حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة - ج ٢

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي

حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة - ج ٢

المؤلف:

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨١
الجزء ١ الجزء ٢

أمديرها من حيث دار (١) لطالما

زاحمت تحت ركابه جبريلا

ثم توجّه المعزّ من المغرب في شوّال سنة إحدى وستين ، فوصل الإسكندرية في شعبان سنة اثنتين وستين ، وتلقّاه أعيان مصر إليها ، فخطب هناك خطبة بليغة ، وجلس قاضي مصر أبو الطّاهر الذّهليّ إلى جنبه ، فسأله : هل رأيت خليفة أفضل منّي؟ فقال : لم أر أحدا من الخلائف سوى أمير المؤمنين ؛ فقال له : أحججت؟ قال : نعم ، قال : وزرت قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ قال : نعم ، قال : وقبر أبي بكر وعمر؟ قال : فتحيّرت ما ذا أقول! ثم نظرت فإذا ابنه قائم مع كبار الأمراء ، فقلت : شغلني عنهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما شغلني أمير المؤمنين عن السلام على وليّ العهد ، ونهضت إليه فسلّمت عليه ، ورجعت فانفسح المجلس إلى غيره ، ثمّ صار من الإسكندرية إلى مصر ، فدخلها في خامس رمضان (٢) ، فنزل بالقصرين ، فكان أوّل حكومة انتهت إليه أنّ امرأة كافور الإخشيديّ تقدّمت إليه ، فذكرت له أنّها كانت أودعت رجلا من اليهود الصوّاغ قباء من لؤلؤ منسوج بالذهب ، وأنّه جحد ذلك ، فاستحضره وقرّره ، فأنكر اليهوديّ ، فأمر أن تفتّش داره ، فوجد القباء قد جعله في جرّة ، ودفنها فيها. فدفعه المعزّ إليها ، فقدّمته إليه ، وعرضته عليه ، فأبى أن يقبله منها ، وردّه عليها ، فاستحسن ذلك منه الحاضرون من مؤمن وكافر ، وسار إليه الحسن بن أحمد القرمطيّ (٣) في جيش كثيف ، وأنشد يقول :

زعمت رجال الغرب أنّي هبتهم

فدمي إذن ما بينهم مطلول

يا مصر إن لم أسق أرضك من دم

يروي ثراك فلا سقاني النّيل

والتفّت معه أمير العرب ببلاد الشام ، وهو حسّان بن الجرّاح الطائي في عرب الشام ، لينزعوا مصر منه ، وضعف جيش المعزّ عن مقاومتهم. فراسل حسّان ، ووعده بمائة ألف دينار ، إن هو خذّل بين الناس ، فأرسل إليه ؛ أن ابعث إليّ بما التزمت ، وتعال بمن معك ، فإذا التقينا انهزمت بمن معي. فأرسل إليه المعزّ مائة ألف دينار في أكياس أكثرها زغل ضرب النحاس ، ولبّسه الذهب ، وجعله في أسفل الأكياس ووضع في رؤوس الأكياس الدّنانير الخالصة ، وركب في أثرها بجيشه ، فالتقى النّاس ، فلمّا نشبت الحرب بينهم ، انهزم حسّان بالعرب ، فضعف جانب القرمطيّ ، وقوي عليه المعزّ

__________________

(١) من ديوان ابن هانىء الأندلسي.

(٢) في الكامل لابن الأثير ٧ / ٤٦ : من سنة ٣٦٢ ه‍.

(٣) في الكامل لابن الأثير ٧ / ٥٤ : في سنة ٣٦٣ ه‍ سار القرامطة ومقدمهم الحسن بن أحمد من الإحساء إلى ديار مصر ، فحصرها.

٢١

فكسره ، واستمرّ المعزّ (١) بالقاهرة إلى أن مات في ربيع الآخر سنة خمس وستين. وكان منجّمة قال له في في السنة التي قبلها : إنّ عليك قطعا في هذه السنة فتوار عن وجه الأرض حتّى تنقضي هذه المدّة ؛ فعمل له سردابا ، ودعا الأمراء وأوصاهم بولده نزار ، ولقّبه العزيز ، وفوّض إليه الأمر حتّى يعود ، فبايعوه على ذلك ، ودخل ذلك السرداب ، فتوارى فيه سنة ، فكانت المغاربة إذا رأى الفارس منهم سحابا ساريا ترجّل عن فرسه ، وأومى إليه بالسلام ، ظانّين أنّ المعزّ في ذلك الغمام. ثمّ برز إلى النّاس بعد مضيّ سنة ، وجلس للحكم على عادته ، فعاجله الله في هذه السنة. وولي بعده ابنه العزيز أبو منصور نزار ، فأقام إلى أن مات سنة ستّ وثمانين وثلاثمائة.

ومن غرائبه أنّه استوزر رجلا نصرانيّا يقال له عيسى بن نسطورس ، وآخر يهوديّا اسمه ميشا (٢) ، فعزّ بسببهما اليهود والنصارى على المسلمين في ذلك الزمان ، حتّى كتبت إليه امرأة في قصّة في حاجة لها تقول : بالذي أعزّ النصارى بعيسى بن نسطورس ، واليهود بميشا ، وأذلّ المسلمين بك ؛ لما كشفت عن ظلامتي (٣)! فعند ذلك أمر بالقبض على هذين ، وأخذ من النّصرانيّ ثلثمائة ألف دينار ، وولّى بعده ابنه الحاكم (٤) ، فكان شرّ الخليقة ، لم يل مصر بعد فرعون شرّ منه ؛ رام أن يدّعي الإلهيّة كما ادّعاها فرعون ، فأمر الرعيّة إذا ذكره الخطيب على المنبر أن يقوموا على أقدامهم صفوفا إعظاما لذكره ، واحتراما لاسمه ؛ فكان يفعل ذلك في سائر ممالكه حتّى في الحرمين الشريفين. وكان أهل مصر على الخصوص إذا قاموا خرّوا سجّدا ؛ حتّى أنّه يسجد بسجودهم في الأسواق الرّعاع وغيرهم. وكان جبّارا عنيدا ، وشيطانا مريدا ، كثير التلوّن في أقواله وأفعاله ، هدم كنائس مصر ثمّ أعادها ، وخرّب قمامة (٥) ثمّ أعادها ، ولم يعهد في ملّة الإسلام بناء كنيسة في بلد الإسلام قبله ولا بعده إلا ما سنذكره.

__________________

(١) في الكامل لابن الأثير ٧ / ٦٦ : مولده بالمهدية يوم الاثنين حادي عشر رمضان سنة تسع عشرة وثلاثمائة ، وبويع بالخلافة في الغرب يوم الجمعة التاسع والعشرين من شوال سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة.

(٢) في الكامل لابن الأثير ٧ / ١٤٦ : منشا بن إبراهيم بن الفرار.

(٣) هذه القصة ذكرها ابن الأثير على أنها ملفقة من قبل المسلمين بسبب أذية النصارى واليهود لهم. [المصدر السابق].

(٤) في الكامل لابن الأثير ٧ / ١٧٧ : أبو علي المنصور ولقب الحاكم بأمر الله ـ وعمره إحدى عشرة سنة وستة أشهر.

(٥) كنيسة القيامة.

٢٢

وقد نقل السّبكيّ الإجماع على أنّ الكنيسة إذا هدمت ولو بغير وجه لا تجوز إعادتها.

ومن قبائح الحاكم أنّه ابتنى المدارس ، وجعل فيها الفقهاء والمشايخ ، ثمّ قتلهم وخرّبها ، وألزم الناس بإغلاق الأسواق نهارا وفتحها ليلا ؛ فامتثلوا ذلك دهرا طويلا حتّى اجتاز مرّة بشيخ يعمل التجارة في أثناء النهار ، فوقف عليه ، وقال : ألم ننهكم عن هذا! فقال : يا سيّدي ، أما كان الناس يسهرون لما كانوا يتعيشون بالنّهار؟ فهذا من جملة السهر. فتبسّم وتركه. وأعاد النّاس إلى أمرهم الأوّل. وكان يعمل الحسبة بنفسه يدور في الأسواق على حمار له ، وكان لا يركب إلّا حمارا ، فمن وجده قد غشّ في معيشته أمر عبدا أسود معه يقال له مسعود أن يفعل به الفاحشة العظمى. وكان منع النساء من الخروج من منازلهنّ ، وأن يطلعن من الطاقات أو الأسطحة ، ومنع الخفّافين من عمل الأخفاف لهنّ ، ومنعهنّ من دخول الحمّامات ، وقتل خلقا من النساء على مخالفته في ذلك ، وهدم بعض الحمامات عليهنّ ، ومنع من طبخ الملوخيا. وله رعونات كثيرة لا تنضبط ، فأبغضه الخلق ، وكتبوا له الأوراق بالشتم له ولأسلافه في صورة قصص ، حتّى عملوا صورة امرأة (١) من ورق بخفّها وإزارها ، وفي يدها قصّة فيها من الشّتم شيء كثير ، فلمّا رآها ظنّها امرأة ، فذهب من ناحيتها وأخذ القصّة من يدها ، فلمّا رأى ما فيها غضب ، وأمر بقتلها ؛ فلمّا تحقّقها من ورق ، ازداد غضبا إلى غضبه ، وأمر العبيد من السّود أن يحرقوا مصر وينهبوا ما فيها من الأموال والحريم ، ففعلوا ، وقاتلهم أهل مصر قتالا عظيما ثلاثة أيام ، والنار تعمل في الدّور والحريم. واجتمع النّاس في الجوامع ، ورفعوا المصاحف ، وجأروا إلى الله واستغاثوا به ، وما انجلى الحال حتّى احترق من مصر نحو ثلثها ، ونهب نحو نصفها ، وسبي حريم كثير وفعل بهنّ الفواحش. واشترى الرّجال من سبي لهم من النساء والحريم من أيدي العبيد.

قال ابن الجوزيّ : ثمّ زاد ظلم الحاكم ، وعنّ له أن يدّعي الربوبيّة ، فصار قوم من الجهّال إذا رأوه يقولون : يا واحد ، يا أحد يا محيي يا مميت!

قلت : كان في عصرنا أمير يقال له أزدمر الطويل ، اعتقاده قريب من اعتقاد الحاكم هذا ، وكان يروم أن يتولّى المملكة ، فلو قدّر الله له بذلك فعل نحو ما فعله الحاكم وقد أطلعني على ما في ضميره ، وطلب منّي أن أكون معه على هذا الاعتقاد في الباطن إلى أن يؤول إلى السلطنة ، فيقوم في الخلق بالسيف حتّى يوافقوه على الاعتقاد. فضقت

__________________

(١) انظر الكامل لابن الأثير : ٧ / ٣٠٥.

٢٣

بذلك ذرعا ، وما زلت أتضرّع إلى الله تعالى في هلاكه ، وألّا يوليه على المسلمين ، واستغاث (١) بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأسأل فيه أرباب الأحوال حتّى قتله الله فلله الحمد على ذلك!

ثمّ كان من أمر الحاكم أن تعدّى شرّه إلى أخته يتّهمها بالفاحشة ، ويسمعها أغلظ الكلام ، فعملت على قتله (٢) ، فركب ليلة إلى جبل المقطّم ينظر في النجوم ، فأتاه عبدان فقتلاه (٣) ، وحملاه إلى أخته ليلا فدفنته في دارها ، وذلك سنة إحدى عشرة وأربعمائة.

وولي بعده ابنه أبو الحسن عليّ ، ولقّب الظاهر لإعزاز دين الله ، فأقام إلى أن توفّي في سنة سبع وعشرين وأربعمائة ، وكانت سيرته جيّدة (٤).

وولي بعده ابنه أبو تميم معدّ ، ولقّب المستنصر وعمره سبع سنين ، فطالت مدّته جدا فإنه أقام ستّين سنة ، ولم يقم هذه المدّة خليفة ولا ملك في الإسلام قبله ولا بعده ، وكانت وفاته سنة سبع وثمانين وأربعمائة.

وولي بعده ابنه أبو القاسم أحمد ، ولقّب المستعلي ، فأقام إلى أن توفّي في ذي الحجّة (٥) سنة خمس وتسعين وأربعمائة.

وولي بعده ابنه أبو عليّ منصور ، ولقّب الآمر بأحكام الله. قال ابن ميسر في تاريخه : ولمّا توفّي المستعلي أحضر الأفضل (٦) أبا عليّ ، وبايعه بالخلافة ، ونصّبه مكان أبيه ، ولقّبه بالآمر بأحكام الله ، وكان له من العمر خمس سنين وشهر وأيام ، فكتب ابن الصّيرفيّ الكاتب السجلّ بانتقال المستعلي وولاية الآمر ، وقرىء على رؤوس كافة الأجناد والأمراء ، وأوّله :

من عبد الله ووليّه أبي عليّ الآمر بأحكام الله أمير المؤمنين بن الإمام المستعلي بالله ، إلى كافة أولياء الدولة وأمرائها وقوّادها وأجنادها ورعاياها ، شريفهم ومشروفهم ، وآمرهم ومأمورهم ، مغربيّهم ومشرقيّهم ، أحمرهم وأسودهم ، كبيرهم وصغيرهم ؛ بارك الله فيهم. سلام عليكم فإنّ أمير المؤمنين يحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو ، ويسأله أن يصلّي على جدّه محمد خاتم النبيين ، صلّى الله عليه وعلى آله الطيّبين الطاهرين

__________________

(١) لعل الصواب : وأستغيث.

(٢) في الكامل لابن الأثير ٧ / ٣٠٥ : اتفقت مع قائد كبير من قواد الحاكم يقال له : ابن دواس.

(٣) وكان عمره ستا وثلاثين سنة وتسعة أشهر ، وولايته خمسا وعشرين سنة. [المصدر السابق].

(٤) في الكامل لابن الأثير ٨ / ١١ : إلا أنه مشتغل بلذاته محبّ للدعة والراحة.

(٥) في الكامل لابن الأثير ٨ / ٢٠٥ : صفر.

(٦) الأفضل كان مدبّر الدولة. [المصدر السابق].

٢٤

الأئمة المهديين ، وسلّم تسليما. أمّا بعد ، فالحمد لله المنفرد بالثّبات والدوام الباقي على تصرّم الليالي والأيّام ، القاضي على أعمار خلقه بالتقصّي والانصرام ، الجاعل نقض الأمور معقودا بكمال الإتمام ، جاعل الموت حكما يستوي فيه جميع الأنام ، ومنهلا لا يعتصم من ورده كرامة نبيّ ولا إمام ، والقائل معزيّا لنبيّه ولكافة أمته : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) [الرحمن : ٢٧] ، الذي استرعى الأئمة هذه الأمّة ، ولم تخل الأرض من أنوارهم لطفا بعباده ونعمة ، وجعلهم مصابيح الشّبه إذا غدت داجية مدلهمّة ، لتضيء للمؤمنين سبل الهداية ، ولا يكون أمرهم عليهم غمّة يحمده أمير المؤمنين حمد شاكر على ما نقله فيه من درج الإنافة ، ونقله إليه من ميراث الخلافة ، صابر على الرّزيّة التي أطار هجومها الباب ، والفجيعة التي أطال طروقها الأسف والاكتئاب ، ويسأله أن يصلّي على جدّه محمد خاتم أنبيائه وسيّد رسله وأمنائه ، ومجلي غياهيب الكفر ومكشف عمائه ، الذي قام بما استودعه الله من أمانته ، وحمّله من أعباء رسالته ، ولم يزل هاديا إلى الإيمان ، داعيا إلى الرحمن ؛ حتّى أذعن المعاندون وأقرّ الجاحدون. وجاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون ؛ فحينئذ أنزل الله عليه إتماما لحكمته التي لا يعترضها المعترضون : (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ* ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ) [المؤمنون : ١٥ ـ ١٦] صلّى الله عليه وعلى أخيه وابن عمّه أبينا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ، الذي أكرمه الله بالمنزلة العليّة ، وانتخبه للإمامة رأفة بالبريّة ، وخصّه بغوامض علم التنزيل ، وجعل له مبرّة التعظيم ومزيّة التفضيل ، وقطع بسيفه دابر من زلّ عن القصد ، وضلّ عن سواء السبيل ، وعلى الأئمة من ذريتهما العترة الهادية من سلالتهما آبائنا الأبرار المصطفين الأخيار ، ما تصرّفت الأقدار ، وتوالى الليل والنهار.

وإنّ الإمام المستعلي بالله أمير المؤمنين قدّس الله روحه ، كان ممّن أكرمه الله بالاصطفاء ، وخصّه بشرف الاجتباء ، وخصّه بشرف الاجتباء ، ومكّن له في بلاده ، فامتدّت أفياء عدله ، واستخلفه في أرضه ، كما استخلف أباه من قبله ، وأيّده بما استرعاه إيّاه بهدايته وإرشاده ، وأمدّه بما استحفظه عليه بموادّ توفيقه وإسعاده ، ذلك هدي الله يهدي به من يشاء من عباده. فلم يزل لأعلام الدين رافعا ، ولشبه المضلّين دافعا ، ولراية العدل ناشرا ، وبالندى غامرا وللعدوّ قاهرا. إلى أن استوفى المدّة المحسوبة ، وبلغ الغاية الموهوبة ؛ فلو كانت الفضائل تزيد في الأعمار ، أو تحمي من ضروب الأقدار ، أو تؤخّر ما سبق تقديمه في علم الواحد القهّار ، لحمى نفسه النفيسة كريم مجدها وشريف سمتها ، وكفاها خطير منصبها ، وعظيم هيبتها ، ووقتها أفعالها التي تستقي من منبع الرسالة ، وصانتها خلالها الّتي ترتقي إلى مطلع الجلالة ؛ لكنّ الأعمار محرّرة مقسومة ، والآجال مقدّرة معلومة ، والله تعالى يقول ، وبقوله يهتدي المهتدون : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ

٢٥

فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) [يونس : ٤٩] فأمير المؤمنين يحتسب عند الله هذه الرزيّة التي عظم أمرها وفدح ، وجرح خطبها وقدح ، وغدت لها القلوب واجفة ، والآمال كاسفة ، ومضاجع السكون منقضّة ، ومدامع العيون مرفضّة ، فإنّ لله وإنّا إليه راجعون! صبرا على بلائه ، وتسليما لأمره وقضائه ، واقتداء بمن أثنى عليه في الكتاب : (إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) [ص : ٤٤]. وقد كان الإمام المستعلي بالله قدّس الله روحه عند نقلته ، جعل لي عقد الخلافة من بعده ، وأودعني ما حازه من أبيه عن جدّه ، وعهد إليّ أن أخلفه في العالم ، وأجري الكافّة في العدل والإحسان على منهجه المتعالم ، وأطلعني من العلوم على السرّ المكنون ، أفضى إليّ من الحكمة بالغامض المصون ، وأوصاني بالعطف على البريّة ، والعمل فيهم بسيرتهم المرضيّة ، على علمي بما جبلني الله عليه من الفضل ، وخصّني به من إيثار العدل ، وإنّني فيما استرعيته سالك منهاجه ، عامل بموجب الشرف الذي عصب الله لي تاجه ، وكان ممن ألقاه إليّ ، وأوجبه عليّ ، أنّ أعلي محلّ السيّد الأجلّ (الأفضل) (١) ، من قلبه الكريم ، وما يجب له من التبجيل والتكريم. وإنّ الإمام المستنصر بالله كان عندما عهد إليه ، ونصّ بالخلافة عليه ، أوصاه أن يتّخذ هذا السيد الأجلّ خليفة وخليلا ، ويجعله للإمامة زعيما وكفيلا ، ويغدق به أمر النّظر والتقرير ، ويفوّض إليه تدبير ما وراء السرير ، وإنّه عمل بهذه الوصيّة ، وحذى على تلك الأمثلة النبويّة ، وأسند إليه أحوال العساكر والرعيّة ، وناط أمر الكافّة بعزمته الماضية ، وهمّته العليّة ؛ فكان قلمه بالسّداد يرجف ولا يجفّ ، وسيفه من دماء ذوي العناد يكف ولا يكفّ ، ورأيه في حسم مواد الفسّاد يرجح لا يخفّ ، فأوصاني أن أجعله لي كما كان له صفيّا وظهيرا ، وأن لا أستر عنه في الأمور صغيرا ولا كبيرا ، وأن أقتدي به في ردّ الأحوال إلى تكلّفه ، وإسناد الأسباب إلى تدبيره والناهض بباهظ الخطب ومنتقله ، إلى غير ذلك ممّا استودعني إيّاه ، وألقاه إليّ من النّص الذي يتضوّع نشره وريّاه ، نعمة من الله قضت لي بالسّعد العميم ، ومنّة شهدت بالفضل المتين والحظ الجسيم ، والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم. فتعزّوا معاشر الأولياء والأمراء والقوّاد والأجناد والرعايا والخدّام ، حاضركم وغائبكم ، ودانيكم وقاصيكم ، عن الإمام المنقول إلى جنّات الخلود ، واستبشروا بإمامكم هذا الإمام الحاضر الموجود ؛ وابتهجوا بكريم نظره المطلع لكم كواكب السعود. ولكم من أمير المؤمنين ألّا يغمض جفنا عن مصابكم ، وأن يتوخّى ما عاد بميامنكم ومناجحكم ، وأن يحسن السّيرة فيكم ، ويرفع أذى من يعاديكم ، ويتفقّد مصلحة حاضركم وباديكم ،

__________________

(١) المقصود به : الأفضل بن أمير الجيوش ومدبّر دولته.

٢٦

ولأمير المؤمنين عليكم أن تعتقدوا موالاته بخالص الطويّة ، وتجمعوا له في الطاعة بين العمل والنيّة ، وتدخلوا في البيعة بصدور منشرحة وآمال منفسحة وضمائر يقينيّة وبصائر في الولاء قويّة ، وأن تقوموا بشروط بيعته ، وتنهضوا بفروض نعمته ، وتبذلوا الطارف والتالد في حقوق خدمته ، وتتقرّبوا إلى الله سبحانه بالمناصحة لدولته. وأمير المؤمنين يسأله الله أن تكون خلافته كافلة بالإقبال ، ضامنة ببلوغ الأماني والآمال ، وأن يجعل ديمها دائمة بالخيرات ، وقسمتها نامية على الأوقات إن شاء الله تعالى.

وأقام الآمر بأحكام الله خليفة إلى أن قتل في ذي القعدة سنة أربع وعشرين وخمسمائة ، عدّى إلى الرّوضة (١) في فئة قليلة ، فخرج عليه منها قوم بالسّيوف فأثخنوه. وكان سيّىء السيرة.

ولما قتل تغلّب على الديار المصرية غلام أرمنيّ من غلمانه ، فاستحوذ على الأمور ثلاثة أيام ورام أن يتأمّر ، فحضر الوزير أبو عليّ أحمد بن الأفضل بدر الجماليّ ، فأقام الخليفة الحافظ لدين الله أبا الميمون عبد المجيد بن الأمير أبي القاسم بن المستنصر بالله ، واستحوذ على الأمور دونه ، وحصره في مجلس لا يدخل إليه أحد إلا من يريده ، وخطب لنفسه على المنابر ، ونقل الأموال من القصر إلى داره ، ولم يبق للحافظ سوى الاسم فقط ، فلم يزل كذلك حتّى قتل الوزير (٢) ، فعظم أمر الحافظ من حينئذ ، وجدّد له ألقاب لم يسبق إليها ، وخطب له بها على المنابر ، فكان يقول : أصلح الله من شيّدت به الدين بعد دثوره ، وأعززت به الإسلام بأن جعلته سببا لظهوره ؛ مولانا وسيّدنا إمام العصر والزّمان أبا الميمون عبد المجيد الحافظ لدين الله!

قال ابن خلّكان : وكان الحافظ كثير المرض بعلّة القولنج ، فعمل له سرماه (٣) الديلميّ طبل القولنج ركبة من المعادن السبعة والكواكب السبعة في أشرافها كلّ واحد منها في وقته ، فكان من خاصّته أنّه إذا ضرب به أحد خرج الريح من مخرجه ، فكان هذا الطبل في خزائنهم إلى أن ملك السلطان صلاح الدين بن أيّوب. أخذ الطبل المذكور كرديّ ولا يدري ما هو! فضرب به ، فضرط ، فخجل ، فألقى الطبل من يده فانكسر.

__________________

(١) في الكامل لابن الأثير ٨ / ٣٣٢ : خرج إلى متنزّه له ، فلما عاد وثب عليه الباطنية فقتلوه لأنه كان سيء السيرة في رعيته.

(٢) في شذرات الذهب ٤ / ٧٨ : في سنة ٥٢٦ ه‍ توفي أحمد بن الأفضل أمير الجيوش بن بدر الجمالي ... فركب الوزير للعب الكرة في المحرم فوثبوا عليه ، وطعنه مملوك الحافظ ، وأخرجوا الحافظ.

(٣) في شذرات الذهب ٤ / ١٣٨ : شبرماه الديلمي.

٢٧

واستمرّ الحافظ على الولاية إلى أن مات في جمادى الآخرة (١) سنة أربع وأربعين وخمسمائة.

وولي بعده ولده الظافر بالله (٢) أبو المنصور إسماعيل ، فأقام إلى أن قتل (٣) في المحرّم سنة تسع وأربعين.

وولي بعده ولده الفائز بنصر الله أبو القاسم عيسى ، وهو صبيّ صغير ابن خمس سنين ؛ فإنّ مولده في المحرّم سنة أربع وأربعين ، فأقام إلى أن توفّي في صفر سنة خمس وخمسين ؛ وعمره يومئذ إحدى عشرة سنة ، وكان مدبّر دولته أبو الغارات طلائع بن رزّيك (٤).

وولي بعده العاضد لدين الله أبو محمد عبد الله بن يوسف بن الحافظ (٥) ، وهو آخر العبيديين. ومات يوم عاشوراء سنة سبع وستّين ، وزالت دولتهم على يد السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيّوب ؛ رحمه‌الله تعالى.

قال ابن كثير : ومن الغريب أنّ العاضد في اللغة ، القاطع ، ومنه الحديث : «لا يعضد شجرها» ، فبالعاضد قطعت دولة بني عبيد.

وقال ابن خلّكان : سمعت جماعة من المصريّين يقولون : إنّ هؤلاء القوم في أوائل دولتهم قالوا لبعض العلماء : اكتب لنا ألقابا في ورقة تصلح للخلفاء ؛ حتّى إذا تولّى واحد لقّبوه ببعض تلك الألقاب ، فكتب لهم ألقابا ، وآخر ما كتب في الورقة : «العاضد». فاتّفق أنّ آخر من ولي منهم العاضد. ولم يكن للمستنصر ومن بعده من الخلافة سوى الاسم فقط ؛ لاستيلاء وزرائهم على الأمور وحجرهم عليهم ، وتلقّبهم بألقاب الملوك ؛ فكانوا معهم كخلفاء عصرنا مع ملوكهم ، وكخلفاء بغداد مع بني بويه ، وأشباههم.

ومن قصيدة ابن فضل الله التي سمّاها : حسن الوفاء لمشاهير الخلفاء :

والخلفاء من بني فاطمة

إلى عبيد الله درّ فاخر

أبناء إسماعيل في نجل جعفر الص

ادق في القول أبوه الباتر

__________________

(١) في شذرات الذهب ٤ / ١٣٨ : جمادى الأولى.

(٢) في الكامل لابن الأثير ٩ / ٢٤ : الظاهر بأمر الله.

(٣) في الكامل لابن الأثير ٩ / ٤٣ : قتله وزيره عباس أو ابنه نصر بن عباس.

(٤) انظر وصول ابن رزّيك إلى الوزارة في الكامل لابن الأثير : ٩ / ٤٤.

(٥) في الكامل لابن الأثير ٩ / ٦٨ : وكان مراهقا قارب البلوغ ، وزوّجه الصالح بن رزّيك ابنته.

٢٨

بالغرب مهديّ تلاه قائم

والثالث المنصور وهو الآخر

ثمّ المعزّ قائد الجيش الّذي

سار إلى مصر ، ونعم السائر

ثمّ ابنه العزيز عزّ مشبها

والحاكم المعروف ثمّ الظّاهر

وبعده المستنصر النّائي الّذي

تلاه مستعل وجاء الآمر

وحافظ وظافر وفائز

وعاضد ثمّ المليك النّاصر

قالوا : لقد ساء لهم معتقد

والله عند علمه السّرائر

لكنّما الحاكم ممّن لجّ في

طغيانه فكافر أو فاجر

٢٩

ذكر أمراء مصر من حين ملكها بنو أيوب

إلى أن اتخذها الخلفاء العباسيون دار الخلافة

لما قتل صاحب مصر الظافر ، وصلت الأخبار إلى بغداد ، بأن مصر قتل صاحبها ، ولم يبق فيهم إلّا صبيّ صغير ، ابن خمس سنين ، قد ولّوه عليهم ، ولقبوه الفائز. فكتب الخليفة المقتفي (١) عهدا للملك نور الدين (٢) محمود بن زنكي على البلاد الشامية والمصرية ، وأرسله إليه ، فسار حتّى أتى دمشق ، فحاصرها وانتزعها (٣) من يد ملكها مجير الدين بن طغتكين ، وشرع في فتح بلاد الشام بلدا بلدا ، وأخذها من أيدي من استولى عليها من الفرنج.

فلما كان في سنة اثنتين وستّين أقبلت الفرنج في محافل كثيرة إلى الدور المصرية ، فأرسل نور الدين حمود أسد الدين شيركوه بن شادي ، ومعه ابن صلاح الدين يوسف بن أيّوب ، فسار إليها في ربيع الآخر ، وقد وقع في النفوس كأن صلاح الدين سيملك الديار المصرية ، وفي ذلك يقول عرقلة الشاعر :

أقول والأتراك قد أزمعت

مصر إلى حرب الأعاريب

ربّ كما ملّكتها يوسف الصّدّ

يق من أولاد يعقوب

يملكها في عصرنا يوسف الصّا

دق من أولاد أيّوب

__________________

(١) بويع بالخلافة ثامن عشر ذي الحجة سنة ٥٣٠ ه‍. [الكامل لابن الأثير : ٨ / ٣٥٥].

(٢) وهو نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي بن آقسنقر صاحب الموصل والشام. [الكامل لابن الأثير : ٩ / ١٣].

(٣) في هذه السنة ٥٤٩ ه‍ في صفر ملك نور الدين محمود بن زنكي بن آقسنقر مدينة دمشق من صاحبها مجير الدين أنز بن محمد بن بوري بن طغتكين. [الكامل لابن الأثير : ٩ / ٤٥].

٣٠

من لم يزل ضرّاب هام العدا

حقّا وضرّاب العراقيب

وسار إلى الفرنج ، فاقتتلوا قتالا عظيما ، فهزم الفرنج ولله الحمد (١) ، وسار أسد الدين بعد كسر الفرنج إلى الإسكندريّة ، فملكها ، واستناب عليها ابن أخيه صلاح الدين ، وعاد إلى الصعيد ، فملكه.

ثمّ إنّ الفرنج والمصريين اجتمعوا على حصار الإسكندريّة ، فصالح شاور وزير العاضد أسد الدين عن الإسكندرية بخمسين ألف دينار ، فأجابه إلى ذلك. وخرج صلاح الدين منها ، وسلّمها إلى المصريين ، وعاد إلى الشام في ذي القعدة ، وقرّر شاور للفرنج على مصر في كلّ عام مائة ألف دينار ، وأن يكون لهم شحنة (٢) بالقاهرة. وسكن القاهرة أكثر شجعان الفرنج ، وتحكّموا فيها بحيث كادوا يستحوذون عليها ، ويخرجون المسلمين منها. فلمّا كانت سنة أربع وستّين ، قدم أمداد الفرنج في محافل هائلة ، فأخذوا مدينة بلبيس ، فقتلوا وأسروا ونزلوا بها (٣) ، وتركوا فيها أثقالهم ، وجعلوها موئلا ومعقلا. ثمّ جاءوا فنزلوا على القاهرة من ناحية باب الشرقيّة ، فأمر الوزير شاور الناس أن يحرقوا مصر (٤) ، وأن ينتقلوا إلى القاهرة. فنهب البلد ، وذهب للناس أموال كثيرة ، وبقيت النّار تعمل في مصر أربعة وخمسين يوما ؛ فعند ذلك أرسل الخليفة العاضد يستغيب بالملك نور الدين ، وبعث إليه بشعور نسائه يقول : أدركني ؛ واستنقذ نسائي من أيدي الفرنج. والتزم له بثلث خراج مصر على أن يكون أسد الدين مقيما عندهم ، ولهم إقطاعات زائدة على الثلث.

فجهّز نور الدين الجيوش وعليهم أسد الدين ومعه صلاح الدين ، فدخلوا القاهرة (٥) وقد رجع الفرنج لمّا سمعوا بوصولهم. وعظم أمر أسد الدين بالديار المصرية ، وقتل الوزير شاور ، قتله صلاح الدين (٦). وفرح المسلمون بقتله ، لأنّه الذي كان يمالئ الفرنج على المسلمين ، وأقيم أسد الدين مكانه في الوزارة ، ولقّب الملك المنصور ؛ فلم يلبث إلا شهرين وخمسة أيّام ، ومات في السادس والعشرين من جمادى الآخرة (٧).

__________________

(١) انظر ذلك في الكامل لابن الأثير : ٩ / ٩٥.

(٢) الشحنة : الشرطة.

(٣) في مستهل صفر. [الكامل لابن الأثير : ٩ / ٩٩].

(٤) في التاسع من صفر. [الكامل لابن الأثير : ٩ / ٩٩].

(٥) سابع جمادى الآخرة. [الكامل لابن الأثير : ٩ / ١٠٠].

(٦) في الكامل لابن الأثير : ٩ / ١٠١ : اتفق صلاح الدين وعز الدين جرديك وغيرهم على قتل شاور.

(٧) توفي يوم السبت الثاني والعشرين.

٣١

فأقام العاضد مكانه في الوزارة صلاح الدين يوسف ، ولقّبه الملك الناصر. قال أبو شامة : وصفة الخلعة التي لبسها صلاح الدين يومئذ عمامة بيضاء تنّيسيّ (١) بطرف ذهب ، وثوب دبيقي (٢) بطراز ذهب ، وجبّة بطراز ذهب ، وطيلسان بطراز ذهب ، وعقد جوهر بعشرة آلاف دينار ، وسيف محلّى بخمسة آلاف دينار ، وحجره بثمانية آلاف دينار ، وعليها سرج ذهب وسريسار ذهب مجوهر ، وفي رأسها مائتا حبّة جوهر ، وفي قوائمها أربعة عقود جوهر ، وفي رأسها قصبة بذهب ، وفيها شدّة بيضاء بأعلام بيض ، ومع الخلعة عدة بقج (٣) ، وخيل وأشياء أخر ، ومنشور الوزارة مكتوب في ثوب أطلس أبيض ؛ وكان ذلك يوم الاثنين الخامس والعشرين من جمادى الآخرة سنة أربع وستين ؛ وكان يوما مشهودا ، وارتفع قدر صلاح الدين بالديار المصريّة ، وائتلفت عليه القلوب ، وخضعت له النفوس ، واضطهد العاضد في أيامه غاية الاضطهاد (٤).

فلمّا كان سنة خمس وستّين حاصرت الفرنج دمياط خمسين يوما ، فقاتلهم صلاح الدين حتّى أجلاهم ، وأرسل نور الدين إلى صلاح الدين يأمره أن يخطب للخليفة المستنجد العباسيّ بمصر ؛ لأن الخليفة بعث يعاتبه في ذلك ؛ فلمّا كان سنة ستّ وستّين ، اتّفق موت المستنجد (٥) ، وقام المستضيء ، وشرع صلاح الدين في تمهيد الخطبة لبني العباس ، وقطع الأذان بحيّ على خير العمل من ديار مصر كلّها ، وعزل قضاة مصر لأنّهم كلّهم كانوا شيعة ، وولّى أقضى القضاة بها صدر الدين بن درباس الشافعيّ ، استناب في سائر الأعمال شافعيّة.

فلما دخل سنة سبع وستّين أمر الملك صلاح الدين بإقامة الخطبة (٦) لبني العبّاس بمصر في أوّل جمعة من المحرّم وبالقاهرة في الجمعة الثانية ، وكان ذلك يوما مشهودا ؛ والعجب أنّ أوّل من خطب للمعزّ حين أخذت مصر عمر بن عبد السميع العباسيّ الخطيب بجامع عمرو وبجامع ابن طولون ؛ فكان أوّل من خطب لبني العباس هذه النّوبة شريف علويّ ، يقال له محمد بن الحسن بن أبي الضياء البعلبكيّ (٧). ولما بلغ الخبر

__________________

(١) نسبة إلى البلدة المصرية تنيس.

(٢) في معجم البلدان : دبيق بلدة بمصر كانت بين الفرما وتنيس.

(٣) البقجة : الصرّة من الثياب ونحوها. (تركية).

(٤) انظر سبب ذلك في الكامل لابن الأثير : ٩ / ١٠٣.

(٥) توفي تاسع ربيع الآخرة. [الكامل لابن الأثير : ٩ / ١٠٨].

(٦) انظر ذلك في شذرات الذهب : ٤ / ٢١٩. والكامل لابن الأثير : ٩ / ١١١.

(٧) في الكامل لابن الأثير : ٩ / ١١١ : إنسان عجمي يعرف بالأمير العالم.

٣٢

نور الدين أرسل إلى الخليفة المستضيء يعلمه بذلك ، فزيّنت بغداد ، وغلّقت الأسواق وعملت القباب ، وفرح المسلمون فرحا شديدا ، قال ابن الجوزيّ : وقد ألّفت في ذلك كتابا سميته : «النصر على مصر». وكتب العماد الكاتب عن السلطان صلاح الدين إلى الملك نور الدين يبشّره بذلك :

قد خطبنا للمستضيء بمصر

نائب المصطفى إمام العصر

في أبيات ذكرتها في تاريخ الخلفاء.

وقال بعض شعراء بغداد في ذلك :

ليهنك يا مولاي فتح تتابعت

إليك به خوص الرّكائب توجف

أخذت به مصرا وقد حال دونها

من الشّرك ناس في لها الحقّ تقذف

فعادت بحمد الله باسم إمامنا

تتيه على كلّ البلاد وتشرف

ولا غرو أن ذلّت ليوسف مصره

وكانت إلى عليائه تتشوّف

تملّكها من قبضة الكفر يوسف

وخلّصها من عصبة الرفض يوسف

كشفت بها عن آل هاشم سيّئا

وعارا أبى إلّا بسيف يكشف

وهي طويلة.

قال أبو شامة : أنشدت هذه القصيدة للخليفة قبل موته ، عند تأويل منام رئي في هذا المعنى ، وأراد بيوسف الثاني الخليفة المستنجد ، فلم يخطب إلّا لولده المستضيء ، فجرى الفأل باسم الملك النّاصر صلاح الدين يوسف بن أيّوب ، وأرسل الخليفة المستضيء بأمر الله إلى الملك صلاح الدين خلعة سنيّة ، ومعها أعلام سود ، ولواء معقود ، ففرّقت على الجوامع بالشام وبلاد مصر.

وكتب له تقليدا ؛ وهذه صورته :

كتاب تقليد الخليفة لصلاح الدين

أمّا بعد ، فإنّ أمير المؤمنين يبدأ بحمد الله الذي يكون لكلّ خطبة قيادا ، ولكلّ أمر مهادا ، ويستزيده من نعمه التي جعلت التقوى لها زادا ، وحمّلته أعباء الخلافة فلم يضعف عنه طوقا ولم يأل فيه اجتهادا ، وصغّرت لديه أمر الدنيا فما تسوّرت له محرابا ولا عرضت عليه جيادا ، وحقّقت فيه قوله تعالى : (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً) [القصص : ٨٣].

٣٣

ثمّ يصلّي على من أنزلت الملائكة لنصره إمدادا ، وأسري به إلى السماء حتّى ارتقى سبعا شدادا ، وتجلّى له ربّه فلم يزغ منه بصر ولا كذّب فؤادا.

ثمّ من بعده على أسرته الطاهرة التي زكت أوراقا وأعوادا ، وورثت النّور المبين بلادا ، ووصفت بأنّها أحد الثّقلين هداية وإرشادا ؛ وخصوصا عمّة العباس المدعوّ له بأن يحفظ نفسا وأولادا ، وأن تبقى كلمة الخلافة فيهم خالدة لا تخاف دركا ولا تخشى نفادا.

وإذا استوفى العلم مراده من هذه الحمدلة ، وأسند القول فيها عن فصاحته المرسلة فإنه يأخذ في إنشاء هذا التقليد الذي جعله حليفا لقرطاسه ، واستدام سجوده على صفحته حتّى يرفع من رأسه ؛ وليس ذلك إلّا قاضية في وصف المناقب التي كثرت فحسن لها مقام الإكثار ، واشتبه التطويل فيها بالاختصار ، وهي التي لا يفتقر واضعها إلى القول المعاد ، ولم يستوعر سلوك أطوادها ؛ ومن العجب وجود السهل في سلوك الأطواد.

وتلك هي مناقبك أيّها الملك الناصر السيّد الأجلّ الكبير ، العالم العادل المجاهد المرابط صلاح الدين أبو المظفّر يوسف بن أيّوب (١).

والديوان العزيز يتلوها عليك تحدّثا بشكرك ، ويباهي أولياءه تنويها بذكرك ، ويقول : أنت الذي نستكفي فتكون للدّولة سهمها الصائب ، وشهابها الثاقب ، وكنزها الذي تذهب الكنوز وليس بذاهب. وما ضرّها وقد حضرت في نصرتها إذا كان غيرك هو الغائب ؛ فاشكره إذا مساعيك التي أهّلتك لما أهّلتك ، وفضّلتك على الأولياء بما فضّلتك. ولئن شوركت في الولاء بعقيدة الإضمار ، فلم تشارك في عزمك الذي انتصر للدولة فكان له بسطة الانتصار. وفرق بين من أمدّ بقلبه وبين من أمدّ بيده في درجات الإمداد ، وما جعل الله القاعد كالذي قال : لو أمرتنا لضربنا أكبادها إلى برك الغماد.

وقد كفاك من المساعي أنّك كفيت الخلافة أمر منازعيها ، وطمست على الدعوة الكاذبة التي كانت تدّعيها. ولقد مضى عليها زمن ومحراب حقّها محفوف من الباطل بمحرابين ، ورأت ما رآه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من السّوارين اللّذين أولهما كذابين ؛ فبمصر منهما واحد تجري أنهارها من تحته ؛ ودعا الناس إلى عبادة طاغوته وجبته (٢) ، ولعب بالدّين حتى لم يدر يوم جمعته من يوم أحده ولا سبته.

__________________

(١) في الخطط المقريزية : ٢ / ٢٣٣ : يوسف بن نجم الدين أيوب أبي الشكر بن شادي بن مروان الكردي من قبيل الروادية أحد بطون الهذبانية من أذربيجان وبلاد الكرج.

(٢) الجبت : الصنم أو السحر الذي لا خير فيه.

٣٤

وأعانه على ذلك قوم رمى الله بصائرهم بالعمى والصّمم ؛ واتّخذوه صنما ولم تكن الضّلالة هناك إلا بعجل أو صنم ؛ فقمت أنت في وجه باطله حتّى قعد ، وجعلت في جيده حبلا من مسد ؛ وقلت ليده : تبّت ، فأصبح ولا يسعى بقدم ولا يبطش بيد. وكذلك فعلت بالآخر الذي نجمت باليمن (١) ناجمته ، وسامت فيه سائمته ؛ فوضع بيته موضع الكعبة اليمانيّة ، وقال هذا ذو الخلصة الثانية. فأيّ مقامك يعترف الإسلام بسبقه ، أم أيّهما يقوم بأداء حقّه؟!

وهاهنا فليصبح القلم للسيف من الحسّاد ، وليقصر مكانته عن مكانته وقد كان له من الأنداد ، ولم يحط بهذه المزيّة إلا أنّه أصبح لك صاحبا ، وفخر بك حتّى طال فخرا كما عزّ جانبا ، وقضى بولايتك فكان بها قاضيا ، لمّا كان حدّه ماضيا.

وقد قلّدك أمير المؤمنين البلاد المصريّة واليمنيّة غورا ونجدا ، وما اشتملت عليه رعيّة وجندا ، وما انتهت إليه أطرافها برّا وبحرا ، وما يستنقذ من مجاوريها مسالمة وقهرا. وأضاف إليها بلاد الشام وما تحتوي عليه من المدن الممدّنة ، والمراكز المحصّنة مستثنيا منها ما هو بيد نور الدّين إسماعيل بن نور الدين محمود رحمه‌الله وهو حلب وأعمالها ؛ فقد مضى أبوه عن آثار في الإسلام ترفع ذكره في الذاكرين ؛ وتخلفه في عقبه في الغابرين ، وولده هذا قد هذّبته الفطرة في القول والعمل ، وليست هذه الرّبوة إلّا من ذلك الجبل ؛ فليكن له منك جار يدنو منه ودادا كما دنا أرضا ، وتصبح وهو له كالبنيان يشدّ بعضه بعضا ؛ والذي قدّمناه من الثناء عليك ربّما تجاوزتك درجة الاقتصاد وألقتك عن فضيلة الازدياد. فإيّاك أن تنظر إلى سعيك نظر الإعجاب ، فتقول : هذه بلادنا افتتحتها بعد أن أضرب عنها كثير من الأضراب. ولكن اعلم أنّ الأرض لله ولرسوله ، ثمّ لخليفته من بعده ، ولا منّة للعبد بإسلامه ، بل المنّة لله بهداية عبده. وكم سلف قبلك ممّن لو رام ما رمته لدنا شاسعه وأجاب مانعه ؛ ولكن ذخره الله لك لتحظى في الآخرة بمفازه ، وفي الدنيا برقم طرازه ، فألق بيدك عند هذا القول إلقاء التّسليم ، وقل : (لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) [البقرة : ٣٢].

وقد قرن تقليدك هذا بخلعة تكون لك في الإسلام شعارا ، وفي الرّسم فخارا ، وتناسب محلّ قلبك وبصرك ؛ وخير ملابس الأولياء ما ناسب قلوبا وأبصارا ، ومن جملتها طوق يوضع في عنقك موضع العهد والميثاق ، ويشير إليك بأنّ الإنعام قد أطاق بك إطاقة الأطواق بالأعناق.

__________________

(١) لعلّ المقصود بذلك عبد النبي صاحب زبيد في اليمن. [انظر الكامل لابن الأثير : ٩ / ١٢٢].

٣٥

ثمّ إنّك خوطبت بالملك ، وذلك خطاب يقضي لصدرك بالانشراح ، ولأملك بالانفساح ، وتؤمر معه بمدّ يدك العليا لا تضمّها إلى الجناح.

وهذه الثلاثة المشار إليها هي التي تكمل بها أقسام السيادة ، وهي الّتي لا مزيد عليها في الإحسان فيقال إنّها الحسنى وزيادة ؛ فإن صارت إليك فانصب لها يوما يكون في الأيّام كريم الأنساب ، واجعله لها عيدا وقل هذا عيد الخلعة والتقليد والخطاب.

هذا ولك عند أمير المؤمنين مكانة بجعلك إليه حاضرا وأنت ناء عن الحضور ، وتضنّ أن تكون مشتركة بينك وبين غيرك والضّنّة من شيم الغيوب ؛ وهذه المكانة قد عرّفتك نفسها وما كنت تعرفها ؛ وما نقول إلّا أنّها لك صاحبة وأنت يوسفها ، فاحرسها عليك حراسة تقضي بتقديمها ، واعمل لها فإنّ الأعمال بخواتيمها.

واعلم أنّك تقلّدت أمرا يفتن به تقيّ الحلوم ، ولا ينفكّ صاحبه عن عهدة الملوم ، وكثيرا ما ترى حسناته يوم القيامة وهي مقسومة بأيدي الخصوم ؛ ولا ينجو من ذلك إلّا من أخذ أهبة الحذار ، وأشفق من شهادة الأسماع والأبصار. واعلم أنّ الولاية ميزان ، إحدى كفّتيه في الجنّة والأخرى في النار ؛ قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا أبا ذرّ ، إنّي أحبّ لك ما أحبّ لنفسي ، لا تأمّرنّ على اثنين ، ولا تولينّ مال يتيم». فانظر إلى هذا القول النبويّ نظر من لم يخدع بحديث الحرص والآمال ، ومثّل الدنيا وقد سيقت إليك بحذافيرها ، أليس مصيرها إلى زوال؟! والسعيد من إذا جاءته قضى بها أرب الأرواح لا أرب الجسوم ، واتّخذ منها وهي السمّ دواء وقد تتّخذ الأدوية من السموم.

وما الاغتباط بما يختلف على تلاشيه المساء والصباح ، وهو كما أنزلناه من السماء ، فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرّياح.

والله يعصم أمير المؤمنين ، وولاة أمره من تبعاتها التّي لابستهم ولابسوها ، وأحصاها الله ونسوها ، ولك أنت من الله هذا الدعاء حظّ على قدر محلّك من العنابة التي حدثت بصنعك ، ومحلّك من الولاية التي بسطت من ذرعك.

فخذ هذا الأمر الذي تقلّدته أخذ من لم يتعقّبه بالنّسيان ، وكن في رعايته ممن إذا نامت عيناه كان قلبه يقظان ؛ وملاك ذلك كلّه في إسباغ العدل الذي جعله الله ثالث الحديث والكتاب ، وأغنى بثوابه وحده عن أعمال الثواب ؛ وقدّر يوما منه بعبادة ستّين عاما في الحساب ، ولم يأمر به آمر إلّا زيد قوّة في أمره ، وتحصّن به من عدوّه ومن دهره. ثمّ يجاء به يوم القيامة وفي يده كتاب أمان ، ويجلس على منبر من نور عن يمين

٣٦

الرحمن ؛ ومع هذا فإنّ مركبه صعب لا يستوي على ظهره إلّا من أمسك عنان نفسه قبل إمساك عنانه ، وغلبت لمّة ملكه على لمّة شيطانه. ومن آكد فروضه أن تمحى السّير السّيئة التي طالت مدد أيامها ، ويئس الرّعايا من رفع ظلاماتها فلم يجعلوا أمدا لانحسار ظلامها ؛ تلك السّير هي المكوس التي أنشأتها الهمم الحقيرة ، ولا غنى للأيدي الغنيّة إذا كانت ذا نفوس فقيرة ؛ وكلّما زيدت الأموال الحاصلة منها قدرا ، زادها الله محقا ؛ وقد استمرّت عليها العوائد حتّى ألحقها الظالمون بالحقوق الموجبة فسمّوها حقّا ، ولو أنّ صاحبها أعظم الناس جرما لما أغلظ في عقابه ، ومثلت توبة المرأة الغامدية بمتابه ؛ وهي أشقى ممّن يكون السواد الأعظم له خصما ، ويصبح وهو مطالب بما يعلم وبما لم يحط به علما ؛ وأنت مأمور بأن تأبى هذه الظلامات فتنهى عن إجرائها ، وتلحق أسماءها في المحو بإهمالها ؛ حتّى لا يبقى لها في العيان صورة منظورة ، ولا في الألسنة أحاديث مذكورة.

وإذا فعلت ذلك كنت أزلت عن الماضي سنّة سوء سنّتها يداه ، وعن الآتي متابعة ظلم وجده طريقا مسلوكا فجرى على بداه ، فبادر إلى ما أمرت به مبادرة من يضيق به ذراعا ، ونظر إلى الحياة الدنيا بعينها فرآها في الآخرة متاعا. واحمد الله على أن قيّض لك إمام هدى يقف بك على هداك ، ويأخذ بحجزتك عن خطوات الشيطان الذي هو أعدى عداك ؛ وهذه البلاد المنوطة بنظرك تشتمل على أطراف متباعدة ، وتفتقر في سياستها إلى أيد متساعدة ؛ ولهذا يكثر بها قضاة الأحكام وأولو تدابيرات السيوف والأقلام ؛ وكلّ من هؤلاء ينبغي أن يفتن على نار الاختبار ، ويسلّط عليه شاهد عدل من أمانة الدرهم والدينار فما أضلّ الناس شيء كحبّ المال الذي فورقت من أجله الأديان ، وهجرت بسببه الأولاد والإخوان ؛ وكثيرا ما يرى الرّجل الصائم القائم وهو عابد له عبادة الأوثان ؛ فإذا استعنت بأحد منهم على شيء من أمرك ، فاضرب عليه بالأرصاد ، ولا ترض بما عرفته من مبدأ حاله فإنّ الأحوال تنقل بنقل الأجساد. وإيّاك أن تخدع بصلاح الظاهر كما خدع عمر بن الخطاب بالربيع بن زياد.

وكذلك نأمر هؤلاء على اختلاف طبقاتهم بأن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر محاسبين ؛ ويعلموا أنّ ذلك من دأب حزب الله الذين جعلهم الغالبين ، وليبدءوا أوّلا بأنفسهم فيعدلوها عن هواها ، ويأمروها بما يأمرون به سواها ، ولا يكونوا ممّن هدى إلى طريق البرّ وهو عنها حائد ، وانتصب لطبّ المرضى وهو محتاج إلى طبيب وعائد ؛ فما تنزل بركات السماء إلّا على من خاف مقام ربّه ، وألزم التقوى أعمال يده ولسانه وقلبه ؛ فإذا صلحت الولاة صلحت الرعيّة بصلاحهم ؛ وهم لهم بمنزلة المصابيح ، ولا يتضيء كلّ قوم إلّا بمصباحهم. وممّا يؤمرون به أن يكونوا لمن تحت أيديهم إخوانا في

٣٧

الأصحاب ، وجيرانا في الاقتراب ، وأعوانا في توزّع الحمل الذي يثقل على الرقاب ؛ فالمسلم أخو المسلم وإن كان عليه أميرا ، وأولى الناس باستعمال الرفق من كان فضل الله عليه كثيرا ؛ وليست الولاية لمن يستجد بها كثرة اللّفيف ، ويتولّاها بالوطء العنيف ؛ ولكنّها لمن يمال عن جوانبه ، ويؤكل من أطايبه ، ولمن إذا غضب لم ير للغضب عنده أثر ، وإذا ألحف في سؤاله تخلّق بخلق الضّجر ، وإذا حضر الخصوم بين يديه عدل بينهم في قسمة القول والنظر ؛ فذلك الذي يكون لصاحبه في أصحاب اليمين ، والذي يدعى بالحفيظ العليم والقويّ الأمين.

ومن سعادة المرء أن تكون ولاته متأدّبين بآدابه ، وجارين على نهج صوابه ؛ وإذا تطايرت الكتب يوم القيامة كانوا حسنات مثبتة في كتابه.

وبعد هذه الوصيّة ، فإنّ هاهنا حسنة هي للحسنات كالأمّ الولود ؛ ولطالما أغنت عن صاحبها إغناء الجود ، وتيّقظت لنصره والعيون رقود ؛ وهي التي تسبغ لها الآلاء ، ولا يتخطّاها البلاء ، ولأمير المؤمنين عناية تبعثها الرحمة الموضوعة في قلبه ، والرغبة في المغفرة والرحمة لما تقدّم وتأخّر من ذنبه. وتلك هي الصدقة التي فضّل الله بعض عباده بمزيّة إفضالها ، وجعلها سببا إلى التعويض عنها بعشر أمثالها ؛ وهو يأمرك أن تتفقّد أحوال الفقراء الّذين قدرت عليهم مادة الأرزاق ، وألبسهم التعفّف ثوب الغنى وهم في ضيق من الإملاق ؛ فأولئك أولياء الله الذين مسّتهم الضرّاء فصبروا ، وكثرت الدنيا في يد غيرهم فما نظروا إليها إذا نظروا. وينبغي لك أن تهيّىء لهم من أمرهم مرفقا ، وتضرب بينهم وبين الفقر موبقا.

وما أطلنا لك القول في هذه الوصيّة إلّا إعلاما بأنّها من المهمّ الذي يستقبل ولا يستدبر ، ويستكثر منه ولا يستكبر ؛ وهذا يعدّ من جهاد النفس في بذل المال ، ويتلوه جهاد العدوّ الكافر في مواقف القتال ؛ وأمير المؤمنين يعرّفك من ثوابه ما يجعل السّيف في ملازمته أخا ، وتسخو له بنفسك إن كان أحد بنفسه سخا. ومن صفاته أنّ العمل المحبوب بفضل الكرامة ، الذي ينمو أجره بعد صاحبه إلى يوم القيامة ، وبه يمتحن طاعة الخالق على المخلوق ، وكلّ الأعمال عاطلة لا خلوق لها وهي المختصّ دونها بزينة الخلوق ، ولو لا فضله لما كان محسوبا بشطر الإيمان ؛ ولما جعل الله الجنّة له ثمنا وليست لغيره من الأثمان ، وقد علمت أنّ العدوّ هو جارك الأدنى ؛ والذي يبلغك وتبلغه عينا وأذنا ، ولا تكون للإسلام نعم الجار ؛ حتّى تكون له بئس الجار. ولا عذر لك في ترك جهاده بنفسك ومالك إذا قامت لغيرك الأعذار. وأمير المؤمنين لا يرضى منك بأن تلقاه مصافحا ، أو تطرق أرضه مماسيا أو مصابحا ، بل يريد أن تقصد البلاد الّتي في يده

٣٨

قصد المستغير لا قصد المغير ، وأن تحكم فيها بحكم الله الذي قضاه على لسان سعد في بني قريظة والنّضير ، وعلى الخصوص البيت المقدّس فإنّه بلاد الإسلام القديم ، وأخو البيت الحرام في شرف التعظيم ، والّذي توجّهت إليه الوجوه من قبل بالسجود والتسليم. وقد أصبح وهو يشكو طول المدّة في أسر رقبته ، وأصبحت كلمة التوحيد وهي تشكو طول الوحشة في غربتها عنه وغربته. فانهض إليه نهضة متوغّل في فرحه ، وتبدل صعب قياده بسمحه ؛ وإن كان له عام حديبيّة فاتّبعه بعام فتح. وهذه الاستزادة بعد سداد ما في اليد من ثغر كان مهملا فحميت موارده ، أو مستهدما فرفعت قواعده ، ومن أهمّها ما كان حاضر البحر كأنّه أعمه عورته مكشوفة ، وخطّة مخوفة ، والعدوّ قريب منه على بعده. وكثيرا ما يأتيه فجاءة حتّى يشقّ برقه برعده ؛ فينبغي أن ترتّب بهذه الثغور رابطة يكثر شجعانها ، ويقلّ أقرانها ، ويكون قتالها لأن تكون كلمة الله هي العليا لا لأن يرى مكانها ، وحينئذ يصبح كلّ منها وله من الرجال أسوار ، ويعلم أهله أن بناء السيف أمنع من بناء الأحجار ؛ ومع هذا فلا بدّ له من أسطول يكثر عدده ، ويقوى مدده ، فإنه العمدة التي يستعين بها على كشف العماء ، والاستكثار من سبايا العبيد والإماء ، وجيشه أخو الجيش السليمانيّ ، فذاك يسري على متن الريح وهذا يجري على متن الماء.

ومن صفات خيله أنّها جمعت بين العوم والمطار ، وتساوت أقدار خلقها على اختلاف مدّة الأعمار ، فإذا أشرعت قيل جبال متلفّعة بقطع من الغيوم ، وإذا نظر إلى أشكالها قيل أهلّة غير أنّها تهتدي في مسيرها بالنجوم ، ومثل هذه الخيل ينبغي أن يغالى من جيادها ، ويستكثر من قيادها ، وليؤمّر عليها أمير يلقى البحر بمثله من سعة صدره ، ويسلك طرقه سلوك من لم تقتله بجهلها ، ولكن قتلها بخبره ؛ وكذلك فليكن ممّن أفنت الأيّام تجاربه ، ورحمتها مناكبه ، وممّن بذل الصّعب إذا هو ساسه وإن سيس لان جانبه ، وهذا هو الرجل الذي يرأس على القوم فلا يجد هذه بالرئاسة ، فإن كان في الساقة ففي الساقة أو كان في الحراسة ففي الحراسة. ولقد أفلحت عصابة اعتصبت من ورائه ، وأيقنت بالنصر من رايته كما أيقنت بالنجح من رأيه.

واعلم أنّه قد أخلّ من الجهاد بركن يقدح في علمه ، وهو تمامه الذي يأتي في آخره كما أنّ صدق النيّة تأتي في أوّله ؛ وذلك هو قسم الغنائم ، فإنّ الأيدي قد تناولته بالإجحاف ، وخلطت جهادها فيه بفلولها ، فلم ترجع بالكفاف. والله قد جعل الظلم في تعدّي حدوده المحدودة ، وجعل الاستئثار بالمغنم من أشراط الساعة الموعودة ؛ ونحن نعوذ به أن يكون زماننا هذا شرّ زمان وناسه شرّ ناس ، ولم يستخلفنا على حفظ أركان دينه ثمّ نهمله إهمال مضيع ولا إهمال ناس.

والذي نأمرك به أن تجري هذا الأمر على المنصوص من حكمه ، وتبرّئ ذمّتك

٣٩

ممّا يكون غيرك الفائز بفوائده وأنت المطالب بإثمه ، وفي أرزاق المجاهدين بالديار المصرية والشاميّة ما يغنيهم عن هذه الأكلة التي تكون غدا نكالا وجحيما ، وطعاما ذا غصّة وعذابا أليما.

فتصفّح ما سطّرناه لك من هذه الأساطير التي هي عزائم مبرمات ، بل آيات محكمات ، وتحبّب إلى الله وإلى أمير المؤمنين باقتفاء كتابها ، وابن لك بها مجدا يبقى في عقبك إذا أصيبت البيوت في أعقابها ؛ وهذا الذي ينطق عليك بأنّه لم يأل في الوصايا التي أوصاها ، فإنّه لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلّا أحصاها.

ثمّ إنّه قد ختم بدعوات دعا بها أمير المؤمنين عند ختامه ، وسأل فيها خيرة الله التي تتنزّل من كلّ أمر منزلة نظامه. ثمّ قال : إنّي أشهدك على من قلّدته شهادة تكون عليه رقيبة وله حسيبة ، فإني لم آمره إلا بأوامر الحقّ التي فيها موعظة وذكرى ، ولمن تبعها هدى ورحمة وبشرى ، وإذا أخذ بها فلج بحجّته يوما يسأل فيه عن الحجج ، ولم يختلج دون رسوله على الحوض في جملة من يختلج ، وقيل له : لا حرج عليك ولا إثم إذ نجوت من ورطات الإثم والحرج. والسلام.

قال الفقيه عمارة اليمني (١) ـ يرثي العاضد ـ وكان من خواصّهم :

يا عاذلي في هوى أبناء فاطمة

لك الملامة إن قصّرت في عذلي

بالله زر ساحة القصرين وابك معي

عليهما لا على صفّين والجمل

وقال بعض الشعراء يمدح بني أيّوب على ما فعلوه :

ألستم مزيلي دولة الكفر من بني

عبيد بمصر ، إنّ هذا هو الفضل

زنادقة شيعيّة باطنيّة

مجوس وما في الصالحين لهم أصل

يسرّون كفرا ، يظهرون تشيّعا

ليستروا شينا ، وعمّهم الجهل

وقال حسان عرقلة (٢) :

أصبح الملك بعد آل عبيد

مشرفا بالملوك من آل شاذي

__________________

(١) في شذرات الذهب : ٤ / ٢٣٤ : هو الفقيه عمارة بن علي بن زيدان أبو محمد الحكمي المذحجي اليمني الشافعي ، الفرضي نجم الدين نزيل مصر وشاعر مصر ... شنقه صلاح الدين في رمضان سنة ٥٦٩ ه‍ لمحاولته مع غيره إعادة الدولة العبيدية.

(٢) في شذرات الذهب : ٤ / ٢٢٠ : هو حسان بن نمير المعروف بعرقلة ، كان شيخا خليعا مطبوعا أعور العين منادما ، اختصّ بصلاح الدين ، وكان قد وعده صلاح الدين أنه إذا أخذ مصر يعطيه ألف دينار. توفّي سنة ٥٦٧ ه‍.

٤٠