حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة - ج ٢

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي

حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة - ج ٢

المؤلف:

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨١
الجزء ١ الجزء ٢

ذكر مزايا النيل

قال التّيفاشيّ : اتّفق العلماء على أنّ النّيل أشرف الأنهار في الأرض لأسباب :

عموم نفعه ، فإنه لا يعلم نهر من الأنهار في جميع الأرض المعمورة يسقي ما يسقيه النيل.

ومنها الاكتفاء بسقيه ، فإنه يزرع عليه بعد نضوبه ، ثمّ لا يسقى الزرع حتّى يبلغ منتهاه ؛ ولا يعلم ذلك في نهر سواه.

ومنها أنّ ماءه أصحّ المياه وأعدلها وأعذبها وأفضلها.

ومنها مخالفته لجميع أنهار الأرض في خصال هي منافع فيه ، ومنضارّ في غيره.

ومنها أنّه يزيد عند نقص سائر المياه ، وينقص عند زيادتها (١) ؛ وذلك أوان الحاجة إليه.

ومنها أنّه يأتي أرض مصر في أوان اشتداد القيظ والحرّ ويبس الهواء وجفاف الأرض ، فيبلّ الأرض ، ويرطب الهواء ، ويعدّل الفصل تعديلا زائدا.

ومنها أنّ كلّ نهر من الأنهار العظام ، وإن كان فيه منافع ، فلا بدّ أن يتبعها مضارّ في أوان طغيانه بإفساد ما يليه ونقص ما يجاوره ، والنيل موزون على ديار مصر بوزن معلوم ، وتقدير مرسوم لا يزيد عليه ، ولا يخرج عن حدّه (ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) [الأنعام : ٩٦].

ومنها أنّ المعهود في سائر الأنهار أن يأتي من جهة المشرق إلى المغرب ، وهو يأتي من جهة المغرب إلى الشمال ، فيكون فعل الشمس فيه دائما ، وأثرها في إصلاحه متّصلا ملازما ؛ وفي ذلك يقول الشاعر :

مصر ، ومصر ماؤها (٢) عجيب

ونهرها يجري به الجنوب

ومنها أنّ كلّ الأنهار يوقف على منبعه وأصله ، والنّيل لا يوقف له على أصل منبع. وليس في الدّنيا نهر يصبّ في بحر الصين والروم وغيره ؛ وليس في الدّنيا نهر يزيد ثمّ يقف ، ثمّ ينقص ثمّ ينضب على الترتيب والتدريج غيره ؛ وليس في الدّنيا نهر

__________________

(١) في مروج الذهب : ١ / ٣٧٦.

(٢) في مروج الذهب للمسعودي : ١ / ٣٧٧ : شأنها.

٣٠١

يزرع عليه ما يزرع على النيل ، ولا يجيء من خراج غلّة زرعه ما يجيء من خراج غلّة زرع النيل.

وقال صاحب مباهج الفكر : النّيل أخفّ المياه وأحلاها ، وأرواها وأمراها ، وأعمّها نفعا ، وأكثرها خراجا ؛ ويحكى أنّه جبي في أيّام كنعاوس (١) ؛ أحد ملوك القبط الأول مائة ألف ألف وثلاثون ألف دينار وجباه عزيز (٢) مصر مائة ألف ألف دينار ، وجباه عمرو بن العاص اثني عشر ألف ألف دينار ، وجباه عبد الله بن أبي سرح أربعة عشر ألف ألف دينار ، ثمّ رذل إلى أن جبي أيام جوهر القائد ثلاثة آلاف ألف ومائتي ألف دينار ، وسبب تقهقره أنّ الملوك لم تسمح نفوسهم بما كان ينفق في الرجال الموكّلين لخفر خلجه وإصلاح جسوره ، ورمّ قناطره ، وسدّ ترعه ، وقطع القضب وإزالة الحلفاء ؛ وكانوا مائة ألف وعشرين ألف رجل مرتّبين على كور مصر ، سبعين ألفا للصعيد ، وخمسين ألفا لأسفل الأرض (٣).

ويحكى أنها مسحت أيّام هشام بن عبد الملك ، فكان ما يركبه الماء مائة ألف ألف فدّان ، والفدّان أربعمائة قصبة والقصبة عشرة أذرع.

وأمّا أحمد بن المدبّر ، فإنّه اعتبر ما يصلح للزرع بمصر في وقت ولايته ، فوجده أربعة وعشرين ألف ألف فدان ، والباقي قد استبحر وتلف ، واعتبر مدّة الحرث فوجدها ستّين يوما ، والحرّاث الواحد يحرث خمسين فدانا ، فكانت محتاجة إلى أربعمائة ألف وأربعين (٤) ألف حرّاث.

وقال صاحب مرآة الزمان : ذكر أحمد بن بختيار أنّ في النيل عجائب منها التمساح ، ولا يوجد إلا فيه ، ويسمّى في مصر التّمساح ، وفي بلاد النوبة الورل ، ووراء النوبة الشّوشار. (٥)

__________________

(١) في النجوم الزاهرة : ١ / ٥٩ : كيقاوس ، وفي المقريزي ١ / ٧٥ : منقاوس.

(٢) في الخطط المقريزية : الريان بن الوليد فرعون يوسف عليه‌السلام.

(٣) انظر النجوم الزاهرة : ١ / ٦٠.

(٤) انظر النجوم الزاهرة : ١ / ٦٠.

(٥) في النجوم الزاهرة : ١ / ٦٠ : وثمانين.

٣٠٢

قال : والتمساح لا دبر له ، وما يأكله يتكوّن في بطنه دودا ، فإذا آذاه خرج إلى البرّيّة فينقضّ عليه طائر فيأكل ما بين أسنانه ، وما يظهر من الدود ، وربّما يطبق عليه التمساح ، فيبلعه.

وذكر ابن حوقل أنّ بنيل مصر أماكن لا يضرّ التمساح فيها ، كعدوة بوصير والفسطاط.

قال : وفي النيل السّقنقور ، ويكون عند أسوان ، وفي حدودها. وقيل إنّه من نسل التمساح إذا وضعه خارج الماء ، فما قصد الماء صار تمساحا ، وما قصد البرّ صار سقنقورا. وله قضيبان كالضبّ.

وفيه السمك الرعّاد إذا وقع في شبكة الصيّاد ، لا يزال ترتعد يداه ورجلاه حتّى يلقيها أو يموت ، وهي نحو الذراع.

وفيه سمكة على صور الفرس. والمكان الذي يكون فيه لا يقربه التمساح.

وفيه شيخ البحر سمكة على صورة آدميّ ، وله لحية طويلة ، ويكون بناحية دمياط وهو مشؤوم ، فإذا رئي في مكان دلّ على القحط والموت والفتن.

ويقال : إنّ دمياط ما تنكب حتّى يظهر عندها.

ذكر ما قيل في النيل من الأشعار

قال التّيفاشيّ : قد ذكرت العرب النّيل في أشعارها ، وضربت به الأمثال ، قال قيس بن معدي كرب ، فيما أورده الجاحظ في كتاب الأمصار :

ما النّيل أصبح زاخرا بمدوده

وجرت له ريح الصّبا فجرى بها (١)

قال بعضهم :

واها لهذا النّيل أيّ عجيبة

بكر بمثل حديثها لا يسمع

يلقى الثرى في العام وهو مسلّم

حتّى إذا ما ملّ عاد يودّع

__________________

(١) الصّبا : ريح تهب من مطلع الشمس إذا استوى الليل والنهار ، ومقابلتها الدبور. [مختار الصحاح].

٣٠٣

متنقّل مثل الهلال فدهره

أبدا يزيد كما يريد ويرجع

ظافر الحدّاد :

والنّيل مثل عمامة

شرب محشّاة بأخضر

والجسر فيها كالطرا

ز وموجه رقم مصوّر (١)

تفريكه ما درّجت

ه له الرياح من التسكّر

وقال يصف افتراقه عند رأس الروضة :

لله يوم أناله النيل

لحسنه جملة وتفصيل

في منظر مشرف على خضر

كأنّه في الظلام قنديل

تبدى لنا جانبا جزيرته

أشيا بها للعين تأميل

ورقمه جسره وتفريكه المو

ج وفي نكته للخليج تجميل

ابن الساعاتي :

ولمّا توسّطنا على النيل غدوة

ظننت وقلت اليوم باللهو ملآن

عشاريّة أنشا لها الماء مقلة

وليس لها إلا المجاذيف أجفان

محيي الدين بن عبد الظاهر :

نيل مصر لمن تأمّل مرأى

حسنه معجز وبالحسن معجب

كم به شاب فودها وعجيب

كيف شابت بالنيل والنيل يخضب! (٢)

وقال :

كم قطّع الطّرق نيل مصر

حتّى لقد خافه السّبيل

بالسيف والرمح من غدير

ومن قناة لها نصول

ابن نباته (٣) :

__________________

(١) الرقم : الختم ، أو ضرب مخطط من الوشي أو البرود.

(٢) الغود : الشعر الذي على جانبي الرأس مما يلي الأذنين إلى الأمام.

(٣) في المنجد في الأعلام : ابن نباتة المصري : (١٢٨٧ ـ ١٣٦٦ ه‍) شاعر ولد بالقاهرة وتوفي فيها ، أقام بدمشق زمنا. له (ديوان) و (سرح العيون في شرح رسالة ابن خلدون).

وفي شذرات الذهب : ٦ / ٢١٢ : هو محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن الحسن بن نباتة الشاعر المشهور ، توفي سنة ٧٦٨ ه‍.

٣٠٤

زادت أصابع نيلنا

وطغت وطافت في البلاد

وأتت بكلّ مسرّة

ماذي أصابع ذي أيادي

النصير الحماميّ :

إن عجّل النّيروز قبل الوفا

عجّل للعالم صفع القفا (١)

فقد كفى من دمعهم ما جرى

وما جرى من نيلهم ما كفى

ناصر الدين حسن بن النقيت :

كأنّ النيل ذو فهم ولبّ

لما يبدو لعين النّاس منه

فيأتي عند حاجتهم إليه

ويمضي حين يستغنون عنه :

آخر :

النّيل قال وقوله

إذ قال ملء مسامعي

في غيظ من طلب العلا

عمّ البلاد منافعي

وعيونهم بعد الوفا

قلّعتها بأصابعي

شمس الدين بن دانيال الحكيم :

كأنّما النيل الخضمّ إذ بدا

يروي حديثا وهو ذو تسلسل

لمّا رأى الأرض بها شقيقه

ضمّخها بمائة المصندل

آخر :

يا نيل اجر على حسن العوائد في

أرجاء مصرك واجبر كلّ مرتزق

واعلم بأنك مصريّ فلست ترى

حلو الفاكهة ما لم تأت بالملق

خليل بن الكفتي :

مولاي إنّ البحر لمّا زرته

حيّاك وهو أخو الوفاء بالإصبع

فانظر لبسطته فرؤيتك الّتي

هي مشتهاه وروضة المتمتّع

أرخى عليه السّتر لمّا جئته

خجلا ومدّ تضرّعا بالأذرع

آخر :

سدّ الخليج بكسره جبر الورى

طرّا فكلّ قد غدا مسرورا

__________________

(١) النيروز عند الفرس : أول يوم من أيام السنة الشمسية ، وهو يوم الفرح عموما.

٣٠٥

الماء سلطان فكيف تواترت

عنه البشائر إذ غدا مكسورا!

شمس الدين سبط الملك الحافظ :

لله درّ الخليج إنّ له

تفضّلا لا نزال نشكره

حسبك منه بأنّ عادته

يجبر من لا يزال يكسره

الصلاح الصفديّ (١) :

رأيت في أرض مصر مذ حللت بها

عجائبا ما رآها النّاس في جيل

تسودّ في عيني الدّنيا فلم أرها

تبيضّ إلّا إذا ما كنت في النّيل

وقال :

ركبت في النيل يوما مع أخي أدب

فقال : دعني من قال ومن قيل

شرحت يا بحر صدري اليوم ، قلت له :

لا تنكر الشّرح يا نحويّ للنيل

وقال :

قالوا علا نيل مصر في زيادته

حتّى لقد بلغ الأهرام حين طما

فقلت : هذا عجيب في بلادكم

أنّ ابن ستة عشر يبلغ الهرما (٢)

وقال :

قد زاد هذا النّيل في عامنا

فأغرق الأرض بإنعامه

وكاد أن يعطف من مائه

عرى على أزرار أهرامه

تميم بن المعزّ العبيديّ :

يوم لنا بالنيل مختصر

ولكلّ يوم لذاذة قصر

والسّفن تجري كالخيول بنا

صعدا وجيش الماء منحدر

فكأنّما أمواجه عكن (٣)

وكأنّما داراته سرر

آخر :

__________________

(١) في النجوم الزاهرة : ١ / ٦٧ : هو الأديب والمؤرخ المشهور صلاح الدين بن أيبك الصفدي صاحب (الوافي بالوفيات) توفي سنة ٧٦٤ ه‍.

(٢) المقصود بالستة عشر : مقياس غزارة المياه فيه.

(٣) عكن : واسعة تتثنّى على صاحبها.

٣٠٦

مدّ نيل الفسطاط فالبرّ بحر

زاخر فيه كلّ سفن تعوم

فكأنّ الأرضين منه سماء

وكأنّ الضّياع فيها نجوم

ظافر :

ولله مجرى النيل فيها إذا الصبا

أرتنا به في سيرها عسكرا مجرى

فشطّ يهزّ السّمهريّة (١) ذبّلا

ونهر يهزّ البيض هنديّة بترا

إذا مدّ حاكى الورد غضّا وإن صفا

حكى ماؤه ولم يعده بسرا (٢)

أيدمر التركي :

كيمياء النيل خالصة

قد أتتنا منه بالعجب

كان من ذوب اللّجين فقد

عاد بالتّدبير من ذهب

راقص بالحسن مبتهج

فهو في عجب وفي طرب

ومغاني مصر تسمعه

نغمة الشادي بلا صخب

ونسيم الريح لاعبة

في خلال الرّوض بالقضب

إبراهيم بن عبدون الكاتب :

والنّيل بين الجانبين كأنّما

صبّت بصفحته صفيحة صيقل

يأتيك من كدر الزّواخر مدّه

بممسّك من مائه ومصندل

فكأنّ ضوء البدر في تمويجه

برق يموّج في سحاب مسبل

وكأنّ نور السّرج من جنباته

زهر الكواكب تحت ليل أليل

مثل الرياض مصنّفا أنوارها

يبدو لعين مشبّه وممثّل

آخر :

أرى أبدا كثيرا من قليل

وبدرا في الحقيقة من هلال

فلا تعجب فكلّ خليج ماء

بمصر مشبّه بخليج مال

زيادة إصبع في كلّ مدّ

زيادة أذرع في كلّ حال

الأمير تميم بن المعزّ :

نظرت إلى النيل في مدّه

بموج يزيد ولا ينقص

كأنّ معاطف أمواجه

معاطف جارية ترقص

__________________

(١) السمهريّة : الرماح الصلبة.

(٢) البسر : تقطيب الوجه وتغيّره.

٣٠٧

أيدمر التركيّ :

انظر إلى النّيل السعيد المقبل

والماء في أنهاره كالسلسل

أضحى يريك الحسن بين مورّد

من لونه حينا وبين مصندل

ويمرّ في قيد الرياح مسلسلا

بأحسنه من مطلق ومسلسل

وترى زوارقه على أمواجه

منسوبة للنّاظر المتأمّل

مثل العقارب فوق حيّات غدت

يسعى بها في عدوها ما يأتلي

وكأنما أسماكه من فضّة

من جمد ذائب مائه من أوّل

بعضهم :

أتطلب من زمانك ذا وفاء

وتأمل ذاك جهلا من بنيه؟

لقد عدم الوفاء به وإنّي

لأعجب من وفاء النّيل فيه

ومن كلام القاضي الفاضل في وصف النّيل المصريّ الذي يكسو الفضاء ثوبا فضّيّا ، ويدلي من الأرض ماءه سراجا من النّور مضيّا ، ويتدافع تيّاره واقفا في صدر الجدب بيد الخصب ، ويرضع أمّهات خلجه المزارع فيأتي أبناؤها بالعصف والأبّ (١).

وقال فيه أيضا :

وأمّا النّيل فقد امتدّت أصابعه ، وتكسّرت بالموج أضالعه ، ولا يعرف الآن قاطع طريق سواه ، ولا من يرجى ويخاف إلّا إيّاه.

وقال أيضا :

وأمّا النّيل المبارك فقد امتدّت أصابعه ، وتكسّرت بالموج أضالعه ، ولا يعرف الآن قاطع طريق سواه ، ولا من يرجى ويخاف إلّا إيّاه.

وقال أيضا :

وأمّا النّيل المبارك فقد ملأ البقاع ، وانتقل من الإصبع إلى الذراع ، فكأنّما غار على الأرضه فغطّاها ، وأغار عليه فاستقعد وما تخطّاها.

ومن كتاب السجع الجليل فيما جرى من النيل :

وأما البحر الّذي بنى عليه عنوان هذه العبوديّة ، فلا تسأل عمّا جرى منه ، وما نقلت الرّواة من العجائب عنه ؛ وذلك أنّه عمّ في أوّل قدومه بالنفع البلاد ، وساوى بين بطون الأودية وظهورها الوهاد. وقدم المفرد مبشّرا بوفائه في جمع لا نظير له في الآحاد ، واحمرّت على من طلب الغلاء عيونه ، وتكفّل للمعسر بأن يوفي بعد وفائه

__________________

(١) الأبّ : الاشتياق.

٣٠٨

ديونه ، ونزل السّعر حين أخذ منه طالع الارتفاع ، وأحدق بالقرى فأصبح كأنّه سماوات كواكبها الضّياع ؛ فلم يكن بعد ذلك إلّا كلمح البصر أو هو أقرب ، حتّى عسل (١) في شوارع مصر كما عسر الطريق الثعلب ، وجاس خلال ديارها فأصبح على زرائبها المبثوثة بسطة ، وأحاط بالمقياس إحاطة الدائرة بالنقطة. ثمّ علت أمواجه ، واشتدّ اضطرابه ، وكاد يمتزج بنهر المجرّة الذي الغمام زبده والنجوم حبابه (٢).

وشرّق حتّى ليس للشّرق مشرق

وغرّب حتّى ليس للغرب مغرب

إلى أن قال : أما دير الطّين (٣) فقد ليّس سقوف حيطانه ، واقتلع أشجار غيطانه ، وأتى على ما فيه من حاصل وغلّة ، وتركه ملقة ، فكان كما قيل : زاد الطّين بلّة.

وأما الجيزة فقد طغى الماء على قناطرها وتجسّر ، ووقع بها القصب من قامته حين علا عليه الماء وتكسّر ، فأصبح بعد اخضرار بزّته شاحب الإهاب ، ناصل الخضاب ، غارقا في قعر (بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ) [النور : ٤٠] ، وقطع طريق زاويتها على من بها من المنقطعين والفقراء ، وترك الطالح كالصالح يمشي على الماء ، فتنادوا مصبحين : (أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ) [القلم : ٢٤] ، وأدركهم الغرق فأيسوا من الخلاص ، (فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ) [طه : ٧٨] ، فنادوا : (وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) [ص : ٣] ، (فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ) [النحل : ٢٦] ، فانهدّت قواهم ، واستغاثوا من كثرة الماء بالذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم.

وأمّا الروضة (٤) فقد أحاط بها إحاطة الكمام بزهره ، والكأس بحباب خمره :

فكأنّها فيه بساط أخضر

وكأنّه فيها طراز مذهّب

فكم بها من متهم ومنجد ، ومسافر ممّا حصل له من المقيم المقعد. وحائك أصبح حول نوله ينير ، وجعل من غزله بل من غيظه على أجيره يحمل ويسير. ومنجّم وصل الماء من منزله إلى العتبة الخارجة فأصبح في أنحس تقويم ، ودخل إلى بيت أمراضه (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ) [الصافات : ٨٨] ، فأصبح في الطريق

__________________

(١) عسل : تحرّك واضطرب.

(٢) الحباب : الفقاقيع التي تعلو الماء.

(٣) في الخطط المقريزية : ١ / ٥٠٣ : دير مار حنّا قرب النيل يعرف اليوم بدير الطين.

(٤) جزيرة الروضة في النيل.

٣٠٩

وعليه كآبة وصفرة ، ودموعه في المحاجر كالحصى لها اجتماع وحمرة. وشاعر أوقعه في الضرورة بحره المديد ، واشتغل بهدم داره عن بيت القصيد ، وعروضيّ ضاقت عليه الدائرة فقال : هذه الفاصلة ، وقلع من عروض بيته وتدا أزعج بقلعه مفاصله. ونحويّ اشتغل عن زيد وعمرو يبلّ كتبه ، وذهل حين استوى الماء والخشبة ، عن المفعول معه والمفعول به ، وطار عقله لا سيّما عن تصانيف ابن عصفور ، وأخبر أنّ البحر وأثاث بيته جارّ ومجرور.

وأما الجزيرة الوسطى فقد أفسد جلّ ثمارها ، وأتى على مقاتيها فلم يدع شيئا من ردّيها وخيارها ، وألحق موجودها بالمعدوم ، وتلا على التكروريّ (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) [القلم : ١٦] ، وأخلق ديباج روضها الأنف ، وترك قلقاسها (١) بمدّه وجزره على شفا جرف.

وأما المنشاة فقد أصبحت للهجر مقرّة ، بعد أن كانت للعيون قرّة ، وقيل لمنشيها : (أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها) [البقرة : ٢٥٩] ، فقال : (يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) [يس : ٧٩]. ومال على ما فيها من شون الغلّات كلّ الميل ، وتركها تتلو بفمها الذي شقتاه مصراعا الباب : (يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ) [يوسف : ٦٣].

وأمّا بولاق فقد أصبحت صعيدا زلقا من الملق ، وقامت قيامة المارّ بها حين التفّت الساق بالساق من الزّلق ، فكم اقتلع بها شجرة لبتّ رؤوسها ، وترك ساقية تنوح على أختها التي أصبحت خاوية على عروشها.

وأمّا الخليج الحاكمي (٢) فقد خرج عكسر موجه بعد الكسر على حميّة ، ومرق من قسيّ قناطره كالسهم من الرميّة ، وتواضع حين قبّل بحّارة زويلة عتاب غرفها العالية ، وترك السقايين في حالة العجز عن وصفها صريع الدلاء وحمّاد الرواية. فأصبحوا من الكساد وقد سئموا الإقامة ، قائلين في شوارع مصر : يا الله السلامة.

ذكر البشارة بوفاء النيل (٣)

جرت العادة كلّ سنة إذا وفّى النيل أن يرسل السلطان بشيرا بذلك إلى البلاد

__________________

(١) القلقاس : نبات عسقولي جميل من فصيلة القلقاسيات ، يزرع في الشرق الأوسط ، أوراقه كبيرة خضراء ، ولبّه النشوي شبيه بلب البطاطا ، يؤكل أصله مطبوخا.

(المنجد).

(٢) انظر الخطط المقريزية : ٢ / ١٤٣.

(٣) في الخطط المقريزية : ٢ / ١٨٥ : علامة وفاء النيل ستة عشر ذراعا.

٣١٠

لتطمئن قلوب العباد ، وهذه عادة قديمة ، ولم يزل كتّاب الإنشاء ينشئون في ذلك الرسائل البليغة ؛ فمن إنشاء القاضي الفاضل في وفاء النيل عن السلطان صلاح الدين بن أيّوب :

نعم الله سبحانه وتعالى من أضوئها بزوغا ، وأخفاها سبوغا ، وأصفاها ينبوعا ، وأسناها منفوعا ، وأمدّها بحر مواهب ، وأختمها حسن عواقب. النّعمة بالنيل المصريّ الذي يبسط الآمال ويقبضها مدّه وجزره ، ويرمي النبات حجره ، ويحيي مطلعه الحيوان ، ويجني ثمرات الأرض صنوانا وغير صنوان ، وينشر مطويّ حريرها وينشر مواتها ، ويوضح معنى قوله تعالى : (وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها) [فصلت : ١٠].

وكان وفاء النيل المبارك تاريخ كذا ، فأسفر وجه الأرض وإنّ كان تنقّب ، وأمن يوم بشراه من كان خائفا يترقّب ، ورأينا الإبانة عن لطائف الله التي خفقت الظنون ، ووفت بالرزق المضمون ، (إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [الأنعام : ٩٩]. وقد أعلمناك لتستوفي حقّه من الإذاعة ، وتبعده من الإضاعة ، وتتصرّف على ما نصرّفك من الطاعة ، وتشهر ما أورده البشير من البشرى بإبانته ، وتمدّه بإيصال رسمه مهنّى على عادته.

وكتب القاضي محيي الدين عبد الله بن عبد الظاهر عن السلطان إلى نائب السلطنة بحلب بشارة بوفاء النيل :

أعزّ الله أنصار المقرّ وسرّه بكلّ مبهجة ، وهنّأه بكلّ مقدمة سرور تفد وللخصب والبركة منتجة ، وبكلّ نعمى لا تصبح لمنّة السحاب محوجة ، وبكلّ رحمى لا يستعدّ لأيّامها الباردة ولا للياليها المثلجة. هذه المكاتبة تفهمه أنّ نعم الله وإن كانت متعدّدة ، ومنحه وإن غدت بالبركات متردّدة ، ومنّته وإن أصبحت إلى القلوب متودّدة ، فإنّ أشملها وأكملها ، وأجملها وأفضلها ، وأجزلها وأنهلها ، وأتمّها وأعمّها ، وأضمّها وألمّها ، نعمة أجزأت المنّ والمنح ، وأنزلت في برك سفح المقطّم أغزر سفح. وأتت بما يعجب الزّراع ، ويعجّل الهرّاع ، ويعجز البرق اللمّاع ، ويعلّ القطاع ، ويغل الأقطاع ، وتنبعث أفواهه وأفواجه ، ويمدّ خطاها أمواهه وأمواجه ، ويسبق وفد الريح من حيث ينبري ، ويغبط مرّيخه الأحمر القمر لأنّ بيته السّرطان كما يغبط الحوت لأنّه بيت المشتري ، ويأتي عجبه في الغد بأكثر من اليوم وفي اليوم بأكثر من الأمس ، ويركب الطريق مجدّا ، فإن ظهر بوجهه حمرة فهي ما يعرض للمسافر من حرّ الشمس. ولو لم تكن شقته طويلة

٣١١

لما قيست بالذّراع ، ولو لا أنّ مقياسه أشرف البقاع لما اعتبر ما تأخّر من ماء حوله الماضي بقاع ، بينا يكون في الباب إذ هو في الطّاق ، وبينا يكون في الاحتراق إذا هو في الاختراق للإغراق ، وبينا يكون في المجاري ، إذا هو في السواري ، وبينا يكون في الجباب إذا هو في الجبال ، وبينا يقال لزيادته : هذه الأمواه إذ يقال لغلّاته : هذه الأموال. وبينا يكون ماء إذ أصبح حبرا ، وبينا هو يكسب تجارة قد أكسب بحرا ، وبينا يفسد عراه قد أتى بعرار جسور على الجسور جيشه الكرّار ، وكم أمست التّراع منه تراع ، والبحار منه تحار. كم حسنت مقطّعاته على مرّ الجديدين ، وكم أعانت مرارة مقياسه على الغرو من بلاد سيس (١) على العمودين (٢). أتمّ الله لطفه في الإتيان به على التّدريج ، وأجراه بالرّحمة إلى نقص العيون بالتفرّج والقلب بالتفريج ، فأقل جيشه بمواكبه ، وجاء يطاعن الجدب بالصواري من مراكبه ، ويصافف لجاجة الجسور في بيداء لججه ، ويثاقف القحط بالتراس من بركه والسّيوف من خلجه.

ولمّا تكامل إيابه ، وصحّ في ديوان الفلاح والفلاحة حسابه ، وأظهر ما عنده من ذخائر التيسير وودائعه ، ولفظ عموده حمل ذلك على أصابعه. وكانت الستّة عشر ذراعا تسمّى ماء السلطان ، نزلنا وحضرنا مجلس الوفاء المعقود ، واستوفينا شكر الله تعالى بفيض ما هو من زيادته محسوب ومن صدقاتنا مخرج ومن القحط مردود ، وقع تيّاره بين أيدينا سطورا تفوق ، وعلت يدنا الشريفة بالخلوق ، وحمدنا السير كما حمد لنا السرى ، وصرفناه في القرى للقرى ، ولم نحضره في العام الماضي فعملنا له من الشكر شكرانا وعمل هو ما جرى.

وحضرنا إلى الخليج وإذا به أمم قد تلقّونا بالدعاء المجاب ، وقرّظونا فأمرنا ماءه أن يحثو من سدّه في وجوه المدّاحين بالتراب ، ومرّ يبدي المسادّ ويعيدها ، ويزور منازل القاهرة ويعودها ، وإذا سئل عن أرض الطبّالة ، قال : جننّا بليلى ، وعن خلجها ، وهي جنّت بغيرنا. وعن بركة الفيل (٣) قال : وأخرى بنا مجنونة لا نريدها. وما برح حتّى تعوّض عن القيعان البقيعة ، من المراكب بالسرر المرفوعة ، ومن الأراضي المحروثة ، من جوانب الأدرب بالزرابيّ المبثوثة.

وانقضى هذا اليوم عن سرور لمثله فليحمد الحامدون ، وأصبحت مصر جنّة فيها

__________________

(١) سيس : لم تذكر في معجم البلدان.

(٢) لعلّ المقصود بذلك المسلّتان بعين شمس بالقرب من المطرية من ضواحي القاهرة. [النجوم الزاهرة : ١ / ٥٤].

(٣) في الخطط المقريزية : ٢ / ١٦٤ : هذه البركة فيما بين مصر والقاهرة.

٣١٢

ما تشتهي الأنفس وتلذّ الأعين وأهلها في ظلّ الأمن خالدون. فليأخذ حظّه من هذه البشرى التي ما كتبنا بها حتّى كتبت بها الرياح إلى نهر المجرّة إلى البحر المحيط ، ونطقت بها رحمة الله تعالى إلى مجاوري بيته من لابسي التقوى ونازعي المحيط ، وبشّرت بها مطايا المسير الذي يسير من قوص غير منقوص ، ويتشارك بها الابتهاج في العالم فلا مصر دون مصر بها مخصوص.

والله تعالى يجعل الأولياء في دولتنا يبتهجون بكلّ أمر جليل ، وجيران الفرات يفرحون بجريان النيل.

وكتب الصلاح الصفديّ بشارة إلى بعض النوّاب في بعض الأعوام :

ضاعف الله نعمة الجناب وسرّ نفسه بأنفس بشرى ، وأسمعه من الهناء كلّ آية أكبر من الأخرى ، وأقدم عليه من المسارّ ما يتحرّز ناقل ويتحرّى ، وساق إليه كلّ طليعة إذا تنفّس صبحها تفرّق الليل وتفرّى ، وأورد لديه من أنباء الخصب ما يتبرّم به محلّ المحل ويتبرّى.

هذه المكاتبة إلى الجناب العالي نخصّه بسلام يرى كالماء انسجاما ، ويروق كالزهر ابتساما ، ونتحفه بثناء جعل المسك له ختاما ، وضرب له على الرياض النافحة خياما ، ونقصّ عليه من أنباء النيل الذي خصّ الله البلاد المصريّة بوفادة وفائه ، وأغنى به قطرها عن القطر فلم تحتج إلى مدّ كافه وفائه ، ونزّهه عن منّة الغمام الذي إنّ جاد فلا بدّ من شهقة رعده ودمعة بكائه ، فهي الأرض التي لا يذمّ للأمطار في جوّها مطار ، ولا يزمّ للقطّار في نفعها قطار ، ولا ترمد الأنواء فيها عيون النّوار ، ولا تشيب بالثلوج مفارق الطرق ورؤوس الجبال ، ولا تفقد فيها حلى النجوم لاندراج الليلة تحت السحب بين اليوم وأمس ، ولا يتمسّك في سنائها المساكين كما قبل بحبال الشمس ، وأين أرض يخدّ عجاجها بالبحر العجّاج ، وتزدحم في ساحاتها أفواج الأمواج ، من أرض لا تنال السّقيا إلا بحرب لأنّ القطر سهام والضباب عجاج قد انعقد ، ولا يعمّ الغيث بقاعها لأنّ السحب لا تراها إلا بسراج البرق إذا اتّقد. فلو خاصم النيل مياه الأرض لقال : عندي قبالة كلّ عين إصبع ، ولو فاخرها لقال : أنت بالجبال أثقل وأنا بالملق أطبع. والنيل له الآيات الكبر ، وفيه العجائب والعبر ، منها وجود الوفا ، عند عدم الصفاء ، وبلوغ الهرم ، إذا احتد واضطرم ، وأمن كلّ فريق ، إذا قطع الطريق وفرح قطان الأوطان إذا كسر وهو كما يقال سلطان. وهو أكرم منتدى ، وأعزب مجتبى ، وأعظم مجتدى ، إلى غير ذلك من خصائصه ، وبراءته مع الزيادة من نقائصه.

وهو أنّه في هذا العام المبارك جذب البلاد من الجدب وخلّصها بذراعه ، وعصمها

٣١٣

بخنادقه التي لا تراع من تراعه ، وحضّها بسواري الصواري تحت قلوعه وما هي إلا عمد قلاعه ، وراعى الأدب بين أيدينا الشريفة بمطالعتنا في كلّ يوم بحر قاعه في رقاعه ، حتّى إذا أكمل الستّة عشر ذراعا وأقبلت سوابق الخيل سراعا ، وفتح أبواب الرحمة بتغليقه ، وجد في طلب تخليقه ، تضرّع بمدّ ذراعه إلينا ، وسلم عند الوفاء بأصابعه علينا. ونشر علم ستره ، وطلب لكرم طباعه جبر العالم بكسره ، فرسمنا بأن يخلّق ، ويعلّم تاريخ هنائه ويعلّق ، فكسر الخليج وقد كاد يعلوه فوق موجه ، ويهيل كثيب سدّه هول هيجه ، ودخل يدوس زرابيّ الدور المبثوثة ، ويجوس خلال الحنايا كأنّ له فيها خبايا موروثة. ومرق كالسهم من قسيّ قناطره المنكوسه ، وعلاه زبد حركته ولولاه ظهرت في باطنه من بدور إناثه أشعّتها المعكوسة. وبشر بركة الفيل ببركة الفال ، وجعل المجنونة من تياره المنحدر في السلاسل والأغلال ، وملأ أكفّ الرجا بأموال الأمواه ، وازدحمت في عبارة شكره أفواج الأفواه. وأعلم الأقلام بعجزها عمّا يدخل من خراج البلاد ، وهنأت طلائعه بالطوالع التي نزلت بركاتها من الله على العباد.

وهذه عوائد الألطاف الإلهيّة بنا لم نزل نجلس على موائدها ، ونأخذ منها ما نهبه لرعايانا من فوائدها. ونخصّ بالشكر قوادمها فهي تدبّ حولنا وتدرج ، وتخصّ قوادمها بالثناء والمدح والحمد فهي تدخل إلينا وتخرج.

فليأخذ الجناب العالي حظّه من هذه البشرى التي جاءت بالمنّ والمنح ، وانهلّت أياديها المغدقة بالسّحّ والسفح ، وليتلقّاها بشكر يضيء به في الدجى أديم الأفق ، ويتّخذها عقدا تحيط منه بالعنق إلى النطق ، وليتقدّم الجناب العالي بألّا يحرّك الميزان في هذه البشرى بالجباية لسانه ، وليعط كلّ عامل في بلادنا بذلك أمانه ، وليعمل بمقتضى هذا المرسوم حتّى لا يرى في أسقاط الجباية خيانة ، والله يديم الجناب العالي لقصّ الأنباء الحسنة عليه ، ويمتّعه بجلاء عرائس التهاني والأفراح لديه.

وكتب الأديب تقيّ الدين أبو بكر بن حجّة بشارة عن الملك المؤيّد شيخ ، سنة تسع عشرة وثمانمائة :

ونبدي لعلمه الكريم ظهور آية النيل الّذي عاملنا الله فيه بالحسن وزيادة ، وأجراه لنا في طرق الوفاء على أجمل عادة ، وخلق أصابعه ليزول الإيهام فأعلن المسلمون بالشهادة ، كسر بمسرى فأمسى كلّ قلب بهذا الكسر مجبورا ، وأتبعناه بنوروز وما برح هذا الاسم بالسعد المؤيديّ مكسورا ، دقّ قفا السودان فالراية البيضاء من كلّ قلع عليه ،

٣١٤

وقبّل ثغور الإسلام فأرشفها ريقه الحلو فمالت أعطاف غصونها إليه ، وشبّب خريره في الصعيد بالقصب ، ومدّ سبائكه الذهبيّة إلى جزيرة الذهب ، فضرب الناصريّة واتّصل بأمّ دينار ، وقلنا : لولا أنّ صبغ بقوّة لما جاء وعليه ذلك الاحمرار.

وأطال الله عمر زيادته فتردّد إلى الآثار ، وعمّته البركة فأجرى سواقي ملكه إلى أن غدت جنّة تجري من تحتها الأنهار ، وحضن مشتهى الرّوضة في صدره ، وحنا عليها حنوّ المرضعات على الفطيم :

وأرشفنا على ظمأ زلالا

ألذّ من المدامة للنديم

وراق مديد بحره لما انتظمت عليه تلك الأبيات ، وسقى الأرض سلافته (١) الخمريّة فخدمته بحلو النبات ، وأدخله إلى جنّات النخيل والأعناب فالق النوى والحبّ ، فأرضع في أحشاء الأرض جنين النّبت ، وأحيا له أمّهات العصف والأبّ. وصافحته كفوف الموز فختمها بخواتمه العقيقيّة ولبس الورد تشريفه ، وقال : أرجو أن تكوني شوكتي في أيّامه قويّة ، ونسي الزهر بحلاوة لقائه مرارة النّوى ، وهامت به مخدّرات الأشجار فأرخت ضفائر فروعها عليه من شدّة الهوى ، واستوفى النبات ما كان له في ذمة الريّ من الديون ، ومازج الحوامض بحلاوته فهام النّاس بالسّكّر والليمون ، وانجذب إليه الكبّاد وامتدّ ، ولكنّ قوى قوسه لمّا حظي منه بسهم لا يردّ ، ولبس شربوش الأترجّ وترفّع إلى أن لبس بعده التاج ، وفتح منثور الأرض لعلامته بسعة الرزق وقد نفذ أمره وراج ، فتناول مقالم الشنبر وعلّم بأقلامها ، ورسم لمحبوس كلّ سدّ بالإفراج ، وسرّح بطائق السفن فخفقت أجنحتها بمخلق بشائره ، وأشار بأصابعه إلى قتل المحل فبادر الخصب إلى امتثال أوامره ، وحظي بالمعشوق وبلغ من كلّ منية مناه ، فلا سكن على البحر إلّا تحرّك ساكنه بعدما تفقّه واتقن باب المياه ، ومدّ شفاه أمواجه إلى تقبيل فم الخور (٢) ، وزاد مترعه فاستحلى المصريّون زائده على الفور ، ونزل في بركة الحبش (٣) فدخل التّكرور في طاعته ، وحمل على الجهات البحريّة فكسر المنصورة وعلا على الطويلة بشهامته ، وأظهر في مسجد الخضر عين الحياة فأقرّ الله عينه ، وصار أهل دمياط في برزخ بين المال وبينه ، وطلب المالح ردّه بالصدر وطعن في حلاوة شمائله ، فما شعر إلّا وقد ركب عليه ونزل في ساحله.

__________________

(١) السلافة : سلافة أي شيء عصرته وأوّله.

(٢) في الخطط المقريزية : ٢ / ١٤٤ : خليج فم الخور يخرج الأن من بحر النيل ويصبّ في الخليج الناصري ليقوى جري الماء فيه.

(٣) انظر الخطط المقريزية : ٢ / ١٥٢.

٣١٥

وأما المحاسن فدارت دوائره على وجنات الدهر عاطفة ، وثقلت أرداف أمواجه على خصور الجواري واضطربت كالخائفة ، ومال شيّق النخيل إليه فلثم ثغر طلعه وقبّل سالفه ، وأمست سود الجواري كالحسنات على حمرة وجناته ، وكلّما زاد زاد الله في حسناته ؛ فلا فقير سدّ إلا حصل له من فيض نعماه فتوح ، ولا ميّت خليج إلا عاش به ودبّت فيه الروح ، ولكنّه احمرّت عينه على الناس بزيادة وترفّع ، فقال له المقياس (١) : عندي قبالة كلّ عين أصبع. ونشر أعلام قلوعه وحمل وله على ذي الجزيرة زمجرة ، ورام أن يهجم على غير بلاده فبادر إليه عزم المؤيديّ وكسره.

وقد آثرنا الجناب بهذه البشرى الّتي سرى فضلها برّا وبحرا ، وحدّثناه عن البحر ولا حرج وشرحنا له حالا وصدرا ، ليأخذ حظّه من هذه البشارة البحريّة بالزيادة الوافرة ، وينشق من طيبها نشرا فقد حملت له من طيّبات ذلك النسيم أنفاسا عاطرة. والله تعالى يوصل بشائرنا الشريفة لسمعه الكريم ليصير بها في كلّ وقت مشنفا ، ولا برح من نيلها المبارك وإنعامنا الشريف على كلا الحالين في وفا.

ذكر المقياس

قال ابن عبد الحكم : كان أوّل من قاس النّيل بمصر يوسف (٢) عليه‌السلام ، ووضع مقياسا بمنف ، ثم وضعت العجوز دلوكة (٣) ابنة زبّاء مقياسا بأنصنا (٤) ؛ وهو صغير الذّرع ومقياسا بإخميم. ووضع عبد العزيز بن مروان مقياسا بحلوان وهو صغير ، ووضع أسامة ابن زيد التّنوخيّ في خلافة الوليد (٥) مقياسا بالجزيرة ؛ وهي المسمّاة الآن بالرّوضة ، وهو أكبرها ؛ حدّثنا يحيى بن بكير ، قال : أدركت القيّاس يقيس في مقياس منف ويدخل بزيادته إلى الفسطاط.

هذا ما ذكره ابن عبد الحكم.

قال التّيفاشيّ : ثم هدم المأمون مقياس الجزيرة ، وأسّسه ولم يتمّه ، فأتمّ المتوكّل بناءه (٦) وهو الموجود الآن.

__________________

(١) انظر الخطط المقريزية : ٢ / ١٨٥.

(٢) النجوم الزاهرة : ١ / ٣٧٢.

(٣) انظر النجوم الزاهرة : ١ / ٣٧٢.

(٤) في النجوم الزاهرة : ١ / ٣٧٢ : أنصنا مدينة قديمة من نواحي صعيد مصر.

(٥) في النجوم الزاهرة : ١ / ٣٧٢ : الوليد بن عبد الملك.

(٦) في النجوم الزاهرة : ١ / ٣٧٢ : سنة ٢٤٧ ه‍.

٣١٦

وقال صاحب مباهج الفكر : المقياس الذي بأنصنا ينسب لأشمون بن قفطيم بن مصر ، ويقال إنّه من بناء دلوكة ، وبناؤه كالطيلسان ، وعليه أعمدة بعدد أيام السنة من الصوّان الأحمر.

ورأيت في بعض المجاميع ما نصّه : قال ابن حبيب : وجدت في رسالة منسوبة إلى الحسن بن محمد بن عبد المنعم ، قال : لمّا فتحت مصر عرف عمر بن الخطاب ما يلقى أهلها من الغلاء عن وقوف النّيل عن مدّه في مقياس لهم فضلا عن تقاصره ، وإنّ فرط الاستشعار يدعوهم إلى الاحتكار ، ويدعو الاحتكار إلى تصاعد الأسعار بغير قحط ، فكتب عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص يسأله عن شرح الحال ، فأجابه. فقال عمرو : إنّي وجدت ما تروى به مصر حتّى لا يقحط أهلها أربعة عشر ذراعا ، والحدّ الذي يروى منه سائرها حتّى يفضل عن حاجتهم ويبقى عندهم قوت سنة أخرى ستة عشر ذراعا ، والنهايتين المخوّفتين في الزيادة والنقصان ـ وهو الظمأ والاستبحار ـ اثنتا عشرة ذراعا في النقصان ، وثماني عشرة ذراعا في الزيادة ؛ هذا والبلد في ذلك محفور الأنهار ، معقود الجسور عندما تسلّموه من القبط وخمير (١) العمارة فيه.

فاستشار عمر بن الخطاب عليّ بن أبي طالب في ذلك ، فأمره أن يكتب إليه بأن يبني مقياسا ، وأن ينقص ذراعين على (٢) اثنتي عشر ذراعا ، وأن يقرّ ما بعدها على الأصل ، وأن ينقص من [كل](٣) ذراع بعد الستّة عشر ذراعا إصبعين.

ففعل ذلك وبناه بحلوان ، فاجتمع له ما أراد من حال الأرجاف ، وزال ما منه كان يخاف ، بأن يجعل الاثنتي عشرة ذراعا أربع عشرة ذراعا ؛ لأنّ كلّ ذراع أربعة وعشرون إصبعا ، فجعلها ثمانية وعشرين من أوّلها إلى الاثنتي عشرة ذراعا ، تكون مبلغ الزيادة على الاثنتي عشرة ثمانية وأربعين إصبعا ؛ وهي الذراعان ، وجعل الأربع عشرة ستّ عشرة والستّة عشرة ثماني عشرة ، والثماني عشرة عشرين ذراعا ، وهي المستقرّة الآن.

وقال بعضهم : كتب الخليفة جعفر المتوكّل إلى مصر يأمر ببناء المقياس الجديد الهاشميّ في الجزيرة سنة سبع وأربعين ومائتين ؛ وكان الذي يتولّى أمر المقياس النصارى ، فورد كتاب أمير المؤمنين المتوكّل في هذه السنة على بكّار بن قتيبة قاضي مصر ، بألّا يتولّى ذلك إلّا مسلم يختاره ؛ فاختار القاضي بكّار لذلك الردّاد عبد الله بن

__________________

(١) في النجوم الزاهرة : ١ / ٣٧٥ : خميرة.

(٢) وفيه أيضا : من.

(٣) هكذا في المرجع السابق.

٣١٧

عبد السلام (١) المؤدب ، وكان محدّثا فأقامه القاضي بكّار لمراعاة المقياس ، وأجرى عليه الرزق (٢) ، وبقي ذلك في ولده إلى اليوم.

وقال صاحب المرأة : المقياس الظاهر الآن بناه المأمون ، وقيل : إنّما بناه أسامة ابن زيد التنوخيّ في خلافة سليمان بن عبد الملك ، ودثر فجدّده المأمون. وبنى أحمد (٣) بن طولون مقياسين ؛ أحدهما بقوص وهو قائم اليوم ، والآخر بالجزيرة وقد انهدم.

قال القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر في العود الذي يطّلع به المقسي قياس النيل في كلّ يوم بزيادة النيل :

قد قلت لمّا أتى المقسي وفي يده

عود به النيل قد عودي وقد نودي

أيّام سلطاننا سعد السعود وقد

صحّ القياس يجري الماء في العود

ذكر جزيرة مصر وهي المسمّاة الآن بالروضة

قال المقريزيّ : اعلم أنّ الرّوضة تطلق في زماننا على الجزيرة التي بين مدينة مصر وبين مدينة الجيزة ، وعرفت في أوّل الإسلام بالجزيرة وجزيرة مصر ، ثمّ قيل لها جزيرة الحصن ، وعرفت الروضة من زمن الأفضل بن أمير الجيوش إلى اليوم. انتهى.

والجزيرة كلّ بقعة في وسط البحر لا يعلوها البحر ، سمّيت بذلك لأنها جزرت ، أي قطعت وفصّلت من تخوم الأرض ، فصارت منقطعة.

وفي الصّحاح : الجزيرة : واحدة جزائر البحر ؛ سميت بذلك لانقطاعها عن معظم الأرض.

وقال ابن المتوّج في كتابه إيقاظ المتغفّل واتّعاظ المتأمّل : إنّما سميت جزيرة مصر بالرّوضة ، لأنّه لم يكن بالديار المصريّة مثلها وبحر النيل حائز لها ودائر عليها ، وكانت حصينة ، وفيها من البساتين والثمار ما لم يكن في غيرها.

ولما فتح عمرو بن العاص مصر تحصّن الرّوم بها مدّة ، فلمّا طال حصارها وهرب

__________________

(١) النجوم الزاهرة : ١ / ٣٧٣ : عبد الله بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي الردّاد المؤذّن ، وأصله من البصرة ، قدم مصر وحدّث بها.

(٢) سبعة دنانير في كل شهر. [النجوم الزاهرة : ١ / ٣٧٣].

(٣) في النجوم الزاهرة : ١ / ٣٧٤ : أمر بإصلاحه وقدّر له ألف دينار.

٣١٨

الروم منها خرّب عمرو بن العاص بعض أبراجها وأسوارها ، وكانت مستديرة عليها ، واستمرّت إلى أن عمّر حصنها أحمد بن طولون في سنة ثلاث وستين [ومائتين] ، ولم يزل هذا الحصن حتّى خرّبه النيل.

وقال المقريزي : اعلم أن الجزائر التي هي الآن في بحر النيل كلّها حادثة في الإسلام ما عدا الجزيرة التي تعرف اليوم بالروضة تجاه مدينة مصر ؛ فإنّ العرب لمّا دخلوا مع عمرو بن العاص إلى أرض مصر وحاصروا الحصن الذي يعرف اليوم بقصر الشمع في مصر ؛ حتّى فتح الله عنوة على [يد] المسلمين ، وكانت هذه الجزيرة حينئذ تجاه القصر ، لم يبلغني إلى الآن متى حدثت ، وأما غيرها من الجزائر كلّها فقد تجدّدت بعد فتح مصر ، وإلى هذه الجزيرة التجأ المقوقس لمّا فتح الله على المسلمين القصر ، وصار بها هو ومن معه من جموع الروم والقبط.

وقال ابن عبد الحكم : كان بالجزيرة في أيام عبد الملك بن مروان أمير مصر خمسمائة فاعل عدّة لحريق إن كان في البلاد أو هدم.

وقال الكنديّ : بنيت بالجزيرة الصّناعة في سنة أربع وخمسين : والصنّاعة اسم لمكان قد أعدّ لإنشاء المراكب البحرية ـ وأوّل صناعة عملت بأرض مصر التي بنيت بالروضة في سنة أربع وخمسين من الهجرة ، فاستمرّت إلى أيّام الإخشيد ، فأنشأ صناعة بساحل فسطاط مصر ، وجعل موضع الصناعة التي بالروضة بستانا سمّاه المختار (١).

وقال القضاعيّ : حصن الجزيرة بناه أحمد بن طولون في سنة ثلاث وستّين ومائتين ، ليحرز فيه حريمه وماله ، وكان سبب ذلك مسير موسى بن بغا من العراق واليا على مصر ، وجميع أعمال ابن طولون ، وذلك في خلافة المعتمد على الله ، فلمّا بلغ أحمد بن طولون مسيره تأمّل مدينة فسطاط مصر ، فوجدها لا تأخذ (٢) إلا من جهة النيل ، فبنى الحصن بالجزيرة التي بين الفسطاط والجيزة ليكون معقلا لحريمه وذخائره ، واتّخذ مائة مركب حربية سوى ما يضاف إليها من العشاريّات وغيرها ؛ فلما بلغ موسى بن بغا بالرّقة تثاقل عن المسير لعظم شأن ابن طولون وقوّته ، ثمّ لم يلبث موسى أن مات ، وكفى ابن طولون أمره.

وقال محمد بن داود لأحمد بن طولون :

__________________

(١) الخطط المقريزية : ٢ / ١٨٣.

(٢) لعلّ الصواب : لا تؤخذ.

٣١٩

لما قضى ابن بغا بالرّقتين ملا

ساقيه درقا إلى الكعبين والعقب (١)

بنى الجزيرة حصنا يستجنّ به

بالعسف والضرب ، والصنّاع في تعب

وواثب الجيزة القصوى فخندقها

وكاد يصعق من خوف ومن رعب

له مراكب فوق النيل راكدة

لما سوى القار للنّظار والخشب

ترى عليها لباس الذّلّ مذ بنيت

بالشطّ ممنوعة من عزّة الطّلب

فما بناها لغزو الروم محتسبا

لكن بناها غداة الرّوع للهرب

وقال سعيد القاصّ من أبيات :

وإنّ جئت رأس الجسر فانظر تأمّلا

إلى الحصن أو فاعبر إليه على الجسر

ترى أثرا لم يبق من يستطيعه

من النّاس في بدو البلاد ولا حضر

وما زال حصن الجزيرة هذا عامرا أيّام بني طولون ؛ حتّى أخذه النيل شيئا فشيئا ، وقد بقيت منه بقايا متقطّعة إلى الآن.

وكان نقل الصّناعة من الجزيرة إلى ساحل مصر في شعبان سنة خمس وعشرين وثلثمائة ، وبنى مكانها البستان المختار ، وصرف على بنائه خمسة آلاف دينار ؛ فاتّخذه الإخشيد متنزّها به ، وصار يفاخر به أهل العراق ، ولم يزل متنزّها إلى أن زالت الدّولة الإخشيديّة والكافوريّة ، وقدمت الدولة العبيدية ؛ فكان يتنزّه فيه المعزّ والعزيز ، وصارت الجزيرة مدينة عامرة بالناس ، بها وال وقاض. وكان يقال : القاهرة ومصر والجزيرة ؛ فلمّا استولى الأفضل شاهنشاه بن أمير الجيوش بدر الدين ، أنشأ في بحريّ الجزيرة بستانا نزها سمّاه الروضة ، وتردّد إليه تردّدات كثيرة ؛ ومن حينئذ صارت الجزيرة كلّها تعرف بالروضة.

قال ابن ميسر في تاريخ مصر : أنشأ الأفضل الرّوضة بحريّ الجزيرة ، وكان يمضي كلّ يوم إليها في العشاريّات الموكبيّة ، وكان قتل الأفضل في سنة خمس عشرة وخمسمائة.

قال : وفي سنة ستّ عشرة وخمسمائة ، نقل المأمون البطائحيّ الوزير عمارة المراكب الحربيّة من الصناعة التي بجزيرة مصر إلى الصناعة القديمة بساحل مصر ، وبنى عليها منظرة كانت باقية إلى آخر أيام الدولة العلوية ، فلما استبدّ الخليفة الآمر بالأمر ، أنشأ بجوار البستان المختار من جزيرة الرّوضة مكانا لمحبوبته البدويّة عرف بالهودج (٢) ،

__________________

(١) الدرق : الصلب من كل شيء.

(٢) انظر الخطط المقريزية : ٢ / ١٩٣.

٣٢٠