حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة - ج ٢

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي

حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة - ج ٢

المؤلف:

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨١
الجزء ١ الجزء ٢

أن يزرعه فأذن له ، ففعل ولم ينجح ، ولم يخلص منه دهن ، فسأل أباه أن يجري له ساقية من المطريّة إليه ، ففعل فلم ينجح.

قال : بأرض مصر حجر القيء ، إذا أخذه الإنسان بيده غلب عليه الغثيان ، حتّى يتقيّأ جميع ما في بطنه ، فإن لم يلقه من يده خيف عليه التلف.

وقال الكنديّ : جعل الله مصر متوسّطة الدنيا ، وهي في الإقليم الثالث والرابع ، فسلمت من حرّ الإقليم الأول والثاني ، ومن برد الإقليم الخامس والسادس ، فطاب هواؤها وبقي حرّها. وضعف حرّها ، وخفّ بردها ، فسلم أهلها من مشاتي الجبال ومصائف عمان وصواعق تهامة ودماميل الجزيرة وجرب اليمن ، وطواعين الشام وغيلان العراق ، وعقارب عسكر (١) مكرم ، وطلب البحرين وحمّى خيبر ، وأمنوا من غارات الترك ، وجيوش الروم وطوائف العرب ، ومكابرة الدّيلم ، وسرايا القرامطة ، وبثوق الأنهار ، وقحط الأمطار ، وقد اكتنفها معادن رزقها ؛ وقرب تصرّفها ، فكثر خصبها ، ورغد عيشها ، ورخص سعرها.

وقال الجاحظ في مصر : إنّ أهلها يستغنون عن كلّ بلد ، حتّى لو ضرب بينها وبين بلاد الدنيا سور لغنى أهلها بما فيها عن سائر بلاد الدنيا ، وفيها ما ليس بغيرها ، وهو حيوان السّقنقور (٢) والنّمس ، ولولاه لأكلت الثعابين أهلها ، وهو لها كقنافذ سجستان لأفاعيها ، والسمك الرّعاد والحطب الصنط الّذي أوقد منه يوما أجمع ما وجد من رماده ملء كفّ ، صلب العود ، سريع الوقود ، بطيء الخمود. ويقال إنّه الأبنوس ؛ لكنّ البقعة قصرت عن الكتّان ، فجاء أحمر شديد الحمرة ، ودهن البلسان ، والأفيون وهو عصارة الخشخاش واللّبخ ، وهو ثمر في قدر اللوز الأخضر ؛ إلا أنّ المأكول منه الظاهر ، والأترجّ الأبلق والزّمرد. وأهلها يأكلون صيد بحر الروم وبحر فارس طريّا ، وفي كلّ شهر من شهورها القبطيّة صنف من المأكول والمشروب والمشموم ، يوجد فيه دون غيره ، فيقال رطب توت ، ورمّان بابة ، وموز هتور ، وسمك كيهك ، وماء طوبة ، وخروف أمشير ، ولبن برمهات ، وورد برمودة ، ونبق بشنس ، وتين بئونة ، وعسل أبيب ، وعنب مسرى. وإنّ صيفها خريف ، وشتاءها ربيع ، وما يقطعه الحرّ في سائر البلاد من الفواكه يوجد فيها في الحرّ والبرّ ؛ إذ هي في الإقليم الثالث والإقليم الرابع ، فسلمت من حرّ الأول والثاني وبرد الخامس والسادس. ويقال : لو لم يكن من فضل مصر إلّا أنها تغني في

__________________

(١) في الكامل لابن الأثير : ٧ / ١٨٩ : عسكر مكرم مدينة من كور الأهواز.

(٢) السقنقور : نوع من السحالي برتقالي اللون مخطط بالبني ، يدفن نفسه بالرمال بسرعة.

٢٨١

الصيف عن الخيش والثّلج وبطون الأرض ، وفي الشتاء عن الوقود والفراء لكفاها.

ومما وصفت به أنّ صعيدها حجازيّ كحرّ الحجاز ، ينبت النخل والدّوم وهو شجر المقل ، والعشر ، والقرظ والإهليلج والفلفل والخيار شنبر ، وأسفل أرضها شاميّ يمطر مطر الشام ، ويقع فيه الثلوج ، وينبت التين والزيتون والعنب والجوز واللوز والفستق وسائر الفواكه ، والبقول والرياحين وهي ما بين أربع صفات ، فضّة بيضاء أو مسكة (١) سوداء ، أو زبرجدة خضراء أو ذهبة صفراء ، وذلك أنّ نيلها يطبّقها فتصير كأنّها فضة بيضاء ، ثمّ ينضب عنها فتصير مسكة سوداء ، ثمّ تزرع فتصير زبرجدة خضراء ، ثمّ تستحصد فتصير ذهبة صفراء.

وحكى ابن زولاق في كتابه ، أنّ أمير مصر موسى (٢) بن عيسى كان واقفا بالميدان عند بركة الحبش (٣) ، فالتفت يمينا وشمالا ، وقال لمن معه من جنده : أترون ما أرى؟ قالوا : وما يرى الأمير؟ قال : أرى عجبا ، ما في شيء من الدنيا مثله ، فقالوا : يقول الأمير ، فقال : أرى ميدان أزهار ، وحيطان نخل وبستان شجر ، ومنازل سكنى ، وجبّانة أموات ، ونهرا عجّاجا وأرض زرع ومراعي ماشية ، ومرابط خيل ، وساحل بحر ، وقانص وحش ، وصائد سمك ، وملّاح سفينة ، وحادي إبل ، ومقابر ورملا وسهلا وجبلا ، فهذه سبعة عشر ؛ مسيرها في أقلّ من ميل في ميل ، ولهذا قال أبو الصّلت أميّة بن عبد العزيز الأندلسيّ يصف الرّصد الذي بظاهر مصر :

يا نزهة الرّصد التي قد نزهت

عن كلّ شيء خلا في جانب الوادي

فذا غدير وذا روض وذا جبل

فالضبّ والنّون والملّاح والحادي

قال ابن فضل الله في المسالك : مملكة مصر من أجلّ ممالك الأرض لما حوت من الجهات المعظّمة والأرض المقدّسة والمساجد الثلاثة التي تشدّ إليها الرحال ، وقبور الأنبياء والطّور والنّيل والفرات ؛ وهما من الجنّة ، وبها معدن الزمرّد ، ولا نظير له في أقطار الأرض. وحسب مصر فخرا ما تفرّدت به من هذا المعدن واستمداد ملوك الآفاق له منها ، وبينه وبين قوص ثمانية أيام بالسّير المعتدل ، والبجاة (٤) تنزل حوله لأجل القيام

__________________

(١) المسكة : نبات ذو رائحة ذكية جدّا.

(٢) في النجوم الزاهرة : ٢ / ٨٤ : موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس ، ولي للمرة الأولى من سنة ١٧١ ـ ١٧٢ ه‍ ، والثانية سنة ١٧٥ ه‍. والثالثة ما بين ١٧٩ ـ ١٨٠.

(٣) الخطط المقريزية : ٢ / ١٥٢ : وهي في ظاهر مدينة الفسطاط من قبليها بين النيل والجبل.

(٤) في مروج الذهب للمسعودي : ١ / ٤٣٨ : البجّة نزلت بين بحر القلزم ونهر النيل.

٢٨٢

بحفره ، وهو في الجبل الآخذ على شرقيّ النيل في منقطع من البرّ لا عمارة عنده ، ولا قريبا منه ، والماء عنه مسيرة نصف يوم ؛ وهذا المعدن في صدر مغارة طويلة في حجر أبيض منه ، يضرب فيستخرج منه الزمرّد ؛ وهو كالعروق فيه.

قال : وأكثر محاسن مصر مجلوبة إليها ؛ حتّى بالغ بعضهم فقال : إنّ العناصر الأربعة مجلوبة إليها : الماء وهو النيل مجلوب من الجنوب ، والتّراب مجلوب من حمل الماء ؛ وإلا فهي رمل محض لا ينبت ، والنّار لا توجد بها شجرتها وهو الصوّان إلا إذا جلب إليها ، والهواء لا يهبّ إليها إلا من أحد البحرين ، إمّا الروميّ وإمّا الخارج من القلزم إليها.

وهي كثيرة الحبوب من القمح والشعير والفول والحمّص والعدس والبسلّة واللّوبياء والدّخن (١) والأرزّ ، وبها الرّياحين الكثيرة كالحبق والآس والورد وغيرها ، وبها الأترجّ والنّارنج والليمون والحامض والكبّاد والموز الكثير وقصب السكّر الكثير والرّطب والعنب والتّين والرّمان والتّوت والفرصاد (٢) والخوخ واللّوز والجمّيز والنّبق والبرقوق والقراصيا والتّفاح. وأما السّفرجل والكمّثرى فقليل ؛ وكذل الزّيتون مجلوب إلّا قليلا في الفيوم ، وبها البطّيخ الأصفر أنواع والأخضر والخيار والقثّاء على أنواع ، والقلقاس واللّفت والجزر والقنّبيط والفجل والبقول المنوّعة.

وبها أنواع الدوابّ من الخيل والبغال والحمير والبقر والجواميس والغنم والمعز. ومما يوصف من دوابّها بالجودة الحمر لفراهتها ، والبقر والغنم لعظمها ، وبها الأوزّ والدّجاج والحمام ، ومن الوحش الغزلان والنّعام والأرنب ؛ وأما من أنواع الطير فكثير كالكركيّ وغيره.

وأوسط الأسعار في غالب أوقاتها الإردبّ القمح بخمسة عشر درهما ، والشعير بعشرة ، وبقيّة الحبوب على هذا الأنموذج ؛ وأما الأرزّ فيبلغ أكثر من ذلك ، وأما اللحم فأقلّ سعره الرطل بنصف درهم.

ويعمل بمصر معامل كالتّنانير ، ويعمل بها البيض بصنعة ؛ ويوقد بنار يحاكى بها نار الطبيعة في حضانة الدجاجة البيض ، ويخرج في تلك المعامل الفراريج ، وهي معظم دجاجهم. وبها ما يستطاب من الألبان والأجبان ، وبها العسل بمقدار متوسّط بين الكثرة والقلّة ، وأمّا السّكر فكثير جدّا ، وقيمته المعهودة على الغالب من السّعر الرطل بدرهم

__________________

(١) الدخن : نبات من فصيلة النجيليات ، حبّه صغير يقدم طعاما للطيور والدجاج. (المنجد).

(٢) الفرصاد : التوت.

٢٨٣

ونصف ، ومنها يجلب السكّر إلى كثير من البلاد ، وقد نسي بها ما كان يذكر من سكّر الأهواز.

وبها الكتّان المعدوم المثل المنقول منه ، وممّا يعمل من قماشه إلى أقطار الأرض.

ومبانيها بالحجر ، وأكثرها بالطّوب وأفلاق النخل والجريد. وخشب الصّنوبر مجلوب إليهم من بلاد الروم في البحر ، ويسمّى عندهم النّقي.

وبها المدارس والخوانق والرّبط (١) والزوايا والعمائر الجليلة الفائقة المعدومة المثل المفروشة بالرخام ، المسقوفة بالأخشاب ، المدهونة الملمّعة بالذّهب واللّازورد.

قال : وحاضرة مصر تشتمل على ثلاث مدن عظام : الفسطاط ، وهو بناء عمرو بن العاص ؛ وهي المسمّاة عند العامة بمصر العتيقة ، والقاهرة بناها جوهر القائد لمولاه الخليفة المعزّ ، وقلعة الجبل بناها قراقوش للملك الناصر صلاح الدين أبي المظفّر يوسف بن أيّوب ، وأوّل من سكنها أخوه العادل ، وقد اتّصل بعض هذه الثلاثة ببعض بسور بناه قراقوش (٢) بها إلّا أنه قد تقطّع الآن في بعض الأماكن ، وهذا السّور ، هو الّذي ذكره القاضي الفاضل في كتاب كتبه إلى السلطان صلاح الدين ، فقال : والله يحيي الموتى حتّى يستدير بالبلدين نطاقه ، ويمتدّ عليهما رواقه ، فهما عقيلة ما كان معصمهما بغير سوار ، ولا حضرهما ليجلى بلا منطقة نضار.

قال : وبها المارستان المنصوريّ المعدوم النظير ، لعظم بنائه وكثرة أوقافه. وبها البساتين الحسان والمناظر النّزهة والآدار المظلة على البحر ، وعلى الخلجاناة الممتدّة فيه أوقات مدّها.

وبها القرافة تربة عظمى لمدفن أهلها ، وبها العمائر الضخمة ، وهي من أحسن البلاد إبّان ربيها للغدر الممتدّة من مقطعات النيل بها ، وما يحفّها من زرع أخرجت شطأها وفتّقت أزهارها ، وبها من محاسن الأشياء ولطائف الصنائع ما تكفي شهرته ومن الأسلحة والقماش والزّركش والمصوغ والكفت (٣) وغير ذلك ما لا يكاد يعدّ تفرّدها به ، والرماح التي لا يعمل في الدنيا أحسن منها. انتهى كلام ابن فضل الله.

__________________

(١) الرباط والمرابطة : ملازمة ثغر العدو ، انظر الخطط المقريزية : ٢ / ٤٢٧.

(٢) في شذرات الذهب : ٤ / ٣٣١ : هو بهاء الدين الأبيض فتى الملك أسد الدين شيركوه ، بنى قلعة القاهرة والسور على مصر والقاهرة والقنطرة التي عند الأهرام ، توفي سنة ٥٩٧ ه‍.

(٣) الكفت : القدر الصغيرة ، أو عملية تطعيم النحاس بالفضة والذهب.

٢٨٤

وقال الكنديّ في فضل مصر : بمصر العجائب والبركات ، فجبلها المقدّس ، ونيلها المبارك ، وبها الطّور الّذي كلّم الله عليه موسى ؛ فإنّ أهل العلم ذكروا أنّ الطّور من المقطّم ، وأنّه داخل فيما وقع عليه القدس ؛ قال كعب : كلّم الله موسى عليه‌السلام من الطّور إلى أطراف المقطّم من القدس. وبها الوادي المقدّس ، وبها ألقى موسى عصاه ، وبها فلق البحر لموسى ، وبها ولد موسى وهرون ، وبها ولد عيسى ، وبها كان ملك يوسف ، وبها النّخلة التي ولدت مريم عيسى تحتها بريف من كورة أهناس ، وبها اللّبخة التي أرضعت عندها مريم عيسى بأشمون ، فخرج من هذه اللّبخة الزيت ، وبها مسجد إبراهيم ، ومسجد يعقوب ، ومسجد موسى ، ومسجد يوسف ، ومسجد مارية سريّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حفن ، أوصت أن يبنى بها مسجد فبني ، وبها مجمع البحرين وهو البرزخ الذي قال الله : (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ* بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ) [الرحمن : ٢٠] ، وقال : (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً) [الفرقان : ٥٣].

وقال غيره : لأهل مصر القلم المعروف بقلم الطير ، وهو قلم البرابي ، وهو قلم عجيب الحرف.

قال : ومصر عند الحكماء العالم الصغير ، سليل العالم الكبير ؛ لأنّه ليس في بلد غنيّ غريب إلّا وفيها مثله وأغرب منه ، وتفضل على البلدان بكثرة عجائبها ومن عجائبها النّمس ؛ وهو أقتل للثعابين بمصر من القنافذ للأفاعي بسجستان (١).

وبمصر جبل يكتب بحجارته كما يكتب بالمداد ، وجبل يؤخذ منه الحجر ، فيترك في الزّيت فيقد كما يقد السراج.

ويقال : إنه ليس على وجه الأرض نبت ولا حجر إلا وفي مصر مثله ، وليس تطلب في سائر الدنيا الأموال المدفونة إلّا بمصر.

ويقال : إنّ بمصر بقلة ؛ من مسّها بيده ثمّ مسّ السمك الرّعاد لم ترعد يده ، وبها حجر الخلّ يطفأ على الخلّ. وبها حجر القيء إذا أمسكه الإنسان بيديه تقيّأ كلّ ما في بطنه ، وبها خرزة تجعلها المرأة على حقوها فلا تحبل. وبها حجر يوضع على حرف التّنّور فيتساقط خبزه ، وكان يوجد بصعيدها حجارة رخوة تكسر فتقد كالمصابيح.

ومن عجائبها حوض كان بدلالات مدوّن من حجارة.

__________________

(١) انظر النجوم الزاهرة : ١ / ٥٤.

٢٨٥

السبب في كون أهل مصر أذلاء يحملون الضيم

قال محمد بن الربيع الجيزيّ : سمعت يحيى بن عثمان بن صالح ، يقول : قدم سعد بن أبي وقّاص في خلافة عثمان رسولا من قبل عثمان إلى أهل مصر أيّام ابن أبي (١) حذيفة ، فلقوه خارجا من الفسطاط ، ومنعوه من دخولها ، فقال لهم : فلتسمعوا ما أقول لكم ؛ فامتنعوا عليه ، فدعا عليهم أن يضربهم الله بالذلّ (٢). هذا معناه.

قلت : وسعد ممّن عرف بإجابة الدّعوة ؛ لأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا له : «اللهمّ استجب له إذا دعاك».

في تذكرة الصلاح الصفديّ : كان الشيخ تاج الدين الفزاريّ يقول : إنّ الحكماء وأهل التجارب ذكروا أنّ من أقام ببغداد سنة وجد في علمه زيادة ، ومن أقام بالموصل سنة وجد في عقله زيادة ، ومن أقام بحلب سنة وجد في نفسه شحّا ، ومن أقام بدمشق سنة وجد في طباعه غلظة وفظاظة ، ومن أقام بمصر سنة وجد في أخلاقه رقّة وحسنا.

في مباهج الفكر : يروى عن كعب ، قال : لمّا خلق الله الأشياء ، قال القتل : أنا لاحق بالشام ، فقالت الفتنة : وأنا معك ، وقال الخصب أنا لاحق بمصر ، فقال الذلّ : وأنا معك ، وقال الشّقاء : أنا لاحق بالبادية ، فقالت الصّحّة : وأنا معك.

وقال محمد بن حبيب : لمّا خلق الله الخلق خلق معهم عشرة أخلاق : الإيمان والحياء والنّجدة والفتنة والكبر والنّفاق والغنى والفقر والذلّ والشّقاء ، فقال الإيمان : أنا لاحق باليمن ، فقال الحياء : وأنا معك ، وقالت النجدة : أنا لاحقة بالشّام ، فقالت الفتنة : وأنا معك ، وقال الكبر : أنا لاحق بالعراق ، فقال النفاق : وأنا معك ، وقال الغنى : أنا لاحق بمصر ، فقال الذلّ : وأنا معك ، وقال الفقر : أنا لاحق بالبادية ، فقال الشقاء : وأنا معك.

وقال غيره : إنّ الله جعل البركة عشرة أجزاء ، فتسعة منها في قريش وواحد في سائر النّاس ، وجعل الكرم عشرة أجزاء ، فتسعة منها في العرب وواحد في سائر النّاس ، وجعل الغيرة عشرة أجزاء ، فتسعة منها في الأكراد وواحد في سائر النّاس ، وجعل المكر

__________________

(١) في النجوم الزاهرة : ١ / ١٢٢ : هو محمد بن أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف ، وثب على مصر وملكها من غير ولاية من خليفة سنة ٣٦ ه‍.

(٢) في المرجع السابق : ودعا عليهم لما فعلوه به.

٢٨٦

عشرة أجزاء ، فتسعة منها في القبط وواحد في سائر الناس ، وجعل الجفاء عشرة أجزاء ، فتسعة منها في البربر وواحد في سائر الناس ، وجعل النّجابة عشرة أجزاء ، فتسعة منها في الرّوم وواحد في سائر الناس ، وجعل الصناعة عشرة أجزاء ؛ فتسعة منها في الصين وواحد في سائر الناس ، وجعل الشّهوة عشرة أجزاء ، فتسعة منها في النّساء وواحد في سائر الناس ، وجعل العمل عشرة أجزاء فتسعة منها في الأنبياء وواحد في سائر الناس ، وجعل الحسد عشرة أجزاء ، فتسعة منها في اليهود وواحد في سائر النّاس.

ويحكى أنّ الحجّاج سأل ابن القرّية عن طبائع أهل الأرض ، فقال : أهل الحجاز أسرع الناس إلى الفتنة وأعجزهم عنها ؛ رجالها حفاة ، ونسائها عراة ، وأهل اليمن أهل سمع وطاعة ، ولزوم الجماعة ، وأهل عمان عرب استنبطوا ، وأهل البحرين قبط استعربوا ، وأهل اليمامة أهل جفاء ، واختلاف آراء. وأهل فارس أهل بأس شديد وعزّ عتيد ، وأهل العراق أبحث الناس عن صغيرة وأضيعهم لكبيرة. وأهل الجزيرة أشجع فرسان ، وأقتل للأقران. وأهل الشام أطوعهم لمخلوق وأعصاهم لخالق. وأهل مصر عبيد لمن غلب ، أكيس الناس صغارا وأجهلهم كبارا.

وعن ابن القرّية قال : الهند بحر هادر ، وجبلها ياقوت ، وشجرها عود ، وورقها عطر. وكرمان ماؤها وشل (١) ، وثمرها دقل (٢) ، ولصّها بطل. وخراسان ماؤها جامد ، وعدوّها جاهد. وعمان حرّها شديد ، وصيدها عتيد والبحرين كناسة (٣) بين المصرين. والبصرة ماؤها ملح ، وحربها صلح ، مأوى كلّ تاجر ، وطريق كلّ عابر. والكوفة ارتفعت عن حرّ البحرين ، وسفلت عن برد الشام. وواسط جنّة ، بين كماة وكنّة ، والشّام عروس ، بين نساء جلوس ، ومصر هواؤها راكد ، وحرّها متزائد ، تطوّل الأعمار ، وتسوّد الأبشار.

وقال بعضهم : يقال في خصائص البلاد في الجواهر : فيروز نيسابور ، وياقوت سرنديب (٤) ، ولؤلؤ عمان ، وزبرجد مصر ، وعقيق اليمن ، وجزع ظفار ، وكاري بلخ ، ومرجان إفريقية.

وفي ذوات السّموم : أفاعي سجستان ، وحيّات أصبهان ، وثعابين مصر ، وعقارب شهر زور ، وجرّارات (٥) الأهواز ، وبراغيث أرمينية ، وفار أردنّ ، ونمل ميّافارقين (٦) ،

__________________

(١) الماء الوشل : الماء القليل.

(٢) الثمر الدقل : الثمر الضعيف الرديء.

(٣) الكناسة : موضع الزبالة.

(٤) في معجم البلدان : سرنديب : جزيرة عظيمة في بحر هركند بأقصى بلاد الهند.

(٥) الجرارة : ـ عقرب صفراء تجرّ ذيلها.

(٦) في معجم البلدان : ميافارقين : وهي أشهر مدن ديار بكر.

٢٨٧

وذباب تلّ بابان (١) ، وأوزاغ (٢) بلد (٣).

وفي الملابس برود اليمن ، ووشي صنعاء ، وريط (٤) الشام ، وقصب مصر ، وديباج الروم ، وقزّ السّوس (٥) ، وحرير الصين ، وأكسية فارس ، وحليّ البحرين وسقلاطون بغداد ، وعمائم الأبلّة والريّ ، وملحم مرو ، وتكك أرمينية ، ومنادي الدّامغان ، وجوارب قزوين.

وفي المراكيب عتاق البادية ، ونجائب الحجاز ، وبراذين طخارستان ، وحمير مصر ، وبغال برزعة (٦).

وفي الأمراض طواعين الشام ، وطحال البحرين ، ودماميل الجزيرة ، وحمّى خيبر ، وجنون حمص ، وعرق اليمن ، ووباء مصر ، وبرسام (٧) العراق ، والنار الفارسيّة ، وقروح بلخ.

وقال الجاحظ في كتاب الأمصار : الصناعة بالبصرة ، والفصاحة بالكوفة ، والتخنيث ببغداد ، والطّرمذة (٨) بسمرقند والعيّ بالريّ ، والجفاء بنيسابور ، والحسن بهراة ، والمروءة ببلخ ، والبلح بمرو ، والعجائب بمصر.

وقال غيره : قراطيس سمرقند لأهل المشرق كقراطيس مصر لأهل المغرب.

وقال القاضي الفاضل : أهل مصر على كثرة عددهم وما ينسب من وفور المال إلى بلدهم ، مساكين يعملون في البحر ، ومجاهيد يدأبون في البرّ ، ومن العجائب شجرة العباس في دندار من صعيد مصر ، وهي شجرة متوسّطة ، وأوراقها قصيرة منبسطة ، فإذا قال الإنسان : يا شجرة العبّاس ، جال الناس ، تجتمع أوراقها ، وتحترق لوقتها.

__________________

(١) بابان : بلد بالبحرين. معجم البلدان.

(٢) الأوارغ : ضرب من الزحّافات.

(٣) في معجم البلدان : بلد : ويراد به مرو الروذ.

(٤) الريط : مفردها الريطة : الملاءة.

(٥) في معجم البلدان : السوس : بلدة بخوزستان.

(٦) في معجم البلدان : برذعة : بلد في أقصى أذربيجان.

(٧) البرسام : التهاب الحجاب الحاجز بين البطن والصدر.

(٨) الطرمذة : الصلف والمباهاة بما ليس في الإنسان.

٢٨٨

ذكر النيل

قال التّيفاشيّ في كتاب سجع الهديل : لم يسمّ نهر من الأنهار في القرآن سوى النيل في قوله تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِ) [القصص : ٧]. قال : أجمع المفسرون على أنّ المراد باليمّ هنا نيل مصر.

أخرج أحمد ومسلم عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «النيل وسيحان وجيحان والفرات من أنهار الجنّة».

قال ابن عبد الحكم : حدّثنا عبد الله بن صالح ، حدّثنا الليث ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي الخير ، عن كعب الأحبار ، أنّه كان يقول : أربعة أنهار من الجنّة وضعها الله في الدنيا ؛ فالنّيل نهر العسل في الجنّة ، والفرات نهر الخمر في الجنّة ، وسيحان نهر الماء في الجنّة ، وجيحان نهر اللّبن في الجنّة. أخرجه الحارث في مسنده والخطيب في تاريخه (١).

وقال : حدّثنا عثمان بن صالح ، حدّثنا ابن لهيعة ، عن وهب بن عبد الله المعافريّ ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، أنّه قال : نيل مصر سيّد الأنهار ، سخّر الله له كلّ نهر بالمشرق والمغرب ، فإذا أراد الله أن يجري نيل مصر أمر كلّ نهر أن يمدّه ، فأمدّته الأنهار بمائها ، وفجّر الله له الأرض عيونا ، فإذا انتهت جريته إلى ما أراد الله ، أوحى الله إلى كلّ ماء أن يرجع إلى عنصره (٢). أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره.

قال : حدّثنا عثمان بن صالح ، حدّثنا ابن لهيعة ، عن يزيد بن أبي حبيب أن معاوية ابن أبي سفيان سأل كعب الأحبار ، هل تجد لهذا النيل في كتاب الله خبرا؟ قال : إي والذي فلق البحر لموسى ، إنّي لأجده في كتاب الله يوحي إليه في كلّ عام مرّتين ، يوحي إليه عند جريه : إنّ الملك يأمرك أن تجري فيجري ما كتب الله [له](٣) ، ثم يوحي إليه بعد ذلك : يا نيل عد حميدا.

وأخرج الخطيب في تاريخه وابن مردويه في تفسيره والضياء المقدسيّ في صفة الجنّة عن ابن عبّاس مرفوعا : أنزل الله تعالى من الجنّة إلى الأرض خمسة أنهار : سيحون ، وجيحون ، ودجلة ، والفرات والنيل ؛ أنزلها الله من عين واحدة من عيون الجنّة ، من أسفل درجة من درجاتها ، على جناحي جبريل ، واستودعها الجبال ، وأجراها

__________________

(١) النجوم الزاهرة : ١ / ٤٤.

(٢) المرجع السابق.

(٣) النجوم الزاهرة : ١ / ٤٤.

٢٨٩

في الأرض ، وجعل فيها منافع للناس ، فذلك قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ) [المؤمنون : ١٨] ، فإذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج ، أرسل الله جبريل ، فرفع من الأرض القرآن والعلم والحجر من البيت ومقام إبراهيم وتابوت موسى بما فيه ؛ وهذه الأنهار الخمسة ، فيرفع كلّ ذلك إلى السماء ؛ فذلك قوله : (وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ) [المؤمنون : ١٨] ، فإذا رفعت هذه الأشياء من الأرض عدم أهلها خيرها.

وأخرج الحارث بن أبي أسامة في سنده وابن عبد الحكم في تاريخ مصر ، والخطيب في تاريخ بغداد ، والبيهقيّ في البعث عن كعب الأحبار ، قال : نهر النيل نهر العسل في الجنة ، ونهر دجلة نهر اللبن في الجنّة ، ونهر الفرات نهر الخمر في الجنّة ، ونهر سيحان نهر الماء في الجنة.

وأخرج البيهقيّ في شعب الإيمان ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، قال : غار النيل على عهد فرعون ، فأتاه أهل مملكته ، فقالوا : أيّها الملك أجر لنا النّيل ، قال : إنّي لم أرض عنكم ، فذهبوا ثمّ أتوه ، فقالوا : أيّها الملك ، أجر لنا النيل ، قال : إنّي لم أرض عنكم ، فذهبوا ثمّ أتوه ، فقالوا : أيها الملك ماتت البهائم ، وهلكت الأبكار ، لئن لم تجر لنا النيل لنتخذنّ إلها غيرك ، قال اخرجوا إلى الصعيد ، فخرجوا فتنحّى عنهم حيث لا يرونه ، ولا يسمعون كلامه ، فألصق خدّه بالأرض ، وأشار بالسبّابة لله ، ثمّ قال : اللهم إنّي خرجت إليك مخرج العبد الذليل إلى سيّده ، وإنّي أعلم أنّه لا يقدر على إجرائه أحد غيرك فأجره. قال : فجرى النيل جريا لم يجر قبله مثله ، فأتاهم فقال : إنّي قد أجريت لكم النيل ؛ فخرّوا له سجدا ، وعرض له جبريل ، فقال : أيّها الملك ؛ أعدني على عبدي ، قال : وما قصّته؟ قال : عبد ليل ملّكته على عبيدي ، وخوّلته مفاتيحي ، فعاداني ، فأحبّ من عاديت ، وعادى من أحببت ، قال : بئس العبد عبدك! لو كان لي عليه سبيل لغرّقته في بحر القلزم! فقال : أيها الملك ، اكتب لي كتابا ، فدعا بكتاب ودواة : ما جزاء العبد الذي خالف سيّده فأحبّ من عادى وعادى من أحبّ إلا أن يغرق في بحر القلزم. قال : يأيّها الملك اختمه لي ، فختمه ثمّ دفعه إليه ، فلمّا كان يوم البحر ، أتاه جبريل بالكتاب ، فقال : خذ هذا ما حكمت به على نفسك.

أثر متصل الإسناد في أمر النيل

أخبرني أبو الطيّب الأنصاريّ إجازة ، عن الحافظ أبي الفضل عبد الرحيم بن الحسين العراقيّ ، عن أبي الفتح محمد بن محمد الميدوميّ ، أخبرتنا أمة الحقّ شامية

٢٩٠

بنت الحافظ صدر الدين الحسن بن محمد بن محمد سماعا ، أخبرنا أبو حفص عمر بن طبرزد سماعا ، أخبرنا أبو القاسم إسماعيل بن أحمد السّمرقنديّ وغيره سماعا ، قالوا : أخبرنا أبو الحسين أحمد بن محمد بن النّقور سماعا ، أخبرنا أبو طاهر محمد بن عبد الرحيم المخلص سماعا ، أخبرنا عبيد الله بن عبد الرحمن بن عيسى السكريّ ، حدّثنا أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل الترمذيّ وأبو بكر محمد بن صالح بن عبد الرحمن الحافظ الأنماطيّ ، قالا : حدّثنا أبو صالح عبد الله بن صالح بن محمد ، كاتب الليث ، قال : حدّثني الليث بن سعد ، قال : بلغني أنّه كان رجل من بني العيص يقال له حائد بن أبي شالوم بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم عليه‌السلام ، خرج هاربا من ملك من ملوكهم ؛ حتّى دخل أرض مصر ، فأقام بها سنين ، فلمّا رأى أعاجيب نيلها وما يأتي به ، جعل لله تعالى عليه ألّا يفارق ساحلها حتّى يبلغ منتهاه ؛ من حيث يخرج أو يموت قبل ذلك ، فسار عليه ـ قال بعضهم : سار ثلاثين سنة في النّاس وثلاثين في غير الناس. وقال بعضهم : خمسة عشر كذا ، وخمسة عشر كذا ـ حتى انتهى إلى بحر أخضر ، فنظر إلى النيل ينشقّ مقبلا فصعد على البحر ، فإذا رجل قائم يصلّي تحت شجرة من تفّاح ، فلما رآه استأنس به ، وسلّم عليه ، فسأله الرجل صاحب الشجرة ، فقال له : من أنت؟ قال : أنا حامد بن أبي شالوم بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم عليه‌السلام ، فمن أنت؟ قال : أنا عمران بن فلان بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم ، قال : فما الذي جاء بك إلى هنا يا عمران؟ قال : جاء بي الّذي جاء بك ، حتّى انتهيت إلى هذا الموضع ؛ فأوحى الله إليّ أن أقف في هذا الموضع ، حتّى يأتيني أمره ، قال له حامد : أخبرني يا عمران ، ما انتهى إليك من أمر هذا النيل؟ وهل بلغك من الكتب أنّ أحدا من بني آدم يبلغه؟ قال له عمران : نعم ، بلغني أنّ رجلا من بني العيص يبلغه ، ولا أظنّه غيرك يا حامد ، قال له حامد : يا عمران ، أخبرني كيف الطريق إليه؟ قال له عمران : لست أخبرك بشيء إلّا أن تجعل لي ما أسألك! قال : وما ذاك يا عمران؟ قال : إذا رجعت إليّ وأنا حيّ أقمت عندي حتّى يوحي الله تعالى إليّ بأمره ، أو يتوفّاني فتدفنني ؛ فإن وجدتني ميّتا دفنتني وذهبت ، قال : ذلك لك عليّ ، قال له : سر كما أنت على هذا البحر ؛ فإنّك تأتي دابّة ترى آخرها ولا ترى أوّلها ، فلا يهولنّك أمرها ، اركبها ؛ فإنها دابّة معادية للشمس ، إذا طلعت أهوت إليها لتلتقمها حتّى يحول بينها وبين حجبتها ، وإذا غربت أهوت إليها لتلتقمها ؛ فتذهب بك إلى جانب البحر ، فسر عليها راجعا حتّى تنتهي إلى النيل ، فسر عليه ، فإنّك ستبلغ أرضا من حديد ، جبالها وأشجارها وسهولها من حديد ؛ فإن أنت جزتها وقعت في أرض من نحاس ، جبالها وأشجارها وسهولها من نحاس ، فإن أنت جزتها وقعت في أرض من فضّة ؛ جبالها وأشجارها وسهولها من فضّة ، فإن أنت جزتها

٢٩١

وقعت في أرض من ذهب جبالها وأشجارها وسهولها من ذهب ، فيها ينتهي إليك علم النّيل.

فسار حتى انتهى إلى أرض الذّهب ، فسار فيها حتّى انتهى إلى سور من ذهب وشرفة من ذهب ، وقبّة من ذهب ، لها أربعة أبواب ؛ فنظر إلى ما ينحدر من فوق ذلك السّور حتّى يستقرّ في القبّة ثمّ ينصرف في الأبواب الأربعة : فأمّا ثلاثة فتغيض في الأرض ، وأمّا واحد فيسير على وجه الأرض ؛ وهو النيل. فشرب منه واستراح ، وأهوى إلى السّور ليصعد ، فأتاه ملك فقال له : يا حامد قف مكانك ، فقد انتهى إليك علم هذا النيل ؛ وهذه الجنّة ؛ وإنّما ينزل من الجنّة ، فقال : أريد أن أنظر إلى الجنّة ، فقال : إنك لن تستطيع دخولها اليوم يا حامد ، قال : فأيّ شيء هذا الذي أرى؟ قال : هذا الفلك الذي تدور فيه الشمس والقمر ، وهو شبه الرحى ، قال : إنّي أريد أن أركبه فأدور فيه ـ فقال بعض العلماء : إنّه قد ركبه ؛ حتّى دار الدنيا وقال بعضهم : لم يركبه ـ فقال له : يا حامد ؛ إنه سيأتيك من الجنّة رزق ، فلا تؤثر عليه شيئا من الدّنيا ، فإنّه لا ينبغي لشيء من الجنّة أن يؤثر عليه شيء من الدنيا إن لم تؤثر عليه شيئا من الدنيا بقي ما بقيت.

قال : فبينا هو كذلك واقف ، إذ نزل عليه عنقود من عنب فيه ثلاثة أصناف ؛ لون كالزبرجد الأخضر ، ولون كالياقوت الأحمر ، ولون كاللؤلؤ الأبيض ، ثمّ قال له : يا حامد ، أما إنّ هذا من حصرم الجنّة ، وليس من طيب عنبها ، فارجع يا حامد ، فقد انتهى إليك علم النيل ؛ فقال : هذه الثلاثة الّتي تغيض في الأرض ، ما هي؟ قال : أحدها الفرات ، والآخر دجلة ، والآخر جيحان ، فارجع.

فرجع حتّى انتهى إلى الدابّة التي ركبها ، فركبها ، فلمّا أهوت الشمس لتغرب قذفت به من جانب البحر ، فأقبل حتّى انتهى إلى عمران ، فوجده ميّتا فدفنه ، وأقام على قبره ثلاثا ؛ فأقبل شيخ متشبّه بالناس أغرّ من السجود ، ثمّ أقبل إلى حامد ، فسلّم عليه ، ثمّ قال له : يا حامد ؛ ما انتهى إليك من علم هذا النيل؟ فأخبره ، فلمّا أخبره ، قال له : هكذا نجده في الكتب ، ثمّ أطرى (١) ذلك التفّاح في عينيه ، وقال : ألا تأكل منه؟ قال : معي رزقي ، قد أعطيته من الجنّة ونهيت أن أؤثر عليه شيئا من الدنيا ، قال : صدقت يا حامد ، هل ينبغي لشيء من الجنّة أن يؤثر بشيء من الدنيا ، وهل رأيت في الدنيا مثل هذا التفاح؟ إنّما أنبتت له في الأرض ليس من الدنيا ، وإنّما هذه الشجرة من الجنّة ، أخرجها الله لعمران يأكل منها ، وما تركها إلّا لك ، ولو قد وليت عنها رفعت ، فلم يزل

__________________

(١) أطرى التفاح : أحسن الثناء عليه وبالغ في مدحه.

٢٩٢

يطريها في عينيه ، حتّى أخذ منها تفاحة ، فعضّها ، فلما عضّها عضّ يده ، ثمّ قال : أتعرفه؟ هو الذي أخرج أباك من الجنّة ؛ أما إنّك لو سلّمت بهذا الذي كان معك لأكل منه أهل الدنيا قبل أن ينفد ، وهو مجهودك إن تبلغه فكان مجهوده أن بلغه.

وأقبل حامد حتّى دخل أرض مصر ، فأخبرهم بهذا ؛ فمات حامد بأرض مصر.

وبهذا الإسناد إلى عبد الله بن صالح ، حدّثني ابن لهيعة عن وهب بن عبد الله المعافريّ ، عن عبد الله بن عمرو في قوله تعالى : (فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ) [الشعراء : ٥٧ ، ٥٨] ، قال : كانت الجنان بحافّتي هذا النيل ، من أوّله إلى آخره في الشّقّين جميعا من أسوان إلى رشيد ، وكان له سبعة خلج : خليج الإسكندرية ، وخليج دمياط ، وخليج سردوس ، وخليج منف ، وخليج الفيّوم ، وخليج المنهى ، وخليج سخا ، متّصلة لا ينقطع منها شيء عن شيء (١) ، ويزرع ما بين الجبلين كلّه من أوّل مصر إلى آخر ما يبلغه الماء ، وكانت جميع مصر كلّها يومئذ تروى من ستة عشر ذراعا.

وبهذا الإسناد إلى ابن لهيعة ، وعن يزيد بن أبي حبيب ؛ أنّه كان على نيل مصر فرضة (٢) لحفر خليجها ، وإقامة جسورها وبناء قناطرها. وقطع جزائرها مائة ألف وعشرون ألف فاعل ، معهم الطّور والمساحي والأداة ، يعتقبون ذلك ، لا يدعون ذلك شتاء ولا صيفا.

وذكر بعض الأخباريّين أن حامدا هذا لم يتنبّأ ، وأنّه أوتي الحكمة ، وأنّه سأل الله أن يريه منتهى النيل ، فأعطي قوّة على ذلك فوصل إلى جبل القمر ، وقصد أن يطلع إلى أعلاه ، فلم يقدر ؛ فسأل الله فيسّره عليه ، فصعد فرأى خلفه البحر الزفتيّ ، وهو بحر أسود منتن الريح مظلم ، فرأى النيل يجري في وسطه ؛ كأنّه السّبيكة الفضّة.

وقال صاحب مباهج الفكر : ذكر أبو الفرج قدامة أنّ مجموع ما في المعمور من الأنهار مائتان وثمانية وعشرون نهرا ؛ منها ما يجري من المشرق إلى المغرب ، ومنها ما يجري من الشمال إلى الجنوب ، ومنها ما جريانه كنهر النيل من الجنوب إلى الشمال ، ومنها ما هو مركّب من هذه الجهات كالفرات وجيحون ؛ فأمّا النّيل فذكر قدامة أنّ انبعاثه من جبل القمر وراء خط الاستواء من عين تجري منها عشرة أنهار ؛ كلّ خمسة منها يصبّ إلى بطيحة (٣) كبيرة في الإقليم الأول ، ومن هذه البطيحة يخرج نهر النيل.

__________________

(١) انظر النجوم الزاهرة : ١ / ٧١.

(٢) الفرضة : محط السفن. النجوم الزاهرة : ١ / ٤٨.

(٣) البطيحة : مسيل واسع فيه رمل ودقاق الحصى.

٢٩٣

وذكر صاحب كتاب نزهة المشتاق في اختراق الآفاق (١) أن هذه البحرية تسمّى بحيرة كورى (٢) منسوبة لطائفة من السودان ، يسكنون حولها متوحّشين يأكلون من وقع إليهم من الناس ، فإذا خرج النيل منها يشقّ بلاد كورى ثمّ بلاد ننه طائفة من السودان ، بين كانم والنوبة ، فإذا بلغ دنقلة مدينة النوبة عطف من غربيّها إلى المغرب ، وانحدر إلى الإقليم الثاني ، فيكون على شطئه عمارة النّوبة ، وفيه هناك جزائر متّسعة عامرة بالمدن والقرى ، ثمّ يشرّق إلى الجنادل ، وإليها تنتهي مراكب النوبة انحدارا ، ومراكب الصعيد الأعلى صعودا وهناك أحجار مضرّسة لا مرور للمراكب عليها إلا في أيام زيادة النيل ، ثمّ يأخذ الشمال ، فيكون على شرقيّه مدينة أسوان من الصعيد الأعلى ، ثمّ يمرّ بين جبلين مكتنفين لأعمال مصر شرقيّ وغربيّ إلى الفسطاط ، فإذا تجاوزها مسافة يوم انقسم إلى قسمين أحدهما يمرّ حتى يصبّ في بحر الروم عند دمياط ، ويسمّى بحر الشرق والآخر وهو عمود النيل ومعظمه يمرّ إلى أن يصب عند رشيد ، ويسمى بحر الغرب ، ومسافة النيل من منبعه إلى أن يصبّ في رشيد سبعمائة فرسخ وثمانية وأربعون فرسخا.

وقيل إنه يجري في الخراب أربعة أشهر ، وفي بلاد السودان شهرين ، وفي بلاد الإسلام شهرا ، وليس في الأرض نهر يزيد حين تنقص الأنهار غيره ؛ وذلك أنّ زيادته تكون في القيظ الشديد في شمس السرطان والأسد والسنبلة. وروي أنّ الأنهار تمدّه بمائها.

وقال قوم : إنّ زيادته من ثلوج يذيبها الصّيف وعلى حسب مدّها تكون كثرته وقلّته.

وذهب آخرون إلى أنّ زيادته بسبب أمطار كثيرة تكون ببلاد الحبشة.

وذهب آخرون إلى أنّ زيادته عن اختلاف الريح ، وذلك أنّ الشمال إذا هبّت عاصفة يهيج البحر الروميّ ، فيدفع إليه ما فيه منه ، فيفيض على وجه الأرض ، فإذا هبّت الجنوب سكن هيجان البحر ، فيسترجع منه ما دبّ إليه ، فينقص.

وزعم آخرون أنّ زيادته من عيون على شاطئه ، يراها من سافر ولحق بأعاليه.

وقال آخرون : إنّ مجراه من جبال الثلج ، وهي بجبل قاف ، وأنه يخرق البحر

__________________

(١) للإدريسي.

(٢) في مروج الذهب : ١ / ٣٨٧ : البحيرة التي لا يدرك طولها وعرضها ، وهي نحو الأرض التي الليل والنهار فيها متساويان طول الدهر.

٢٩٤

الأخضر ، ويمرّ على معادن الذهب والياقوت والزمرد والمرجان ، فيسير ما شاء الله إلى أن يأتي إلى بحيرة الزنج. قالوا : ولو لا دخوله في البحر الملح ، وما يختلط به منه لم يستطيع شربه لشدّة حلاوته وزيادته بتدريج وترتيب في زمان مخصوص مدّة معلومة ، وكذا نقصه ومنتهى زيادته الّتي يحصل بها الريّ لأرض مصر ستّة عشر ذراعا (١) ، والذراع أربعة وعشرون إصبعا ، فإن زاد على الستة عشر ذراعا إصبعا واحدا ازداد في الخراج مائة ألف دينار لما يروي من الأراضي العالية.

والغاية القصوى في الزيادة ثمانية عشر ذراعا ؛ هذا في مقياس مصر ، فإذا انتهى فيه إلى ذلك كان في الصعيد الأعلى اثنين وعشرين ذراعا ، لارتفاع البقاع التي يمرّ عليها ، ويسوق الرّي إليها ، فإذا انتهت زيادته فتحت خلجانات وترع ، فيخرج الماء يمينا وشمالا إلى الأرض البعيدة عن مجرى النيل ؛ حكمة دبّرت بالعقول السليمة وقدّرت ، ومنافع مهّدت في الزمن القديم وقرّرت.

وللنيل ثماني (٢) خلجانات : خليج الاسكندرية ، وخليج دمياط ، وخليج منف ، وخليج المنهى ـ حفره يوسف عليه‌السلام ـ وخليج أشموم طنّاح ، وخليج سردوس ـ حفره هامان لفرعون ـ وخليج سخا ، وخليج حفره عمرو بن العاص زمن عمر بن الخطاب. ويحصل لأهل مصر يوم وفائه الستة عشر ذراعا الّتي هي قانون الرّي سرور شديد بحيث يركب الملك في خواصّ دولته الحراريق المزيّنة إلى المقياس ، ويمدّ فيه سماطا ويخلّق العمود الّذي يقاس فيه ويخلع على القيّاس ، ويعطيه صلة مقررة له.

وقد ذكر بعض المفسرين أنّه يوم الزينة ، الّذي وعد فرعون موسى بالاجتماع فيه.

هذا كلّه كلام مباهج الفكر.

وقد اختلف في ضبط جبل القمر ، فقيل : إنّه بفتح القاف والميم بلفظ أحد النّيّرين.

قال التّيفاشيّ : وإنّما سمّي بذلك لأنّ العين تقمر منه ، إذا نظرت إليه لشدّة بياضه. قال : ولذلك أيضا سمّي القمر قمرا. قال : وهذا الجبل مستطيل من المشرق إلى المغرب ، نهايته في ناحية المغرب إلى حدّ الخراب ، ونهايته في المشرق إلى مثل ذلك ، وهو نفسه بجملته في الخراب من ناحية الجنوب ، وله أعراق في الهواء ، منها طوال ومنها دونها.

__________________

(١) مروج الذهب : ١ / ٣٨١.

(٢) في مروج الذهب : ١ / ٣٨١ : سبع خلجانات.

٢٩٥

قال في مختصر المسالك : وذكر بعضهم أنّ أناسا انتهوا إلى هذا الجبل وصعدوه ، فرأوا وراءه بحرا عجّاجا ماؤه أسود كاللّيل ، يشقّه نهر أبيض كالنهار ، يدخل الجبل من جنوبه ، ويخرج من شماله ، ويتشعّب على قبّة هرمس المبنيّة هناك.

وزعموا أن هرمس (١) الهرامسة ـ وهو إدريس عليه‌السلام فيما يقال ـ بلغ ذلك الموضع ، وبنى فيه قبّة.

وذكر بعضهم أنّ أناسا صعدوا الجبل ، فصار الواحد منهم يضحك ويصفّق بيديه ، وألقى نفسه إلى ما وراء الجبل ، فخاف البقيّة أن يصيبهم مثل ذلك فرجعوا.

وقيل : إنّ أولئك إنّما رأوا حجر الباهت ، وهي أحجار برّاقة كالفضّة البيضاء تتلألأ ، كلّ من نظرها ضحك والتصق بها حتّى يموت ، ويسمى مغناطيس الناس.

وذكر بعضهم أنّ ملكا من ملوك مصر الأول ، جهّز أناسا للوقوف على أوّل النيل ، فانتهوا إلى جبال من نحاس ، فلما طلعت عليها الشمس انعكست عليها ، فأحرقتهم.

وقيل إنّهم انتهوا إلى جبال برّاقة لمّاعة كالبلّور ، فلمّا انعكست عليهم أشعّة الشمس الواقعة عليهم أحرقتهم.

وقال صاحب مرآة الزمان : ذكر أحمد بن بختيار أنّ العين التي هي أصل النيل ، هي أوّل العيون من جبل القمر ، ثمّ نبعت منه عشرة أنهار ، نيل مصر أحدها. قال : والنّيل يقطع الإقليم الأوّل ، ثمّ يجاوزه إلى الثاني ، ومن ابتدائه ، من جبل القمر إلى انتهائه إلى البحر الروميّ ، ثلاثة آلاف فرسخ ، ويبتدئ بالزيادة في نصف حزيران ، وينتهي إلى أيلول.

قال : واختلفوا في سبب زيادته ، فقال قوم : لا يعلم ذلك إلا الله.

وقال آخرون : سببه زيادة عيونه.

وقال آخرون ، وهو الظاهر : سببه كثرة المطر والسيول ببلاد الحبش والنوبة ، وإنما يتأخر وصوله إلى الصيف لبعد المسافة. ورد ذلك قوم بأنّ عيونه الّتي تحت جبل القمر تتكدّر في أيام زيادته ، فدلّ على أنّه فعل الله من غير زيادة بالمطر. قال : وجميع الأنهار تجري إلى القبلة سواه ، فإنه يجري إلى ناحية الشمال. وكان القاضي بحماه قال : ومتى

__________________

(١) في النجوم الزاهرة : ١ / ٥١ : هرمس المثلث الموصوف بالحكمة وهو الذي تسميه العبرانيون خنوخ.

٢٩٦

بلغ ستة عشر ذراعا استحقّ السلطان الخراج ، وإذا بلغ ثمانية عشر ذراعا قالوا : يحدث بمصر وباء عظيم ، وإذا بلغ عشرين ذراعا مات ملك مصر.

وقال ابن المتوّج : من عجائب مصر النّيل الذي يأتي من غامض علم الله في زمن القيظ فيعمّ البلاد سهلا ووعرا ، يبعث الله في أيام مدده الريح الشمال فيصدّ له البحر المالح ، ويصير له كالجسر ، ويزيد. وإذا بلغ الحدّ الذي هو تمام الرّيّ وأوان الزراعة ، بعث الله بالريح الجنوب فكنسته ، وأخرجته إلى البحر الملح ، وانتفع الناس بالزراعة.

ومن عجائب هذا النيل سمكة تسمى الرّعاد (١) من مسّها بيده أو بعود متّصل بيده أو جذب شبكة هي فيها ، أو قصبة أو سنّارة وقعت فيها رعدت يده ما دامت فيها ، وبمصر بقلة من مسّها بيده ، ثم مسّ الرّعاد لم ترعد.

وفي النيل خيل تظهر في بلد النوبة ، ويصيدونها ، وفي سنّ من أسنانها شفاء من وجع المعدة.

وقال التّيفاشيّ : سبب زيادة النيل هبوب ريح يسمى الملثن ، وذلك لسببين أحدهما أنّها تحمل السحاب الماطر خلف خط الاستواء فتمطر ببلاد السودان والحبشة والنوبة ، والآخر أنّها تأتي في وجه البحر الملح ، فيقف ماؤه في وجه النيل ، فيتراجع حتّى يروي البلاد. وفي ذلك يقول الشاعر :

اشفع فللشافع أعلى يد

عندي وأسنى من يد المحسن

والنّيل ذو فضل ولكنّه

الشّكر في ذلك للملثن

وقال صاحب سجع الهديل : ذكر جماعة من المنجمين وأرباب الهيئة أنّ النيل يجيء من خلف خط الاستواء بإحدى عشرة درجة ونصف ، ويأخذ نحو الجنوب إلى أن ينتهي إلى دمياط والاسكندريّة وغيرهما عند عرض ثلاثين في الشمال ، قالوا : فمن بدايته إلى نهايته اثنتان وأربعون ومائة درجة ؛ كلّ درجة ستون ميلا وثلث بالتقريب ، فيكون طوله من الموضع الذي يبتدئ منه إلى الموضع الذي منه إلى البحر الملح ثمانية ألف ميل وستمائة وأربعة عشر ميلا وثلثا ميل على القصد والاستواء ، وله تعريجات شرقا وغربا ، يطول بها ويزيد على ما ذكرناه.

ونقلت من خط الشّيخ عز الدين بن جماعة من كتاب له في الطبّ ، قال : منبع النيل من جبل القمر وراء خط الاستواء بإحدى عشرة درجة ونصف ، وامتداد هذا الجبل

__________________

(١) في النجوم الزاهرة : ١ / ٤٨ : الرعّادة.

٢٩٧

خمس عشرة درجة وعشرون دقيقة ، يخرج منه عشرة أنهار من أعين فيه ترمى كلّ خمسة إلى بحيرة عظيمة مدوّرة بعد مركزها عن أوّل العمارة بالمغرب سبع وخمسون درجة ، والبعد عن خط الاستواء في الجنوب سبع درج وإحدى وثلاثون دقيقة ، وهاتان البحيرتان متساويتان ، وقطر كلّ واحدة خمس درج ويخرج من كلّ واحدة أربعة أنهار ترمي إلى بحيرة صغيرة مدوّرة في الإقليم الأوّل بعد مركزها عن أول العمارة بالمغرب ثلاث وخمسون درجة وثلاثون دقيقة ، وعن خطّ الاستواء من الشمال درجتان من الإقليم الأوّل وقطرها درجتان ، ومصبّ كل واحد من الأنهار الثمانية في هذه البحيرة غير مصب الآخر ، ثمّ يخرج من البحيرة نهر واحدة ؛ وهو نيل مصر ، ويمرّ ببلاد النوبة ، ويصبّ إليه نهر آخر ابتداؤه من غير مركزها على خط الاستواء ، في بحيرة كبيرة مستديرة قطرها ثلاثة درج ، وبعد مركزها عن أوّل العمارة بالمغرب إحدى وسبعون درجة ، فإذا تعدّى النّيل مدينة مصر إلى مدينة يقال لها شطّنوف ، تفرّق هناك إلى نهرين يرميان إلى البحر المالح أحدهما يعرف ببحر رشيد ، والآخر بحر دمياط وهذا البحر إذا وصل إلى المنصور تفرّع منه نهر يعرف ببحر أشمون ، يرمي إلى بحيرة هناك وباقيه يرمي إلى البحر المالح عند دمياط ، وهذه صورة ذلك :

٢٩٨

٢٩٩

وذكر في كتاب الأمصار ، أنّ مخرج نهر السند والنيل من موضع واحد ، واستدلّ على ذلك اتفاق زيادتهما ، وكون التمساح فيهما ، وأنّ سبيل زراعتهم في البلدين واحد.

وقال المسبّحيّ في تاريخ مصر : في بلاد تكنة (١) أمّة من السودان أرضهم تنبت الذهب ، يفترق النيل فيصير نهرين أحدهما أبيض وهو نيل مصر ، والآخر أخضر يأخذ إلى المشرق فيقطع البحر الملح إلى بلاد السّند ، وهو نهر ميران.

قال ابن عبد الحكم : حدّثنا عثمان بن صالح ، عن ابن لهيعة ، عن قيس بن الحجاج عمّن حدثه ، قال : لمّا فتح عمرو بن العاص مصر ، أتى أهلها إليه حين دخل بؤونة من أشهر العجم ، فقالوا له : أيّها الأمير ، إنّ لنيلنا هذا سنّة لا يجري إلّا بها ، فقال لهم : وما ذاك؟ قالوا : إذا كان لثنتي (٢) عشرة ليلة تخلو من هذا الشهر ، عمدنا إلى جارية بكر بين أبويها فأرضينا أبويها وجعلنا عليها من الحليّ والثياب أفضل ما يكون ، ثمّ ألقيناها في هذا النيل (٣). فقال لهم عمرو : إنّ هذا لا يكون في الإسلام ، وإنّ الإسلام يهدم ما قبله ، فأقاموا بؤونة وأبيب ومسرى لا يجري قليلا ولا كثيرا ، حتّى همّوا بالجلاء ، فلمّا رأى ذلك عمرو كتب إلى عمر بن الخطاب بذلك ، فكتب إليه عمر : قد أصبت ، إنّ الإسلام يهدم ما كان قبله ، وقد بعثت إليك بطاقة فألقها في داخل النيل إذا أتاك كتابي. فلمّا قدم الكتاب على عمرو ، فتح البطاقة فإذا فيها :

من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى نيل مصر ، أمّا بعد ، فإن كنت تجري من قبلك ، فلا تجر ، وإن كان الواحد القهّار يجريك ، فنسأل الله الواحد القهّار أن يجريك.

فألقى عمرو البطاقة في النيل قبل يوم الصّليب بيوم وقد تهيّأ أهل مصر للجلاء والخروج منها لأنّه لا يقوم بمصلحتهم فيها إلا النيل ، فأصبحوا يوم (٤) الصليب وقد أجراه الله ستّة عشر ذراعا (٥) ، وقد زالت تلك السّنّة السوء عن أهل مصر.

حدّثنا عثمان بن صالح ، حدّثنا ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب أن موسى عليه‌السلام دعا على آل فرعون ، فحبس الله عنهم النّيل حتى أرادوا الجلاء حتّى طلبوا إلى موسى أن يدعو الله رجاء أن يؤمنوا ، فدعا الله ، فأصبحوا وقد أجراه الله في تلك الليلة ستة عشر ذراعا. فاستجاب الله بتطوّله لعمر بن الخطاب كما استجاب لنبيّه موسى عليه‌السلام.

__________________

(١) في مروج الذهب : ١ / ٣٨٩ : بكنة.

(٢) في النجوم الزاهرة : ١ / ٤٥ : في اثنتي عشرة.

(٣) في النجوم الزاهرة : ١ / ٤٥ : فيجري.

(٤) في النجوم الزاهرة : ١ / ٤٦ : يوم عيد الصليب.

(٥) في النجوم الزاهرة : ١ / ٤٦ : في ليلة واحدة.

٣٠٠