حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة - ج ٢

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي

حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة - ج ٢

المؤلف:

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨١
الجزء ١ الجزء ٢

وحضر غالب الأعيان ومعظم العوامّ وصبيان المكاتب ، ونصب المنبر ، فخطب عليه شهاب الدين القسطلانيّ خطيب جامع عمرو ، وصلّى صلاة الاستسقاء ، ودعا وابتهل ، وكشف رأسه واستغاث وتضرّعوا ، وكان يوما مشهودا ، وابتدأ الغلاء وزادت الأسعار.

وفي هذه السنة في أول جمادى الأولى حدثت زلزلة لطيفة ، فيها ابتدئت قراءة البخاريّ في رمضان بالقلعة بحضرة السلطان ، ورتّب الحافظ زين الدين العراقيّ قارئا ، ثمّ اشترك معه شهاب الدين العريانيّ يوما بيوم ، وأمر السلطان مشايخ العلم أن يحضروا عنده سامعين ليتباحثوا ، فحضر جماعة من الأكابر.

وفيها أبطل ضمان المغاني ومكس القراريط التي كانت في بيع الدّور ، وقرىء بذلك مرسوم على المنابر ، وكان ذلك بتحريك البلقينيّ ، وأعانه أكمل الدين والبرهان ابن جماعة.

وفي سنة ستّ وسبعين وقع الفناء (١) بالديار المصرية ، وبيع كلّ رمانة بستة عشر درهما وهي قريب من دينار ، وكلّ فرّوج بخمسة وأربعين ، وكلّ بطّيخة بسبعين.

وفي هذه السنة أحضر والي الأشمونين إلى الأمير منجك بنتا عمرها خمس عشرة سنة ، فذكر أنها لم تزل بنتا إلى هذه الغاية ، فاستدّ الفرج وظهر لها ذكر وأنثيان واحتلمت ، فشاهدوها وسمّوها محمدا ، ولهذه القضية نظير ، ذكرها ابن كثير في تاريخه.

قال الحافظ ابن حجر : ووقع في عصرنا نظير ذلك في سنة اثنتين وأربعين وثمانمائة.

وفي سنة سبع وسبعين [وسبعمائة] وصلت هدايا إسطنبول من الرّوم ، وفي جملة الهدايا صندوق في شخوص له حركات ، كلّما مضى ساعة من الليل ضربت تلك الشخوص بأنواع الملاهي ، وكلما مضت درجة سقطت بندقة.

وفي سنة ثمان وسبعين ، في شعبان ، خسف الشمس والقمر جميعا ، فطلع القمر خاسفا ليلة السبت رابع عشرة ، وكسفت الشمس بين الظهر والعصر يوم السبت ثامن عشرينه.

وفي سنة ثمانين [وسبعمائة](٢) كان بمصر حريق عظيم ودام أياما. وفي هذه

__________________

(١) النجوم الزاهرة : ١١ / ٥٣ ـ ٥٤.

(٢) في النجوم الزاهرة : ١١ / ١٣٦ : سنة ٧٨١ ه‍.

٢٦١

السنة ، في ذي القعدة عقد برقوق أتابك العساكر مجلسا بالقضاة والعلماء. وذكر أنّ أراضي بيت المال أخذت منه بالحيلة ، وجعلت أوقافا من بعد الناصر بن قلاوون ، وضاق بيت المال بسبب ذلك ، فقال الشيخ سراج الدين البلقينيّ : أمّا ما وقف على خديجة وعويشة وفطيمة فنعم ، وأمّا ما وقف على المدارس والعلماء والطلبة فلا سبيل إلى نقضه ، لأنّ لهم في الخمس أكثر من ذلك. فانفصل الأمر على مقالة البلقينيّ.

وفي هذه السنة ظهر كوكب له ذؤابة ، وبقي مدة يرى في أوّل النهار من ناحية الشمال.

وفي هذه السنة أمر بتبطيل الوكلاء من دور القضاة.

وفي سنة إحدى وثمانين رسم الأمير بركة بنفي الكلاب من مصر ، ورسم بأن يعمل على قنطرة فم الغور سلسلة تمنع المراكب من الدخول وإلى بركة (١) الرطليّ ، فقال بعض الشعراء في ذلك :

أطلقت دمعي على خليج

مذ سلسلوه فراح مقفل

من رام من دهرنا عجبا

فلينظر المطلق المسلسل

وفي ربيع الآخر من هذه السنة أحدث السّلام على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عقب أذان العشاء ليلة الاثنين مضافا إلى ليلة الجمعة ، ثمّ أحدث بعد عشر سنين عقب كلّ أذان إلّا المغرب.

وفي سنة ثلاث (٢) وثمانين ابتدأ الطاعون بالقاهرة. وفيها أمطرت السماء مطرا عظيما ، حتى صار باب زويلة خوضا إلى بطون الخيل ، وخرج سيل عظيم إلى جهة طرى ، فغرق زرعها ، وأقام الماء أياما ، ولم يعهد الناس ذلك بالقاهرة. وفيها ظهر نجم له ذؤابة قدر رمحين من جهة القبلة.

وفي سنة أربع وثمانين [وسبعمائة](٣) وقع الغلاء بمصر. وفيها شرع جركس (٤) الخليلي في عمل جسر بين الروضة ومصر ، وطوله مائتا (٥) قصبة في عرض عشرة عند موردة الحبش ، وعمل على النّيل طاحونا تدور بالماء.

وفي هذه السنة قال الحافظ ابن حجر : توجّه الظاهر برقوق إلى بولاق (٦)

__________________

(١) انظر الخطط المقريزية : ٢ / ١٦٢.

(٢) في النجوم الزاهرة : ١١ / ١٦٤ : سنة ٧٨٢ ه‍.

(٣) شذرات الذهب : ٦ / ٢٨٣.

(٤) النجوم الزاهرة : ١١ / ١٧٤.

(٥) في النجوم الزاهرة : ١١ / ١٧٤ : ثلاثمائة.

(٦) النجوم الزاهرة : ١١ / ١٩٠.

٢٦٢

التكرور ، فاجتاز من الصّليبة وقناطر السباع وفم الخور. قال : وكانت عادة السلاطين قبله من زمن الناصر لا يظهرون إلّا في الأحيان ، ولا يركبون إلّا من طريق الجزيرة الوسطى. قال : ثم تكرّر ذلك منه ، وشقّ القاهرة مرارا ، وجرى على ما ألف في زمن الإمرة ، وأبطل كثيرا من رسوم السلطنة ، وأخذ من بعده بطريقته في ذلك إلى أن لم يبق من رسمها في زماننا إلا اليسير جدّا.

وفي هذه السنة بنى السلطان قناطر (١) بني منجة ، فأحكم عمارتها.

وفي سنة خمس وثمانين نزل السّلطان إلى النّيل (٢) ، فخلّق (٣) المقياس ، وكسر (٤) الخليج بحضرته. قال ابن حجر : ولم يباشر ذلك السلطان قبله في زمن الظاهر بيبرس.

وفي سنة سبع وثمانين زلزلت مصر والقاهرة زلزلة لطيفة ، في ليلة الثالث عشر من شعبان. وفيه أحضرت صغيرة (٥) ميتة لها رأسان وصدر واحد ويدان فقط ، ومن تحت السّرّة صورة شخصين كاملين ، كلّ شخص بفرج أنثى ، فشاهدها الناس ، ودفنت. وفيها وقع الغلاء بمصر.

وفي سنة ثمان وثمانين [وسبعمائة] في جمادى الآخرة زلزلت الأرض زلزلة لطيفة ، وفي هذه السنة عزّ الفستق عزّة شديدة إلى أن بيع الرطل منه بمثقال ذهب ونصف.

وفي سنة تسع وثمانين ضربت الدراهم الظاهرية (٦) ، وجعل اسم السلطان في دائرة ، فتفاءلوا له من ذلك بالحبس ، فوقع عن قريب ، ووقع نظيره لولده النّاصر فرج في الدنانير الناصرية.

وفي سنة تسعين أصاب الحاجّ في رجوعهم عند ثغرة حامد (٧) سيل عظيم ، أهلك خلقا كثيرا. وفي هذه السنة وقع الطاعون بالقاهرة.

وفي سنة إحدى وتسعين [وسبعمائة] في شعبان أمر نجم الدين الطنبديّ المحتسب

__________________

(١) في الخطط المقريزية : ٢ / ١٥١ : قناطر بحر أبي المنجا ـ أنشأها ركن الدين بيبرس.

(٢) النجوم الزاهرة : ١١ / ١٩٢.

(٣) تخليقه : تطييب عموده بالخلق أو الزعفران احتفاء بوفاء النيل.

(٤) في النجوم الزاهرة : ١١ / ١٩٢ : كسر الخليج : رفع السد الذي كان يقام سنويا عند فم الخليج ، فتدخل مياه النيل في الخليج ، وتسير فيه إلى نهايته.

(٥) شذرات الذهب : ٦ / ٢٩٥.

(٦) شذرات الذهب : ٦ / ٣٠٧.

(٧) شذرات الذهب : ٦ / ٣١٠.

٢٦٣

أن يزاد بعد كلّ أذان الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما يصنع ذلك ليلة الجمعة بعد العشاء ، فصنعوا ذلك إلّا في المغرب لضيق وقتها (١).

وفي سنة اثنتين وتسعين عطش الحاجّ بعجرود (٢) ؛ حتى بلغت القربة مائة درهم فضة.

وفي سنة ثلاث وتسعين [وسبعمائة] أمر كتبغا (٣) نائب الغيبة ألّا تخرج النساء إلى التّرب بالقرافة وغيرها ، ومنع النساء من لبس القمصان الواسعة الأكمام وشدّد في ذلك (٤).

وفي هذه السنة في جمادى الآخرة ظهر كوكب كبير بذؤابة طول رمحين.

وفي سنة أربع وتسعين وقع الوباء في البقر ، حتّى كاد إقليم مصر أن يفنى منها. وفي هذه السنة أمر أصحاب العاهات والقطعات أن يخرجوا من القاهرة. وفيها ضربت بالإسكندريّة فلوس ناقصة الوزن عن العادة طمعا في الرّبح ، فآل الأمر إلى أن كانت أعظم الأسرار في فساد الأسرار ونقص الأموال.

وفي سنة تسع وتسعين استأذن كاتب السرّ بدر الدين الكلستانيّ السلطان له ولجميع المتعمّمين أن يلبسوا الصوف الملوّن في المواكب ، فأذن لهم ، وكانوا لا يلبسون إلا الأبيض خاصّة. وفيها ولدت امرأة بظاهر القاهرة أربعة ذكور أحياء.

وفي سنة ثمانمائة هبّت ريح شديدة بالقاهرة ، حتى اتّفق الشيوخ العتق على أنهم لم يسمعوا بمثلها.

وفي سنة إحدى وثمانمائة ، ذكر أهل الهيئة أنّه يقع في أول يوم منها زلزلة ، وشاع ذلك في الناس فلم يقع شيء من ذلك. وفي رجب سنة أربع ظهر كوكب قدر الثريّا ، له ذؤابة ظاهرة النور جدّا ، فاستمر يطلع ويغيب ، ونوره قويّ يرى مع ضوء القمر ، حتّى رئي بالنّهار في أوائل شعبان ، فأوّله بعضهم بظهور ملك الشيخ المحموديّ.

وفي سنة ستّ وثمانمائة ، نودي على الفلوس بأن يتعامل بها بالميزان ، وسعّرت كل رطل بستة دراهم ، وكانت فسدت إلى الغاية بحيث صار وزن الفلوس ربع درهم بعد أن كان مثقالا.

__________________

(١) النجوم الزاهرة : ١١ / ٢٧٣.

(٢) عجرود : لم يرد ذكرها في معجم البلدان.

(٣) في النجوم الزاهرة : ١٢ / ٢٦ : كمشيفا.

(٤) انظر المرجع السابق.

٢٦٤

وفي سنة عشر [وثمانمائة] ، وقع الطاعون بالديار المصرية.

وفي سنة خمس عشرة ضربت الدراهم الخالصة ، زنة الواحد نصف درهم والدينار ثلاثين منه ، وفرح الناس بها ، وبطلت الدراهم النّقرة ، وكان ضربها قديما في كلّ درهم عشره فضة ، وتسعة أعشاره نحاس.

وفي سنة ستّ عشرة فشا الطاعون بمصر.

وفي سنة سبع عشرة أمر المؤيّد (١) بضرب الدراهم المؤيديّة.

وفي سنة ثمان عشرة كان الطاعون بالقاهرة.

وفي سنة تسع عشرة [وثمانمائة] كان الطاعون (٢) بالقاهرة ، وكثر الوباء بالصعيد والوجه البحريّ. وفي هذه السنة أمر الملك المؤيّد الخطباء إذا وصلوا إلى الدعاء إليه في الخطبة أن يهبطوا (٣) من المنبر درجة ، ليكون اسم الله ورسوله في مكان أعلى من المكان الذي يذكر فيه السلطان ، فصنع ذلك الحافظ ابن حجر بالجامع الأزهر ، وابن النقاش بجامع ابن طولون. قال ابن حجر : وكان مقصد السلطان في ذلك جميلا.

وفي سنة عشرين ولدت جاموسة (٤) ببلبيس مولودا برأسين وعنقين وأربعة أيد وسلسلتي ظهر واحد ورجلين اثنتين لا غير ، وفرج واحد أنثى ، والذنب مفروق باثنتين ، فكانت من بديع صنع الله.

وفي هذه السنة أمسك نصرانيّ زنا بامرأة مسلمة ، فاعترفا ، فحكم برجمهما ، فرجما خارج باب الشّعرية وأحرق النصرانيّ ، ودفنت المرأة.

وفي سنة اثنتين وعشرين فشا الطاعون (٥) بالديار المصرية.

وفي سنة خمس وعشرين [وثمانمائة] زلزلت القاهرة زلزلة لطيفة.

وفي سنة سبع وعشرين جدّد للمشايخ الذين يحضرون سماع الحديث بالقلعة فراجى سنجاب ، وهو أوّل ما فعل بهم ذلك.

وفي سنة ثمان وعشرين وقع بدمياط حريق عظيم حتى احترق قدر ثلثها ، وهلك من الدّوابّ والناس شيء كثير.

__________________

(١) المؤيد شيخ المحمودي.

(٢) النجوم الزاهرة : ١٣ / ٢٨٥.

(٣) النجوم الزاهرة : ١٣ / ١٩٣.

(٤) شذرات الذهب : ٧ / ١٤٤.

(٥) النجوم الزاهرة : ١٣ / ٢٢٦.

٢٦٥

وفي سنة ثلاث وثلاثين كان الطاعون (١) العظيم بالديار المصرية.

وفي سنة إحدى وأربعين كان الطاعون (٢) بالديار المصرية.

ذكر الطريق المسلوك من مصر إلى مكّة شرّفها الله تعالى

قال ابن فضل الله : المحامل السلطانيّة وجماهير الركبان لا تخرج إلا من أربع جهات : مصر ، ودمشق ، وبغداد ، وتعزّ.

قال : فيخرج الركب من مصر بالمحمل السلطانيّ والسبيل المسبل للفقراء والضعفاء والمنقطعين بالماء والزاد والأشربة والأدوية والعقاقير والأطبّاء والكحّالين والمجبّرين والأدلّاء والأئمة والمؤذّنين والأمراء والجند والقاضي والشهود والدواوين والأمناء ومغسّل الموتى ؛ في أكمل زيّ ، وأتمّ أبّهة ، وإذا نزلوا منزلا أو رحلوا مرحلا تدقّ الكوسات (٣) ، وينفر النّفير ليؤذن الناس بالرحيل والنزول ، فإذا خرج الركب من القاهرة نزل البركة (٤) على مرحلة واحدة ، فيقيم بها ثلاثة أيام أو أربعة ، ثمّ يرحل إلى السويس في خمس مراحل ، ثمّ إلى نخل (٥) في خمس مراحل. وقد عمل فيها الأمير آل ملك الجوكندار المنصوريّ أحد أمراء المشورة في الدولة الناصرية بن قلاوون بركا ، واتّخذ لها مصانع ، ثمّ يرحل إلى أيلة (٦) في خمس مراحل وبها العقبة العظمى ، فينزل منها إلى حجز (٧) بحر القلزم ، ويمشي على حجزه حتّى يقطعه من الجانب الشماليّ إلى الجانب الجنوبيّ ، ويقيم به أربعة أيّام أو خمسة ، وبه سوق عظيم فيه أنواع المتاجر ، ثمّ يرحل إلى حفل (٨) مرحلة واحدة ، ثمّ إلى برّ مدين في أربع مراحل وبه مغارة شعيب عليه الصلاة والسلام.

__________________

(١) شذرات الذهب : ٧ / ٢٠٠.

(٢) شذرات الذهب : ٧ / ٢٣٧.

(٣) الكوسات : صنوجات من نحاس شبه الترس الصغير. صبح لأعشى : ٤ / ١٣٢٩.

(٤) لعلّها بركة الحجاج في الجهة البحرية من القاهرة على نحو يريد منها ، عرفت أولا بجبّ عميرة ، ثم قيل لها أرض الجب ، وعرفت إلى اليوم ببركة الحجاج من أجل نزول حجاج البرّ بها عند مسيرهم من القاهرة وعند عودهم. [الخطط المقريزية : ٢ / ١٦٣].

(٥) في معجم البلدان : نخل : موضع في طريق الشام من ناحية مصر.

(٦) في معجم البلدان : أيلة : مدينة على ساحل بحر القلزم مما يلي الشام ، وهي آخر الحجاز وأول الشام.

(٧) الحجز : الناحية.

(٨) حفل : لم يرد ذكرها في معجم البلدان.

٢٦٦

ويقال إنّ ماءها هو الذي سقى عليه موسى عليه الصلاة والسلام غنم بنات شعيب ، ثمّ يرحل إلى عيون القصب في مرحلتين ، ثمّ إلى المويلحة في ثلاث مراحل ، ثمّ إلى الأزلم في أربع مراحل. وماؤه من أقبح المياه ، وهناك خان بناه الأمير آل ملك الجوكندار ، وعمل هناك بئرا أيضا ، ثمّ الوجه في خمس مراحل ، وماؤه من أعذب المياه ، ثم إلى أكرى في مرحلتين وماؤه أصعب ماء في هذه الطريق ، ثمّ إلى الحوراء وهي على ساحل بحر القلزم في أربع مراحل ، وماؤها شبيه بماء البحر لا يكاد يشرب ، ثمّ إلى نبط في مرحلتين وماؤه عذب ، ثمّ إلى ينبع في خمس مراحل ويقيم عليه ثلاثة أيام ، ثمّ إلى الدهناء في مرحلة ، ثمّ إلى بدر في ثلاث مراحل ، وهي مدينة حجازيّة وبها عيون وجداول وحدائق ، وبها الجار فرضة المدينة الشريفة ، ثمّ يرحل إلى رابغ في خمس مراحل ، وهي بإزاء الجحفة التي هي الميقات ، ثمّ يرحل إلى خليص في ثلاث مراحل ، وبها بركة عملها الأمير أرغون الناصريّ ، ثمّ إلى بطن مرّ في ثلاث مراحل ، وفي طريقه بئر عسفان ، ثمّ يرحل من بطن مرّ إلى مكّة المشرّفة مرحلة واحدة.

ثمّ يرجع في منازله إلى بدر ، فيعطف إلى المدينة الشريفة ، فيرحل إلى الصّفراء في مرحلة ، ثم إلى ذي الحليفة في ثلاث مراحل ، ثمّ إلى المدينة الشريفة في مرحلة ، ثمّ يرجع إلى الصفراء ويأخذ بين جبلين في فجوة تعرف بنقب عليّ ؛ حتّى يأتي الينبع في ثلاث مراحل ، ثمّ يستقيم على طريقه إلى مصر.

ذكر قدوم المبشّر سابقا يخبر بسلامة الحاج

كان ذلك في عهد الخلفاء الراشدين : عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان فمن بعدهم ، وله حكمة لطيفة قلّ من يعرفها ، قال الحافظ عماد الدين بن كثير في تاريخه في قصّة حصر عثمان رضي‌الله‌عنه : واستمرّ الحصار بالديار المصرية حتّى مضت أيام التّشريق ، ورجع البشير من الحجّ ، فأخبر بسلامة الناس ، وأخبر أولئك بأنّ أهل الموسم عازمون على الرجوع إلى المدينة ليكفّوهم عن أمير المؤمنين.

وأخرج مالك في الموطّأ عن ابن دلان عن أبيه أنّ رجلا من جهينة كان يشتري الرّواحل فيتغالى بها ، ثمّ يسرع السّفر فيسبق الحاجّ ، فأفلس ، فرفع أمره إلى عمر ، فقال : أمّا بعد أيّها الناس ، إنّ الأسيقع أسيقع جهينة رضي من دينه وأمانته أن يقال : سبق الحاجّ ، ألا وإنّه أدان معرضا ، فأصبح وقد دين به فهمد ، فمن كان له عليه دين فليأته بالغداة. فقسم ماله بين غرمائه ، ثمّ كمل الدّين.

٢٦٧

وأخرج الخطيب البغداديّ في تالي التلخيص من طريق عبد الملك بن عمير عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ، قال : تخرج الدابّة من جبل أجياد (١) في أيام التشريق والنّاس بمنّى ، قال : فلذلك جاء سابق الحاجّ يخبر بسلامة الناس.

ذكر حمائم الرسائل

قال ابن كثير في تاريخه : في سنة سبع وستّين وخمسمائة اتّخذ السلطان نور الدين الشهيد الحمام الهوادي (٢) ، وذلك لامتداد مملكته ، واتساعها ، فإنها من حدّ النّوبة إلى همذان ، فلذلك اتّخذ قلعة ، وحبس الحمام الّتي تسري الآفاق في أسرع مدّة ، وأيسر عدّة ، وما أحسن ما قال فيهنّ القاضي الفاضل : الحمام ملائكة الملوك. وقد أطنب في ذلك العماد الكاتب وأظرف وأطرب ، وأعجب وأغرب.

وفي سنة إحدى وتسعين وخمسمائة ، اعتنى الخليفة الناصر لدين الله بحمام البطاقة اعتناء زائدا ، حتّى صار يكتب بأنساب الطير المحضر أنّه من ولد الطير الفلانيّ. وقيل : إنّه بيع بألف دينار.

وقد ألّف القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر في أمور هذه الحمام كتابا سمّاه «تمائم الحمائم» ، وذكر فيه فصلا فيما ينبغي أن يفعله المنطق وما جرت العادة به في ذلك فقال :

كان الجاري به العادة أنّها لا تحمل البطاقة إلا في جناحها ، لأمور منها : حفظها من المطر ولقوّة الجناح ؛ والواجب أنّه إذا انطلق من مصر لا يطلق إلّا من أمكنة معلومة ، فإذا سرّحت إلى الإسكندريّة ، فلا تسرّح إلا من منية عقبة بالجيزة ، وإلى الشرقيّة ، فمن مسجد التين ظاهر القاهرة ، وإلى دمياط فمن بيسوس بشطّ بحر منجى. والذي استقرّت قواعد الملك عليه أنّ طائر البطاقة لا يلهو الملك عنه ولا يغفل ، ولا يمهل لحظة واحدة ، فتفوت مهمات لا تستدرك ، إمّا من واصل وإمّا من هارب ، وإمّا من متجدّد في الثغور. ولا يضع البطاقة من الحمام إلا السلطان بيده من غير واسطة

__________________

(١) في معجم البلدان : جبل أجياد ، أجياد موضع بمكّة يلي الصفا ، وفي الروض المعطار : ١٢ : أحد جبال مكّة وهو الجبل الأخضر غربي المسجد الحرام.

(٢) في الكامل لابن الأثير : ٩ / ١١٤ : في هذه السنة ـ ٥٦٧ ه‍ ـ اتخذ نور الدين بالشام الحمام الهوادي ، وهي التي يقال لها المناسيب ، وهي تطير من البلاد البعيدة إلى أوكارها ، وجعلها في جميع بلاده ...

٢٦٨

أحد ؛ فإن كان يأكل لا يمهل حتّى يفرغ ، وإن كان نائما لا يمهل حتّى يستيقظ ، بل ينبّه. وينبغي أن تكتب البطائق في ورق الطير المعروف بذلك.

قال : ورأيت الأوائل لا يكتبون في أوائلها بسملة.

قال : وأنا ما كتبتها قطّ إلا ببسملة للبركة ، وتؤرّخ بالساعة واليوم ، لا بالسنين ؛ وينبغي ألّا يكثر في نعوت المخاطب فيها ، ولا يذكر في البطائق حشو الألفاظ ، ولا يكتب إلّا لبّ الكلام وزبدته. ولا بد أن يكتب شرح الطائر ورفيقه إن كانا طائرين قد سرّحا حتّى إن تأخّر الطائر الواحد رقب حضوره ، أو يطلق لئلّا يكون قد وقع في برج من أبراج المدينة ولا يعمل للبطائق هامش ولا يحمديّ ، وجرت العادة بأن يكتب في آخرها : «وحسبنا الله ونعم الوكيل» ، وذلك حفظ لها.

ومن فصل في وصفها لتاج الدين أحمد بن سعيد بن الأثير كاتب الإنشاء : طالما جادت بها فأضحت مخلفة وراءها تبكي عليها السحب ، وصدق من سمّاها أنبياء للطير ، لأنّها مرسلة بالكتب.

وفيها يقول أبو محمد أحمد بن علوي بن أبي عقبال القيروانيّ :

خضر تفوت الريح في طيرانها

يا بعد بين غدوّها ورواحها

تأتي بأخبار الغدوّ عشيّة

لمسير شهر تحت ريش جناحها

وكأنّما الروح الأمين بوحيه

نفث الهداية منه في أرواحها

وقال غيره :

يا حبّذا الطائر الميمون يطرقنا

في الأمر بالطائر الميمون تنبيها

فاقت على الهدهد المذكور إذ حملت

كتب الملوك وصانتها أعاليها

تلقى بكلّ كتاب نحو صاحبه

تصون نظرته صونا وتخفيها

فما تمكّن عين الشمس تنظره

ولا تجوز أن تلقيه من فيها

منسوبة لرسالات الملوك فبال

منسوب تسمو ويدعوها تسمّيها

أكرم بجيش سعيد ما سعادته

ممّا يشكّيك فيها فكر حاكيها

حما حمى الغار يوم الغار حرمته

فيا لها وقعة عزّت مساعيها!

وقوفه عند ذاك الباب شرّفه

وللسعادة أوقات تؤاتيها

ويوم فتح رسول الله مكّته

عند الدّخول إليها من بواديها

صفّت تظلّل من شمس كتيبته ال

خضر أمطره فيها تواليها

فظلّلته بما كانت تودّ هوى

لو قابلتها بأشواق فتنهيها

٢٦٩

فعند ما حظيت بالقرب أمّنها

فشرّفت بعطايا جلّ مهديها

فما يحلّ لدى صيد تناولها

ولا ينال المنى بالنار مصليها

ولا تطير بأوراق الفرنج ولا

يسير عنها بما فيه أمانيها

سمت بملك المعاني غير ذي دنس

لا ترتضيهم ، ولو جزّت نواصيها

وانظر لها كيف تأتي للخلائق من

آل الرّسول بحبّ كامن فيها

من المقام إلى دار السّلام فلم

يمض النّهار بعزم في دواعيها

وربّما ضلّ عنه الهند ملتقطاف

حبّات فلفله وارتدّ مبطيها

فجاء في يومه في إثر سابقه

حفظا لحقّ يد طابت أياديها

مناقب لرسول الله أيسرها

لدى نبوّته الغرّاء تكفيها

ومن إنشاء القاضي الفاضل في وصف حمائم الرسائل :

سرحت لا تزال أجنحتها محمّلة من البطائق أجنحة ، وتجهّز جيوش المقاصد والأقلام أسلحة ، وتحمل من الأخبار ما تحمله الضمائر ، وتطوي الأرض إذا نشرت الجناح الطائر ، وتزوى (١) لها الأرض حتّى ترى ملك هذه الأمّة ، وتقرب من السماء حتى ترى ما لا يبلغه وهم ولا همّة ، وتكون مراكب للأغراض وكانت والأجنحة قلوعا ، وتركب الجوّ بحرا تصفق فيه هبوب الرياح موجا مرفوعا ، وتعلّق الحاجات على أعجازها ، ولا تفوق الإرادات عن إنجازها ، ومن بلاغات البطائق استفادت ما هي مشهورة به من السجع ، ومن رياض كتبها ألفت الرياض فهي إليها دائمة الرّجع. وقد سكنت البروج فهي أنجم ، وأعدّت في كنائنها (٢) فهي للحاجات أسهم ، وكادت تكون ملائكة لأنّها رسل ، فإذا نيطت بالرّقاع ، صارت أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع. وقد باعد الله بين أسفارها وقرّبها ، وجعلها طيف خيال اليقظة الّذي صدّق العين وما كذّبها ، وقد أخذت عهود الأمانة في رقابها أطواقا ، فأدّتها من أذنابها أوراقا ، وصارت خوافي من وراء الخوافي ، وغطّت سرّها المودع بكتمان سحبت عليه ذيول ريشها الضّوافي ، ترغم أنف النّوى بتقريب العهود ، وتكاد العيون تلاحظها تلاحظ أنجم السعود ؛ وهي أنبياء الطير لكثرة ما تأتي بهم من الأنباء ، وخطباؤها لأنّها تقوم على الأغصان مقام الخطباء.

وقال في وصفها شيخ الكتّاب ذو البلاغتين السديد أبو القاسم شيخ القاضي الفاضل :

__________________

(١) تزوى لها الأرض : تنقبض.

(٢) مفردها الكنانة : جعبة السهام.

٢٧٠

وأمّا حمام الرسائل ؛ فهي من آيات الله المستنطقة الألسن بالتسبيح ، العاجز عن وصفها إعجاز البليغ الفصيح ، فيما تحمله من البطائق ، وترد به مسرعة من الأخبار الواضحة الحقائق ، وتعاليه في الجوّ محلّقا عند مطاره ، وتهديه على الطريق التي عليها ليأمن من فوت الإدراك وأخطاره ، ونظره إلى المقصد الذي يسرح إليه عليّ ، ووصوله إلى أقرب الساعات بما يصل به البريد في أبعد الأيام من الخبر الجليّ ، ومجيئه معادلا لرؤوس السفّار مسامتا ، وإيثاره بالمتجدّدات فكأنّه ناطق وإن كان صامتا ، وكونه يمضي محمولا على ظهر المركوب ، ويرجع عاملا على ظهره للمكتوب ، ولا يعرّج على تذكار الهدير ، ولا يسأمّ من الدأب في الخدمة زائدا على التقدير ، وفي تقدّمه البشائر ، يكون المعني بقولهم : أيمن طائر ؛ ولا غرو أن فارق رسل أهل الأرض وفاتهم وهو مرسل والعنان عنانه ، والجوّ ميدانه ، والجناح مركبه ، والرياح موكبه ، وابتداء الغاية شوطه ، والشّوق إلى أهله سوطه ؛ مع أمنه ما يحدث لمنتاب السّفّار ، ومخبّآت القفار ، من مخاوف الطارق وطوارق المخاوف ، ومتلف الغوائل وغوائل المتالف ، إلا ما يشدّ من اعتراض خارج جارح ، وانقضاض كاسب كاسر ، فتكفّ سعادة الدولة تأميمه ، وتصدّ عنه تصميمه ، لأنه أخذ جيشها من الطّيرين اللذين يحدثان في أعدائها ؛ هذا بالإنذار الجاعل كيدهم في تضليل ، وذلك بما ترى رايتها المنصورة عليهم من تضليل.

وقال القاضي محي الدين بن عبد الظاهر رحمه‌الله تعالى :

ولما وقفت على ما أنشأه القاضي الفاضل ، وعلى ما أنشأهم الشيخ السديد أردت أن أجرّب الخاطر ، فأنشأت وأنا غير مخاطب أحدا بل مخاطر ، وأين الثرى من الثريّا ، وما الحسن لكلّ أحد يتهيّا ، وعليّ أن أجيب وما عليّ أن أجيد ، وما كلّ والد يدرك شأو الوليد ، ولا كلّ كاتب عبد الرحيم ولا عبد الحميد ، فقلت :

وأمّا حمائم الرسائل فكم أغنت البرد عن جوب القفار ، وكم قدّت جيوبها على أسرى أسرار ؛ وكم أعارت السهام أجنحة فأحسنت بتلك العارية المطار ، وكم قال جناحها لطالب النجاح : لا جناح ، وكم سرت فحمدت المساء إذا حمد غيرها من السارين الصباح ، وكم ساوقت الصّبا والجنائب ففاقتهما ولم تحوج سلام المشتاقين إلى امتطاء كاهل الرّياح.

كم حسّن ملك كلّ منهما ملك ، وكم قال مسرّحها لمجيئه بها : قرّة عين لي ولك ، كم أجملت في الهوى تقلّبا ، وإذا غنت الحمائم على الغصون صمتت عن الهديل والهدير تأدبا ، كم دفعت شكّا بيقينها ، ورفعت شكوى بتبيينها ، وكم أدّت أمانة ولم تعلم أجنحتها بما في شمالها ولا شمالها بما في يمينها. كم التفّت منها السّاق بالساق ،

٢٧١

فأحسنت لربّها المساق ، وكم أخذت عهود الأمانة فبدت أطواقا في الأعناق ، ويقال ما تضمّنته من البطائق بعض ما تعلّق منها في الرياض من الأوراق ، تسبق اللّمح ، وكم استفتح بها بشير إذا جاء بالفتح ، تفوت الطّرف السابق ، والطّرف الرامي الرّامق ، وما تلت سورة البروج إلا وتلت سرة الطارق. كم أنسى مطارها عدو السّلكة والسّليك ، وكم غنيت في خدمة سلطانها عن الغناء وقال كلّ منهما لرفيقه : إليك عن الأيك.

ما أحوج تصديقهما في رسالتهما إلى الإعزاز بثالث ، وكم قيل في كلّ منهما لمن سام هذا حام في خدمة أبناء يافث ، كم سرّحا بإحسان ، وكم طارا بأفق فاستحقّ أن يقال لهما : فرسا سحاب إذ قيل لأحدهما فرسا رهان ، حاملة علم لمن هو أعلم به منها ، يغنى السّفّار والسّفارة فلا تحوجهم إلى الاستغناء عنها.

تغدو وتروح ، وبالسرّ لا تبوح ، فكم غنيت باجتماعها بإلفها عن أنّها تنوح. كم سارت تحت أمر سلطانها أحسن السير ، وكم أفهمت أنّ ملك سليمان إذ سخّر له منها في مهمّاته الطير ، أسرع من السهام المفوّقة ، وكم من البطائق مخلقة وغير مخلّقة ، كم ضللت من كيد ، وكم بدت في مقصورة دونها مقصورة ابن دريد.

ومن إنشاء الأديب تقيّ الدين أبو بكر بن حجّة في ذلك :

سرح فما سرح العيون إلا دون رسالته المقبولة ، وطلب السبق فلم يرض بعرف البرق سرحا ولا استظلّ صفحته المصقولة ؛ وكم جرى دونه النّسيم فقصّر وأمست أذياله بعرف السحب مبلولة. وأرسل فأقرّ الناس برسالته وكتابه المصدّق ، وانقطع كوكب الصبح خلفه فقال عند التقصير : كتب يجاب وعلى يديّ يخلق ، يؤدّي ما جاء على يده من الترسّل فيهيج الأشواق ، وما برحت الحمام تحسّن الأداء في الأوراق ، وصحبناه على الهدى فقال : (ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى) [النجم : ٢] ، ومن روى عنه الحديث المسند فعن عكرمة قد روى ، يطير مع الهوى لفرط صلاحه ، ولم يبق على السرّ المصون جناح إذا دخل تحت جناحه ؛ إن برز من مقفصه لم يبق للصّرح الممرّد قيمة ، بل ينعزل بتدبيج أطواقه ويعلّق عليه من العين تلك التّميمة ، ما سجن إلا صبر على السجن وضيقة الأطواق ، ولهذا حمدت عاقبته على الإطلاق ، ولا غنّى على عود إلا أسال دموع الندى من حدائق الرياض ، ولا أطلق من كبد الجوّ إلا كان سهما ريشا تبلغ به الأغراض. كم علا فصاد بريش القوادم كالأهداب لعين الشمس ، وأمسى عند الهبوط لعيون الهلال كالطّمس ؛ فهو الطائر الميمون والغاية السبّاقة ، والأمين الذي أودع أسرار الملوك حملها بطاقة ؛ فهو من الطيور الّتي خلا لها الجوّ فنقّرت ما شاءت من حبّات النجوم ، والعجماء التي من أخذ عنها شرح المعلّقات فقد أعرب عن دقائق المفهوم ،

٢٧٢

والمقدّمة والنتيجة للكتاب الحجليّ في منطق الطير ، وهي من حملة الكتاب الّذي إذا وصل القارئ منه إلى الفتح يتهلّل لحبّه الخير ؛ إن يصدر البازي بغير علم فكم جمعت بين طرفي كتاب ، وإن سالت العقبان على بديع السّجع أحجمت عن ردّ الجواب.

رعت النسور بقوّة جيف الفلا

ورعى الذّباب الشهد وهو ضعيف

ما قدمت إلا وأرتنا من شمائلها اللطيفة نعم القادمة ، وأظهرت لنا من خوافيها ما كانت له خير كاتمة. كم أهدت من مخلبها وهي غادية رائحة ، وكم حنت إليها الجوارح وهي أدام الله إطلاقها عزّ جارحة ، وكم أدارت من كؤوس السجع ما هو أرقّ من قهوة الإنشاء ، وأبهج على زهر المنثور من صبح الأعشى. وكم عامت بحور الفضاء ولم تحفل بموج الجبال ، وكم جاءت ببشارة وخضبت الكف من تلك الأنملة قلامة الهلال ، وكم زاحمت النجوم بالمناكب حتّى ظفرت بكلّ كفّ خضيب ، وانحدرت كأنّها دمعة سقطت على خدّ الشقيق لأمر مريب ، وكم لمع في أصيل الشمس خضاب كفّها الوضّاح ، فصارت بسموّها وفرط البهجة كمشكاة فيها مصباح. والله تعالى يديم بأفنان أبوابه العالية ألحان السواجع ، ولا برح تغريدها مطربا بين البادئ والراجع.

ذكر عادة المملكة في الخلع والزيّ

قال ابن فضل الله : وأمّا القضاة والعلماء فخلعهم (١) من الصوف بغير طراز ، فلهم الطّرحة ، وأصل الصوف أن يكون أبيض وتحته أخضر.

وأما زيّ القضاة والعلماء فدلق (٢) متّسع بغير تفريق ، فتحته على كتفه ، وشاش كبير منه ذؤابة بين الكتفين ، ويميلها إلى الكتف الأيسر.

وأما من دون هؤلاء فالفرجيّة (٣) الطويلة الكمّ بغير تفريج ، وأما زاهدهم فيقصّر الذؤابة ويميلها إلى الكتف الأيسر. ومنهم من يلبس الطّيلسان (٤).

وأما قاضي القضاة الشافعيّ رضي الله تعالى عنه ، فرسمه الطّرحة (٥) ، وبها يمتاز ومراكبهم البغل ، ويعمل بدلا من الكنبوش (٦) الزناريّ ، وهو من الجوخ بالعباء المجوّفة الصدر مستدير من وراء الكفل.

__________________

(١) في الجوهر الثمين : ١ / ٢٦٦ : الخلعة فرجية سوداء مزركشة مع عمامة سوداء وطوق ذهب وقيد ذهب وسيف بداوي.

(٢) الدلق : لباس من الصوف.

(٣) الفرجية : قباء شق من خلفه.

(٤) الطيلسان : كساء أخضر يلبسه الخواص من المشايخ والعلماء وهو من لباس العجم.

(٥) الطرحة : غطاء للرأس مستطيل.

(٦) في حواشي السلوك : ١ / ٣٥٢ : الكنبوش : اللثام.

٢٧٣

وألبسة الخطباء دلق مدوّر أسود للشّعار العباسيّ ، وشاش أسود وطرحة سوداء.

وأما زيّ الأمراء والجند ، فتقدّم عند ذكر السّلطان.

وأما خلعهم وخلع الوزراء ونحوهم فأسقطتها من كلام ابن فضل الله لأنّها ما بين حرير وذهب ؛ وذلك محرّم شرعا ، وقد التزمت ألّا أذكر في هذا الكتاب شيئا أسأل عنه في الآخرة ، إن شاء الله تعالى.

ذكر عادة السلطان في الكتابة على التقاليد

قال ابن فضل الله : عادته إذا كتب لأحد من النوّاب يكتب اسمه فقط ، فإن كان من كبارهم ، وهو من ذوي السيوف ، كتب «والده فلان» ، وإن كان من القضاة والعلماء كتب : «أخوه فلان».

ذكر معاملة مصر

قال ابن فضل الله في المسالك : معاملة مصر الدّراهم ، ثلثاها فضّة وثلثها نحاس ، والدرهم ثماني عشرة حبّة خرنوبة ، والخرنوبة ثلاث قمحات ، والمثقال أربعة وعشرون خرنوبة ، والدّرهم منها قيمته ثمانية وأربعون فلسا ، والدينار الحبشي ثلاثة عشر درهما وثلث درهم. وأما الكيل فيختلف بمصر : الإردبّ ، وهو ستّ ويبات ، الويبة أربعة أرباع ، الربع أربعة أقداح ، القدح مائتان واثنان وثلاثون درهما ؛ هذا إردب مصر. وفي أريافها يختلف الإردبّ من هذا المقدار إلى أنهى ما ينتهي ثلاث ويبات. والرطل اثنا عشر أوقيّة ، الأوقية اثنا عشر درهما.

قال صاحب المرآة : في سنة خمس وسبعين من الهجرة ضرب عبد الملك بن مروان على الدنانير والدراهم اسم الله تعالى ، قال الهيثم : وسببه أنّه وجد دراهم ودنانير تاريخها قبل الإسلام بأربعمائة سنة ، عليها مكتوب «باسم الأب والابن وروح القدس» ، فسبكها ونقش عليها اسم الله تعالى وآيات من القرآن واسم الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. واختلف في صورة ما كتب ، فقيل جعل في وجه : «لا إله إلا الله» وفي الآخر «محمد رسول الله» وأرّخ وقت ضربها. وقيل : جعل في وجه «قل هو الله أحد» وفي الآخر «محمد رسول الله».

٢٧٤

وقال القضاعيّ : كتب على أحد الوجهين : «الله أحد» من غير قل ، ولما وصلت إلى العراق أمر الحجّاج فزيد فيها في الجانب الذي فيه محمد رسول الله في جوانب الدرهم مستديرا : «أرسله بالهدى ودين الحق ...» الآية (١). واستمرّ نقشها كذلك إلى زمن الرشيد ، فأراد تغييرها فقيل له : هذا أمر قد استقرّ وألفه الناس ، فأبقاها على ما هي عليه اليوم ، ونقش عليها اسمه.

وقيل : أوّل من غيّر نقشها المنصور ، وكتب عليها اسمه.

وأمّا الوزن فما تعرّض أحد لتغييره. انتهى كلام صاحب المرآة.

ذكر كوكب الذنب

قال صاحب المرآة : إنّ أهل النجوم يذكرون أنّ كوكب الذّنب طلع في وقت قتل قابيل هابيل ، وفي وقت الطوفان ، وفي وقت نار إبراهيم الخليل ، وعند هلاك قوم عاد وثمود وقوم صالح ، وعند ظهور موسى وهلاك فرعون ، وفي غزوة بدر ، وعند قتل عثمان وعليّ ، وعند قتل جماعة من الخلفاء ، منهم الرضيّ والمعتزّ والمهتدي والمقتدر.

قال : وأدنى الأحداث عند ظهور هذا الكوكب الزلازل والأهوال.

قلت : يدلّ لذلك ما أخرجه الحاكم في المستدرك ، وصحّحه من طريق ابن أبي مليكة ، قال : غدوت على ابن عبّاس ، فقال : ما نمت البارحة! قلت : لم؟ قال : قالوا : طاح الكوكب ذو الذّنب ، فخشيت أن يكون الدجّال قد طرق.

ذكر بقية لطائف مصر

قال الكنديّ : ذكر يحيى بن عثمان ، عن أحمد بن الكريم ، قال : جلت للدنيا ، ورأيت آثار الأنبياء والملوك والحكماء ، ورأيت آثار سليمان بن داود عليهما‌السلام ببيت المقدس ، وتدمر والأردنّ ، وما بنته الشياطين ، فلم أر مثل برابي مصر ولا مثل حكمتها ، لا مثل الآثار التي بها ، والأبنية التي لملوكها وحكمائها. ومصر ثمانون كورة ، ليس منها كورة إلّا وفيها ظرائف وعجائب من أصناف الأبنية والطعام والشراب والفاكهة والنبات وجميع ما ينتفع به الناس ، ويدّخره الملوك. وصعيدها أرض حجازيّة ، حرّها

__________________

(١) في الآية : (أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِ)[الصف : ٩ ، التوبة : ٣٣].

٢٧٥

كحرّ الحجاز ، تنبت النخل والأراك والقرظ (١) والدّوم والعشر (٢) ، وأسفل أراضي مصر شاميّة تمطر مطر الشام ، وتنبت نبات الشام من الكرم والتّين الموز وسائر الفاكهة ، والبقول والرّياحين. ويقع به الثلج ، ومنها لوبية ومراقية (٣) برابي وجبال وغياض ، وزيتون وكروم برّيّة بحريّة جبليّة ، بلاد إبل وماشية ، ونتاج عسل ولبن. وكلّ كورة (٤) من مصر مدينة ، قال تعالى : (وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ) [الشعراء : ٣٦] ، وفي كل مدينة منها آثار عجيبة من الأبنية والصخور والرخام والبرابي ، وتلك المدن كلها تأتي منها السفن ، تحمل المتاع والآلة إلى الفسطاط ، تحمل السفينة الواحدة ما يحمله خمسمائة بعير.

قال الكنديّ : وليس في الدنيا بلد يأكل أهله صيد البحر طريّا غير أهل مصر.

قال : وذكر بعض أهل العلم أنّه ليس في الدنيا شجرة إلّا وهي بمصر ، عرفها من عرفها ، وجهلها من جهلها.

ويوجد بمصر في كلّ وقت من الزمان من المأكول والمأدوم والمشموم وسائر البقول والخضر ؛ جميع ذلك في الصيف والشتاء ، لا ينقطع منها شيء لبرد ولا حرّ.

وذكر أنّ بخت نصّر قال لابنه بلسطان : ما أسكنتك مصر إلّا لهذه الخصال. وبلسطان هو الذي بنى قصر الشمع.

وقال بعض من سكن مصر : لو لا ماء طوبة (٥) ، وخروف أمشير (٦) ، ولبن برمهات (٧) ، وورد برمودة (٨) ، ونبق بشنش (٩) ، وتين بؤونة (١٠) ، وعسل أبيب (١١) ، وعنب مسرى (١٢) ، ورطب توت (١٣) ، ورمّان بابة (١٤) ، وموز هاتور (١٥) ، وسمك كيهك (١٦) ، ما أقمت بمصر.

__________________

(١) القرظ : نبات يستخدم ورقه للدباغة.

(٢) العشر : جنس شجيرات من فصيلة الصقلابيات له صمغ.

(٣) في معجم البلدان : مراقية أول بلد بين الاسكندرية وإفريقية.

(٤) في معجم البلدان : الكورة كل صقع يشتمل على عدّة قرى.

(٥) في مروج الذهب : ٢ / ١٧٨ : طوبة : كانون الثاني.

(٦) في مروج الذهب : أمشير : شباط.

(٧) وفيه أيضا : برمهات : آذار.

(٨) برمودة : نيسان.

(٩) بشنس : أيار.

(١٠) بؤونة : حزيران.

(١١) أبيب : تموز.

(١٢) مسرى : آب.

(١٣) توت : أيلول.

(١٤) بابة : تشرين الأول.

(١٥) هاتور : تشرين الثاني.

(١٦) كيهك : كانون الأول.

٢٧٦

وأخرج ابن عساكر من طريق الربيع بن سليمان ، قال : سمعت الشافعيّ رضي الله تعالى عنه ، يقول : ثلاثة أشياء ، دواء للداء الذي لا دواء له ، الذي أعيا الأطباء أن يداووه : العنب ، ولبن اللّقاح (١) ، وقصب السكّر ، ولو لا قصب السكر ما أقمت بمصر.

وقال بعضهم : يجتمع بمصر في وقت واحد ما لا يجتمع بمدينة ؛ وذلك البنفسج والورد والسّوسن والمنثور والنرجس وشقائق النعمان والبهار والياسمين والنّسرين واللّينوفر (٢) والنمام (٣) والمرزنجوش (٤) والريحان والنارنج والليمون والتفاح الشاميّ والأترجّ (٥) والباقليّ والأخضر والعنب والتين والموز واللوز الأخضر والسفرجل والكمّثرى والرمان والنّبق (٦) والقثّاء والخيار والطّلع والبلح والبسر الرطب واللّفت والقنّبيط والأسفاناخ والقرع والجزر والباذنجان ؛ كل ذلك يجتمع في وقت واحد من السنة.

وقال بعض من صنّف في فضائل مصر : بمصر الحمير المرّيسيّة ، والبقر الحسينيّة ، والنّجب النجارية ، والأغنام النّوبية ، والدجاج الحبشيّة ، والمراكب الحربيّة ، والسفن الزيبقية ، والمناسف الحمليّة ، والسّتور البهنساويّة ، والغلائل القصبيّة ، والحرم السمطاوية ، والنّعال السّندية ، والسّلال الوهبانيّة ، والمضارب السلطانية. ويحمل إلى العراق وغيرها من مصر زيت الفجل والعسل النّحل ، ويفخر به على أعسال الدنيا.

ويروى أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بارك فيه لمّا أهداه إليه المقوقس.

وبمصر يزرع البلسان ، ودهنه يستعمل في أكثر العلاج ، والنّفط وهو من آلة الحرب التي بها قهر الأعداء ، ودهن الخروع وزيت البزر والدهن الصيني ، وزيت الخردل وزيت الخسّ ، ودهن القرطم (٧) ، وزيت السّلجم (٨) ، وخشب اللّبخ (٩) ، وهو أصلح من الأبنوس اليونانيّ.

__________________

(١) اللقاح : الناقة الحلوب الغزيرة اللبن.

(٢) اللينوفر : نبات ينبت في المياه الراكدة ، له أصل كالجذر ، وساق ملساء تطول بحسب عمق الماء ، فإذا ساوت سطحه أورقت وأزهرت. (فارسية).

(٣) النمام : نبت له بذر كالريحان ، عطريّ قويّ الرائحة.

(٤) وهو نبات المردقوش.

(٥) الأترج : شجر من جنس الليمون تسمّيهم العامة الكبّاد.

(٦) النبق : واحدتها النبقة : حمل شجر السدر.

(٧) القرطم : العصفر.

(٨) زيت السلجم كان يستعمل للإنارة ، ويستخرج من نوع من اللفت.

(٩) اللبخ : شجر كبير من فصيلة القرنيات ، ورقه كورق الجوز ، يزرع في مصر.

(المنجد).

٢٧٧

وفي صعيد مصر خشب الأبنوس الأبلق وسائر العقاقير التي تدخل في الطبّ والعلاج. وكلّ ما زرع في أرض مصر ينبت.

وفيها من نبات الهند والسّند مثل الإهليلج والخيار شنبر والتمر هندي وغيره مما لا يوجد في بلد من البلاد الإسلامية.

وبها الشبّ الواحي ؛ وهو أبلغ من اليماني ، والأفيون والشّاهترج (١) والصّفر والزجاج والجزع (٢) الملوّن والصّوّان ؛ وهو حجر لا يعمل فيه الحديد ؛ وكانت الأوائل تعمده وتقطّعه بأسوان ؛ ومنه العمد الجافية ، التي لا تكون بسائر الدنيا ، وكلّ حمّامات مصر بالرخام لكثرته عندهم ، وكذلك صحون دورهم.

وبها الحجارة المسمّاة بالكذّان (٣) ؛ يبلّط بها الدّور ويعقد بها الدّرج.

وبها من الحصر العبدانيّ ، ومن سائر أصناف الحصر ما لا يوجد في غيرها ، ويجلب من مصر البرّ الأبيض من الدّبيقيّ وغيره الذي يعمل بدمياط وتنّيس. وبالإسكندرية يعمل الوشي الّذي يقوم مقام وشي الكوفة.

وبالصعيد يعمل من الجلود الأنطاع ، وبالبهنسا السّتور التي هي أحسن ستور الأرض والبسط وأجلّة الدوابّ والبرقع وستور النّسوان في المضارب والأكسية والطيالسة.

وكان يعمل بإخميم الفرش التي تسمّى نطوع الخزّ.

وبمصر من أصناف الرّقيق ما ليس ببلد من البلدان ، وأصناف الطير الحسن الصوت في صعيدها مثل القمريّ والنّوبيّ والنّوّاح والدّبسيّ الأحمر والأبلق ، والكروان الّذي ليس مثله في بلد.

ومنها يحمل الطير إلى البلدان في الشرق والغرب ، والأشماع المتّخذة من الشهد وعسل الأسطروس والنّيدة المعمولة من القمح والقند (٤) والأباليج والطّبرزد ، وماء طوبة الّذي لا يعدله شيء ، ولا يتغيّر على ممرّ الأيام ، والسّمك الذي هو ملك الأسماك ، والبوري الطريّ والمملوح ، والبلاطيّ الذي كأنّه دروع من الفضّة ، وطير الماء ، وطير الحوصل يعمل من جلده الخفاف النّاعمة والفراء الأبيض الذي يقوم مقام الفنك (٥) في

__________________

(١) الشاهترج : نبات سنوي يتألف من أعشاب صغيرة ، أوراقه مسنّنة ، وأزهاره عنقودية الشكل ، يكثر في الحدائق وعلى الطرقات ، يستعمل ورقه لمعالجة الجرب والحكّة.

(٢) الجزع : خرز فيه سواد وبياض.

(المنجد).

(٣) الكذّان أو الكدّان : حجر رخو النخرة.

(٤) القند : عسل قصب السكر إذا جمد.

(٥) الفنك : حيوان صغير من فصيلة الكلبيّات شبيه بالثعلب لكن أذنيه كبيرتان.

٢٧٨

لينه ورقته. وبها الكتّان ، ومنها يحمل إلى سائر الأرض ، والقراطيس ، وبها من العلم القديم ما ليس ببلد ، كعلم الطبّ اليونانيّ والمساحة ، والنجوم والحساب القبطيّ واللّحون والشّعر الروميّ.

وفيها من سائر الثّمار والأشجار والمشمومات والعقاقير والنّبات والحشائش ما لا يحصى. والعصفور يفرّخ بمصر في كانون ، وليس ذلك في بلد إلّا بها.

وقال الكنديّ : بمصر معدن الزمرّد ، وليس في الدنيا زمرّد إلا معدن بمصر ، ومنها يحمل إلى سائر الدنيا.

قال : وبها معدن الذهب ، يفوق على كلّ معدن.

قال : وفيها القراطيس ، وليس هي في الدنيا إلا بمصر.

وقال غيره : من خصائص مصر القراطيس ، وهي الطوامير (١) ، وهي أحسن ما كتب فيه ، وهو من حشيش أرض مصر ، ويعمل طوله ثلاثون ذراعا وأكثر في عرض شبر. وقيل إنّ يوسف عليه‌السلام أوّل من اتخذ القراطيس ، وكتب فيها.

قال الكنديّ : وبها من الطّرز والقصب التّنّيسيّ والشرب والدّبيقيّ ما ليس بغيرها ، وبها الثياب الصوف والأكسية المرعزّ (٢) ، وليس هي في الدنيا إلا بمصر. ويحكى أنّ معاوية لمّا كبر كان لا يدفأ ، فاتّفقوا أنّه لا يدفئه إلا أكسية تعمل في مصر ، من صوفها المرعزّ العسليّ غير مصبوغ ، فعمل له منها عدد ، فما احتاج منها إلّا إلى واحد. وبها طراز البهنسا من السّتور والمضارب ما يفوق ستور الأرض.

وبها من النّتاج العجيب من الخيل والبغال والحمير ما يفوق نتاج أهل الدنيا ، وليس في الدنيا فرس في نهاية الصّورة في العنق غير الفرس المصريّ ، وليس في الدنيا فرس لا يردف غير المصريّ ، وسبب ذلك قصر ساقيه وبلاغة صدره وقصر ظهره. ويحكى أنّ الوليد عزم على إجراء الحلبة ، فكتب إلى الأمصار أن يوجّه إليه بخيار خيل كلّ بلد ، فلمّا اجتمعت عرضت عليه ، فمرّت عليه المصريّة ، فلمّا رآها دقيقة العصب ، ليّنة المفاصل والأعطاف ، قال : هذه خيل ما عندها طائل ، فقال له عمر بن عبد العزيز :

__________________

(١) الطوامير : الصحف.

(٢) المرعز : الزغب الذي تحت شعر العنز ، أو اللّين من الصوف.

٢٧٩

وأين الخير كلّه إلّا لهذه؟! فقال له : ما تترك تعصّبك لمصر يا أبا حفص؟! فلما أجريت الخيل جاءت المصرية كلّها سابقة ما خالطها غيرها.

قال : وبها زيت الفجل ودهن (١) البلسان والأفيون والأبرميس (٢) وشراب العسل والبسر البرنيّ الأحمر واللّبخ والخسّ والكبريت والشمع والعسل وخلّ الخمر والترمس والجلبان والذرة والنّيدة والأترجّ الأبلق والفراريج الزبليّة. وذكر أنّ مريم عليها‌السلام شكت إلى ربّها قلّة لبن عيسى ، فألهمها أن غلت النيدة فأطعمته إيّاها.

وذكر بعضهم أنّ رهبان الشام لا يكادون يرون إلا عمشا من أكل العدس ، ورهبان مصر سالمون من ذلك لأكلهم الجلبّان.

والبقر الذي بمصر أحسن البقر صورة ، وليس في الدنيا بقر أعظم خلقا منها ، حتّى أنّ العضو منها يساوي أكبر ثور من غيرها.

وبها الحطب الصّنط والأبنوس الأبلق والقرط (٣) الذي تعلفه الدواب.

وذكر أنّه يوقد بالحطب الصنط عشرين سنة في الكانون أو التّنّور ، فلا يوجد له رماد طول هذه المدّة.

وجيزتها في وقت الربيع من أحسن مناظر الدنيا.

وقال صاحب مباهج الفكر : يقال إنّ بمصر سبعمائة وخمسين معدنا ، توجد بجبل المقطّم : الذهب والفضة والخارصين والياقوت ؛ إلا أنّه لطيف جدّا ، يستعمل في الأكحال والأدوية ، وفي أسوان يغاص على السنفاوج ومعدن الزمرّد ؛ وليس في الدنيا غيره ، وبجبال القلزم المتصلة بجبل المقطّم حجر المغناطيس.

ومن خصائص مصر بركة النّطرون. وينبت في أرض مصر سائر ما ينبت في الأرض. انتهى.

وقال صاحب غرائب العجائب : بمصر بئر البلسم بالمطريّة ، يسقى بها شجر البلسان ، ودهنه عزيز والخاصيّة في البئر ؛ فإنّ المسيح عليه‌السلام اغتسل فيها ، وليس في الدنيا موضع ينبت فيه البلسان إلا هذا الموضع ، وقد استأذن الملك الكامل أباه العادل

__________________

(١) دهن البلسان يستخرج من شجر له زهر أبيض بهيئة العناقيد ، وهذا الدهن عطر الرائحة ، وهو من فصيلة البخوريات ، (المنجد).

(٢) لعلّ الصواب : الإبرسيم : الحرير.

(٣) القرط : نوع من الكرّاث. أمّا بضم القاف فهو نبات يشبه الفصفصة.

٢٨٠