حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة - ج ٢

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي

حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة - ج ٢

المؤلف:

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨١
الجزء ١ الجزء ٢

وذلك لمّا صعب عليها السكنى في القصور ، ومفارقة ما اعتادته من الفضاء. وكان الهودج على شاطىء النيل في شكل غريب ، ولم يزل الآمر يتردّد إليه للنّزهة فيه ، إلى أن ركب إليه يوما ، فلمّا كان برأس الجسر ، وثب عليه قوم كانوا كمنوا له بالروضة ، فضربوه بالسكاكين حتّى أثخنوه ، وذلك يوم الأربعاء رابع ذي القعدة سنة أربع وعشرين وخمسمائة ، ونهب سوق الجزيرة ذلك اليوم.

قال ابن المتوّج : اشترى الملك المظفّر تقيّ الدين عمر بن شاهنشاه بن أيّوب جزيرة مصر المشهورة بالرّوضة من بيت المال المعمور في شعبان سنة ستّ وعشرين وخمسمائة (١) ، وبقيت على ملكه إلى أن سيّر السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب ولده الملك العزيز عثمان إلى مصر ، ومعه عمّه الملك العادل ، وكتب إلى الملك المظفّر أن يسلّم لهما البلاد ، ويقدم عليه إلى الشام ، فلمّا ورد عليه الكتاب ، ووصل ابن عمّه الملك العزيز وعمّه الملك العادل ، شقّ عليه خروجه من الديار المصرية ، وتحقّق أنه لا عود له إليها أبدا ، فوقف مدرسة التي تعرف في مصر بالمدرسة التقويّة ؛ وكانت قديما تعرف بمنازل (٢) العزّ على الفقهاء الشافعية ، ووقف عليها جزيرة الروضة بكمالها ، ووقف أيضا مدرسة بالفيّوم ، وسافر إلى عمّه صلاح الدين إلى دمشق ، فملّكه حماة ، ولم يزل الحال كذلك إلى أن ولي الملك الصالح نجم الدين أيّوب ، فاستأجر الجزيرة من القاضي فخر الدين أبي محمد عبد العزيز بن قاضي القضاة عماد الدين أبي القاسم عبد الرحمن بن محمد المعروف بابن السكريّ مدرّس المدرسة المذكورة لمدّة ستين سنة في دفعتين : كلّ دفعة قطعة ، فالقطعة الأولى من جامع عين إلى المنظر طولا وعرضا من البحر إلى البحر ، واستأجر القطعة الثانية ، وهي باقي أرض الجزيرة الدائر عليها بحر النيل حين ذاك ، واستولى على ما كان بالجزيرة من النخل والجمّيز والغروس فكأنّه لما عمر الملك الصالح مناظر قلعة الجزيرة قطعت النخل ، ودخلت في العمائر.

وأما الجمّيز فإنّه كان بشاطئ بحر النيل صفّ جمّيز يزيد على أربعين شجرة ، وكان أهل مصر فرجهم تحتها في زمن النّيل والربيع ، قطعت جميعها في الدولة الظاهريّة ، وعمّر بها شواني (٣) عوض الشواني التي كان سيّرها إلى جزائر قبرص ، وتكسّرت هناك ، واستمرّ تدريس المدرسة التقوية بيد القاضي فخر الدين إلى حين

__________________

(١) في الخطط المقريزية : ٢ / ٣٦٤ : وستين.

(٢) انظر الخطط المقريزية : ٢ / ٣٦٤.

(٣) في الجيش العربي لإحسان هندي : ١٦٨ : الشونة هي المركب المعد للجهاد في البحر : ويجهّز في أيام الحرب بالسلاح والنفطية ويحشد بالمقاتلة أو الجنود البحرية.

٣٢١

وفاته ، ثمّ وليها بعده ولده القاضي عماد الدين أبو الحسن عليّ ، وفي أيامه تسلّم له القطعة المستأجرة من الجزيرة أولا ، وبقي بيد السلطنة القطعة الثانية إلى الآن ، وكان الإفراج عنهما في شهور سنة ثمان وتسعين وستمائة في الدولة الناصرية ، ولم يزل القاضي عماد الدين مدرّسها إلى حين وفاته ، فوليها ولده وهو مدرّسها الآن في شعبان سنة أربع عشرة وسبعمائة. هذا كلّه كلام ابن المتوج.

ولم تزل الرّوضة متنزّها ملوكيّا ، ومسكنا للناس إلى أن تسلطن الملك الصالح نجم الدين أيّوب بن الكامل محمد ، فأنشأ بالرّوضة قلعة ، واتّخذها سرير ملك ، فعرفت بقلعة المقياس (١) وبقلعة الروضة ، وبقلعة الجزيرة وبالقلعة الصالحية. وكان الشّروع في حفر أساسها يوم الأربعاء خامس شعبان سنة ثمان وثلاثين وستمائة ، ووقع الهدم في الدّور والقصور والمساجد التي كانت بجزيرة الروضة ، وتحوّل الناس من مساكنهم الّتي كانت بها ، وهدم كنيسة كانت لليعاقبة بجانب المقياس ، وأدخلها في القلعة ، وأنفق في عمارتها أموالا جمّة ، وبنى فيها الدور والقصور ، وعمل لها ستّين برجا ، وبنى بها جامعا ، وغرس بها جميع الأشجار ، ونقل إليها من البرابي العمد الصوّان والعمد الرخام ، وشحنها بالأسلحة وآلات الحرب وما يحتاج إليها من الغلال والأقوات خشية من محاصرة الفرنج فإنّهم كانوا حينئذ على عزم قصد بلاد مصر.

وبالغ في إتقانها مبالغة عظيمة ؛ حتّى قيل إنه استقام كلّ حجر فيها بدينار ، وكلّ طوبة بدرهم ، وكان الملك الصالح يقف بنفسه ، ويرتّب ما يعمل ، فصارت تدهش من كثرة زخرفها ، ويحيّر الناظر إليها حسن سقوفها المقرنصة (٢) ، وبديع رخامها. ويقال إنّه قطع من الموضع الذي أنشأ فيه هذه القلعة ألف نخلة مثمرة ، وكان رطبها يهدى إلى ملوك مصر لحسن منظره وطيب طعمه. وخرب البستان المختار والهودج ، وهدم ثلاثة وثلاثين مسجدا كانت بالروضة ، وأدخلت في القلعة.

واتفق له في بعض المساجد خبر عجيب ؛ قال الحافظ جمال الدين يوسف بن أحمد اليغموري : سمعت الأمير جمال الدين موسى بن يغمور بن جلدك ، يقول : من عجيب ما شاهدته من الملك الصالح ، أنّه أمرني أن أهدم مسجدا بجزيرة مصر ، فأخّرت ذلك ، وكرهت أن يكون هدمه على يدي ، فأعاد الأمر ، وأنا أكاسر عنه ؛ فكأنّه فهم منّي ذلك ، فاستدعى بعض خدمه وأنا غائب ، وأمره أن يهدم ذلك المسجد ، وأن يبني في

__________________

(١) الخطط المقريزية : ٢ / ١٨٣.

(٢) في الخطط المقريزية : ٢ / ١٨٣ : المزيّنة.

٣٢٢

مكانه قاعة ، وقدّر له صفتها ، فهدم ذلك المسجد ، وعمّر تلك القاعة مكانه وكملت.

وقدم الفرنج على الديار المصريّة ، وخرج الملك الصالح مع عساكره إليهم ، ولم يدخل تلك القاعة التي بنيت في مكان المسجد ، فتوفّي السلطان بالمنصورة ، وجعل في مركب ، وأتي به إلى الروضة فجعل في تلك القاعة التي بنيت مكان المسجد مدّة إلى أن بنيت له التربة التي في جنب مدرسته بالقاهرة. وكان النيل في القديم محيطا بالرّوضة طول السنة ، وكان فيما بين ساحل مصر والروضة جسر من خشب ، وكذلك فيما بين الروضة والجيزة جسر من خشب يمرّ عليهما الناس والدوابّ من مصر إلى الروضة ، ومن الروضة إلى الجيزة ؛ وكان هذان الجسران من مراكب مصطفّة بعضها بحذاء بعض ، وهي موثّقة ، ومن فوق المراكب أخشاب ممتدّة فوقها تراب.

وكان عرض الجسر ثلاث قصبات ، ولم يزل هذا الجسر قائما إلى أن قدم المأمون مصر ، فأحدث جسرا جديدا ، فاستمرّ الناس يمرّون عليه ، وكان عبور العساكر التي قدمت من المعزّ مع جوهر القائد على هذين الجسرين ، وكان الجسر المتّصل بالروضة كرسيّه حيث المدرسة الخروبية قبلي در النحاس ، وكان النّيل عندما عزم الملك الصالح على عمارة قلعة الروضة قد انطرد عن برّ مصر ، ولا يحيط بالرّوضة إلّا في أيام الزيادة ، فلم يزل يغرق السفن في ناحية الجيزة ، ويحفر فيما بن الروضة ومصر ما كان هناك من الرّمال ، حتّى عاد ماء النيل إلى برّ مصر ، واستمرّ هناك ، فأنشأ جسرا عظيما ممتدّا من برّ مصر إلى الروضة ، وجعل عرضه ثلاث قصبات. وكان كرسيّه حيث المدرسة الخروبيّة قبليّ دار النحاس ، وصار أكثر مرور الناس بأنفسهم ودوّابهم في المراكب ؛ لأنّ الجسرين قد اجترما (١) بحصولهما في حيّز قلعة السلطان ، وكان الأمراء إذا ركبوا من منازلهم يريدون الخدمة إلى السلطان بقلعة الروضة يترجّلون عن خيولهم عند البرّ ، ويمشون في طول الجسر إلى القلعة ولا يمكن أحد من العبور عليه راكبا ، سوى السلطان فقط.

ولما كملت تحوّل إليها بأهله وحريمه ، واتّخذها دار ملك ، وأسكن معه فيها مماليكه البحرية ؛ وكانت عدتهم نحو الألف. وما برح الجسر قائما إلى أن خرّب العز أيبك قلعة الروضة بعد سنة ثمان وأربعين وستمائة ، فأهمل ، ثم عمّره الظاهر بيبرس على المراكب ، وعمله من ساحل مصر إلى الروضة ، ومن الروضة إلى الجيزة ، لأجل عبور العسكر عليه لمّا بلغه حركة الفرنج.

__________________

(١) اجترما : انقضيا.

٣٢٣

وقال عليّ بن سعيد في كتاب المغرب ـ وقد ذكر الروضة : هي أمام الفسطاط فيما بينها وبين مناظر الجيزة ، وبها مقياس النيل ، وكانت متنزّها لأهل مصر ، فاختارها الصالح بن الكامل سرير السلطنة ، وبنى فيها قلعة مسوّرة بسور ساطع اللّون ، محكم البناء ، عالي السّمك ، لم تر عيني أحسن منه ، وفي هذه الجزيرة كان الهودج الّذي بناه الآمر الخليفة لزوجته البدويّة التي هام في حبّها ، والمختار بستان الإخشيد وقصره ، وله ذكر في شعر تميم بن المعزّ وغيره. ولشعراء مصر في هذه الجزيرة أشعار منها قول أبي الفتح بن قادوس الدمياطي :

أرى سرح الجزيرة من بعيد

كأحداق تغازل في المغازل

كأنّ مجرّة الجوزاء خطّت (١)

وأثبتت المنازل في المنازل

وكنت أبيت بعض الليالي في الفسطاط على ساحلها ، فيزدهيني ضحك البدر في وجه النيل. أمّا سور هذه الجزيرة الدرّيّ اللون ، فلم ينفصل عن مصر حتّى كمل سور هذه القلعة ، وفي داخله من الدور السلطانية ما ارتفعت إليه همّة بانيها ، هو من أعظم السلاطين همّة في البناء. وأبصرت في هذه الجزيرة إيوانا لجلوسه لم تر عيني مثاله ، ولا يقدّر ما أنفق عليه ، وفيه من الكتابة (٢) بصفائح الذهب والرّخام الأبنوسيّ والكافوريّ والمجزّع ما يذهل الأفكار ، ويستوقف الأبصار ، ويفصل عمّا أحاط به السور أرض طويلة في بعضها حاظر حظر على أصناف الوحوش التي يتفرّج فيها السلطان ، وبعدها بروج (٣) يتقطّع فيها مياه النيل ، فينظر فيها أحسن منظر ، وقد تفرّجت كثيرا في طرق هذه الجزيرة ممّا يلي برّ القاهرة ، فقطعت بها عشيّات مذهبات ، لا تزال لأحزان الغربة مذهبات ، وإذا زاد النيل فصل ما بينها وبين الفسطاط بالكليّة. وفي أيّام احتراق (٤) النيل يتّصل برّها ببرّ السلطان من جهة خليج القاهرة ، ويبقى موضع الجسر يكون فيه المراكب.

وركبت مرّة في هذا النيل أيام الزيادة مع الصاحب المحسن محيي الدين بن بندار (٥) وزير الجزيرة ، وصعدنا إلى جهة الصعيد ثمّ انحدرنا ، واستقبلنا هذه الجزيرة وأبراجها تتلألأ ، والنيل قد انقسم عنها ، فقلت :

تأمّل لحسن الصالحيّة إذ بدت

مناظرها مثل النجوم تلالا

__________________

(١) في الخطط المقريزية : ٢ / ١٨٣ : أحاطت.

(٢) في الخطط المقريزية : ٢ / ١٨٤ : وفيه من صفائح الذهب ...

(٣) في الخطط المقريزية : ٢ / ١٨٤ : مروج.

(٤) أي عند قلّة مياهه.

(٥) في الخطط المقريزية : ٢ / ١٨٤ : ندا.

٣٢٤

وللقلعة الغرّاء كالبدر طالعا

يفرّج صدر الماء عنه هلالا

ووافى إليها الماء من بعد غيبة

كما زار مشغوفا يروم وصالا (١)

وعانقها من فرط شوق لحسنها

فمدّ يمينا نحوها وشمالا

ولم تزل هذه القلعة عامرة ، حتّى زالت دولة بني أيّوب ، فلمّا ملك السلطان الملك المعزّ عر الدين أيبك التركمانيّ أوّل ملوك الترك بمصر ، أمر بهدمها ، وعمّر منها مدرسته المعروفة بالمعزّية في رحبة الحنّاء بمدينة مصر ، وطمع في القلعة من له جاه ، وأخذ جماعة منها عدّة سقوف وشبابيك وغير ذلك ، وبيع من أخشابها ورخامها أشياء جليلة. فلمّا صارت مملكة مصر إلى السلطان الملك الظاهر بيبرس البندقداريّ اهتمّ بعمارة قلعة الروضة ، ورسم للأمير جمال الدين موسى بن يغمور أن يتولّى عمارتها كما كانت. فأصلح بعض ما تهدّم منها ، ورتّب بها الجاندارية (٢) وأعادها إلى ما كانت عليه من الحرمة ، وأمر بأبراجها ففرّقت على الأمراء ، وأعطى برج الزاوية للأمير سيف الدين قلاوون الألفيّ ، والبرج الذي يليه للأمير عز الدين الحلّي ، والبرج الثالث من برج الزاوية للأمير عز الدين أدغان (٣) ، وأعطى برج الزاوية الغربي للأمير بدر الدين الشمسيّ ، وفرّقت بقيّة الأبراج على سائر الأمراء. ورسم أن يكون بيوت جميع الأمراء وإصطبلاتهم فيها ، وسلّم المفاتيح لهم ، فلمّا تسلطن الملك المنصور قلاوون ، وشرع في بناء المارستان والقبّة والمدرسة المنصوريّة نقل من قلعة الروضة هذه ما يحتاج إليه من العمد الصّوّان والعمد الرّخام التي كانت قبل عمارة القلعة بالبرابي ، وأخذ منها رخاما كثيرا ، وأعتابا جليلة ممّا كان بالبرابي وغير ذلك. ثم أخذ منها السلطان الناصر محمد ابن قلاوون ما احتاج إليه من العمد الصوّان في بناء الإيوان المعروف بدار العدل من قلعة الجبل وبالجامع الجديد الناصريّ ظاهر مدينة مصر ، وأخذ غير ذلك حتّى ذهبت كأن لم تكن.

قال المقريزيّ (٤) : وتأخّر منها عقد جليل تسمّيه العامّة القوس ، كان مما يلي جانبها الغربيّ أدركناه باقيا إلى نحو سنة عشرين وثمانمائة ، وبقي من أبراجها عدّة قد انقلب كثير منها ، وبنى الناس فوقها دورهم المطلّة على النيل ، وعادت الروضة بعد هدم القلعة منها متنزّها ، تشتمل على دور كثيرة ، وبساتين عدّة ، وجوامع تقام بها الجمعات والأعياد ، ومساجد. وفي الروضة يقول الأسعد بن ممّاتي :

__________________

(١) في الخطط المقريزية : ٢ / ١٨٤ : ووافى إليها النيل من بعد غاية ، كما زار مشغوف ...

(٢) العسس.

(٣) في الخطط المقريزية : ٢ / ١٨٤ : أرغان.

(٤) الجزء الثاني من الخطط : ١٨٤.

٣٢٥

جزيرة مصر لا عدتك مسرّة

ولا زالت اللّذات فيك اتّصالها

فكم فيك من شمس على غصن بانة

يميت ويحيي هجرها ووصالها

مغانيك فوق النيل أضحت هوادجا

ومختلفات الموج فيها جمالها

ومن أعجب الأشياء أنك جنّة

ترفّ على أهل الضلال ظلالها

وقال ظافر الحداد :

انظر إلى الروضة الغرّاء والنيل

واسمع بدائع تشبيهي وتمثيلي

وانظر إلى البحر مجموعا ومفترقا

هناك أشبه شيء بالسراويل

والريح تطويه أحيانا وتنشره

نسيمها بين تفريك وتعديل

الأسعد (١) بن ممّاتي في الروضة ، وقد حلّها السلطان الملك الكامل :

جزيرة مصر ، أنت أشرف موضع

على الأرض لمّا حلّ فيك محمد

وفيك علا البحران لكنّ كفّ ذا

على الناس أندى بالعطاء وأجود

وأصبحت الأغصان من فرح به

تمايل ، والأطيار فيك تغرّد

يرقّ نسيم حين سار وجدول

ويشدو هزار حين يرقص أملد (٢)

ذكر خليج مصر

قال المقريزيّ : هذا الخليج بظاهر فسطاط مصر ، ويمرّ من غربيّ القاهرة ، وهو خليج قديم احتفره بعض قدماء ملوك مصر بسبب هاجر أمّ إسماعيل حين أسكنها إبراهيم عليه‌السلام بمكّة ، ثم تمادته الدهور والأعوام ، فجدّد حفره ثانيا بعض من ملك مصر من ملوك الرّوم بعد الإسكندر ، فلمّا فتحت مصر على يد عمرو بن العاص ، جدّد حفره بإشارة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، فحفر عام الرّمادة ، وكان يصبّ في بحر القلزم كما تقدّم في أوّل الكتاب ، ولم يزل على ذلك إلى أن قام محمد (٣) بن عبد الله بن حسن ابن حسن بن عليّ بن أبي طالب بالمدينة ، فكتب الخليفة المنصور إلى عامله بمصر أن

__________________

(١) شذرات الذهب : ٥ / ٢٠ : هو القاضي الأسعد أبو المكارم أسعد بن الخطير أبي سعد مهذب بن ميناس بن زكريا بن أبي قدامة بن أبي مليح مماتي المصري الكاتب الشاعر ، كان ناظر الدواوين بالديار المصرية. توفي سنة ٦٠٦ ه‍.

(٢) الأملد : الناعم اللين من الناس أو الغصون.

(٣) النفس الزكيّة : مروج الذهب : ٣ / ٢٩٤.

٣٢٦

يطمّ هذا الخليج حتّى لا تحمل الميرة من مصر إلى المدينة ، فطمّ وانقطع من حينئذ اتصاله ببحر القلزم ، وصار على ما هو عليه الآن.

وكان هذا الخليج يقال له أولا خليج أمير المؤمنين ـ يعني عمر بن الخطاب ـ لأنّه الذي أشار بتحديد حفره ، ثمّ صار يقال له خليج مصر ؛ فلمّا بنيت القاهرة بجانبه من شرقيّه صار يعرف بخليج القاهرة ، والآن تسمّيه العامة بالخليج الحاكميّ. وتزعم أنّ الحاكم احتفره ، وليس بصحيح. وكان اسم الذي حفره في زمن إبراهيم عليه‌السلام طوطيس (١) وهو الجبّار الذي أراد أخذ سارة ، وجرى له معها ما جرى ، ووهب لها هاجر. فلمّا سكنت هاجر مكّة وجّهت إليه تعرّفه أنّها بمكان جدب ، فأمر بحفر نهر في شرقيّ مصر بسفح الجبل حتّى ينتهي إلى مرفأ (٢) السفن في البحر الملح ؛ فكان يحمل إليها الحنطة ، وأصناف الغلات ، فتنقل إلى جدّة ، ويحمل من هناك على المطايا ، فأحيا بلد الحجاز مدّة. وكان اسم الذي حفره ثانيا أرديان (٣) قيصر ، وكان عبد العزيز بن مروان بنى عليه قنطرتين (٤) في سنة تسع وستّين ، وكتب اسمه عليها ، ثمّ جدّدهما تكين أمير مصر في سنة ثماني عشرة وثلاثمائة ، ثمّ جدّدهما الإخشيد في سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة ثم عمرتا في أيام العزيز ، وكان موضع هاتين القنطرتين خلف خط السبع سقايات وهي التي كانت تفتح عند وفاء النيل في زمن الخلفاء ، وكان الخليفة يركب لفتح الخليج. فلما انحسر النيل عن ساحل مصر ، وربا الجرف أهملت هذه القنطرة فدثرت ، وعملت قنطرة السدّ عند فم بحر النيل ، وكان الذي أنشأها الملك الصالح أيّوب في سنة بضع وأربعين وستمائة.

قال ابن عبد الظاهر (٥) : وأوّل من رتّب حفر خليج القاهرة على الناس المأمون بن البطائحيّ ، وجعل عليه واليا بمفرده.

ولأبي الحسن بن الساعاتي (٦) في كسر يوم الخليج :

إنّ يوم الخليج يوم من الحس

ن بديع المرئيّ والمسموع

كم لديه من ليث غاب صؤول

ومهاة مثل الغزال المروع

__________________

(١) في الخطط المقريزية : ٢ / ١٤٠ : طيطوس ابن ماليا بن كلكن ... بن حام بن نوح.

(٢) في الخطط المقريزية : ٢ / ١٤٠ : مرقى.

(٣) في الخطط المقريزية : ٢ / ١٤١ : أدريان.

(٤) في الخطط المقريزية : ٢ / ١٤١ : قنطرة.

(٥) في الخطط المقريزية : ٢ / ١٤٤ : عن مختصر تاريخ ابن المأمون.

(٦) في شذرات الذهب : ٥ / ١٢ : هو بهاء الدين علي بن محمد بن رستم الشاعر صاحب ديوان الشعر ، له ديوان شعر يدخل في مجلدين أجاد فيه كل الإجادة ، وآخر لطيف سمّاه مقطعات النيل. توفي سنة ٦٠٤ ه‍.

٣٢٧

وعلى السّدّ عزّة قبل أن

تملكه ذلّة المحبّ الخضوع

كسروا جسره هناك فحاكى

كسر قلب يتلوه فيض دموع (١)

ذكر الخليج الناصريّ

حفره الملك الناصر محمد بن قلاوون في سنة خمس وعشرين وسبعمائة (٢) ، لما بني الخانقاه بسرياقوس (٣) ، فأراد إجراء الماء من النيل إليها ليرتب عليه السواقي والزراعات ، وفوّض أمره إلى أرغون النائب ، فحفر في مدّة شهرين من أول جمادى الأولى إلى سلخ جمادى الآخرة ، وبنى فخر الدين ناظر الجيش عليه قنطرة ، وبنى قديدار والي القاهرة قنطرة قديدار وقناطر الإوزّ (٤) وقناطر الأميريّة (٥).

ذكر بركة الحبش

قال ابن المتوّج : هذه البركة مشهورة في مكانها ، وقد اتصل وقفها على قاضي القضاة بدر الدين (٦) بن جماعة على أنّها وقف على الأشراف الأقارب والطالبيّين نصفين بينهما بالسويّة ، النّصف على الأقارب والنصف على الطالبيّين ، وثبت قبله عند قاضي القضاة بدر الدين يوسف السنجاريّ أنّ النصف منها وقف على الأشراف الأقارب بالاستفاضة بتاريخ ثاني عشر ربيع الآخر (٧) سنة أربعين وستمائة ، وثبت قبله عند قاضي القضاة عزّ الدّين عبد العزيز بن عبد السلام بالاستفاضة أيضا أنّها وقف على الأشراف والطالبيّين بتاريخ التاسع والعشرين من ربيع الآخر سنة أربعين وستمائة.

وفي سنة إحدى وأربعين وسبعمائة أمر الناصر بن قلاوون بحفر خليج من النيل إلى حائط الرّصد ببركة الحبش ، وحفر عشر آبار ، كلّ بئر أربعون ذراعا ، يركب عليها السواقي ليجري الماء منها إلى القناطر التي تحمل الماء إلى القلعة ، فشقّ الخليج من مجرى رباط الآثار ، وكان مهمّا عظيما ، وأمر الناصر في هذه السنة بتجديد جامع راشدة ، وكان قد تهدّم غالبه.

__________________

(١) الخطط المقريزية : ٢ / ١٤٤.

(٢) في النجوم الزاهرة : ٩٠ / ٦٧ ، والخطط المقريزية : ٢ / ١٤٥.

(٣) انظر الخطط المقريزية : ٢ / ٤٢٢.

(٤) انظر الخطط المقريزية : ٢ / ١٤٨.

(٥) انظر الخطط المقريزية : ٢ / ١٤٨.

(٦) في الخطط المقريزية : ٢ / ١٥٣ : بدر الدين أبي عبد الله محمد بن سعد بن جماعة.

(٧) في الخطط المقريزية : ٢ / ١٥٣ : بتاريخ ثالث عشر ربيع الأول.

٣٢٨

ظافر الحداد في بركة الحبش :

تأمّلت نهر النيل طولا وخلفه

من البركة الغنّاء شكل مقدّر

فكان وقد لاحت بشطّيه خضرة

وكانت وفيها الماء باق موفّر

غمامة شرب في جواشن (١) خضرة

أضيف إليها طيلسان مقوّر

أبو الصلت أميّة (٢) بن عبد العزيز الأندلسيّ :

لله يوم (٣) ببركة الحبش

والأفق بين الضياء والغبش

والنّيل بين (٤) الرياح مضطرب

كصارم في يمين مرتعش

ونحن في روضة منوّقة

دبّج بالنّور عطفها ووشي

قد نسجتها يد الغمام لنا

فنحن من نسجها على فرش

ذكر ما قيل في الأنهار والأشجار زمن الشتاء والربيع من الأشعار

شمس الدين بن التّلمسانيّ :

ولمّا جلا فصل الربيع محاسنا

وصفّق ماء النهر إذ غرّد القمري (٥)

أتاه النسيم الرطب رقّص دوحه

فنقّط وجه الماء بالذهب المصري

وقال :

تغنّت في ذرا الأوراق ورق

ففي الأفنان من طرب فنون

وكم بسمت ثغور الزّهر عجبا

وبالأكمام قد رقصت غصون

وأبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن فتحون المخزوميّ يصف نارنجة في نهر :

ولقد رميت مع العشيّ بنظرة

في منظر غضّ البشاشة يبهج

نهر صقيل كالحسام بشطّه

روض لنا تفّاحه يتأرّج

تثني معاطفه الصّبا في بردة

موشيّة بيد الغمامة تنسج

__________________

(١) الجوشن : الدرع.

(٢) في الأعلام : ٢ / ٢٣ : هو أمية بن عبد العزيز الأندلسي الداني المتوفي سنة ٥٢٩ ه‍.

(٣) في الخطط المقريزية : ٢ / ١٥٤ : يومي.

(٤) في الخطط المقريزية : ٢ / ١٥٤ : تحت.

(٥) القمري : ضرب من الحمام حسن الصوت.

٣٢٩

والماء فوق صفاته نارنجة

تطفو به وعبابه يتموّج

حمراء قانية الأديم كأنّها

وسط المجرّة كوكب يتأجّج

القاضي عياض :

كأنّما الزرع وخاماته (١)

وقد تبدّت فيه أيدي الرياح

كتائب تجفل مهزومة

شقائق النعمان فيها جراح

كتب القاضي شهاب الدين بن فضل الله إلى الأمير الجائي الدوادار (٢) :

بلد أنت ساكن في رباها

بلد تحسد الثّريا ثراها

قد تعالت إلى السماء بسكنا

ك ، فألقت على البطاح رداها

جمد الطّلّ في الزهور فخلنا

أنّه عقد جوهر لرباها

وجرى الماء في الرياض فقلنا :

كسرت فوقه الغواني حلاها

مثلما أنت في معانيك فرد

هي فرد البلاد في معناها

يقبّل الأرض ، وينهي أنّه لما عبر على هذه الرّبا المعشبة ، والغدران الّتي كأنها صفائح فضة مذهّبة ، ثمّ مرّ على قرية تعرف بوسيم ، تفترّ من شنب (٣) زهرها عن ثغر بسيم ، استحسن مرآها ، ونظم في معناها ، ما يعرضه على الخاطر الكريم ، ليوقف المملوك توقيف عليم ، أو يتجاوز عن تقصيره تجاوز حليم :

لمصر فضل باهر

لعيشها الرغد النّضر

في كلّ سفح يلتقي

ماء الحياة والخضر

وكذلك :

ما مثل مصر في زمان ربيعها

لصفاء ماء واعتلال نسيم

أقسمت ما تحوي البلاد نظيرها

لمّا نظرت إلى جمال وسيم

قال :

وما بين أكناف البطاح

مسك يذرّ على الرّياح

من حيث يلفى الرّوض في

أزهارها ريّان ضاحي

__________________

(١) الخامة : الغضّة من النبات.

(٢) في الخطط المقريزية : ٢ / ٢٢٢ : الدوادار ووظيفته تبليغ الرسائل عن السلطان وتقديم القصص إليه.

(٣) الشنب : شنب الزهر : بياضه ، وشنب اليوم : برودته.

٣٣٠

والريح في السّحر البهي

م يطير مسكيّ الجناح

تسري فتغتبق الغصو

ن بها على عين الصّباح

والنّيل في تيّاره ال

منصبّ مهتزّ الصّفاح

وبه السّفائن كالجبا

ل تجول أمثال القداح

فركبت من صهواتها

دهماء ساكنة الجماح

حرّاقة (١) تجري على اس

م الله في الماء القراح

والأفق مثل حديقة

خضراء مزهرة النواحي

تحكي المجرّة بينها

نهر تدفّق في أقاح

واقتادت الجوزاء للّي

ل البهيم إلى الرواح

فكأنّه زنجيّة

جذبت بأطراف الوشاح

وبدا الصباح كوجه ال

جائي المهلّل لامتداحي

وقال :

وحديثة غنّى الربا

ب لها بتوقيع السّحاب

فتمايلت حتى لقد

رقصت على صوت الرّباب

وقال :

في نيل مصر مراكب

تحوي بدور المواكب

فكم بها الفلك في مج

راه تسري الكواكب

ابن عبد الظاهر :

روض به أشياء لي

ست في سواه تؤلّف

فمن الهزار تهازر

ومن القضيب تقصّف

ومن النّسيم تلطّف

ومن الغدير تعطّف

نور الدين عليّ بن سعد الغماريّ الأندلسيّ :

كأنّما النهر صفحة كتبت

أسطرها والنّسيم منشئها

لمّا أبانت عن حسن منظرها

مالت عليه الغصون تقرؤها

__________________

(١) الحرّاقة : نوع من السفن الحربية ومن أنواعها ما كان معروفا في صدر الدولة العباسية للنزهة والنقل. (معجم دوزي).

٣٣١

الصّلاح الصفديّ :

قال خلّي : بالله صف أرض مصر

وقت كتّانها بوصف محقّق

قلت : أرض بالنيل يروى ثراها

فلهذا الكتّان نور أزرق

وقال :

لم لا أهيم بمصر

وأرتضيها وأعشق

ولم تر العين أحلى

من مائها إن تملّق

ابن الواسطيّ :

كأنّما السّفن بأرجائها

وهي على الماء جريّات

عقارب في رفع أذنابها

تسري على أبطن حيّات

ابن الساعاتي :

ولقد ركبت البحر وهو كحلية

والموج تحسبه جيادا تركض

وكأنّما سلّت به أمواجه

بيضاء تذهب تارة وتفضّض

كلّ يصحّ إذا تصحّ حياته

إلّا النسيم يصحّ ساعة يمرض

مجير الدين بن تميم :

يا سنه من جدول متدفّق

يلهي برونق حسنه من أبصر

ما زلت أنذره عيونا حوله

خوفا عليه أن يصاب فيعثر

فأبى وزاد تماديا في جريه

حتّى هوى من شاهق فتكسّر

وقال :

وحديقة مالت بعا

طف دوحها من غير سكر

والنهر ساج قد غدا

بسعادة الأغصان يجري

وقال :

لم لا أهيم إلى الرياض وحسنها

وأظلّ منها تحت ظلّ واف

والرّوض حيّاني بثغر باسم

والماء يلقاني بقلب صاف

وقال :

ونهر خالف الأهواء حتّى

غدت طوعا له في كلّ أمر

إذا سرقت حلى الأغصان ألقت

إليه بها فيأخذها ويجري

٣٣٢

وقال :

تأمّل إلى الدّولاب والنّهر إذ جرى

ودمعهما بين الرّياض غدير

كأنّ نسيم الرّوض قد ضاع منهما

فأصبح ذا يجري وذاك يدور

ناصر الدين بن النقيب :

وروضة توسوس الغصن بها

لمّا هدى فيها النسيم الشّمال

قد جنّ في أرجائها جدولها

فهو على وجه الثّرى سلسال

آخر :

وحديقة باكرتها مطلولة

والشمس ترشف ريق أزهار الرّبا

يتكسّر الماء الزّلال على الحصا

فإذا أتى نحو الرياض تشعّبا

آخر :

مياه بوجه الأرض تجري كأنّها

صفائح تبر قد سبكن جداولا

كأنّ بها من شدّة الجري جنّة وقد

ألبستهنّ الرياح سلاسلا

ابن قزل :

كأنّما النّهر إذ مرّ النّسيم به

والغيم يهمي وضوء البرق حين بدا

رشق السهام ولمع البيض يوم وغى

خاف الغدير سطاها فاكتسى زردا

آخر :

يا حسن وجه النّهر حين بدا

والسّحب تهطل فوقه هطلا

فكأنّه درع وقد ملأت

أيدي الكماة (١) عيونه نبلا

الغزيّ :

في روضة قرن النّهار نجومها

بسنا ذكاء (٢) فزادهنّ توقّدا

وانجرّ فوق غديرها ذيل الصّبا

سحرا فأصبحت الصفيحة مبردا

تاج الدين مظفّر الذهبيّ :

__________________

(١) الكماة : الشجعان.

(٢) الذكاء : اسم للشمس غير منصرف.

٣٣٣

وجدول خطّ فيه

سطر بكفّ القبول

بدا عليه ارتعاش

كذاك خطّ القليل

الشهاب المحمود :

والسّرو مثل عرائس

لفّت عليهنّ الملاء

شمّرن فضل الأزر عن

سوق خلاخلهنّ ماء

والنّهر كالمرآة تب

صر وجهها فيه السّماء

قاضي القضاة مجير الدين بن العديم :

كأنّما النّهر وقد حفّت به

أشجاره فصافحته الأغصن

مرآة غيد قد وقفن حولها

ينظرن فيها : أيّهنّ أحسن!

آخر :

شجرات الخريف تكثر من غي

ر سؤال إلى الرياح نشاطا

تتعرّى من لبسها وهو تبر

ثم تلقيه للنديم بساطا

آخر :

النظر إلى الرّوض

النضير فحسنه العين قرّه (١)

فكأن خضرته السّما

ء ونهره فيه المجرّه

ابن وكيع :

غدير يجعّد أمواهه

هبوب الرياح ومرّ الصّبا

إذا الشمس من فوقه أشرقت

توهمته جوشنا مذهّبا

سيف الدين عليّ بن قزل (٢) :

في يوم غيم من لذاذة جوّه

غنّى الحمام وطابت الأنداء

والرّوض بين تكبّر وتواضع

شمخ القضيب به وخرّ الماء

آخر :

__________________

(١) القرّة : السرور.

(٢) في شذرات الذهب : ٥ / ٢٨٠ : هو سيف الدين ابن المشد سلطان الشعراء صاحب الديوان المشهور الأمير أبو الحسن علي ابن عمر بن قزل التركماني ، ولد بمصر سنة ٦٠٢ ه‍ ، وتوفي بدمشق سنة ٦٥٦ ه‍.

٣٣٤

أيا حسنها من روضة ضاع نشرها

فنادت عليه في الرّياض طيور

ودولابها أضحى تعدّ ضلوعه

لكثرة ما يبكي بها ويدور

سعد الدين بن شيخ الصوفيّة محيي الدين بن عربيّ :

شاهدت دولابا له أدمع

تكلّفت للروض بالرّيّ

فاعجب له من فلك دائر

ما فيه برج غير مائيّ

آخر :

وناعورة فارقت

بواكي من جنسها

تدور على قلبها

وتبكي على نفسها

وجيه الدين المناويّ :

فوّارة تحسب من حسنها

سبيكة من فضّة خالصه

تلهيك بالحسن فقد أصبحت

جارية ملهية راقصه

الصلاح الصفديّ :

النّهر مولى والنسيم خديمه

هذا كلام لست فيه أشكّك

لو لم يكن في خدمة النهر انبرى

ما كان يصقل ثوبه ويفرّك

وقال :

لمّا زها زهر الربيع بروضة

وغدا له الفضل المبين عليه

قام الحمام له خطيبا بالثّنا

وجرى الغدير فخرّ بين يديه

مجير الدين بن تميم :

تكسّر الماء لمّا جرى فغدا ال

دّولاب يندبه شجوا ويبكيه

وأصبح الغصن بالأوراق ملتطما

والورق فوق كراسي الدّوح ترثيه

وقال :

والنهر مذ علق الغصون محبّة

أضحت تطيل صدوده وجفاه

فنراه يجري لاثما أقدامها

وخريره شكوى الّذي يلقاه

وقال :

بع الربيع رسالة بقدومه

للرّوض ، فهو بقربه فرحان

٣٣٥

ولطيب ما قرأ الهزار بشدوه

مضمونها مالت له الأغصان

شمس الدين بن التّلمسانيّ :

كأنّما البرق خلال السّما

من فوق غيم ليس بالكابي

طراز تبر في قبا أزرق

من تحته فروة سنجاب

وقال :

فصل الشتا منح النّواظر نضرة

لمّا كسا الألوان وهي عوار

لم يلبس الغبراء لين مطارف

حتّى كسا الزرقاء بيض إزار

مجير الدين بن تميم :

ودولاب روض كان من قبل أغصنا

تميس فلمّا فرقتها يد الدهر

تذكّر عهدا بالرياض فكلّه

عيون على أيام عصر الصّبا تجري

آخر :

وناعورة قد ضاعفت بنواحها

نواحي ، وأجرت مقلتيّ دموعها

وقد ضعفت مما تئنّ وقد غدت

من الضعف والشكوى تعدّ ضلوعها

نور الدين عليّ بن سعد الأندلسيّ :

لله دولاب يفيض بسلسل

في روضة قد أينعت أفنانا

قد طارحت فيه الحمام بشجوها

ونحيبها فترجّع الألحانا

فكأنّه دنف (١) يطوف بمعهد

يبكي ويسأل فيه عمّن بانا

ضاقت مجاري طرفه عن دمعه

فتفتّحت أضلاعه أجفانا

ابن منير الطرابلسيّ في ناعورة :

هي مثل الأفلاك شكلا وفعلا

قسمت قسم جاهل بالحقوق

بين عال سام ينكّسه الحظّ

ويعلو بساحل مرزوق

آخر :

النّهر مكسوّ غلالة فضّة

فإذا جرى سيل فثوب نضار

وإذا استقام رأيت صفحة منصل

وإذا استدار رأيت عطف سوار

__________________

(١) الدنف : المريض.

٣٣٦

إبراهيم بن خفاجة الأندلسيّ :

النّهر قد رقّت غلالة خصره

وعليه من صبغ الأصيل طراز

تترقرق الأمواج فيه كأنّها

عكن (١) الخصور تهزّها الأعجاز

بعضهم :

إنّ هذا الربيع شيء عجيب

تضحك الأرض من بكاء السماء

ذهب حيثما ذهبنا ودرّ

حيث درنا وفضّة في الفضاء

ابن قلاقس :

كأنّما الرّعد والسّحاب وقدح

حلّا سويّا والبرق قد لاحا

ثلاثة من عدوّهم نفروا

وقد غدا نحوهم وقد راحا

فسلّ ذا سيفه ، وبكى ه

ذا ، وهذا من خيفة صاحا

__________________

(١) العكن : ما انطوى وتثنّى من لحم البطن.

٣٣٧

ذكر الرياحين والأزهار الموجودة في البلاد المصرية

وما ورد فيها من الآثار النبوية والأشعار

الأدبية والإشارات الصوفية

ما ورد في الفاغية

وهي نور الحنّاء.

أخرج البيهقيّ في شعب الإيمان عن بريدة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سيّد الرياحين في الدنيا والآخرة الفاغية».

وأخرج البيهقيّ عن أنس ، قال : كان أحبّ الرياحين إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الفاغية.

ما ورد في الورد

رويت فيه أحاديث كلّها موضوعة ، منها حديث عليّ مرفوعا : «لمّا أسري بي إلى السماء ، سقط إلى الأرض من عرقي ، فنبت منه الورد ، فمن أحبّ أن يشمّ رائحتي فليشمّ الورد». اخرجه ابن عديّ في كامله.

وحديث أنس مرفوعا : «الورد الأبيض خلق من عرقي ليلة المعراج ، وخلق الورد الأحمر من عرق جبريل ، والورد الأصفر من عرق البراق» ، أخرجه ابن فارس في كتاب الريحان.

والحديثان أوردهما ابن الجوزيّ في الموضوعات ، ونصّ على وضع الثاني أيضا الحافظ الكبير أبو القاسم بن عساكر.

٣٣٨

قال صاحب مباهج الفكر : كان الخليفة المتوكّل قد حمى الورد ، ومنعه من الناس كما حمى النعمان بن المنذر الشّقيق واستبدّ به ، وقال : لا يصلح للعامّة ، فكان لا يرى إلا في مجلسه. وكان يقول : أنا ملك السلاطين ، والورد ملك الرياحين ، وكلّ منّا أولى بصاحبه. وإلى هذا أشار ابن سكّرة بقوله :

للورد عندي محلّ

لأنّه لا يملّ

كلّ الرياحين جند

وهو الأمير الأجل

إن جاء عزّوا وتاهوا

حتّى إذا غاب ذلّوا

قال ابن البيطار (١) في مفرداته : الورد أصناف : أحمر ، وأبيض ، وأصفر ، وأسود. زاد غيره : وأزرق.

وحكى صاحب كتاب نشوار المحاضرة ، أنّه رأى وردا أسود حالك السواد ، له رائحة ذكيّة ، وأنه رأى بالبصرة وردة نصفها أحمر قانىء الحمرة ، ونصفها الآخر أبيض ناصع البياض ، والورقة التي وقع الخطّ فيها كأنّها مقسومة بقلم.

قال صاحب مباهج الفكر : رأينا بثغر الإسكندرية الورد الأصفر كثيرا ، وعددت ورق وردة ، فكانت ألف ورقة.

قال : وحكى لي بعض الأصحاب أنّه رأى بحلب ورقة لها وجهان : أحدهما أحمر والآخر أصفر.

قال : وحكى بعض الأصحاب أنّه رأى آبارا تجري إلى شجر الورد ماء مخلوطا بالنيل ، فسأله فقال : إنّ الورد يكون أزرق بهذا العمل.

قال صاحب المباهج : والظاهر من الورد الأسود ، أنّه احتيل عليه كذلك. وقال الحافظ الذهبيّ في الميزان : روى قريش عن أنس عن كليب بن وائل ـ وكليب نكرة لا يعرف ـ أنّه رأى بالهند ورقا في الوردة مكتوب فيه «محمد رسول الله».

وروى ابن العديم في تاريخه بسنده إلى عليّ بن عبد الله الهاشمي الرّقيّ ، قال : دخلت الهند ، فرأيت في بعض قراها وردة كبيرة طيّبة الرائحة ، سوداء ، عليها مكتوب بخطّ أبيض «لا إله إلا الله محمد رسول الله ، أبو بكر الصديق ، عمر الفاروق». فشككت في

__________________

(١) في شذرات الذهب : ٥ / ٢٣٤ : هو الطبيب البارع ضياء الدين عبد الله بن أحمد المالقي العشّاب صاحب كتاب المفردات في الأدوية ـ كان رئيسا في الديار المصرية ، توفي بدمشق سنة ٦٤٦ ه‍.

٣٣٩

ذلك ، وقلت : إنّه معمول ، فعمدت إلى وردة لم تفتح ، ففتحتها ، فكان فيها مثل ذلك ، وفي البلد منه شيء كثير ، وأهل تلك القرية يعبدون الحجارة ، لا يعرفون الله عزوجل.

ويقال : ورد جور ، ونرجس جرجان ، ونيلوفر شروان ، ومنثور بغداد ، وزعفران قمّ ، وشاهسبرم (١) سمرقند.

قال أبو العلاء صاعد الأندلسيّ في باكورة ورد :

ودونك يا سيّدي وردة

يذكّرك المسك أنفاسها

كعذراء أبصرها مبصر

فغطّت بأكمامها رأسها

آخر :

وردة تحكي أمام الورد

طليعة سابقة للجند

قد ضمّها في الغصن قرّ البرد

ضمّ فم لقبلة من بعد

أبو عبادة البحتريّ (٢) :

أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا

من الحسن حتّى كاد أن يتكلّما

وقد نبّه النّوروز في غسق الدّجى

أوائل ورد كنّ بالأمس نوّما

يفتّحه برد النّدى فكأنّما

يبثّ حديثا بينهنّ مكتّما

محمد بن عبد الله بن طاهر :

أما ترى شجرات الورد مظهرة

لنا بدائع قد ركّبن في قصب

كأنّهنّ يواقيت يطيف بها

زبرجد وسطه شذر من الذهب

يقال إنّه نظم هذين البيتين من قول أزدشير بن بابك ، وقد وصف الورد : هو درّ أبيض ، وياقوت أحمر ، على كراسيّ زبرجد أخضر ، بوسطه شذر من ذهب أصفر.

الناشىء (٣) :

__________________

(١) الشاهسبرم : الريحان.

(٢) في تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف : ٤ / ٢٧٠ : هو أبو عبادة الوليد بن عبيد ، طائي الأب ، شيباني الأمّ ، غلب عليه لقب البحتري ، ولد سنة ٢٠٤ ه‍ بمنبج ، توفي سنة ٢٨٤ ه‍.

(٣) في شذرات الذهب : ٢ / ٢١٤ : أبو العباس الناشىء الشاعر المتكلّم عبد الله بن محمد المعروف بابن شرشير الشاعر. توفي بمصر سنة ٢٩٣ ه‍.

٣٤٠