حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة - ج ٢

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي

حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة - ج ٢

المؤلف:

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨١
الجزء ١ الجزء ٢

القاضي (١) الشافعيّ إلى أن فوّض الظاهر برقوق نظره إلى الأمير قطلوبغا الصفويّ ، ثمّ عاد نظره إلى القضاة بعد الصفويّ ، وهو بأيديهم إلى اليوم.

وفي سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة جدّد الرواق البحري الملاصق للمئذنة البازدار مقدّم الدولة عبيد بن محمد بن عبد الهادي ، وجدّد فيه أيضا ميضأة بجانب الميضأة القديمة.

الجامع الأزهر

هذا الجامع أول جامع أسّس بالقاهرة ، أنشأه القائد جوهر الكاتب الصّقلّيّ مولى المعزّ لدين الله لما اختطّ القاهرة ، وابتدأ بناؤه في يوم السّبت لستّ بقين من جمادى الأولى سنة تسع وخمسين وثلاثمائة ، وكمل بناؤه لسبع (٢) خلون من رمضان سنة إحدى وستّين ، وكان به طلّسم ، لا يسكنه عصفور ولا يمام ولا حمام ، وكذا سائر الطيور.

ثمّ جدّده الحاكم بأمر الله ، ووقف عليه أوقافا ، وجعل فيه تنّورين فضّة وسبعة وعشرين قنديلا فضّة ، وكان نضده في محرابه منطقة فضّة ، كما كان في محراب جامع عمرو ، فقلعت في زمن صلاح الدين يوسف بن أيّوب (٣) ، فجاء وزنها خمسة آلاف درهم نقرة (٤) ، وقلع أيضا المناطق من بقيّة الجوامع.

ثمّ إنّ المستنصر جدّد هذا الجامع أيضا وجدّده الحافظ ، وأنشأ فيه مقصورة (٥) لطيفة بجوار الباب الغربي الذي في مقدّم الجامع.

ثمّ جدّد في أيام الظاهر بيبرس.

ولما بني الجامع كانت الخطبة تقام فيه ، حتّى بني الجامع الحاكميّ ، فانتقلت الخطبة إليه ، وكان الخليفة يخطب في جامع عمرو جمعة ، وفي جامع ابن طولون (٦) جمعة ، وفي الجامع الأزهر جمعة ، ويستريح جمعة. فلمّا بني الجامع الحاكميّ صار الخليفة يخطب فيه.

ولم تنقطع الجمعة من الجامع الأزهر بالكليّة. فلمّا ولي السلطان صلاح الدين بن

__________________

(١) في الخطط المقريزية : ٢ / ٢٦٩ : قاضي القضاة.

(٢) في الخطط المقريزية : ٢ / ٢٧٣ : لتسع.

(٣) في الخطط المقريزية : ٢ / ٢٧٥ : في حادي عشر ربيع الأول سنة ٥٦٩ ه‍.

(٤) النقرة : القطعة المذابة من الذهب والفضة.[المنجد].

(٥) في الخطط المقريزية : ٢ / ٢٧٥ : مقصورة فاطمة.

(٦) انظر المرجع السابق.

٢٢١

أيّوب ، قلّد وظيفة القضاء صدر الدّين (١) بن درباس ، فعمل بمقتضى مذهبه ، وهو امتناع إقامة خطبتين في بلد واحد ، كما هو مذهب الشافعيّ رضي‌الله‌عنه ، فأبطل الخطبة من الجامع الأزهر ، وأقرّها بالجامع الحاكميّ لكونه أوسع ، فلم يزل الجامع الأزهر معطّلا من إقامة الخطبة فيه إلى أيّام الظاهر بيبرس ، فتحدّث في إعادتها فيه ، فامتنع قاضي القضاة ابن بنت الأعزّ وصمّم ، فولّى السلطان قاضيا حنفيّا ، فأذن في إعادتها فأعيدت.

جامع الحاكم

أوّل من أسّسه العزيز بالله ابن المعزّ ، وخطب فيه ، وصلّى بالناس (٢) ، ثمّ أكمله الحاكم بأمر الله ، وكان أوّلا يعرف بجامع الخطبة ، ويعرف اليوم بجامع الحاكم ، ويقال له الجامع الأنور ، وكان تمام عمارته في سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة وحبس عليه الحاكم عدة قياسر (٣) وأملاك بباب الفتوح ، وقد هدم في الزلزلة الكائنة في سنة اثنتين وسبعمائة ، فجدّده بيبرس الجاشنكير ، ورتّب فيه دروسا على المذاهب الأربعة ، ودرس حديث ودرس نحو ، ودرس قراءات (٤).

ومن بناء الحاكم أيضا جامع راشدة (٥) ، بجوار رباط الآثار ، وعرف بجامع راشدة ؛ لأنه في خطّة راشدة ؛ قبيلة من لخم. وصلّى به الحاكم الجمعة أيضا.

ومن بنائه أيضا الجامع الذي بالمقس (٦) على شاطىء النيل ، ووقف عليه أوقافا ، ثم جدّده في سنة سبعين وسبعمائة الوزير شمس الدين المقسيّ.

ومن الجوامع التي بنيت في خلافة بني عبيد الجامع الأقمر (٧) ، بناه الآمر بأحكام الله.

__________________

(١) في الخطط المقريزية : ٢ / ٢٧٥ : عبد الملك بن درباس.

(٢) في الخطط المقريزية : ٢ / ٢٧٧ : الجمعة.

(٣) انظر القياسر في الخطط المقريزية : ٢ / ٨٦.

(٤) انظر الخطط المقريزية : ٢ / ٢٧٨.

(٥) في الخطط المقريزية : ٢ / ٢٨٢ : عرف بذلك لأنه في خطة راشدة ، ابتدئ ببنائه سنة ٣٩٣ ه‍.

(٦) في الخطط المقريزية : ٢ / ٢٨٣ : المقس كان خطة كبيرة وهي بلد قديم قبل الفتح.

(٧) في الخطط المقريزية : ٢ / ٢٩٠ : كمل بناؤه سنة ٥١٩ ه‍.

٢٢٢

والجامع الأفخر (١) ؛ وهو الذي يقال له اليوم جامع الفكاهيّين بناه الخليفة الظافر.

وجامع الصالح (٢) خارج باب زويلة بناه الملك الصالح طلائع بن رزّيك وزير الخليفة الفائز.

ذكر أمّهات المدارس والخانقاه العظيمة بالديار المصرية

قال : أوّل من بنى المدارس في الإسلام الوزير نظام الملك قوام الدين الحسن بن عليّ الطوسيّ ، وكان وزير السلطان ألب أرسلان السلجوقيّ عشر سنين ، ثمّ وزر لولده ملكشاه عشرين سنة. وكان يحبّ الفقهاء والصوفيّة ويكرمهم ، ويؤثرهم ، بنى المدرسة النظاميّة ببغداد ، وشرع فيها في سنة سبع وخمسين وأربعمائة ، ونجزت سنة تسع وخمسين ، وجمع الناس على طبقاتهم فيها يوم السبت عاشر ذي القعدة ليدرس فيها الشيخ أبو إسحاق الشّيرازي ، فجاء الشيخ ليحضر الدرس ، فلقيه صبيّ في الطريق ، فقال : يا شيخ ؛ كيف تدرس في مكان مغصوب؟ فرجع الشيخ ؛ واختفى. فلمّا يئسوا من حضوره ، ذكر الدّرس بها أبو نصر بن الصبّاغ عشرين يوما. ثمّ إنّ نظام الملك احتال على الشيخ أبي إسحاق ولم يزل يرفق به حتّى درّس بها ، فحضر يوم السّبت مستهلّ ذي الحجّة ، وألقى الدرس بها إلى أن توفّي. وكان يخرج أوقات الصلاة فيصلّي بمسجد خارجها احتياطا. وبنى نظام الملك أيضا مدرسة بنيسابور تسمّى النظاميّة ، درّس بها إمام الحرمين ، واقتدى النّاس به في بناء المدارس.

وقد أنكر الحافظ الذهبيّ في تاريخ الإسلام على من زعم أنّ نظام الملك أوّل من بنى المدارس وقال : قد كانت المدرسة البيهقيّة بنيسابور قبل أن يولد نظام الملك ، والمدرسة السعيديّة بنيسابور أيضا ، بناها الأمير نصر بن سبكتكين أخو السلطان محمود لما كان واليا بنيسابور ، ومدرسة ثالثة بنيسابور ، بناها أبو سعد إسماعيل بن عليّ بن المثنّى الأستراباذي الصوفيّ الواعظ شيخ الخطيب ، ومدرسة رابعة بنيسابور أيضا بنيت للأستاذ أبي إسحاق (٣).

قال الحاكم في ترجمة الأستاذ أبي إسحاق : لم يكن بنيسابور مدرسة قبلها مثلها ؛ وهذا صريح في أنّه بني قبلها غيرها. قال القاضي تاج الدين السّبكي في طبقاته الكبرى :

__________________

(١) في الخطط المقريزية : ٢ / ٢٩٣ : جامع الظافر ، وكان يقال له الجامع الأفخر ، ويقال له اليوم جامع الفاكهيين ، بناه الخليفة الظافر سنة ٥٤٣ ه‍.

(٢) انظر الخطط المقريزية : ٢ / ٢٩٣.

(٣) انظر الخطط المقريزية : ٢ / ٣٦٣.

٢٢٣

قد أدرت فكري ، وغلب على ظنّي أن نظام الملك أوّل من رتب فيها المعاليم للطلبة ، فإنّه لم يصحّ لي : هل كان للمدارس قبله معاليم أم لا؟ والظاهر أنّه لم يكن لهم معلوم. انتهى.

وأما مصر ، فقال ابن خلكان : لمّا ملك السلطان صلاح الدين بن أيّوب الديار المصرية ، لم يكن بها شيء من المدارس ، فإنّ الدولة العبيدية كان مذهبها مذهب الرافضة والشيعة ، فلم يكونوا يقولون بهذه الأشياء (١) ، فبنى السلطان صلاح الدين بالقرافة الصغرى المدرسة المجاورة للإمام الشافعي ، وبنى مدرسة مجاورة للمشهد الحسينيّ بالقاهرة (٢) ، وجعل دار سعيد السعداء خادم الخلفاء المصريين خانقاه (٣) ، وجعل دار عباس الوزير العبيديّ مدرسة للحنفيّة ، وهي المعروفة الآن بالسيوفية ، وبنى المدرسة التي بمصر المعروفة بزين التّجار للشافعي ، وتعرف الآن بالشريفيّة ، وبنى بمصر مدرسة أخرى للمالكيّة وهي المعروفة الآن بالقمحيّة.

وقد حكي أنّ الخليفة المعتضد بالله العبّاسي لما بنى قصره ببغداد استزاد في الذّرع ، فسئل عن ذلك ، فذكر أنه يريده ليبني فيها دورا مساكن ومقاصر ، يرتّب في كل موضع رؤساء كلّ صناعة ومذهب من مذاهب العلوم النظرية والعمليّة ، ويجري عليهم الأرزاق السنيّة ، ليقصد كلّ من اختار علما أو صناعة رئيسا ، فيأخذ عنه.

وقد ذكر الواقديّ أنّ عبد الله بن أمّ مكتوم قدم مهاجرا إلى المدينة ، فنزل دار القرّار (٤).

ذكر المدرسة الصلاحية

بجوار الإمام الشافعيّ رضي‌الله‌عنه ، وينبغي أن يقال لها : تاج المدارس ، وهي أعظم مدارس الدنيا على الإطلاق لشرفها بجوار الإمام الشافعيّ ، ولأنّ بانيها أعظم

__________________

(١) في الخطط المقريزية : ٢ / ٣٦٣ : وأول ما عرف إقامة درس من قبل السلطان بمعلوم جار لطائفة من الناس بديار مصر في خلافة العزيز بالله بن المعز ووزارة يعقوب بن كلّس ، فعمل ذلك بالجامع الأزهر.

(٢) في الخطط المقريزية : ٢ / ٣٦٣ : وأحدثت بمصر المدرسة الناصرية ثم القمحية ثم السيوفية ...

(٣) في الخطط المقريزية : ٢ / ٢١٤ : الخانقاه : فارسية معناها بيت ، وأصلها خونقاه : الموضع الذي يأكل فيه الملك ، ثم أطلقت على المكان الذي يختلي فيه الصوفية للعبادة ، ثم الملجأ أو مطعم الفقراء.

(٤) انظر الخطط المقريزية : ٢ / ٣٦٢.

٢٢٤

الملوك ، ليس في ملوك الإسلام مثله ، لا قبله ولا بعده ، بناها السّلطان صلاح الدين بن أيّوب رحمه‌الله تعالى سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة ، وجعل التدريس والنظر بها للشّيخ نجم الدين الخبوشانيّ ، وشرط له من المعلوم في كلّ شهر أربعين دينارا معاملة صرف كلّ دينار ثلاثة عشر درهما وثلث درهم عن التدريس ، وجعل له عن معلوم النظر في أوقاف المدرسة عشرة دنانير ، ورتّب له من الخبز في كلّ يوم ستّين رطلا بالمصريّ ، وراويتين من ماء النيل.

قال المقريزيّ : ولي تدريسها جماعة من الأكابر الأعيان ، ثمّ خلت من مدرّس ثلاثين سنة ، واكتفي فيها بالمعيدين (١) ، وهم عشرة أنفس ، فلما كان سنة ثمان وسبعين وستّمائة ، ولي تدريسها تقيّ الدين بن رزين ، وقرّر له نصف المعلوم ، فلما مات وليها الشيخ تقيّ الدين بن دقيق العيد بربع المعلوم ، فلما ولي الصاحب برهان الدين الخضر (٢) السنجاريّ التدريس قرّر له المعلوم الشاهد به كتاب الوقف (٣).

وقد استمرّت بيد الخبوشانيّ إلى أن مات سنة سبع وثمانين وخمسمائة ، فوليها شيخ الشيوخ صدر الدين أبو الحسن محمد (٤) بن حمّويه الجوينيّ في حياة الواقف ، فلمّا مات الواقف عزل عنها واستمرّت عليها أيدي بني السلطان ، واحدا بعد واحد ، ثمّ خلصت بعد ذلك وعاد إليها الفقهاء والمدرّسون. كذا في تاريخ ابن كثير.

وذكر المقريزيّ في الخطط أنّ صدر الدين بن حمّويه ولي تدريس الشافعيّ ، وأنّه وليها ولده كمال الدين أحمد ، ومات سنة تسع وثلاثين وستمائة ، ثمّ وليها قاضي القضاة تاج الدين بن بنت الأعزّ ، ثمّ وليها قاضي القضاة تقيّ الدين بن رزين ، ثم وليها قاضي القضاة تقي الدين ابن بنت الأعز ، ثم وليها قاضي القضاة شيخ الإسلام تقي الدين بن دقيق العيد ، ثم وليها عزّ الدين محمد بن محمد بن الحارث بن مسكين ، ثمّ وليها في سنة إحدى عشرة وسبعمائة ضياء الدين عبد الله بن أحمد بن منصور النّشائيّ ، ومات سنة ستّ عشرة وسبعمائة ، ثمّ وليها مجد الدين حرمي بن قاسم بن يوسف الفاقوسيّ إلى أن مات سنة أربع وثلاثين وسبعمائة ، ثمّ وليها شمس الدين بن القمّاح ، ثمّ ضياء الدين محمد بن إبراهيم المناويّ ، ثم شمس الدين بن اللّبان ، ثم شمس الدين محمد بن أحمد بن خطيب بيروت الدّمشقي ، ثمّ بهاء الدين بن الشيخ تقيّ الدين السبكيّ ، ثم أخوه تاج الدين لما سافر بهاء الدين عوضه قاضيا بالشام ، ثم لمّا عاد تاج الدين إلى القضاء عاد إليها إلى التدريس إلى أن مات.

__________________

(١) في صبح الأعشى : ٥ / ٤٣٦ : المعيد ثاني رتبة بعد المدرّس.

(٢) شذرات الذهب : ٥ / ٣٩٥.

(٣) انظر المدرسة الناصرية بالقرافة : الخطط المقريزية : ٢ / ٤٠٠.

(٤) شذرات الذهب : ٥ / ٢٥١.

٢٢٥

ثم ابن عمّه قاضي القضاة بهاء الدين أبو البقاء محمد بن عبد البرّ السبكيّ ، ثمّ ولده بدر الدين محمد ، ثمّ البرهان بن جماعة ، ثمّ الشيخ سراج الدين البلقينيّ ، ثم أعيد البرهان بن جماعة ، ثم أعيد بدر الدين أبو البقاء السبكيّ ، ثمّ قاضي القضاة عماد الدين أحمد بن عيسى الكركيّ ، ثمّ أعيد البدر بن أبي البقاء ، ثمّ وليها بعده ولده جلال الدّين محمد إلى أن مات ، فوليها بعده شمس الدين البيريّ أخو جمال الدين الأستادار ، ثمّ عزل في سنة اثنتي عشرة وثمانمائة لمّا نكب أخوه. ووليها نور الدين علي (١) بن عمر التّلوانيّ ، فأقام بها مدة طويلة إلى أن مات في ذي القعدة سنة أربع وأربعين وثمانمائة ؛ وهو أطول شيوخها مدّة ، ووليها بعده العلاء القلقشنديّ ، ثم ابن حجر الونائيّ ، ثم القاياتيّ ، ثم السّفطيّ ، ثمّ الشرف المناويّ ، ثمّ السراج الحمصيّ ثمّ أعيد المناويّ إلى أن مات ، ثمّ ولده زين العابدين ، ثمّ ابنه ثمّ إمام الكاملية ، ثمّ الحمصيّ ، ثمّ الشيخ زكريا.

خانقاه سعيد السعداء

وقفها السلطان صلاح بن أيوب ، وكانت دارا لسعيد السعداء قنبر ـ ويقال عنبر ـ عتيق الخليفة المستنصر ، فلما استبدّ الناصر صلاح الدين بالأمر ، وقفها على الصوفيّة في سنة تسع وستين وخمسمائة ، ورتّب لهم كلّ يوم طعاما ولحما وخبزا ، وهي أوّل خانقاه عملت بديار مصر ، ونعت شيخها بشيخ الشيوخ ، وما زال ينعت بذلك إلى أن بنى الناصر محمد بن قلاوون خانقاه سرياقوس ، فدعي شيخها بشيخ الشيوخ ، فاستمرّ ذلك بعدهم إلى أن كانت الحوادث والمحن منذ سنة ستّ وثمانمائة ، وضاعت الأحوال ، وتلاشت الرّتب ، تلقّب كل شيخ خانقاه بشيخ الشيوخ ، وكان سكانها من الصوفية ، يعرفون بالعلم والصلاح ، وترجى بركتهم (٢).

وولي مشيختها الأكابر ، وحيث أطلق في كتب الطبقات في ترجمة أحد أنّه ولي «مشيخة الشيوخ» فالمراد مشيختها ولشيخها شيخ الشيوخ ؛ هذا هو المراد عند الإطلاق.

وقد وليها عن الواقف صدر الدين محمد بن حمّويه الجوينيّ ، ثم ولده كمال الدين أحمد ، ثمّ ولده معين الدين حسن أخو كمال الدين ، ثمّ وليها كريم الدين عبد الكريم بن الحسين الآمليّ ، ثمّ وليها قاضي القضاة تاج الدين بن بنت الأعزّ ، ثمّ وليها

__________________

(١) شذرات الذهب : ٧ / ٢٥٣.

(٢) انظر الخطط المقريزية : ٢ / ٤١٥.

٢٢٦

الشيخ صابر الدين حسن البخاريّ ، ثم وليها شمس الدين محمد بن أبي بكر الأيليّ ، ثمّ وليها قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة ، ثمّ وليها الآمليّ ، ثم وليها العلامة علاء الدين القونويّ ، ثم وليها مجد الدين موسى بن أحمد بن محمود الأقصرائيّ ، ثمّ وليها شمس الدين محمد بن إبراهيم النقشوانيّ ، ثمّ وليها كمال الدين أبو الحسن الجواريّ ، ثمّ سراج الدين عمر الصدّي إلى أن مات سنة تسع وأربعين وسبعمائة ، ثمّ وليها الشيخ بدر الدين حسن (١) بن العلّامة علاء الدين القونويّ إلى أن مات سنة ستّ وسبعين وسبعمائة ، ثم جلال الدين جار الله الحنفيّ إلى سنة ثمان وسبعين وسبعمائة ، ثم وليها علاء الدين أحمد بن محمد السرائيّ ، ثمّ الشيخ برهان الدين الأبناسيّ ، ثم شمس الدين محمد بن محمود بن عبد الله ابن أخي جار الله ، ثمّ أعيد البرهان الأبناسيّ ، ثم شهاب الدين أحمد بن محمد الأنصاريّ ، ثم أعيد محمد بن أخي جار الله ، ثمّ وليها شمس الدين بن محمد بن علي البلاليّ مدة متطاولة إلى أن مات سنة عشرين وثمانمائة ، ثم وليها شمس الدين البيريّ أخو جمال الدين الأستادار ، ثمّ وليها الشيخ شهاب الدين بن المحموه ، ثمّ جمال الدين يوسف (٢) بن أحمد التّزمنتيّ المعروف بابن المجبّر ، ثمّ أعيد ابن المحموه ، ثمّ القاياتي ، ثم الشيخ خالد ، ثمّ تقيّ الدين القلقشنديّ ، ثمّ السراج العباديّ ، ثم الكورانيّ ، ثم السنتاويّ.

المدرسة الكاملية

وهي دار الحديث ، وليس بمصر دار حديث غيرها ، وغير دار الحديث الّتي بالشيخونيّة. قال المقريزيّ : وهي ثاني دار عملت للحديث ، فإنّ أوّل من بنى دار حديث على وجه الأرض الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي بدمشق ، ثمّ بنى الكامل هذه الدار ، بناها الملك الكامل ، وكملت عمارتها في سنة إحدى (٣) وعشرين وستمائة ، وجعل شيخها أبو الخطاب عمر بن دحية ، ثم وليها بعده أخوه أبو عمر ، وعثمان بن دحية ، ثم وليها الحافظ زكي الدين عبد العظيم المنذريّ ، ثمّ وليها شرف الدين بن أبي الخطاب بن دحية ، ثمّ وليها بعده المحدّث محيي الدين بن سراقة ، ثمّ وليها تاج الدين بن القسطلانيّ المالكيّ ، ثمّ وليها النّجيب عبد اللطيف الحرّانيّ ، ثمّ وليها القطب القسطلانيّ الشافعيّ ، ثم وليها ابن دقيق العيد ، ثمّ وليها أبو عمرو بن سيّد الناس والد الحافظ فتح الدين ، فانتزعها منه البدر بن جماعة ، ثمّ وليها عماد الدين

__________________

(١) انظر شذرات الذهب : ٦ / ٢٤٢.

(٢) انظر شذرات الذهب : ٧ / ٢٦١.

(٣) في الخطط المقريزية : ٢ / ٣٧٥ : اثنتين.

٢٢٧

محمد بن عليّ بن حرميّ الدمياطيّ ومات سنة تسع وأربعين وسبعمائة ، ثم البدر بن جماعة ، ثمّ نزل عنها للجمال ابن التّركماني إلى أن مات سنة تسع وستين وسبعمائة ، ووليها الحافظ زين الدين العراقيّ ، ثمّ لمّا أن ولي قضاء المدينة سنة ثمان وثمانين وسبعمائة ، استقرّ فيها الشيخ سراج الدين بن الملقّن.

المدرسة الصالحية

بين القصرين هي أربع مدارس للمذاهب الأربعة ، بناها الملك الصالح نجم الدين أيّوب بن الملك الكامل ، شرع في بنائها سنة تسع وثلاثين [وستمائة](١). قال المقريزيّ : وهذه المدرسة من أجلّ مدارس القاهرة إلّا أنها قد تقادم عهدها ، فرثّت ، ولما فتحت أنشد فيها الأديب أبو الحسين الجزّار :

ألا هكذا يبني المدارس من بنى

ومن يتغالى في الثواب وفي البنا

في أبيات أخر.

قال السراج الوراق :

مليك له في العلم حبّ وأهله

فلله حبّ ليس فيه ملام!

فشيّدها للعلم مدرسة غدا

عراق أهلها إذ ينسبون وشام

ولا تذكرن يوما نظاميّة لها

فليس يضاهي ذا النّظام نظام

قال ابن السنبرة (٢) الشاعر ـ وقد نظر إلى قبر الملك الصالح ، وقد دفن إلى ما يختص بالمالكية من مدرسته :

بيت لأرباب العلوم مدارسا

لتنجو بها من هول يوم المهالك

وضاقت عليك الأرض لم تلق منزلا

تحلّ به إلّا إلى جنب مالك

المدرسة الظاهرية القديمة

للملك الظاهر بيبرس البندقداريّ شرع في بنائها سنة إحدى (٣) وستين وستمائة ،

__________________

(١) الخطط المقريزية : ٢ / ٣٧٤.

(٢) وهو عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن عمر بن تخمش الواسطي. الخطط المقريزية : ٢ / ٣٧٥.

(٣) في الخطط المقريزية : ٢ / ٣٧٨ : ستين وستمائة.

٢٢٨

وتمّت في أوّل سنة اثنتين وستّين ، ورتّب لتدريس الشافعية بها تقيّ الدين بن رزين ، والحنفيّة محب الدين عبد الرحمن بن الكمال عمر بن العديم ، ولتدريس الحديث الحافظ شرف الدين الدمياطيّ ، ولإقراء القراءات بالروايات كمال الدين القرشيّ (١) ووقف بها خزانة كتب.

المدرسة المنصورية

أنشأها هي والبيمارستان الملك المنصور قلاوون ، وكان على عمارتها الأمير علم الدين سنجر الشجاعيّ ، فلمّا تمّا دخل عليه الشرف البوصيريّ ، فمدحه بقصيدة أوّلها :

أنشأت مدرسة ومارستانا

لتصحّح الأديان والأبدانا

فأعجبه ذلك وأجزل عطاءه ، ورتب في هذه المدرسة دروس فقه على المذاهب الأربعة ، ودرس تفسير ودرس حديث ، ودرس طبّ (٢).

المدرسة الناصرية

ابتدأها العادل كتبغا ، وأتمّها الناصر محمد بن قلاوون ، فرغ من بنائها سنة ثلاث وسبعمائة ، ورتّب بها درسا للمذاهب الأربعة.

قال المقريزيّ : أدركت هذه المدرسة وهي محترمة إلى الغاية ، يجلس بدهليزها عدة من الطواشيّة ، ولا يمكن غريب أن يصعد إليها (٣).

الخانقاه البيبرسية

بناها الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكيريّ في سنة سبع (٤) وسبعمائة موضع دار الوزارة ، ومات بعد أن تسلطن ، فأغلقها الناصر بن قلاوون في سلطنته الثالثة مدّة ، ثم أمر بفتحها. قال المقريزيّ : وهي أجلّ خانقاه بالقاهرة بنيانا ، وأوسعها مقدارا ، وأتقنها صنعة ، والشباك الكبير الذي بها هو الشبّاك (٥) الذي كان بدار الخلافة ببغداد. وكانت الخلفاء تجلس فيه ، حمله الأمير البساسيري من بغداد لمّا غلب على الخليفة القائم العباسيّ وأرسل به إلى صاحب مصر.

__________________

(١) في الخطط المقريزية : ٢ / ٣٧٩ : المحلي.

(٢) انظر الخطط المقريزية : ٢ / ٣٨٠.

(٣) انظر الخطط المقريزية : ٢ / ٣٨٢.

(٤) في الخطط المقريزية : ٢ / ٤١٦ : ستّ.

(٥) انظر الخطط المقريزية : ٢ / ٤١٦ ـ ٤١٧.

٢٢٩

خانقاه قوصون بالقرافة

بنيت في سنة ستّ وثلاثين وسبعمائة ، وأوّل من ولي مشيختها الشمسي (١) محمود الأصفهاني الإمام المشهور صاحب التصانيف المشهورة ، وكانت من أعظم جهات البرّ ، وأعظمها خيرا ، إلى أن حصلت المحن سنة ستّ وثمانمائة ، فتلاشى أمرها كما تلاشى غيرها.

خانقاه شيخو

بناها الأمير الكبير رأس نوبة الأمراء الجمداريّة سيف الدين شيخو العمري جالبه خواجا عمر ، وأستاذه الناصر محمد بن قلاوون ، ابتدأ عمارتها في المحرّم سنة ستّ وخمسين وسبعمائة ، وفرغ من عمارتها في سنة سبع وخمسين وسبعمائة ورتّب فيها أربع دروس على المذاهب الأربعة ، ودرس حديث ، ودرس قراءات ومشيخة إسماع الصحيحين والشفاء ، وفي ذلك يقول ابن أبي حجلة :

ومدرسة للعلم فيها مواطن

فشيخوزا بها فرد وإيتاره جمع

لئن بات منها في القلوب مهابة

فواقفها ليث وأشياخها سبع

ومات شيخو بعد فراغها بسنة في ذي الحجة سنة ثمان وخمسين ، وشرط في شيخها الأكبر حضور التصوّف وتدريس الحنفيّة بالديار المصرية وأن يكون عارفا بالتفسير والأصول ، وألّا يكون قاضيا ؛ وهذا الشرط عامّ في جميع أرباب الوظائف بها.

وأوّل من تولّى المشيخة بها الشيخ أكمل الدين محمد بن محمود البابرتيّ.

وأوّل من تولى تدريس الشافعيّة بها الشيخ بهاء الدين (٢) بن الشيخ تقي الدين السّبكي.

وأوّل من تولّى تدريس الماليكّة بها الشيخ خليل ، صاحب المختصر.

وأوّل من تولّى تدريس الحنابلة بها قاضي القضاة موفّق الدين [الحنبلي](٣).

وأوّل من تولّى تدريس الحديث بها جمال الدين عبد الله بن الزوليّ ، وأقام الشيخ أكمل الدين في المشيخة إلى أن مات في رمضان سنة ستّ وثمانين [وسبعمائة](٤).

وولي بعده عزّ الدين يوسف بن محمود الرازيّ إلى أن مات في المحرم سنة أربع وتسعين [وسبعمائة].

__________________

(١) في الخطط المقريزية : ٢ / ٤٢٥ : شمس الدين.

(٢) في الخطط المقريزية : ٢ / ٤٢١ : أحمد بن علي السبكي.

(٣) الخطط المقريزية : ٢ / ٤٢١.

(٤) الخطط المقريزية : ٢ / ٤٢١.

٢٣٠

وولي بعده جمال الدين محمود بن أحمد القيصريّ المعروف بابن العجميّ ، ثمّ عزل في سنة خمس وتسعين.

وولي الشيخ يوسف السّيراميّ مضافا لمشيخة الظاهرية.

ثمّ ولي بدر الدين الكلسانيّ ، ثمّ عزل وولي الشيخ زاده.

ثمّ ولي بعده جمال الدين بن العديم سنة ثمان وثمانمائة ، ثمّ ولده ناصر الدين سنة إحدى عشرة وثمانمائة.

ثمّ وليها أمين الدين بن الطرابلسيّ سنة اثنتي عشرة ، ثمّ أعيد ابن العديم ، ثمّ وليها شرف الدين (١) بن التبّانيّ سنة خمس عشرة إلى أن مات في صفر سنة سبع وعشرين ، وولي الشيخ سراج الدين (٢) قارىء الهداية إلى أن مات سنة تسع وعشرين [وثمانمائة] ، ووليها الشيخ زين الدين التّفهنيّ ، ثم صرف في سنة ثلاث وثلاثين بالقضاء ، ووليها صدر الدين (٣) بن العجميّ فمات في رجب من عامه ، ووليها البدر حسن بن أبي بكر القدسيّ ، ثم وليها الشيخ باكير.

مدرسة صرغتمش

ابتدأ بعمارتها (٤) في رمضان سنة ستّ وخمسين وسبعمائة ، وتمّت في جمادى الأولى سنة سبع وخمسين ، وهي من أبدع المباني وأجلّها ، ورتّب فيها درس فقه على مذهب الحنفيّة ، وقرّر فيه القوام (٥) الإتقانيّ ، ودرس حديث.

وقال العلامة شمس الدين بن الصائغ :

ليهنك يا صرغتمش ما بنيته

لأخراك في دنياك من حسن بنيان

به يزدهي الترخيم كالزهر بهجة

فلله من زهر ولله من بان! (٦)

__________________

(١) شذرات الذهب : ٧ / ١٨٣.

(٢) شذرات الذهب : ٧ / ١٩١.

(٣) شذرات الذهب : ٧ / ٢٠٢.

(٤) بناها الأمير سيف الدين صرغتمش الناصري رئيس نوبة النوب. [الخطط المقريزية : ٣ / ٤٠٣].

(٥) في الخطط المقريزية : ٢ / ٤٠٤ : قوام الدين أمير كاتب بن أمير عمر العميد بن العميد أمير غازي الإتقاني.

(٦) المصدر السابق.

٢٣١

مدرسة السلطان حسن بن الناصر محمد بن قلاوون

شرع في بنائها في سنة ثمان وخمسين وسبعمائة ، وكان في موضعها دور وإسطبلات. قال المقريزيّ : لا يعرف ببلاد الإسلام معبد من معابد المسلمين يحكي هذه المدرسة في كبر قالبها ، وحسن هندامها ، وضخامة شكلها ، قامت العمارة فيها مدّة ثلاث سنين ، لا تبطل يوما واحدا ، وأرصد لمصروفها في كلّ يوم عشرين ألف درهم ، منها نحو ألف مثقال ذهبا ، حتّى قال السلطان : لولا أن يقال : ملك مصر عجز عن إتمام ما بناه لتركت بناءها ؛ من كثرة ما صرف.

وذرع إيوانها الكبير خمسة وستّون ذراعا في مثلها ، ويقال إنّه أكبر من إيوان كسرى بخمسة أذرع ، وبها أربع مدارس للمذاهب الأربعة.

قال الحافظ ابن حجر في إنباء الغمر : يقال إن السلطان حسن أراد أن يعمل في مدرسته درس فرائض ، فقال البهاء السبكي : هو باب من أبواب الفقه ، فأعرض عن ذلك. فاتّفق وقوع قضية في الفرائض مشكلة ، فسئل عنها السّبكيّ ، لم يجب عنها ، فأرسلوا إلى الشيخ شمس الدين الكلائيّ فقال : إذا كانت الفرائض بابا من أبواب الفقه ، فما له لا يجيب؟! فشقّ ذلك على بهاء الدين وندم على ما قال.

وكان السّلطان قد عزم على أن يبني أربع منائر ، يؤذّنون عليها ، فتمّت ثلاث منائر إلى أن كان يوم السبت سادس ربيع الآخر سنة اثنتين وستّين وسبعمائة ، سقطت المنارة التي على الباب ، فهلك تحتها نحو ثلاثمائة نفس من الأيتام الذي كانوا قد رتّبوا بمكتب السبيل ومن غيرهم ، فلهج الناس بأنّ ذلك ينذر بزوال الدولة ، فقال الشيخ بهاء الدين السبكي في ذلك أبياتا :

أبشر فسعدك يا سلطان مصر أتى

بشيره بمقال سار كالمثل

إنّ المنارة لم تسقط لمنقصة

لكن لسرّ خفي قد تبيّن لي

من تحتها قرىء القرآن فاستمعت

فالوجد في الحال أدّاها إلى الميل

لو أنزل الله قرآنا على جبل

تصدّعت رأسه من شدّة الوجل

تلك الحجارة لم تنقضّ بل هبطت

من خشية الله لا للضعف والخلل

وغاب سلطانها فاستوحشت فرمت

بنفسها لجوى في القلب مشتعل

فالحمد لله خطّ العين زال بما

قد كان قدّره الرحمن في الأزل

لا يعتري البؤس بعد اليوم مدرسة

شيّدت بنيانها للعلم والعمل

ودمت حتّى ترى الدنيا بها امتلأت

علما فليس بمصر غير مشتغل

٢٣٢

فاتّفق قتل (١) السلطان بعد سقوط المئذنة بثلاثة وثلاثين يوما.

المدرسة الظاهرية (٢)

كان الشروع في عمارتها في رجب سنة ستّ وثمانين [وسبعمائة] ، وانتهت في رجب سنة ثمان وثمانين ، وكان القائم على عمارتها جركس (٣) الخليلي أمير أخور ، وقال الشعراء في ذلك وأكثروا ، فمن أحسن ما قيل :

الظّاهر الملك السلطان همّته

كادت لرفعته تسمو على زحل

وبعض خدّامه طوعا لخدمته

يدعو الجبال فتأتيه على عجل

قال ابن العطار :

قد أنشأ الظّاهر السلطان مدرسة

فاقت على إرم مع سرعة العمل

يكفي الخليليّ إن جاءت لخدمته

شمّ الجبال لها تأتي على عجل

قال الحافظ ابن حجر : ومن رأى الأعمدة التي بها عرف الإشارة. ونزل السلطان إليها في الثاني عشر من رجب ، ومدّ سماطا عظيما ، وتكلّم فيه المدرّسون ، واستقرّ علاء الدين (٤) السّيراميّ مدرّس الحنفيّة بها ، وشيخ الصوفيّة ، وبالغ السلطان في تعظيمه حتّى فرش (٥) سجّادته بيده ، واستقرأ أوحد الدين الروميّ مدرس الشافعية وشمس الدين ابن مكين مدرّس المالكيّة ، وصلاح ابن الأعمى مدرّس الحنابلة ، وأحمد زاده العجمي مدرّس الحديث ، وفخر الدين الضرير إمام الجامع الأزهر مدرّس القراءات.

قال ابن حجر : لم يكن منهم من هو فائق في فنّه على غيره من الموجودين غيره ، ثمّ بعد مدّة قرّر فيها الشيخ سراج الدين البلقينيّ مدرّس التفسير وشيخ الميعاد.

__________________

(١) في الخطط المقريزية : ٢ / ٢٤٠ : قتله مملوكه ليلة الأربعاء تاسع جمادى الأولى سنة ٧٦٢ ه‍.

(٢) نسبة إلى الملك الظاهر برقوق الذي جلس على تخت الملك سنة أربع وثمانين وسبعمائة. [النجوم الزاهرة : ١١ / ١٨١].

(٣) انظر النجوم الزاهرة : ١١ / ١٨٦.

(٤) انظر النجوم الزاهرة : ١١ / ٢٠٠ ـ ٢٠١.

(٥) في النجوم الزاهرة : ١١ / ٢٠١ : فرش له الأمير جاركس الخليلي السجادة بيده حتّى جلس عليها.

٢٣٣

المدرسة المؤيّدية (١)

انتهت عمارتها في سنة تسع عشرة وثمانمائة ، وبلغت النفقة عليها أربعين ألف دينار ، واتفق بعد ذلك بسنة ميل المئذنة التي بنيت لها على البرج الشمالي بباب زويلة ، وكان النّاظر على العمارة بهاء الدين بن البرجيّ ، فأنشد تقيّ الدين بن حجة في ذلك أبياتا :

على البرج من بابي زويلة أنشئت

منارة بيت الله للعمل المنجي

فأخذ بها البرج اللّعين أمالها

ألا صرّحوا يا قوم باللّعن للبرج

وقال شعبان الأثاريّ :

عتبنا على ميل المنار زويلة

وقلنا تركت الناس بالميل في هرج

فقالت قريني برج نحس أمالني

فلا بارك الرّحمن في ذلك البرج

قال الحافظ ابن حجر :

لجامع مولانا المؤيّد رونق

منارته بالحسن تزهو وبالزّين

تقول وقد مالت عن القصد أمهلوا

فليس على جسمي أضرّ من العين

وقال العينيّ :

منارة كعروس الحسن إذ جليت

وهدمها بقضاء الله والقدر

قالوا أصيبت بعين ، قلت ذا غلط

ما أوجب الهدم إلا خسّة الحجر

وقال نجم الدين بن النبيه :

يقولون في تلك المنار تواضع

وعين وأقوال وعندي جليّها

فلا البرج أخنى والحجارة لم تعب

ولكن عروس أثقلتها حليّها

وقال أيضا :

بجامع مولانا المؤيّد أنشئت

عروس سمت ما خلت قطّ مثالها

ومذ علمت أن لا نظير لها انثنت

وأعجبها والعجب عنّا أمالها

__________________

(١) نسبة إلى السلطان المؤيّد شيخ المحمودي ، تسلطن سنة ٨١٥ ه‍. [انظر النجوم الزاهرة : ١٣ / ١٥٧].

٢٣٤

رباط الآثار

بالقرب من بركة الحبش (١) عمره الصّاحب تاج الدين بن الصاحب فخر الدين بن الصاحب بهاء الدين حنّا ، وفيه قطعة خشب (٢) وحديد وأشياء أخر من آثار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، اشتراها الصاحب المذكور بمبلغ ستّين ألف درهم فضة من بني إبراهيم أهل ينبع ؛ ذكروا أنّها لم تزل موروثة عندهم من واحد إلى واحد إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وحملها إلى هذا الرباط ، وهي به إلى اليوم يتبرّك بها. ومات الصاحب تاج الدين في جمادى الآخرة سنة سبع وسبعمائة (٣).

وللأديب جلال الدين بن خطيب داريّا في الآثار بيتان :

يا عين إن بعد الحبيب وداره

ونأت مرابعه وشطّ مزاره

فلقد ظفرت من الزمان بطائل

إن لم تريه فهذه آثاره

ذكر الحوادث الغريبة الكائنة بمصر في ملّة الإسلام

من غلاء ووباء وزلازل وآيات وغير ذلك

في سنة أربع وثلاثين من الهجرة ، قال سيف بن عمر : إنّ رجلا يقال له عبد الله بن سبأ كان يهوديّا فأظهر الإسلام ، وصار إلى مصر ، فأوحى إلى طائفة من الناس كلاما اخترعه من عند نفسه ، مضمونه أنّه كان يقول للرجل : أليس قد ثبت أنّ عيسى ابن مريم سيعود إلى هذه الدنيا؟ فيقول الرّجل : بلى ، فيقول له : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفضل منه ، فما يمنع أن يعود إلى هذه الدنيا وهو أشرف من عيسى؟! ثمّ يقول : وقد كان أوصى إلى عليّ بن أبي طالب ؛ فمحمد خاتم الأنبياء ، وعليّ خاتم الأوصياء. ثمّ يقول : فهو أحقّ بالأمر من عثمان ، وعثمان معتد في ولايته ما ليس له. فأنكروا عليه ، فافتتن به بشر كثير من أهل مصر وكان ذلك مبدأ تألّبهم على عثمان.

وفي سنة ستّ وستّين وقع الطاعون (٤) بمصر.

__________________

(١) في الخطط المقريزية : ٢ / ١٥٢ : وهي في ظاهر مدينة الفسطاط من قبليها فيما بين الجبل والنيل.

(٢) في الخطط المقريزية : ٢ / ٤٢٩ : قيل له رباط الآثار لأن فيه قطعة خشب وحديد من آثار الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. اشتراها الصاحب تاج الدين.

(٣) في الخطط المقريزية : ٢ / ٤٢٩ : ولد سنة ٦٤٠ ه‍ ، وتوفي سنة ٧٠٧ ه‍.

(٤) في النجوم الزاهرة : ١ / ٢٣١ : فيها كان الطاعون بمصر ، ومات فيه خلائق عظيمة.

٢٣٥

وفي سنة سبعين كان الوباء (١) بمصر ، قاله الذهبيّ.

وفي سنة أربع وثمانين (٢) قتل عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بن قيس الكنديّ ، وقطع رأسه ، فأمر الحجّاج فطيف به في العراق ، ثمّ بعث به إلى عبد الملك ابن مروان ، فطيف به في الشام ، ثمّ بعث به إلى عبد العزيز بن مروان وهو بمصر ، فطيف به فيها. ودفن بمصر ، وجثّته بالرّخّج (٣) ، فقال بعض الشعراء في ذلك :

هيهات موضع جثة من رأسها

رأس بمصر وجثّة بالرّخّج

وفي سنة خمس وثمانين كان الطاعون بالفسطاط ، ومات (٤) فيه عبد العزيز بن مروان أمير مصر.

وفي سنة خمس وأربعين ومائة ، انتثرت الكواكب من أوّل الليل إلى الصباح ، فخاف الناس. ذكره صاحب المرآة.

وفي سنة ثمانين ومائة كان بمصر زلزلة (٥) شديدة سقطت منها رأس منارة الإسكندرية.

وفي سنة ستّ عشرة ومائتين ، وثب رجل يقال له عبدوس (٦) الفهريّ في شعبان ببلاد مصر ، فتغلّب على نوّاب أبي إسحاق بن الرشيد ، وقويت شوكته ، واتّبعه خلق كثير ، فركب المأمون من دمشق في ذي الحجة إلى الديار المصرية ، فدخلها في المحرّم سنة سبع عشرة ، وظفر بعبدوس ، فضرب عنقه ، ثم كرّ راجعا إلى الشام.

وفي سنة سبع وثلاثين ومائتين ظهر في السماء شيء مستطيل دقيق الطّرفين ، عريض الوسط ، من ناحية المغرب إلى عشاء الآخرة ، ثمّ ظهر خمس ليال وليس بضوء كوكب ، ولا كوكب له ذنب ، ثمّ نقص. قاله في المرآة.

وفي سنة ثمان وثلاثين ومائتين ، أقبلت الرّوم (٧) في البحر في ثلثمائة مركب ، وأبّهة عظيمة ، فكبسوا دمياط ، وسبوا وأحرقوا وأسرعوا الكرّة في البحر ، وسبوا ستمائة امرأة ، وأخذوا من الأمتعة والأسلحة شيئا كثيرا ، وفرّ الناس منهم في كلّ جهة ، فكان

__________________

(١) النجوم الزاهرة : ١ / ٢٣٩.

(٢) في الكامل لابن الأثير : ٤ / ٩٥ : سنة خمس وثمانين.

(٣) في معجم البلدان : الرخّج كورة أو مدينة من نواحي كابل.

(٤) النجوم الزاهرة : ١ / ٢٦٨.

(٥) النجوم الزاهرة : ٢ / ١٢٨.

(٦) النجوم الزاهرة : ٢ / ٢٦٤.

(٧) النجوم الزاهرة : ٢ / ٣٥٠.

٢٣٦

من غرق في بحيرة تنّيس أكثر ممّن أسر ، ورجعوا إلى بلادهم ، ولم يعرض لهم أحد.

وفي سنة اثنتين وأربعين ومائتين ، زلزلت (١) الأرض ورجمت السويداء (قرية بناحية مصر) من السماء ، ووزن حجر من الحجارة فكان عشرة أرطال.

وفي سنة أربع وأربعين ومائتين ، اتّفق (٢) عيد الأضحى وعيد الفطر لليهود وشعانين النصارى في يوم واحد. قال ابن كثير : وهذا عجيب غريب. وقال في المرآة : لم يتّفق في الإسلام مثل ذلك.

وفي سنة خمس وأربعين ومائتين زلزلت (٣) مصر ، وسمع بتنّيس ضجّة دائمة طويلة ، مات منها خلق كثير.

وفي سنة ستّ وستّين ومائتين قتل أهل مصر عاملهم الكرخيّ.

وفي سنة ثمان وستّين ومائتين ، قال ابن جرير : اتفق أنّ رمضان كان يوم الأحد ، وكان الأحد الثاني الشعانين ، والأحد الثالث الفصح ، والأحد الرابع السرور ، والأحد الخامس انسلاخ الشهر.

وفي سنة تسع وستّين في المحرّم ، كسفت الشمس وخسف القمر ، واجتماعهما في شهر نادر. قاله في المرآة.

وفي سنة ثمان وسبعين ومائتين ، قال ابن الجوزيّ : لليلتين بقيتا من المحرّم طلع نجم (٤) ذو جمّة ، ثمّ صارت الجمّة ذؤابة. قال : وفي هذه السنة وردت الأخبار أنّ نيل مصر غار (٥) ، فلم يبق منه شيء ، وهذا شيء لم يعهد مثله ، ولا بلغنا في الأخبار السابقة ، فغلت الأسعار بسبب ذلك. وفي أيام أحمد بن طولون تساقطت النجوم ، فراعه ذلك فسأل العلماء والمنجّمين عن ذلك ، فما أجابوا بشيء ، فدخل عليه الجمل الشاعر وهم في الحديث ، فأنشد في الحال :

قالوا تساقطت النّجو

م لحادث فظّ عسير

فأجبت عند مقالهم

بجواب محتنك خبير

هذي النّجوم الساقطا

ت نجوم أعداء الأمير

__________________

(١) النجوم الزاهرة : ٢ / ٣٦٨.

(٢) النجوم الزاهرة : ٢ / ٣٨١.

(٣) النجوم الزاهرة : ٢ / ٣٨٢.

(٤) النجوم الزاهرة : ٣ / ٩٠.

(٥) النجوم الزاهرة : ٣ / ٩٠.

٢٣٧

فتفاءل ابن طولون بذلك ، ووصله.

وفي سنة اثنتين (١) وثمانين ومائتين ، زفّت قطر الندى بنت خمارويه بن أحمد بن طولون ، من مصر إلى الخليفة المعتضد ، ونقل أبوها في جهازها ما لم ير مثله ، وكان من جملته ألف تكّة بجوهر وعشرة صناديق جوهر ، ومائة هون ذهب ، ثمّ بعد كلّ حساب معها مائة ألف دينار لتشتري بها من العراق ما قد تحتاج إليه ممّا لا يتهيّأ مثله بالديار المصريّة. وقال بعض الشعراء :

يا سيّد العرب الّذي وردت له

باليمن والبركات سيدة العجم

فاسعد بها كسعودها بك إنّها

ظفرت بما فوق المطالب الهمم

شمس الضّحى زفّت إلى بدر الدّجى

فتكشّفت بهما عن الدنيا الظّلم

وفي سنة أربع وثمانين ومائتين ظهر بمصر ظلمة شديدة (٢) وحمرة في الأفق حتّى جعل الرجل ينظر إلى وجه صاحبه فيراه أحمر اللون جدّا ، وكذلك الجدران ، فمكثوا كذلك من العصر إلى الليل ، فخرجوا إلى الصحراء يدعون الله ويتضرّعون إليه حتى كشف عنهم. حكاه ابن كثير.

وفي سنة ثلاث وتسعين ومائتين ، ظهر رجل بمصر يقال له الخلنجيّ (٣) ، فخلع الطاعة واستولى على مصر ، وحارب الجيوش ، وأرسل إليه الخليفة المكتفي جيشا فهزمهم ، ثمّ أرسل إليه جيشا آخر عليهم فاتك المعتضديّ ، فهزم الخلنجيّ ، وهرب ، ثمّ ظفر به وأمسك ، وسيّر إلى بغداد.

وفي سنة تسع وتسعين ومائتين ، ظهر ثلاثة كواكب مذنّبة ، أحدها في رمضان ، واثنان في ذي القعدة تبقى أياما ، ثمّ تضمحلّ ، حكاه ابن الجوزيّ. وفيها استخرج من كنز بمصر خمسمائة ألف دينار من غير موانع ، ووجد في هذا الكنز ضلع إنسان طوله أربعة عشر شبرا وعرضه شبر ، فبعث به إلى الخليفة المقتدر ، وأهدى معه من مصر تيسا له ضرع يحلب لبنا ، حكى ذلك الصوليّ وصاحب المرآة وابن كثير.

وفي سنة إحدى وثلاثمائة ، سار عبد الله المهديّ (٤) المتغلّب على المغرب في أربعين ألفا ليأخذ مصر ، حتّى بقي بينه وبين مصر أيام ، ففجر تكين الخاصة النيل فحال

__________________

(١) في الكامل لابن الأثير : ٦ / ٧٥ ، والنجوم الزاهرة : ٣ / ٩٢ : سنة ٢٧٩.

(٢) النجوم الزاهرة : ٣ / ١٢٧.

(٣) الكامل لابن الأثير : ٦ / ١١٢.

(٤) الكامل لابن الأثير : ٦ / ١٤٧.

٢٣٨

الماء بينهم وبين مصر ، ثمّ جرت حروب فرجع المهديّ إلى برقة بعد أن ملك الإسكندريّة والفيّوم.

وفي سنة اثنتين وثلاثمائة عاد المهديّ (١) إلى الإسكندريّة ، وتمّت وقعة كبيرة ، ثمّ رجع إلى القيروان.

وفي سنة ستّ وثلاثمائة أقبل القائم (٢) بن المهديّ في جيوشه ، فأخذ الإسكندرية وأكثر الصعيد ، ثمّ رجع.

وفي سنة سبع كانت الحروب (٣) والأراجيف الصعبة بمصر ، ثمّ لطف الله وأوقع المرض بالمغاربة ، ومات جماعة من أمرائهم ، واشتدّت علّة القائم.

وفيها انقضّ (٤) كوكب عظيم ، وتقطّع ثلاث قطع ، وسمع بعد انقضاضه صوت رعد شديد هائل من غير غيم.

وفي سنة ثمان ملك العبيديون جزيرة الفسطاط ، فجزعت الخلق ، وشرعوا في الهرب والجفل.

وفي سنة تسع استرجعت الإسكندرية إلى نوّاب الخليفة ، ورجع العبيديّ إلى المغرب.

وفي سنة عشر وثلثمائة في جمادى الأولى ظهر كوكب (٥) له ذنب طوله ذراعان ، وذلك في برج السنبلة. وفي شعبان منها أهدى نائب مصر (٦) إلى الخليفة المقتدر هدايا من جملتها بغلة معها فلوها يتبعها ، ويرجع معها ، وغلام يصل لسانه إلى طرف أنفه. حكاه صاحب المرأة وابن كثير (٧).

وفي سنة ثلاث عشرة وثلثمائة في آخر المحرّم انقضّ كوكب (٨) من ناحية الجنوب إلى الشمال قبل مغيب الشمس ، فأضاءت الدنيا منه ، وسمع له صوت كصوت الرّعد الشديد.

__________________

(١) النجوم الزاهرة : ٣ / ٢٠٥.

(٢) الكامل لابن الأثير : ٦ / ١٦١.

(٣) النجوم الزاهرة : ٣ / ٢١٩.

(٤) الكامل لابن الأثير : ٦ / ١٦٥.

(٥) الكامل لابن الأثير : ٦ / ١٧٢.

(٦) في الكامل لابن الأثير : ٦ / ١٧٢ : الحسين ابن أحمد الماذرائي.

(٧) الكامل لابن الأثير : ٦ / ١٧٢.

(٨) الكامل لابن الأثير : ٦ / ١٨٢.

٢٣٩

وفي سنة ثلاثين وثلثمائة في المحرّم ظهر كوكب (١) بذنب رأسه إلى الغرب وذنبه إلى المشرق ، وكان عظيما جدّا وذنبه منتشر ، وبقي ثلاثة عشر يوما إلى أن اضمحلّ.

وفي سنة أربع وأربعين زلزلت (٢) مصر زلزلة صعبة هدمت البيوت ، ودامت ثلاث ساعات ، وفزع الناس إلى الله بالدعاء.

وفي سنة تسع وأربعين رجع حجيج (٣) مصر من مكّة ، فنزلوا واديا ، فجاءهم سيل فأخذهم كلّهم ، فألقاهم في البحر عن آخرهم.

وفي سنة خمس وخمسين قطعت (٤) بنو سليم الطريق على الحجيج من أهل مصر ، وأخذوا منهم عشرين ألف بعير بأحمالها ، وعليها من الأموال والأمتعة ما لا يقوّم كثرة ، وبقي الحاجّ في البوادي ، فهلك أكثرهم. وفي أيام كافور الإخشيدي كثرت الزلازل بمصر ، فأقامت ستّة أشهر ، فأنشد محمد بن القاسم بن عاصم قصيدة منها :

ما زلزلت مصر من سوء يراد بها

لكنّها رقصت من عدله فرحا

كذا رأيته في نسخة عتيقة ، من كتاب مذهب الطالبيّين ، تاريخ كتابتها بعد الستّمائة ، ثمّ رأيت ما يخالف ذلك كما سأذكر.

وفي سنة تسع وخمسين انقضّ كوكب (٥) في ذي الحجة ، فأضاء الدنيا حتّى بقي له شعاع كالشمس ، ثم سمع له صوت كالرعد.

وفي سنة ستّين وثلثمائة ، سارت القرامطة (٦) في جمع كثير إلى الديار المصرية ، فاقتتلوا هم وجنود جوهر القائد قتالا شديدا بعين شمس ، وحاصروا مصر شهورا ؛ ومن شعر أمير القرامطة الحسين بن أحمد بن بهرام :

زعمت رجال الغرب أنّي هبتهم

فدمي إذن ما بينهم مطلول

يا مصر إن لم أسق أرضك من دم

يروي ثراك فلا سقاني النّيل (٧)

وفي هذه السنة سار رجل من مصر إلى بغداد ، وله قرنان ، فقطعهما وكواهما وكان يضربان عليه. حكاه صاحب المرآة.

__________________

(١) الكامل لابن الأثير : ٦ / ٢٨٨.

(٢) النجوم الزاهرة : ٣ / ٣٥٧.

(٣) الكامل لابن الأثير : ٦ / ٣٥٨.

(٤) النجوم الزاهرة : ٤ / ١٣.

(٥) النجوم الزاهرة : ٤ / ٥٩.

(٦) الكامل لابن الأثير : ٧ / ٤٢ ، ٤٣.

(٧) الكامل لابن الأثير : ٧ / ٤٣.

٢٤٠