وكاتبه

ذو عمش والوزير منحدب

قال ابن فضل الله في المسالك : ومن غرائب الاتّفاق أنّ الشيخ علم الدين السخاويّ مدح السلطان صلاح الدين ، ومدحه الأديب رشيد الدين الفارقيّ ، وبين وفاتيهما مائة سنة.

وذكر اليافعيّ في روض الرياحين أنّ السلطان صلاح الدين كان من الأولياء الثلاثمائة ، وأنّ السلطان محمودا كان من الأولياء الأربعين.

[مصر بين العزيز والمنصور والأفضل والعادل]

وقام بمصر من بعده ولده الملك العزيز عماد الدين أبو الفتح عثمان ، وكان نائب أبيه بها في حياته مدّة اشتغاله بفتح البلاد الشاميّة ، فاستقلّ بها بعد وفاته ، فسار سيرة حسنة بعفّة عن الفرج والأموال ، حتّى إنه ضاق ما بيده ، ولم يبق في الخزانة لا درهم ولا دينار ، فجاءه رجل يسعى في قضاء الصّعيد بمال فامتنع ، وقال : والله لا بعت دماء المسلمين وأموالهم بملك الأرض. وسعى آخر في قضاء الإسكندريّة بأربعين ألف

٤٥

دينار ، وحملها إليه فلم يقبلها ، ولم يزل إلى أن مات (١) في المحرّم سنة خمس وتسعين ، وله سبع (٢) أو ثمان وعشرون سنة ، ودفن في قبّة الإمام الشافعيّ.

فأقيم ولده ناصر الدين محمد ، ولقّب المنصور ، فاستمرّ إلى رمضان سنة ستّ وتسعين ، ثمّ استفتى عمّ أبيه العادل سيف الدين أبو بكر بن أيّوب بن شاذي الفقهاء في عدم صحّة مملكته لكونه صغيرا ابن عشر سنين ، فأفتوا بأن ولايته لا تصحّ ، فنزع ، وأقيم الملك العادل. وقيل إنّ العادل أخذها (٣) من الأفضل عليّ بن السلطان صلاح الدين ، وكان الأفضل غلب عليها ، وانتزعها من المنصور ، وأرسل العادل إلى الخليفة يطلب التقليد بمصر والشام ، فأرسله إليه مع الشهاب السّهرورديّ ، فكان يصيف بالشام ويشتي بمصر ، وينتقل في البلاد إلى أن مات (٤) يوم الجمعة سابع جمادى الآخرة سنة خمس عشرة وستّمائة.

ومن قول ابن عنّين فيه :

إنّ سلطاننا الذي نرتجيه

واسع المال ضيّق الإنفاق

هو سيف كما يقال ولكن

قاطع للرّسوم والأرزاق (٥)

والعادل أوّل من سكن قلعة الجبل بمصر من الملوك ، سكنها في سنة أربعين (٦) وستّمائة ، ونقل إليها أولاد العاضد وأقاربه في بيت في صورة حبس ، وكان ابنه الملك الكامل ناصر الدين أبو المعالي محمد ينوب عنه بمصر في أيام غيبته ، فاستقلّ بها بعد وفاته.

[الفرنج في دمياط]

وفي هذه السنة نزلت الفرنج على دمياط (٧) ، وأخذ برج السّلسلة ، وكان حصنا

__________________

(١) وكان سبب موته أنه خرج إلى الصيد ، فوصل إلى الغيوم متصيّدا فرأى ذئبا ، فركض فرسه في طلبه فعثر الفرس فسقط عنه في الأرض ولحقته حمّى. [الكامل لابن الأثير : ٩ / ٢٤٣].

(٢) في الخطط المقريزية : ٢ / ٢٣٥ : سبع وعشرين سنة وأشهر.

(٣) في الخطط المقريزية : ٢ / ٢٣٥ : فكاتب أمراء الدولة الملك الأفضل علي بن صلاح الدين ... فاستولى على الأمور ... وخرج العادل في أثر الأفضل إلى بلبيس فكسره والتجأ إلى القاهرة وطلب الصلح ، فعوّضه العادل صرخد ، ودخل العادل إلى القاهرة.

(٤) في الخطط المقريزية : مات في مرج الصفر وحمل إلى دمشق.

(٥) لأن نهر النيل قلت مياهه في عهده وغلت الأسعار وتعذر وجود الأقوات حتى أكلت الجيف وحتى أكل الناس بعضهم بعضا. [الخطط المقريزية : ٢ / ٢٣٥].

(٦) لعلّ الصواب : أربع وستمائة.

(٧) في رابع ربيع الأول سنة ٦١٥ ه‍ : [الخطط المقريزية : ٢ / ٢٣٥].

٤٦

منيعا ، وهو قفل بلاد مصر ، وصفته أنّه في وسط جزيرة في النيل عند انتهائه إلى البحر ؛ ومن هذا البرج إلى دمياط وهي على شاطىء البحر وحافّة النّيل سلسلة ، ومنه إلى الجانب الآخر وعليه الجسر سلسلة أخرى ، ليمنع دخول المراكب من البحر إلى النيل ، فلا يتمكن من البلاد ، فلمّا ملكت الفرنج هذا البرج شقّ ذلك على المسلمين بديار مصر وغيرها ، ووصل الخبر إلى الملك العادل وهو بمرج الصّفراء (١) ، فتأوّه تأوّها شديدا ، ودقّ بيده على صدره أسفا وحزنا ، ومرض من ساعته مرض الموت.

ثمّ في سنة ستّ عشرة استحوذ الفرنج على دمياط ، وجعلوا الجامع كنيسة لهم ، وبعثوا بمنبره وبالرّبعات ورؤوس القتلى إلى الجزائر ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون! واستمرّت بأيديهم إلى سنة سبع عشرة.

وكان الكامل (٢) عرض عليهم أن يردّ إليه بيت المقدس وجميع ما كان صلاح الدين فتحه من بلاد السواحل ويتركوا دمياط ؛ فامتنعوا من ذلك ؛ فقدّر الله أنّ ضاقت عليهم الأقوات ، فقدمت عليهم مراكب فيها ميرة ، فأخذها الأسطول البحريّ ، وأرسلت المياه إلى أراضي دمياط من كلّ ناحية ، فلم يمكنهم بعد ذلك أن يتصرّفوا في أنفسهم ، وحصرهم المسلمون من الجهة الأخرى ؛ حتّى اضطرّوهم إلى أضيق الأماكن ، فعند ذلك أنابوا إلى المصالحة بلا معارضة ، وكان يوما مشهودا ، ووقع الصّلح على ما أراد الكامل ، ومدّ سماطا عظيما ، وقام راجح الحلّيّ (٣) فأنشد :

هنيئا فإنّ السّعد أضحى مخلّدا

وقد أنجز الرّحمن بالنّصر موعدا

حبانا إله الخلق فتحا بدا لنا

مبينا وإنعاما وعزّا مؤيّدا

إلى أن قال :

أعبّاد عيسى إنّ عيسى وحزبه

وموسى جميعا يخدمون محمّدا

وكان حاضرا حينئذ الملك المعظّم عيسى والملك الأشرف موسى ابنا الملك العادل.

قال أبو شامة : وبلغني أنّه لما أنشد هذا البيت ، أشار إلى الملك المعظّم عيسى والأشرف موسى والكامل محمد ؛ فكان ذلك من أحسن شيء اتّفق ، وتراجعت الفرنج إلى عكّا وغيرها من البلدان. قال الحافظ شرف الدين الدمياطي في معجمه : أنشدنا أبو

__________________

(١) في معجم البلدان : مرج الصفر : ويقع قرب دمشق.

(٢) الملك الكامل ناصر الدين أبو المعالي محمد ، وهو ابن الملك العادل. [الخطط المقريزية : ٢ / ٢٣٥].

(٣) راجح بن اسماعيل الحلي الأديب شرف الدين ، مدح الملوك بمصر والشام والجزيرة ، توفي في شعبان سنة ٦٢٧ ه‍. [شذرات الذهب : ٥ / ١٢٣].

٤٧

زكريا يحيى بن يوسف الصّرصريّ (١) لنفسه ببغداد ، وقد ورد كتاب من ديار مصر إلى الديوان بانتصار المسلمين على الرّوم وفتح ثغر دمياط :

أتانا كتاب فيه نسخة نصرة

ألخّص معناها لذي فطن جلد

يقول ابن أيّوب المعظّم حامدا

لربّ السماء الواحد الصمد الفرد

أمرنا بحمد الله جلّ ثناؤه

وعز أرى دفريس في طالع السّعد

تركنا من الأعلاج بالسيف مطعنا

ثلاثين ألفا للقشاعم والأسد (٢)

ومنهم ألوف أربعون بأسرنا

فكم ملك في قبضنا صار كالعبد

ودمياط عادت مثل ما بدأت لنا

ويافا ملكناها ، فيا لك من جدّ!

ونحن على أن نملك السّيف كلّه

على ثقة ممّن له خالص الحمد

ألا يا بن أيّوب لقد نلت غاية

من النّصر ضاهت ما بلغت من المجد

قهرت فرنج الرّوم قهرا سماعه

يقسم ذلّ الرعب في التّرك والسّغد (٣)

وما نلت أسباب العلا عن كلالة

ولم يأتك المجد المؤثّل من بعد

ولكن ورثت الملك والفضل عن أب

جليل وعن عمّ نبيل وعن جدّ

لجأت إلى ركن شديد ومعقل

منيع وكنز جامع جوهر المجد

إلى فاتح باب الرشاد ببعثه

وخاتم ميثاق النبوّة والعهد

إلى الشافعي المنجي الوجيه محمد

فأحسنت في صدق التوجّه والقصد

فمهما تجد من كيد ضدّ مضاغن

بوجه به تظفر وتنصر على الضدّ

فلا صدّ عن عزّ سوابق مجدكم

كلال ولا غالى الكلول سبا الحدّ

إلى أن تذيق الرّوم في عقر دارهم

زعافا وتسقي المؤمنين جنى الشّهد

ولما تولّى المستنصر (٤) الخلافة أرسل إلى الكامل محي الدين يوسف (٥) بن الشيخ

__________________

(١) سبقت ترجمته ، توفي سنة ٦٥٦ ه‍. ونسبته إلى صرصر قرية على فرسخين من بغداد. [شذرات الذهب : ٥ / ٢٨٥].

(٢) القشعم : النسر العظيم أو المسن منه ومن الرخم.

(٣) في معجم البلدان : الصغد : كورة عجيبة قصبتها سمرقند.

(٤) تولّى المستنصر بالله أبو جعفر المنصور الخلافة بعد والده الظاهر بأمر الله سنة ٦٢٣ ه‍. [الكامل لابن الأثير : ٩ / ٣٦٩].

(٥) سبقت ترجمته ، وكان سفير الخلافة وأستاذ دار المستعصم بالله ، ولد سنة ٥٨٠ ه‍ ، قتل شهيدا عند دخول هولاكو بغداد مع أولاده الثلاثة سنة ٦٥٦ ه‍. [شذرات الذهب : ٥ / ٢٨٦].

٤٨

أبي الفرج بن الجوزيّ ، ومعه كتاب عظيم فيه تقليده الملك ، وفيه أوامر كثرة مليحة من إنشاء الوزير نصير الدين أحمد بن الناقد ؛ رأيت بخطّ قاضي القضاة عزّ الدين بن جماعة ، قال : وقفت على نسخة تقليد من الخليفة المنصور أبي جعفر المستنصر بالله أمير المؤمنين بخطّ وزيره أبي الأزهر أحمد بن الناقد في رجب سنة نيّف وعشرين وستمائة للملك الكامل :

الحمد لله الذي اطمأنّت القلوب بذكره ، ووجب على الخلائق جزيل حمده وشكره ووسعت كلّ شيء رحمته ، وظهرت في كلّ أمر حكمته ، ودلّ على وحدانيّته بعجائب ما أحكم صنعا وتدبيرا ، وخلق كلّ شيء فقدّره تقديرا ، ممدّ الشاكرين بنعمائه التي لا تحصى عددا ، وعالم الغيب الّذي لا يظهر على غيبه أحدا ؛ لا معقّب لحكمه في الإبرام والنقض ، ولا يؤده حفظ السماوات والأرض ، تعالى أن يحيط به الضّمير ، وجلّ أن يبلغ وصفه البيان والتفسير ؛ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.

وأحمد الله الذي أرسل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالحق بشيرا ونذيرا ، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ، وابتعثه هاديا للخلق ، وأوضح به مناهج الرّشد وسبل الحقّ ، واصطفاه من أشرف الأنساب وأعزّ القبائل ، وجعله أعظم الشّفعاء وأقرب الوسائل ، فقذف صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالحقّ على الباطل ، وحمل النّاس بشريعته على المحجّة البيضاء والسّنن العادل ؛ حتّى استقام اعوجاج كلّ زائغ ، ورجع إلى الحقّ كلّ حائد عنه ومائل ، وسجد لله كلّ شيء تتفيّأ ظلاله على اليمين والشمائل ؛ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الكرام الأفاضل ، صلاة مستمرّة بالغدوات والأصائل ، خصوصا على عمّه وصنو أبيه العبّاس بن عبد المطلب الّذي اشتهرت مناقبه في المجامع والمحافل ، ودرّت ببركة استسقائه أخلاف السّحب الهواطل ، وفاز من تنصيص الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الخلافة المعظّمة بما لم يفز به أحد من الأوائل.

والحمد لله الذي حاز مواريث النبوّة والإمامة ، ووفّر من جزيل الأقسام من الفضل والكرامة ، لعبده وخليفته ، ووارث نبيّه ومحيي شريعته وسنّته.

ولمّا وفّق الله نصير الدين محمد بن سيف الدين أبي بكر بن أيّوب من الطاعة المشهورة ، والخدم المشكورة ، أنعم عليه بتقليد شريف إماميّ ، فقلّده على خيرة الله الرّعاية والصلاة وأعمال الحرب والمعاون والأحداث والخراج والضياع والصّدقات والجوالي وسائر وجوه الجبايات ، والقرض والعطاء ، والنفقة في الأولياء ، والمظالم والحسبة في بلاده ، وما يفتتحه ويستولي عليه من بلاد الفرنج الملاعين ، وبلاد من تبرز إليه الأوامر الشريفة بقصده من المارقين عن الإجماع المنعقد بين علماء المسلمين. ومنه

٤٩

أمره بتقوى الله تعالى الّتي هي الجنّة (١) الواقية ؛ والنعمة الباقية ، والملجأ المنيع ، والعماد الرفيع ، والذّخيرة النافعة في السرّ والنّجوى ، والجذوة المقتبسة من قوله تعالى : (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى) [البقرة : ١٩٧] ، وأن يدرع شعارها في جميع الأقوال ، ويهتدى بأنوارها من مشكلات الأمور والأحوال ، وأن يعمل بها سرّا وجهرا ، ويشرح للقيام بحدودها الواجبة صدرا ، قال الله تعالى : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً) [الطلاق : ٥] ، وأمره بتلاوة كتاب الله تعالى ، متدبّرا غوامض عجائبه ، سالكا سبيل الرشاد ، والهداية في العمل به ، وأن يجعله مثالا يتّبعه ويقتفيه ، ودليلا يهتدى بمراشده الواضحة في أوامره ونواهيه ؛ فإنّه النّفل الأعظم ، وسبب الله المحكم ، والدّليل الذي يهدي للتي هي أقوم ؛ ضرب الله فيه لعباده جوامع الأمثال ، وبيّن لهم بهداه مسالك الرّشد والضّلال ، وفرّق بدلائله الواضحة ونواهيه الصادقة بين الحرام والحلال ، فقال عزّ من قائل : (هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران : ١٣٨] ، وقال تعالى : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) [ص : ٢٩].

وأمره بالمحافظة على مفروض الصّلوات والدخول فيها على أكمل هيئة من قوانين الخشوع والإخبات (٢) ، وأن يكون نظره في موضع نجواه من الأرض ، وأن يمثل لنفسه في ذلك موقفه بين يدي الله تعالى يوم العرض ، وقال تعالى : (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) [المؤمنون : ٢] ، وقال سبحانه : (إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) [النساء : ١٠٣] ، وألّا يشتغل بشاغل عن أداء فروضها الواجبة ، ولا يلهو بسبب عن إقامة سنّتها الراتبة ، فإنّها عماد الدّين التي سمت أعاليه ، ومهاد الشّرع الذي رست قواعده ومبانيه ، وقال تعالى : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) [البقرة : ٤٣٨] ، وقال تعالى : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) [العنكبوت : ٤٥].

وأمره أن يسعى إلى صلاة الجمع والأعياد ، ويقوم في ذلك بما فرضه الله عليه وعلى العباد ، وأن يتوجّه إلى المساجد والجوامع متواضعا ، ويبرز إلى المصلّيات الضاحية في الأعياد خاشعا ، وأن يحافظ في تشييد قواعد الإسلام على الواجب والمندوب ، ويعظّم باعتماده ذلك شعائر الله الّتي هي من تقوى القلوب.

وأن يشمل بوافر اهتمامه واعتنائه ، وكمال نظره وإرعائه ، بيوت الله التي هي محالّ

__________________

(١) الجنّة : السترة وما يتّقى به.

(٢) الإخبات : الاطمئنان إلى الله والخشوع أمامه.

٥٠

البركات ، ومواطن العبادات ، والمساجد التي تأكّد في تعظيمها وإجلالها حكمه ، والبيوت التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه ، وأن يرتّب لها من الخدم من يتبتّل لإزالة أدناسها ، ويتصدّى لإذكاء مصابيحها في الظلام وإيناسها ، ويقوم لها بما يحتاج إليه من أسباب الصلاح والعمارات ، ويحضر إليها ما يليق من الدّهن والكسوات.

وأمره باتّباع سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الّتي أوضح جددها ، وثقّف عليه‌السلام أودها ، وأن يعتمد فيها على الأسانيد التّي نقلتها الثقات ، والأحاديث الّتي صحّت بالطرق السليمة والروايات ، وأن يقتدي بما جاءت به من مكارم الأخلاق التّي ندب صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى التمسك بسببها ، ورغّب أمته في الأخذ بها والعمل بأدبها ، قال الله تعالى : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) [الحشر : ٧] ، وقال سبحانه وتعالى : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) [النساء : ٨٠].

وأمره بمجالسة أهل العلم والدين ، وأولي الإخلاص في طاعة الله واليقين ، والاستشارة بهم في عوارض الشكّ والالتباس ، والعمل بآرائهم في التمثيل والقياس ؛ فإنّ في الاستشارة بهم عين الهداية ، وأمنا من الضلال والغواية وألّا يلقح عقم الأفهام والألباب ، ويقتدح زناد الرشد والصواب ، قال الله تعالى في الإرشاد إلى فضلها ، والأمر في التمسك بحبلها : (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) [آل عمران : ١٥٩].

وأمره بمراعاة أحوال الجند والعسكر في ثغوره ، وأن يشملهم بحسن نظره وجميل تدبيره ، مستصلحا شأنهم بإدامة التلطّف والتعهّد ، مستوضحا أحوالهم بمواصلة التفحّص عنها والتفقّد ، وأن يسوسهم بسياسة تبعثهم على سلوك المنهج السليم ، ويهديهم في انتظامها واتّساقها إلى الصراط المستقيم ، ويحملهم على القيام بشرائط الخدم ، والتّمسّك منها بأقوى الأسباب وأمتن العصم ، ويدعوهم إلى مصلحة التواصل والائتلاف ، ويصدّهم عن موجبات التخاذل والاختلاف ، وأن يعتمد فيهم شرائط الحزم في الإعطاء والمنع ، وما تقتضيه مصلحة أحوالهم من أسباب الخفض والرفع ؛ وأن يثيب المحسن منهم على إحسانه ، ويسبل على المسيء ما وسعه العفو واحتمل الأمر ذيل صفحه وامتنانه ، وأن يأخذ برأي ذوي التجارب منهم والحنكة ، ويجتني بمشاورتهم ثمر البركة ؛ إذ في ذلك أمن من خطأ الانفراد ، وتزحزح عن مقام الزّيغ والاستبداد.

وأمره بالتبتّل لما يليه من البلاد ، ويتّصل بنواحيه من ثغور أولي الشّرك والعناد ؛ وأن يصرف مجامع الالتفات إليها ، ويخصّها بوفور الاهتمام بها والتطلّع عليها ، وأن يشمل ما ببلاده من الحصون والمعاقل بالإحكام والإتقان ، وينتهي في أسباب مصالحها إلى غاية الوسع والإمكان ، وأن يشحنها بالميرة الكثيرة والذخائر ، ويمدّها من الأسلحة والآلات بالعدد المستصلح الوافر ، وأن يتخيّر لحراستها من الأمناء الثّقات ، ويسدّها بمن

٥١

ينتخبه من الشجعان الكماة ، وأن يؤكّد عليهم في استعمال أسباب الحيطة والاستظهار ، ويوقظهم إلى الاحتراس من غوائل الغفلة والاغترار ، وأن يكون المشار إليهم ممن تربّوا في ممارسة الحروب على مكافحة الشدائد ، وتدرّبوا في نصب الحبائل للمشركين والأخذ عليهم بالمراصد ، وأن يعتمد هذا القبيل بمواصلة المدد ، وكثرة العدد ، والتّوسعة في النفقة والعطاء ، والعمل معهم بما يقتضيه حالهم وتفاوتهم في التقصير والعناء ، إذ في ذلك حسم لمادة الأطماع في بلاد الإسلام ، وردّ لكيد المعاندين من عبدة الأصنام ؛ فمعلوم أنّ هذا الفرض أول ما وجّهت إليه العنايات وصرفت ، وأحقّ ما قصرت عليه الهمم ووقفت ؛ فإنّ الله تعالى جعله من أهمّ الفروض التي لزم القيام فيها بحقّه ، وأكبر الواجبات التي كتب العمل بها على خلقه ، فقال سبحانه وتعالى هاديا في ذلك إلى سبيل الرشاد ، ومحرّضا لعباده على قيامهم له بفرض الجهاد : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ ...) [التوبة : ١٢٠] ، إلى قوله تعالى : (لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [التوبة : ٢١] ، وقال تعالى : (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) [البقرة : ١٩١] ، وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من نزل منزلا يخيف فيه المشركين ويخيفونه ، كان له كأجر ساجد لا يرفع رأسه إلى يوم القيامة ، وأجر قائم لا يقعد إلى يوم القيامة ، وأجر صام لا يفطر» .. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «غدوة في سبيل الله أو روحة خير ممّا طلعت عليه الشمس» ، هذا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حقّ من سمع هذه المقالة فوقف لديها ، فكيف بمن كان قال عليه‌السلام : «ألا أخبركم بخير النّاس! ممسك بعنان فرسه في سبيل الله ، كلّما سمع هيعة (١) طار إليها».

وأمره باقتفاء أوامر الله تعالى في رعاياه ، والاهتداء إلى رعاية العدل والإنصاف والإحسان بمراشده الواضحة ووصاياه ؛ وأن يسلك في السياسة به سبيل الصّلاح ويشملهم بلين الكنف وخفض الجناح ، ويمد ظلّ رعايتهم على مسلمهم ومعاهدهم ، ويزحزح الأقذاء والشوائب عن مناهلهم في العدل ومواردهم ، وينظر في مصالحهم نظرا يساوي فيه بين الضعيف والقويّ ، ويقوم بأودهم قياما تهتدي به ويهديهم إلى الصراط السويّ ؛ قال الله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ ...) [النحل : ٩٠].

وأمره باعتماد أسباب الاستظهار والأمنة واستقصاء الطاقة المستطاعة والقدرة الممكنة ، في المساعدة على قضاء تفث (٢) حجّاج بيت الله الحرام ، وزوّار نبيّه عليه أفضل الصلاة والسلام ، وأن يمدّهم بالإعانة في ذلك على تحقيق الرجاء وبلوغ المرام ،

__________________

(١) الهيعة : صوت تفزع منه وتخافه من عدوّ.

(٢) التفث : الوسخ.

٥٢

ويحرسهم من التخطّف والأذى في حالتي الظّعن والمقام ؛ فإنّ الحجّ أحد أركان الدين المشتدة ، وفروضه الواجبة المؤكّدة ، قال تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) [الحج : ٩٧].

وأمره بتقوية أيدي العاملين بحكم الشّرع في الرّعايا ، وتنفيذ ما يصدر عنهم من الأحكام والقضايا ، والعمل بأقوالهم فيما يثبت لذوي الاستحقاق ، والشدّ على أيديهم فيما يرونه من المنع والإطلاق ، وأنّه متى تأخّر أحد الخصمين عن إجابة داعي الحكم ، أو تقاعس في ذلك لما يلزم من الأداء والغرم ، جذبه بعنان القسر إلى مجلس الشّرع ، واضطره بقوّة الأنصار إلى الأداء بعد المنع ، وأن يتوخّى عمّال الوقوف الّتي تقرّب المتقربون بها ، واستمسكوا في ظلّ ثواب الله بمتين سببها ، وأن يمدّهم بجميل المعاونة والمساعدة ، وحسن المؤازرة والمعاضدة ، في الأسباب التي تؤذن بالعمارة والاستنماء ، ويعود عليها بالمصلحة والاستخلاص والاستيفاء ، قال تعالى : (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى) [المائدة : ٢].

وأمره أن يتخيّر من أولي الكفاية والنزاهة من يستخلصه للخدم والأعمال ، والقيام بالواجب ؛ من أداء الأمانة والحراسة والتمييز لبيت المال ، وأن يكونوا من ذوي الاطّلاع بشرائط الخدم المعيّنة وأمورها ، والمهتدين إلى مسالك صلاحها.

[شعر]

قال الصلاح الصّفديّ في تاريخه : حكى صاحب كتاب الإشعار بما للملوك من النوادر والأشعار ، قال : كان الملك الكامل ليلة جالسا فدخل عليه مظفّر (١) الأعمى ، فقال له أجزيا مظفّر :

قد بلغ الشوق منتهاه

فقال مظفّر :

وما درى العاذلون ما هو

فقال السّلطان :

ولي حبيب رأى هواني

__________________

(١) هو مظفر بن ابراهيم بن جماعة ... العيلاني الشاعر الضرير ، ولد سنة ٥٤٤ ه‍ بمصر ، توفي سنة ٦٢٣ ه‍. [شذرات الذهب : ٥ / ١١١].

٥٣

فقال مظفّر :

وما تغيّرت عن هواه

فقال السّلطان :

رياضة النفس في احتمال

فقال مظفّر :

وروضة الحسن في حلاه

فقال السلطان :

أسمر لدن القوام ألمى (١)

فقال مظفّر :

يعشقه كلّ من يراه

فقال السّلطان :

وريقه كلّه مدام

فقال مظفّر :

ختامه المسك من لماه

فقال السّلطان :

ليلته كلّها رقاد

فقال مظفّر :

وليلتي كلّها انتباه

فقال السلطان :

__________________

(١) الألمى : من كان بشفته لمى ، أي سمرة.

٥٤

وما يرى أن أكون عبدا

فقام مظفّر على قدميه ، وقال :

بالملك الكامل احتماه

العالم العامل الذي في

كل صلاة ترى إياه

ليث وغيث وبدر تمّ

ومنصب جلّ مرتقاه

قال الحافظ عبد العظيم المنذريّ : أنشأ الملك الكامل دار الحديث بالقاهرة ، وعمر القبّة على ضريح الشافعيّ ، وأجرى الماء من بركة الحبش (١) إلى حوض السبيل والسّقاية على باب القبّة المذكورة ، ووقف غير ذلك من الوقوف على أنواع البرّ ، وله المواقف المشهودة بدمياط ، وكان معظّما للسّنّة وأهلها ، قال الذهبيّ : وكانت له إجازة من السّلفيّ ، وخرّج له أبو القاسم بن الصّفراويّ أربعين حديثا سمعها من جماعة.

وقال ابن خلكان : اتّسعت المملكة للملك الكامل ، حتّى قال خطيب مكّة مرّة عند الدعاء له : سلطان مكّة وعبيدها ، واليمن وزبيدها ، ومصر وصعيدها ، والشام وصناديدها ، والجزيرة ووليدها ، سلطان القبلتين ، وربّ العلامتين ، وخادم الحرمين الشريفين ، الملك الكامل أبو المعالي ناصر الدين محمد خليل أمير المؤمنين.

وكانت وفاته بدمشق يوم الأربعاء حادي عشري رجب سنة خمس وثلاثين وستّمائة.

[الملك العادل سيف الدين أبو بكر ، ثمّ الملك الصالح نجم الدين

أيوب]

وأقيم بعده ولده الملك العادل أبو بكر ، وكان نائب أبيه بمصر مدّة غيبته ، فبلغ أخاه الأكبر الملك الصالح نجم الدين أيّوب بن الكامل صاحب حصن كيفا (٢) ، فقدم ،

__________________

(١) بركة الحبش وهي في ظاهر مدينة الفسطاط من قبليها فيما بين الجبل والنيل. [الخطط المقريزية : ٢ / ١٥٢].

(٢) في معجم البلدان : حصن كيفا : قلعة عظيمة مشرفة على دجلة بين آمد وجزيرة ابن عمر من ديار بكر.

٥٥

وبرز العادل إلى بلبيس قاصدا للقتال ، فاختلفت عليه الأمراء ، فقيّدوه واعتقلوه ، وأرسلوا إلى الصالح أيّوب فوصل إليهم ، فملّكوه ، وذلك في صفر (١) سنة سبع وثلاثين. فأقام في الملك عشر سنين إلّا أربعة أشهر. وكان مهيبا جدّا ، دبر المملكة على أحسن وجه ، وبنى المدارس الأربعة بين القصرين ، وعمّر قلعة بالروضة ، واشترى ألف مملوك وأسكنهم بها ، وسمّاهم البحريّة ، وهو الذي أكثر من شراء الترك وعتقهم وتأميرهم ، ولم يكن ذلك قبله ، فقام الشيخ عزّ الدين بن عبد السلام القومة الكبرى في بيع أولئك الأمراء ، وصرف ثمنهم في مصالح المسلمين ، وقال بعض الشعراء :

الصالح المرتضى أيّوب أكثر من

ترك بدولته ، يا شرّ مجلوب!

قد آخذ الله أيّوبا بفعلته

فالنّاس كلّهم في ضرّ أيّوب

ولما تولّى الخليفة المستعصم أنفذ الصالح إليه رسوله ، يطلب تقليدا بمصر والشام ، فجاءه التشريف والطّوق الذهب والمركوب ، فلبس التشريف الأسود والعمامة والجبّة ، وركب الفرس ، وكان يوما مشهودا.

[هجوم الفرنج ووفاة الملك الصالح]

فلما كان سنة سبع وأربعين ، هجمت الفرنج على دمياط ، فهرب من كان فيها ، واستحوذوا عليها ، والملك الصالح مقيم بالمنصورة لقتالهم ، فأدركه أجله ومرض ومات بها ليلة النصف من شعبان ، فأخفت جاريته شجرة الدرّ موته ، وبقيت تعلم بعلامته سواه ، وأعلمت أعيان الأمراء ، فأرسلوا إلى ابنه الملك المعظّم توران شاه وهو بحصن كيفا ، فقدم في ذي القعدة (٢) ، وملّكوه ، فركب في عصائب الملك ، وقاتل الفرنج وكسرهم ، وقتل منهم ثلاثين ألفا ، ولله الحمد.

وكان في عسكر المسلمين الشيخ عزّ الدين بن عبد السلام ، وكانت النّصرة أوّلا للفرنج ، وقويت الرّيح على المسلمين ، فقال الشيخ عزّ الدين بأعلى صوته مشيرا بيده إلى الريح : يا ريح خذيهم ، عدّة مرار ، فعادت الريح على مراكب الفرنج فكسرتها ، وكان الفتح ، وغرق أكثر الفرنج ، وصرخ من المسلمين صارخ : الحمد لله الذي أرانا في أمة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجلا سخّر له الريح ، وكان ذلك في يوم الأربعاء ثالث المحرّم. وأسر

__________________

(١) في الخطط المقريزية : ٢ / ٢٣٦ : جلس على سرير الملك رابع عشري ذي القعدة.

(٢) فأعلن حينئذ بموت الصالح ، ولم يكن أحد قبل ذلك يتفوّه بموته. [الخطط المقريزية : ٢ / ٢٣٦].

٥٦

الفرنسيس ملك الفرنج ، وحبس مقيّدا بدار ابن لقمان ، ووكل بحفظه طواشي يقال له صبيح. ثمّ نفرت قلوب العسكر من المعظّم لكونه قرّب مماليكه ، وأبعد مماليك أبيه ، فقتلوه في يوم الاثنين سابع (١) عشر المحرّم وداسوه بأرجلهم ، وكانت مملكته شهرين.

قال ابن كثير وقد رئي أبوه الصالح في النوم بعد قتل ابنه ، وهو يقول :

قتلوه شرّ قتله

صار للعالم مثله

لم يراعوا فيه إلّا

لا ولا من كان قبله

ستراهم عن قريب

لأقلّ الناس أكله

فكان كذلك ، وقع بعد ذلك قتال بين المصريين والشاميّين ، وعدم من المصريين طائفة كثيرة.

[شجرة الدر]

واتفقوا بعد قتل المعظّم على تولية شجر (٢) الدرّ أمّ خليل جارية الملك الصالح ، فملّكوها ، وخطب لها على المنابر ، فكان الخطباء يقولون بعد الدعاء للخليفة : واحفظ اللهمّ الجهة الصالحة ملكة المسلمين ، عصمة الدّنيا والدّين ، أمّ خليل المستعصميّة ، صاحبة السلطان الملك الصالح. ونقش اسمها على الدينار والدرهم ، وكانت تعلم على المناشير وتكتب : والدة خليل. ولم يل مصر في الإسلام امرأة قبلها.

ولمّا وليت تكلّم الشيخ عزّ الدين بن عبد السلام في بعض تصانيفه على ما إذا ابتلي المسلمون بولاية امرأة ، وأرسل الخليفة المستعصم يعاتب أهل مصر في ذلك ويقول : إن كان ما بقي عندكم رجل تولّونه ، فقولوا لنا نرسل إليكم رجلا.

ثم اتّفقت شجر الدّرّ والأمراء على إطلاق الفرنسيس (٣) ، بشرط أن يردّوا دمياط إلى المسلمين ، ويعطوا ثمانمائة ألف دينار عوضا عمّا كان بدمياط من الحواصل ، ويطلقوا أسراء المسلمين. فأطلق على هذا الشّرط ، فلمّا سار إلى بلاده أخذ في الاستعداد والعود إلى دمياط ، فندمت الأمراء على إطلاقه ؛ وقال الصاحب جمال الدين بن مطروح ـ وكتب بها إليه :

__________________

(١) في الخطط المقريزية : ٢ / ٢٣٦ : تاسع عشري المحرم سنة ٦٤٨ ه‍.

(٢) في الخطط المقريزية : ٢ / ٢٣٧ : شجرة الدرّ الصالحية الملكة عصمة الدين أمّ خليل.

(٣) في الخطط المقريزية : ٢ / ٢٣٧ : وكانت البحرية قد تسلّمت مدينة دمياط من الملك رواد فرنس بعدما قرر على نفسه أربعمائة ألف دينار.

٥٧

قل للفرنسيس إذا جئته

مقال صدق من قؤول نصيح

آجرك الله على ما جرى

من قتل عبّاد يسوع المسيح

أتيت مصر تبتغي ملكها

تحسب أن الزّمر بالطّبل ريح

فساقك الحين إلى أدهم

ضاق به عن ناظريك الفسيح

وكلّ أصحابك أودعتهم

بحسن تدبيرك بطن الضّريح

تسعين ألفا لا ترى منهم

إلّا قتيلا أو أسيرا جريح

وفّقك الله لأمثالها

لعلّ عيسى منكم يستريح

إن كان باباكم بذا راضيا

فرب غشّ قد أتى من نصيح

وقل لهم إن أضمروا عودة

لأخذ ثأر أو لعقد صحيح :

دار ابن لقمان على حالها

والقيد باق والطّواشي صبيح

فلم ينشب الفرنسيس أن أهلكه الله ، وكفى المسلمين شرّه ، وأقامت شجر الدرّ في المملكة ثلاثة أشهر ، ثمّ عزلت نفسها. واتّفقوا على أن يملّكوا الملك الأشرف موسى بن صلاح الدين يوسف بن المسعود بن الملك الكامل ، فملّكوه وله ثمان سنين (١) ، وذلك في يوم الأربعاء ثالث جمادى الأولى سنة ثمان وأربعين. وجعل عزّ الدين أيبك التركمانيّ مملوك الصالح أتابكه ، وخطب لهما ، وضربت السكّة باسمهما ، وعظم شأن الأتراك من يومئذ ، ومدّوا أيديهم إلى العامّة ، وأحدث وزيره الأسعد (٢) الفائزيّ ظلامات ومكوسا كثيرة.

[الملك المعزّ عز الدين أيبك الجاشنكير التركماني]

ثمّ إنّ عز الدين خلع الملك الأشرف (٣) واستقلّ بالسلطنة في سنة اثنتين وخمسين ، ولقّب الملك المعزّ ؛ وهو أوّل من ملك مصر من الأتراك ، وممّن جرى عليه الرّقّ ، فلم يرض النّاس بذلك حتى أرضى الجند بالعطايا الجزيلة ، وأمّا أهل مصر فلم يرضوا بذلك ، ولم يزالوا يسمعونه ما يكره إذا ركب ويقولون : لا نريد إلا سلطانا رئيسا ولد على الفطرة ، وكان المعزّ تزوّج شجر الدرّ.

ثم إنه خطب ابنة صاحب الموصل ، فغارت شجر الدر فقتلته (٤) في أواخر ربيع

__________________

(١) في الخطط المقريزية : ٢ / ٢٣٧ : ست سنوات.

(٢) في الخطط المقريزية : الأسعد هبة الله الفائزي.

(٣) وهو آخر ملوك بني أيوب في مصر.

(٤) في الخطط المقريزية : ٢ / ٢٣٨ : قتلته شجرة الدر في الحمام ليلة الأربعاء رابع عشري ربيع الأول.

٥٨

الأوّل سنة خمس وخمسين ، وأقيم بعده ولده عليّ ولقّب المنصور ، وعمره نحو خمس عشرة سنة ، فأقام سنتين وثمانية أشهر ، وفي أيامه أخذ التتار بغداد ، وقتل الخليفة.

[الملك المظفر سيف الدين قطز]

ثم إنّ الأمير سيف الدين قطز مملوك المعزّ قبض على المنصور ، واعتقله في أواخر ذي القعدة سنة سبع وخمسين ؛ وتملّك مكانه ، ولقّب بالملك المظفّر بعد أن جمع الأمراء والعلماء والأعيان ، وأفتوا بأنّ المنصور صبيّ (١) لا يصلح للملك ، لا سيّما في هذا الزمان الصعب الذي يحتاج إلى ملك شهم مطاع لأجل إقامة الجهاد ، والتتار قد وصلوا البلاد الشاميّة ، وجاء أهلها إلى مصر يطلبون النّجدة ؛ وأراد قطز أن يأخذ من الناس شيئا ليستعين به على قتالهم ؛ فجمع العلماء ، فحضر الشيخ عزّ الدين بن عبد السلام فقال : لا يجوز أن يؤخذ من الرعيّة شيء حتّى لا يبقى في بيت المال شيء ، وتبيعوا مالكم من الحوائص والآلات ، ويقتصر كلّ منكم على فرسه وسلاحه ، وتتساووا في ذلك أنتم والعامة. وأما أخذ أموال العامة مع بقاء ما في أيدي الجند من الأموال والآلات الفاخرة فلا. ولم يكن قطز هذا مرقوق الأصل ، ولا من أولاد الكفر.

فقال الجزريّ في تاريخه : كان قطز في رقّ ابن الزعيم ، فضربه أستاذه فبكى ، فقيل له : تبكي من لطمة؟! فقال : إنّما أبكي من لعنة أبي وجدّي ، وهما خير منه ، فقيل : من أبوك! واحد كافر. قال : ما أنا إلّا مسلم ، أنا محمود بن مودود بن أخت خوارزم شاه من أولاد الملوك.

وخرج المظفّر بالجيوش في شعبان سنة ثمان وخمسين [وستمائة] متوجّها إلى الشام لقتال التتار وشاويشه (٢) ركن الدين بيبرس البندقداريّ ، فالتقوا هم والتتار عند عين جالوت ، ووقع المصافّ يوم الجمعة خامس عشري رمضان ، فهزم التتار (٣) شرّ هزيمة ، وانتصر المسلمون ولله الحمد ، وجاء كتاب المظفّر إلى دمشق بالنصر ، فطار الناس فرحا ، ثم دخل المظفّر إلى دمشق مؤيّدا منصورا ، فأحبّه الخلق غاية المحبّة ، وقال بعض الشعراء في ذلك :

__________________

(١) في الخطط المقريزية : وكان عمره خمس عشرة سنة.

(٢) لفظة تركية تعني قائد قوات الاستطلاع التي تسير أمام الجند. الأعلاق الخطيرة.

(٣) وكان التتار قد ملكوا بغداد وقتلوا الخليفة المستعصم بالله وخربوا بغداد وديار بكر وحلب. [الخطط المقريزية : ٢ / ٢٣٨].

٥٩

هلك الكفر في الشآم جميعا

واستجدّ الإسلام بعد دحوضه

بالمليك المظفّر الملك الأر

وع سيف الإسلام عند نهوضه

وقال الإمام أبو شامة رحمه‌الله في ذلك شعرا :

غلب التّتار على البلاد فجاءهم

من مصر تركيّ يجود بنفسه

بالشّام أهلكهم وبدّد شملهم

ولكلّ شيء آفة من جنسه

وساق بيبرس وراء التتار إلى حلب ، وطردهم عن البلاد ، ووعده السلطان بحلب. ثمّ رجع عن ذلك ، فتأثّر بيبرس ووقعت الوحشة بينهما ، فأضمر كلّ لصاحبه الشرّ ، فاتّفق بيبرس مع جماعة من الأمراء على قتل المظفّر ، فقتلوه في الطريق في سادس عشر ذي القعدة سنة ثمان وخمسين بين العرابي والصالحيّة ، وتسلطن بيبرس (١) ، ولقّب بالملك القاهر ، ودخل مصر (٢) وأزال عن أهلها ما كان المظفّر أحدثه عليهم من المظالم ، وأشار عليه الوزير زين الدين أن يغيّر هذا اللقب ، وقال : ما تلقّب به أحد فأفلح ؛ فأبطل السلطان هذا اللقب ، وتلقّب بالملك الظّاهر.

[أرجوزة الجزّار في الأمراء المصرية]

وقد نظم الأديب جمال الدين المصري المعروف بالجزّار (٣) الشاعر المشهور أرجوزة سمّاها «العقود الدرّية في الأمراء المصرية» ، ضمّنها أمراء مصر من عمرو بن العاص إلى الملك الظاهر هذا ، فقال :

الحمد لله العليّ ذكره

ومن يفوق كلّ أمر أمره

أحمده وهو وليّ الحمد

على توالي برّه والرّفد

__________________

(١) وهو أحد المماليك البحرية ، ولد في حدود العشرين وستّمائة ، واشتراه الأمير علاء الدين البندقداري الصالحي ... وشهد موقعة المنصورة بدمياط ، ثم كان أميرا في الدولة المعزية وغازيا مجاهدا عظيم الهيبة ، وفتح من البلاد أربعين حصنا كانت مع الفرنج. [شذرات الذهب : ٥ / ٣٥٠].

(٢) وجلس على تخت السلطنة في سابع عشر ذي القعدة سنة ثمان وخمسين وستمائة حتى مات بدمشق يوم الخميس سابع عشري المحرم سنة ست وسبعين وستمائة. [الخطط المقريزية : ٢ / ٢٣٨].

(٣) الجزار الأديب جمال الدين أبو الحسين يحيى بن عبد العظيم المصري الأديب الفاضل ، كان جزّارا ثم استرزق بالمدح ، وشاع شعره في البلاد وتناقلته الرواة وكان كثير التبذير. توفي في شوال سنة تسع وسبعين وستمائة ، وله ست وسبعون سنة ، ودفن بالقرافة. [شذرات الذهب : ٥ / ٣٦٤].

٦٠